حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: لَمَّا وُلِّيتُ
أَحْكامَ البَصْرةِ، وَانْحَدَرْتُ إِلَيْهَا عَنْ الحَضْرَةِ، صَحِبَنِي فِي
المَرْكَبِ شَابٌ كَأَنَّهُ العَافيَةُ فَي البَدَنِ، فَقَالَ: إِنِّي في
أَعْطَافِ الأَرْضِ وَأَطْرَافِهَا ضَائِعٌ، لَكِنِّي أُعَدُّ مُعَدَّ أَلْفٍ،
وَأَقُومُ مَقَامَ صَفٍّ، وَهَلْ لَكَ أَنْ تَتَّخِذَني صَنِيعَةً، وَلا تَطْلُبَ
مِنِّي ذَرِيعَةً، فَقُلْتُ: وَأَيُّ ذَرِيعَةٍ آكَدُ مِنْ فَضْلِكَ؟ وَأَيُّ
وَسِيلَةٍ أَعْظَمُ مِنْ عَقْلِكَ؟؟ لا بَلْ أَخْدِمُكَ خِدْمَةَ الرَّفِيقِ،
وَأَشَارِكُكَ في السَّعَةِ وَالضِّيقِ، وَسِرْنَا فَلَمَّا وَصَلْنَا البَصْرَةَ
غَابَ عَنِّي أَيَّامَاً، فَضِقْتُ لِغَيْبَتِهِ ذَرْعاً، وَلَمْ أَمْلِكْ
صَبْراً، فَأَخَذْتُ أُفَتِّشُ جُيُوبَ البَلَدِ حَتَّى وَجَدْتُهُ، فَقُلْتُ: مَا
الَّذِي أَنْكَرْتَ؟ وَلِمَ هَجَرْتَ؟ فَقَالَ: إِنَّ الوَحْشَةَ تَقْدَحُ فِي
الصَدْرِ اقْتِدَاحَ النَّارِ فِي الزَّنْدِ، فَإِنْ أُطْفِئَتُ بَادَتْ
وَتَلاشَتْ، وَإِنْ عَاشَتْ، طَارَتْ وَطَاشَتْ، وَالقَطْرُ إِذَا تَتَابَعَ على
الإِنَاءِ امْتَلأَ وَفَاضَ، وَالعَتَبُ إِذَا تُرِكَ فَرَّخَ وَبَاضَ، وَالحُرُّ
لا يَعْلَقُهُ شَرَكٌ كَالعَطَاءِ، وَلا يَطْرُدُهُ سَوْطٌ كَالجَفَاءِ، وَعَلَى
كُلِّ حالٍ، نَنْظُرُ مِنْ عَالٍ، عَلى الكَريمِ نَظَرَ إِدْلالٍ، وَعَلى
الْلَّئِيمِ نَظَرَ إِذْلالٍ، فَمَنْ لَقِينَا بِأَنَفٍ طَويلٍ، لَقِيناهُ
بِخُرْطُومِ فِيلٍ، وَمَنْ لَحَظَنَا بِنَظَرٍ شَزْرٍ، بِعْنَاهُ بِثَمَنٍ نَزْرٍ،
وَأَنْتَ لَمْ تَغْرِسْنِي لِيَقْتَلِعُنِي غُلاَمَكَ، وَلا اشْتَرَيْتَني
لِتَبِيعَني خُدَّامَكَ، وَالمَرْءُ مِنْ غِلْمِانِهِ، كَالْكِتَابِ مِنْ
عُنْوَانِهِ، فَإِنْ كَانَ جَفَاؤُهُمْ شَيْئاً أَمَرْتَ بِهِ فَمَا الَّذِي
أَوْجَبَ؟ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَلِمْتَ بِهِ كَانَ أَعْجَبَ!! ثُمَّ قَالَ:
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: ثُمَّ أَعْرَضَ وَتَبِعْتُهُ
أَسْتَعْطِفُهُ، وَمَا زِلْتُ أُلاطِفُهُ حَتَّى انْصَرفَ، بَعْدَ أَنْ حَلَفَ
أَنْ لا أَوْرَدْتُ مَنْ أَسَاءَ عِشْرَتَهُ، فَوَهَبْتُ لَهُ حُرْمَتَهُ.
ظَفِرَتْ يَدَا خَلَفِ بْنِ أَحْمَدَ؛ إِنَّهُ *** سَهْلُ
الفِنَاءِ مُـؤَدَّبُ الـخُـدَّامِ
أَوْ مَا رَأَيْتَ الجُودَ يَجْتَازُ الوَرى *** وَيَحِلُّ
مِنْ يَدِهِ بِـدَارِ مُـقَـامِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق