الأحد، 22 مايو 2016

في انتروبولوجية التغذية والطبخ

المؤرخ والباحث محمد أبحلي المختص في انتروبولوجية التغذية والطبخ: الطبخ، فنا وممارسة، ثقافة لاتقل أهمية عن الحقول الثقافية الأساسية الأخرى كالموسيقى والمعمار…
الاتحاد الاشتراكي
الاتحاد الاشتراكي : 28 – 05 – 2010
محمد أبحلى، دكتور خريج مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية بباريس، شعبة التاريخ والحضارة، وهو باحث متخصص في تاريخ التغذية والثقافات المادية في العالم العربي الإسلامي وفي حوض البحر المتوسط خلال العصرين الوسيط والحديث. له عدة اسهامات في تاريخ التغذية والطبخ. سيصدر له قريبا «اليد والعجين»، وهو بحث تاريخي حول الطبخ وتقنيات تحويل الحبوب في المغرب والغرب الإسلامي خلال العصر الوسيط. من بين إسهاماته الأخيرة إشرافه على إصدار عددين خاصين لمجلة آفاق مغاربية حول الغذاء والطبخ في البلاد المغاربية، من منشورات جامعة تولوز بفرنسا.
وهو عضو مؤسس لجمعية أصدقاء جان لوي فلاندران بباريس المهتمة بشؤون التاريخ الغذائي والطبخي باروبا وغيرها من البلدان كما شارك كعضو مناقش في إطار لجنة المختصين التي أشرفت على إعداد وصياغة ملف طلب ترشيح المطبخ الفرنسي في إطار منظمة اليونيسكو باعتباره موروثا ثقافيا لاماديا للإنسانية 2009. باريس: يوسف الهلالي
كيف اخترت الأستاذ أبحلي الاشتغال في هذا المجال الأنتروبولوجي التاريخي (التغذية والطبخ) في العالم العربي والمنظمة المتوسطية؟
كان ذلك بمحض الصدفة وبفعل واقع العيش في المنفى الاضطراري الذي كان يدفع دوما الى الحفاظ وتجديد بعض الروابط بالثقافة المغربية والعربية بما في ذلك في مجال التغذية والطبيخ. لقد قضيت ما يزيد عن سبع عشرة سنة بعيدا عن المغرب. هذا الواقع الشخصي والعائلي، إضافة إلى اهتماماتي الأنتربولوجية بتاريخ الثقافات المادية والحياة اليومية، كان دون شك من الأسباب التي غذت هذا الميول. هكذا تطورت الفكرة: في مرحلة أولى اتخذت شكل مشروع كتاب تقني حول المطبخ المغربي التقليدي مع مقدمة تاريخية لهذا العمل. وإذا كان الجانب التقني لا يكاد يطرح أي مشكل يذكر، فالأمر لم يكن كذلك فيما يخص حوادث الانتروبولوجيا التاريخية وجوانب تاريخ التقنيات الغذائية خاصة ما يتعلق منها بتاريخ الطبيخ. سيتوضح لي فيما بعد استحالة المشروع بدون الدخول في بحث معمق طويل يدوم عدة سنوات. كانت النتيجة أطروحة دكتوراه، دام اعدادها أكثر من عشر سنوات، في إطار مدرسة الدراسات الاجتماعية العليا بباريس، تحت الاشراف النظري للمؤرخة الفرنسية لويات فالنسي والفعلي لصديقي الباحث الكبير جان لوي فلاندران، أحد أهم المختصين في تاريخ الجنس والغذاء في أوربا الغربية خلال العصر الوسيط.
ما هو تكوينك السابق؟
كان تكوينا كلاسيكا، لنقل أدبيا، خريج كلية الآداب بالرباط. فبالرغم من شغفي الكبير بالدراسات الفلسفية، كان اهتمامي بالقضايا الاجتماعية والسياسية من العوامل التي قد تفسر اختاري لشعبة السوسيولوجيا آنذاك.
كان لي الشرف أن أدرس على يد الاستاذ محمد جسوس وعبد الكريم الخطيبي والأستاذة فاطمة المرنيسي، كما كنت محظوظا بالتعرف على بول باسكون. هذا الأخير سيلعب دورا هاما في تطوري كباحث، وفي بعض اهتماماتي بالبحوث الميدانية خاصة ما يتعلق منها بجوانب الثقافة المادية والتقنية. فتحت اشرافه المباشر سأنجز بحثي الميداني الأول، بصحبة طلبة معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة، بالرباط، باتفاق مع أستاذي عبد الكريم الخطيبي الذي كنت مسجلا معه إداريا في إطار كلية الآداب .كان ذلك في منطقة الولجة بالوالدية. بصحبة باسكون أيضا سأفتح أول فصل في اهتمامي بقضايا الغداء، والانتاج الغذائي، وذلك في إطار تحقيق ميداني بدأته في صيف 1977، في منطقة سكساوة بالأطلس الكبير.
كان ذلك ضمن مشروع اطروحة كنت أنوي اعداد ها لمواصلة البحث الكبير الذي كان قد نشره جاك بيرك منذ الخمسينات حول هذه المنطقة.
مع الأسف، كان اضطراري لمغادرة البلاد في شروط القمع السياسي للحركة الطلابية وبعض فصائل القوى السياسية اليسارية أنذاك سيحول دون انجاز هذا المشروع. وكان بداية لحياة شخصية وعلمية جديدة في الخارج، كان من أهمها لقائي مع جاك بيرك الذي كان أستاذي في كوليج دو فرانس لعدة سنوات. كان لقاء علميا وشخصيا لا ينسى.

ما هي الصعوبات التي تواجه الاشتغال على مجال التغذية والطبخ اليوم في مجتمع كمجتمعنا، خاصة إذاما اعتبرنا ضعف اهتمام التعلم الرسمي بهذه الموضوعات، واستمرار وجود نوع من النظرة الدونية لها عند بعض مثقفينا؟

في إطار لقاء سابق لي مع الأستاذ الباحث الفرنسي بيرنار لوسيمباجر، وهو يعتبر من الرواد في هذا المجال، حدثني عن مدى الصعوبات التي كان يجدها خلال التسعينيات، وهو آنذاك أستاذ يدرس بجامعة سان دوبي (باريس 8)، لاقناع عبثا بعض طلبته من الأصل المغربي أو المغاربي باختيار موضوع التغذية والطبخ كموضوع لبحثهم الجامعي. الغذاء كموضوع للمعرفة كان يبدو لكثيرين منهم موضوعا ضيقا وبسيطا. لقد عرفت الجامعات الأوربية والفرنسية أيضا هذه المرحلة لكنها تجاوزتها اليوم وذلك منذ زمان.
في القرن التاسع عشر ستظهرالذواقة (الكاسترونميا) في فرنسا كشكل أدبي خاص، كان نتاجا للقاء، بعض المتأدبين أو الكتاب ومهن الطعامة التي عرفت تطورا كبيرا في تلك المرحلة، غير أن سيطرة الجانب الاشهاري على هذا النوع من الأدب ستكون من الأسباب التي قد تفسر الموقف السلبي لبعض المثقفين وبقاء الغذاء والطبيخ لمدة طويلة خارج مجال البحث الاكاديمي. موقف المثقفين هذا، فيما يخص الثقافة العربية، لا يبدو أنه قديم جدا، في العصر العباسي مثلا كان المثقفون والمتأدبون لا يؤلفون الكتب حول التغذية والطبخ فحسب، بل كانوا في كثير من الأحيان يتعاطون هواية اعداد الطعام بأنفسهم.و ذلك لأن الغذاء والطبخ لم يكن ينظر اليهما كمجرد فن وهواية فحسب، بل بوصفها قضية مركزية، ترتبط أيضا بالحمية والصحة. لم تكن هذه السمة خاصية الثقافة العربية وحدها في ذلك الوقت بل نجدها في أغلب الثقافات القديمة، عند قدماء الصينيين والإغريق وأيضا في الثقافة الفارسية القديمة.

لقد عرف البحث حول التغذية والطبخ مع ذلك تطورات هامة خلال الثلاثة أو أربعة عقود الاخيرة في البلاد الغربية، خاصة في اوروبا، هل مازال هذا الامر ظاهرة غريبة بحتة، بتعبير آخر، ماهي وضعية البحث في هذا الميدان اليوم عندنا وفي البلاد العربية بشكل عام؟

الدراسات المختصة المتعلقة بالمأكل والمشرب في البلاد العربية أوفي الثقافة العربية تظل قليلة إلى اليوم، بالرغم من أن الاهتمام بهذا الموضوع ليس جديدا تماما. فالمقالات الاولى المعروفة بهذا الصدد تعود إلى أواخر العشرينيات من القرن الماضي، لنذكر هنا بمقالات حبيب الزيات في مجلة الشرق الكاثوليكية حوالي عشرين مقابلة صغيرة في المجموع، نشرت فيما بين 1929 و1952 والتي يمكن اعتبارها ظاهرة استثنائية بالنسبة لهذه المرحلة.في 1934 ستشهد نشر اول كتاب طبخ عربي للعصر الوسيط في الموصل من طرف داوود الجلبي والذي سيترجم عام 1939 الى اللغة الانجليزية مع دراسة تقديمية له بقلم الباحث (م. آلبيري).
والواقع ان المطبخ العربي لم يتحول إلى موضوع لبحث علمي منهجي جدي إلا عند بداية النصف الثاني من القرن الماضي عبر الاسهامات القيمة للباحث الفرنسي مكسيم رودنسون والتي دشنها عام 1949 ببحث قيم حول المصادر العربية في هذا المجال نشر في مجلة الدراسات الاسلامية الفرنسية.
لقد فتحت بحوث رودنسون مرحلة جديدة لاسهامات اخرى لباحثين جدد كانوا كلهم من اصل غير عربي. وكان هذا هو الشأن ايضا بالنسبة لاغلب الدراسات المتعلقة بالغرب الاسلامي، وذلك منذ بداية ستينيات القرن العشرين. لنذكر أطروحة الباحث الاسباني ف. دو لاجراخا حول كتاب الطبيخ الاندلسي ابن رزين الذي يعود الى العهد المريني. كانت عبارة عن ترجمة الى الاسبانية وتقديم لهذا المؤلف الغني بالوصفات، قدمها عامي 1958 و 1959 في اطار جامعة كومبليتانس بمدريد. في نفس الاتجاه، سيتم نشر لأول مرة كتاب اندلسي اخر لمجهول، ويعود للمرحلة الموحدية او اواخر العهد المرابطي، من طرف المؤرخ الاسباني ويتشي ميراندو في اطار مجلة معهد الدراسات الاسلامية بمدريد (1961 – 1962) قبل ان يترجمه إلى اللغة الاسبانية وذلك بضع سنوات بعد ذلك (1966) .
لاشك ان نشر وترجمة هذين الكتابين كانا من العوامل التي ستشجع بعض الباحثين على التعاطي اكثر مع هذا الجانب من تاريخ الثقافة المادية بالاندلس وبالغرب الاسلامي بشكل عام. وهكذا منذ السبعينات ستشهد ظهور اول المقالات التاريخية المختصة المتعلقة بهذا الجزء من البحر المتوسط، والتي سيزداد عددها خاصة خلال الثمانينات والتسعينات.
واذا ما اقتصرنا على المغرب وحده، يمكن القول ان البحوث المختصة بهذا الصدد تبقى نادرة نسبيا خاصة المكتوبة منها بالعربية.
فيما يخص هذه الاخيرة، يمكن القول ان عدد مقالاتها خلال فترة الثمانينات والتسعينات مثلا لايتجاوز الا قليلا الثلاثين مقالا. حوالي نصف هذا العدد نشر في إطار عددين خاصين بمجلة «أمل » الصادرة بالدار البيضاء عام 1959 عدد رقم 16 و 17 .
وبالرغم من اهمية هذه التجربة وجديتها، فمن الملاحظ ان كل اسهاماتها ظلت تقف عند عتبة المطبخ و اكتفت بمعالجة عامة لبعض الجوانب الظاهرة الغذائية. واذاما اعتبرنا الجامعة المغربية، فسنجد ان منتوجها في هذا الميدان يكاد يكون منعدما تماما. اللهم إلا اذا استثنينا بعض الاطروحات حول الحمية او الوقاية الغذائية او على علاقة بالاقتصاد القروي كتلك التي قد نجدها في اطار كلية الطب او معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة بالرباط.
من المؤكد انه لا يمكن تحقيق تقدم ملموس في هذا المضمار بدون اندراج فعلي ودائم للجامعات ومعاهد البحث الاقتصادي الاجتماعي في اتجاه إعادة الاعتبار لهذا الميدان بوصفه ميدانا مركزيا.
لقد سررت كثيرا عندما بلغني انشاء في المدة الأخيرة لأول وحدة للبحث في موضوع تاريخ التغذية بالجامعة المغربية، وكذلك بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق