السبت، 1 أغسطس 2015

الرجل ذو اللحية البيضاء مؤسس سلسلة مطاعم كنتاكي




اللامتوقّع، بخيره وشرّه، جزء من حياة الناس، كلّ الناس، لا أحد بمأمن منه. ولعلّ هذا اللامتوقّع هو الذي يقبض على سرّ الحياة، وسرّ دوران دولابها الذي لا يحبّذ الوقوف. قد لا ينتبه المرء إلى دور اللامتوقّع في تشكيل حياته وصوغ سلوكه. وفي حال فكّر المرء ولو قليلاً بخياراته الشخصيّة لوجد أنّها ليست خياراته الشخصيّة وقد لا يصدّق ذلك، والسبب بكلّ بساطة، هو أنّه يترك للبديهة المتهوّرة، وهي أمّارة بالسوء، أنْ تسيّر أقواله وأحكامه. في حال بحث المرء عن الأسباب الخفيّة والظاهرة التي كوّنته سيجد أنّه عنصر واحد لا أكثر من مجموعة غفيرة ساهمت في أن يكون على ما هو عليه مزاجاً وتفكيراً وسلوكاً.

البعض تكون مبرّرات سعادتهم هي أسباب تعاستهم، كأنْ يكون الغنى الموروث مثلاً هو سبب إخفاقهم بدلاً من أن يكون فرصة لنجاحهم، والبعض تكون التعاسة هي المنْخس الذي يدفع بهم صوب السعادة، لنفكّر مثلاً في اللامتوقّع في حياة الراحل ستيف جوبز، ونقرأ فقط بعضاً من مقتطفات عمره، ونرى دور اللامتوّقع في حياته وحياة تفّاحته المقضومة! إلاّ أنّني هنا لن أتكلّم على نجاح ستيف جوبز الباهر الذي اكتملت دورة حياته وهو في زهوة عمره، وإنّما سأتّكلم على شخص كانت نجاحاته الباهرة لم تبدأ بعد وهو في الخمسين من عمره. فليس للنجاح نقطة انطلاق زمنيّة واحدة، توقيت النجاح سرّ لا يعلمه الاّ الله سبحانه.

 كنت أقرأ في سيرة حياة الكولونيل هارلاند ساندرز (1890-1980)  الرجل الباسم ذي اللحية البيضاء مؤسّس سلسلة مطاعم كنتاكي الشهيرة، فاستوقفتني مجموعة من النقاط كانت وراء نجاحه، ربّما لو لم يكن البؤس هو وراء هذا النجاح لما اعرته اهتمامي. الفطن يعرف أن يستثمر بؤسه من أجل تشكيل حياة خالية من البؤس، وجزء كبير من الناس لا يمكن نكران فضل حالتهم الاجتماعيّة البائسة على تحسين مسيرهم ومصيرهم.

لم يكن ساندرز يفكّر بتأسيس سلسلة مطاعم بل ربّما لم يخطر بباله أن يعمل في عالم الطعام الشهيّ. فلقد عاش حياة بائسة، مات والده وهو لا يزال في السادسة من عمره، فاضطرّت الوالدة للعمل وترك شقيقه وشقيقته في عهدته. ما معنى أن تكون مسؤولاً عن رعاية ولدين وأنت في سنّ تحتاج فيه إلى من يرعاك؟  تضطرّ إلى أن تكبر قبل وقتك، وهذه فرصة نادرة وإن كانت مأساوية فهي لا تصحّ لأيّ كان، هناك فرص جارحة مؤلمة إلاّ أنّها تمتلك كلّ خصائص الفرص المفيدة، وهي فرص لا أحد ينكر أنها ذات حدّين: حدّ جارح، وحدّ ذي خيال جامح. ثمّة من يزوّدهم هذا النوع من الفرص بقدرات بديعة. الأولاد يجوعون في غياب الأمّ، فماذا يفعل الطفل ساندرز ابن السادسة بشفاه قاصرة وجائعة؟ كان مسؤولاً عن تحضير الطعام لهما في غياب الوالدة، أي أنّ صلته كطبّاخ بالطعام بدأت وهو طفل بكلّ معنى الكلمة، لم يخطر بباله أنّ مخزونه من خبرته في الطعام سوف يغيّر مصيره فيما بعد. عام من العمل في المطبخ وهو في يناعة العمر كان كفيلاً بتمرين حاسّة شمّه على تذوّق النكهات، وحاسّة ذوقه، أيضاً، على اكتساب خبرة تغيّر مذاق الدجاج.

لم يفكّر أن يعمل في حقل الطعام، عمل في مهن كثيرة، وناضل، ودرس بالمراسلة حتّى نال شهادة دكتوراه في المحاماة، وعمل في المحاماة ولكنّه لم يكسب مالاً كثيراً. كان في الأربعين من العمر، حين قرّر التوقّف عن مهنة المحاماة وفتح محطة لخدمة السيارات في مدينة كوربن في ولاية كنتاكي، الولاية التي لم تنكر فضله على شيوع اسمها دوليّاً. لم يخطر بباله أن يعمل في مهنة الطعام رغم أنّه اكتسب خبرة في هذا الميدان منذ طفولته. يقف مصير إنسان، أحياناً، على لحظة أو على سؤال أو على جواب أو على جملة تنزل كالمطر على أرض خصبة فتولد فكرة، فكرة دسمة ذات مذاق شهيّ، وهذا ما كان. لقد مرّ، ذات يوم، بائع جوّال بالقرب من محطّة ساندرز وهو يشكو ويتململ من عدم وجود مطعم في المنطقة، هزّ رأسه ساندرز موافقاً، كان كلام البائع الجوّال كالشرارة التي لمعت في ذهن ساندرز وغيّرت مصير المحطّة ومصيره. ولم لا أفتح مطعماً؟ قال بينه بين نفسه، لن يكون الأكْل الذي سأحضره أسوأ من المآكل التي تقدّمها المطاعم في المدينة، هذا ما قاله، وما كان منه إلاّ أنّ حوّل غرفة صغيرة خلف المحطة الى مطعم يقدّم فيه الدجاج وبعض أنواع السلطة. اشتغل على مسألتين وهما كيفيّة إنضاج الدجاجة، ومن ثمّ خلطة التوابل والأعشاب العطرية السرّية التي تشكّل النكهة المميّزة. كيف يأكل الناس عادة الدجاجة؟ سؤال بسيط لا يحتاج جوابه إلى تفلسف أو عصْر ذهن، فهي إمّا أن تسلق أو تقلى أو تشوى؟ فكّر ساندرز بعملية دمج السلق والقلي معاً. كانت طنجرة الضغط في أوّل نزولها إلى الاسواق فاستثمرها في عملية السلق السريع. الطعام هو لعب بالوقت والماء والنار فضْلاً عن أسرار أخرى؟ قرّر أنْ يسلق الدجاجة سلْقاً خفيفاً ثمّ يتمّم نضجها عبر القلْي، ولكنّ النكهة وحدها ليست ابنة السلق أو القلي. لا مفرّ من توابل الهند والأعشاب العطرية لأسْر الأفواه وإغواء المذاقات، وراح الرجل يلعب بالنكهات ويقوم بالتجارب وتركيب المكوّنات والمعايير إلى أن طابت له خلطته السحريّة والسرّية التي تقدّر قيمتها، اليوم، بملايين الدولارات. كان مطعمه الصغير بمثابة هامش ضيّق خلف المحطّة، وسرعان ما اتّسع الهامش إلى أن صار المتن، فأدار ظهره للمحطّة وحوّلها كلّها بعد نجاح وجباته إلى مطعم باسم "كافيه ساندرز"، وتابع محاضرات في فنّ إدارة المطاعم والفنادق لمدّة ثمانية أسابيع في جامعة كورنيل لتحسين إدارته للمطعم، وغيّر فيما بعد اسم مطعمه الى "كنتاكي فريد تشيكن" الذي راح ينتشر فروعاً وأغصاناً في أنحاء المعمورة.

لقد عاش هارلاند ساندرز بحقّ، كما قال في سيرته الذاتيّة الدسمة، حياة شهيّة تؤكل بالأصابع.

بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق