الجمعة، 31 يوليو 2015

الحقيقة من وجهة نظر ضفدعة





الحكايات مثلها مثل الكلمات، مثل أي شيء في الحياة. تختلف حكاية عن أخرى بالفترة الزمنية التي تعيشها. هناك حكايات عمرها قصير وأخرى عمرها مديد. وقعت تحت نظري حكاية تعود الى زمن بعيد جدّا. ولكنها حكاية لا تزال تنبض على أفواه الناس في الصين في شكل مثل يقول: "ضفدعة، من أعماق البئر، تتأمّل السماء". والأمثال تشبه، أحياناً، الاستعارة التي عليك أن تبحث عن أركانها المغيّبة لتفقه المعنى المضمر فيها. فثمّة حكايات ذات استعارات بعيدة حيث المعنى فيها لا يكون دائماً مبسوطاً كالكفّ أمام عينيك. وخلف كلّ مثل، حكماً، حكاية فأحببت أن أعرف تفاصيل المثل وأرى ما في كواليسه. وحين رحت أنقّب عن معلومات حول المثل سمعت زقزقة عصفور في كواليسه. والفضل في ولادة هذا المقال يعود للعصفور لا للضفدعة الظاهرة في المثل. وجدت أنّ العصفور الغائب من مفردات المثل موجود في كواليس الحكاية.


تقول الحكاية إنّ ضفدعة كانت تعيش في أعماق بئر. ولدت في البئر وترعرعت وبلغت سنّ الرشد وهي فيه. وكانت حين تنظر إلى الأعلى ترى السماء عبر فتحة البئر. من خلال تجربتها اليومية مع البئر اكتشفت أنّ لون السماء غير ثابت، تلوّنه ريشة الفصول والغيوم. السماء متغيرة بخلاف حياتها في البئر. وكانت تفرح بفتحة البئر التي تعتبرها عينها الثالثة او عدسة كاميرا تلتقط تصاوير السماء البديعة. ربّما خطر ببالها أن تخرج من المكان الذي هي فيه. ولكن العجز البيولوجيّ في تكوينها منعها من تحقيق هذه الرغبة. ولم يكن لذكائها القدرة على تركيب اجنحة افتراضية تساعدها على الخروج من البئر. استسلمت لحياتها الرطبة وواقعها المائيّ المحدود. انّها في سجن مائيّ ولكن لا تنظر الى سجنها على انه سجن بل على انه العالم كلّه. ذات يوم انقلبت حياتها وافكارها واحلامها رأساً على عقب إذ مرّ عصفور وحطّ على حافة البئر ليريح جناحيه قليلا، وحين أرهف السمع تناهى اليه صوت صاعد من اعماق الظلام ولم يسبق له، ايضا، في حياته ان وقف على حافّة بئر. ولكن عرف من خبرته بالأصوات ان الصوت الآتيّ ليس أكثر من نقيق ضفدعيّ. فاستغرب الأمر فهو ألِف الضفادع ورأى غير واحدة في حياته. يعرف ان الضفادع تحبّ الماء ولكن لا يعرف أنّها تحبّ الآبار فراح ظنّه البريء يتخيل أنّ البئر ليس أكثر من فخّ لاصطياد الطرائد فاشفق عليها من المحنة التي هي فيها. وقرر ان يمدّ لها جناح العون. بدأ معها بالتحية لمعرفة اسباب ورطتها. وكم كان استغراب العصفور كبيرا حين عرف ان البئر بيتها ومأواها، وانها تألفه الف الطيور لأعشاشها. راح كلّ واحد منهما يحكي عن حياته وتجاربه في الحياة، فكان العصفور يتكلّم على رحابة أرجاء السماء وكيف أنّها بلا حدّ، هلك جناحاه من التحليق وهو يسعى لبلوغ منبع السماء. كانت الضفدعة تسمع ما يحكيه عن اتساع السماء فتجحظ عيناها من كلامه الفضفاض، ظنّت الضفدعة أنّ العصفور يهزأ بها ويضحك على عينيها اللتين تكذبان كلّ ما يتفوّه به منقاره. من أين يأتي العصفور بهذه الترّهات والخرافات؟ قالت بينها وبين نفسها. كيف لهذا العصفور المغرور ان يكذب بمحضرها ويروح يحكي عن سماء متخيّلة ليست موجودة الاّ في رأسه الأرعن الصغير. سماء تكّذب حجمها فتحة البئر المضيئة التي هي أيضاً قبة السماء؟ فتحة البئر مثل عين الكاميرا لا تكذب في نظر الضفدعة بخلاف لسان العصفور الثرثار.


 العصفور طيّب القلب وصادق اللسان وهو لم يخطر بباله أن يضحك على الضفدعة. كلّ نيّته ان يحكي عن تجربته التي خبرتها عيناه وخبرها جناحاه. ولكنّ كلامه بالنسبة للضفدعة مكتظّ بالكذب الذي تدحضه عيناها في كل نظرة الى السماء. العصفور في عيني الضفدعة من سلالة مسيلمة الكذّاب! انقهر العصفور من ردّة فعل الضفدعة وغضب من افترائها عليه واتهامها له بالكذب أو التخريف. ولكن هل كانت الضفدعة تفتري عليه حقّا؟ انّها صادقة وعفوية في كلامها وردود افعالها مثلها مثل لسان العصفور تماما. كلاهما صادق ولكن كلّ منهما يتّهم الآخر بالكذب من غير نيّة في الافتراء. صدْقان ينقض احدهما الآخر. وحقيقتان كخطين متوازيين. هل الكذب ابن حقيقتين؟ حقيقة نطقت بها سماء العصفور، وحقيقة أخرى  نطقت  بها سماء الضفدعة. الضفدعة عندها قناعة ان السماء بحجم فتحة البئر- والقناعة كنز لا يفنى بنظر الضفادع!- بينما العصفور  يعرف أن السماء ملعب واسع جدّاً لا تحدّها عيناه.


الحقيقة- كما يبدو من خلال الحوار بين الضفدعة والعصفور- هي بنت المكان الذي أنت فيه.لا الضفدعة تكذب وتفتري، ولا العصفور يكذب أو يدّعي. كلّ الفرق هو في كون العصفور يعرف لأنّ ظروف حياته الجوّية سمحت له ان يعرف، والضفدعة لا تعرف لأنّ ظروف حياتها البئريّة، الجوّانيّة لم تسمح لها ان تعرف، ولكن من دون ان تعرف انّها لا تعرف. ومن أين لعقلها أسير البئر المعتم أن يستوعب أنّ رقعة السماء الظاهرة من فتحة البئر ليست أكثر من نقطة زرقاء من محيط السماء المديد؟


الكذب ليس دائما بنيّة الكذب، وحين نؤمن بحقيقة ما ليس بالضرورة ان تكون هذه الحقيقة التي نعرف والتي نؤمن بها هي الحقيقة التي لا غبار على عينيها.


بعض الناس علاقتهم بالحقيقة هي كعلاقة الضفدعة بفتحة البئر. من أين لهم أن يخطر ببالهم انّ حقيقتهم ليست الحقيقة؟ ومن اين لهم ان يقلقوا على حقيقتهم الراسخة في الأعيان والأذهان؟ وليس بالضرورة أن تمرّ العصافير عليهم وتأخذ بخاطرهم وتوقفهم على حقيقة لا تعترف بها أعينهم، وهي حقيقة، في أي حال، لو سمعوها لما وجدوا في تفاصيلها الاّ براهين على تهافتها وزيفها وبطلانها رغم أنّها خالية من الزيف والبطلان والتهافت.


إن الحقيقة التي يملكها العصفور ليست الحقيقة التي تعرفها الضفدعة، ولكن السماء قد تأتي بمن يفنّد كلام العصفور وتجرّده كما جرّد الضفدعة من "ال" التعريف  التي صدّرت بها "حقيقتها" غير القابلة للنقض.


في عالم الحقائق عصافير لا حصر لأجنحتها، وضفادع راضية بحياتها البئريّة والبريئة الوادعة. ولكن، في لحظة ما، قد يتحوّل العصفور إلى ضفدعة دون أن يصدّق انّه ليس عصفورا!




بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق