الأحد، 8 مايو 2016

رواية المقاومة بين مصر والصين

أثبت التاريخ أن الحياة الأدبية تتطور مع التطور السياسي والاجتماعي في كافة المجتمعات. فهناك علاقة تأثير وتأثر بين تطور الأدب من ناحية، وبين التطور السياسي والاجتماعي من ناحية أخرى. فعندما يسعى المجتمع للحصول على حريته واستقلاله وتحقيق هويته فإنه يواجه تحديات قوية لابد من مواجهتها. والأديب، بلا شك، يجب أن يستجيب لهذه التحديات، وأن يبذل قصارى جهده لتحقيق هذه الأهداف العظيمة التي يسعى المجتمع كله لتحقيقها. إن الأديب الحقيقي في كل كلمة يخطها بقلمه يهدف إلى إعلاء قيم نبيلة وغايات سامية.
يقول الأستاذ عز الدين إسماعيل، الناقد والأديب المصري الكبير، في كتابه "الأدب وفنونه": "إننا يجب أن نعي موقف الأديب من مجتمعه، فالأديب بلا شك له شخصيته وسماته الخاصة، ولكن هذه الشخصية لا يمكن أن تتحقق بعيداً عن المجموع، وموهبته الإبداعية إذا لم يكن لها تأثيرها على المجموع تصبح بلا قيمة، فقيمة الأدب هي نفسها القيمة الاجتماعية والإنسانية."
على مدى التاريخ الإنساني، قديمه وحديثه، لا يوجد عمل أدبي جاد يفتقد عنصر المقاومة، لأنه إذا خلا العمل الأدبي من فكرة الصراع والنضال يفقد عنصرا أًساسياً وهاماً من أهم عناصر تكوينه حيث أن فكرة الصراع فكرة أزلية بدأت منذ بدء الخليقة.
لقد جعل أدب المقاومة المصري والعربي العالم كله يتفاعل ويتعاطف مع قضايانا القومية. جعل القارئ المنتمي إلى قومية أخرى يشعر بأزماتنا ويتفاعل معها. ومن هنا يتضح أن الأدب لا يشارك في النضال في منطقته فقط، لكنه يشارك  أيضا في حركة النضال الإنساني. والشعب المصري مر بتاريخ طويل من المقاومة، وفي مختلف مراحل المقاومة عبر الأدب المصري بصدق وبعمق عن كفاح الشعب المصري وعن التناقضات الاجتماعية في فترات المقاومة.
إن رواية "عودة الروح"، تعد من أقوى ما يمثل أدب المقاومة في تاريخ الأدب المصري الحديث. في هذا العمل ربط توفيق الحكيم بين مصر ومغزى الثورة، فقد عبر عن أن المقاومة والنضال على مدى آلاف السنين جزء ومكون أساسي من مكونات روح الشعب المصري، وأثبت أنه حتى في أكثر الأوقات ظلمة، فإن روح الشعب المصري تملك إرادة المقاومة وتحقيق النصر.
والأديب الكبير نجيب محفوظ له أعمال كثيرة ناهض فيها بفكره ومن خلال شخصيات رواياته أوضاعاً اجتماعية ظالمة؛ من قهر سياسي وفروق طبقية وإقطاع وغيرها، وهذا من خلال أعماله "زقاق المدق"، "ثرثرة فوق النيل"، "ميرامار". كل هذه الأعمال كانت تنبئ بأن هناك كارثة محققة على وشك أن تعصف بالمجتمع كله، وفيها دعوة غير مباشرة للمقاومة والتمرد على هذه الأوضاع الظالمة. وفي ثلاثيته، كانت المقاومة هي العنصر الأساسي الذي ربط  بين أجزاء الرواية الثلاثة، والتي عبر فيها عن مرحلة من أهم مراحل نضال الشعب المصري في تاريخه الحديث. وأكد على أنه على الرغم من وجود صراع طبقي داخل المجتمع المصري، فإن هناك أيضاً أوقاتا تتوحد فيها الأمة لمواجهة ومقاومة الاستعمار، وهذه هي سمة الشعب المصري الغالبة منذ عهد الفراعنة وحتى وقتنا هذا.
ويوسف إدريس في رائعته "قصة حب"، عرض صورة من أروع صور المقاومة للشعب المصري. فقد أدرك أفراد الشعب البسطاء أن السبيل الوحيد  لمواجهة قهر الاستعمار وطغيانه هو الكفاح المسلح. فالثورة ليست هي الوسيلة الوحيدة لنيل الاستقلال، وإنما الكفاح المسلح هو الوسيلة المؤكدة أمام شعب يحلم بالحرية ونيل الاستقلال.
و"في بيتنا رجل" لإحسان عبد القدوس، تعد ملحمة من ملاحم البطولة الوطنية التي تؤكد على أن الطبقة الوسطى هي التي تقود دائماً النضال الوطني وتسعى لتحرير الأمة مهما كلفها ذلك. ومن الطبقة الوسطى يولد البطل القومي الذى يفضل الموت مناضلاً على أرض بلاده على العيش منعماً في بلاد غريبة.
إذا انتقلنا إلى الأدب الصيني الحديث، نجده أيضاً يجعل من مشاعر وروح المقاومة عند جماهير الشعب الموضوع الرئيسي للأدب وبالتحديد في فترة حرب المقاومة ضد اليابان. في هذه الفترة شارك الأدباء في الكفاح والنضال وكتبوا عدداً كبيراً من الروايات الرائعة التي تعكس هذه المقاومة. وهنا ظهر تيار جديد في الأدب الصيني الحديث وهو "تيار أدب المقاومة".
بدأت المقاومة الصينية ضد اليابان عام 1931. والقارئ للتاريخ يجد تشابهاً واضحاً بين فظائع الاستعمار الياباني في الصين وفظائع الاستعمار الإنجليزي في مصر، ويجد كذلك تشابهاً كبيراً بين ظروف وأحوال المجتمع الصيني والمجتمع  المصري في فترات المقاومة وظهور الصراعات الطبقية والإقطاع والقهر السياسي. وهنا يتضح أن العامل الاجتماعي من أهم عوامل التشابه بين رواية المقاومة في مصر والصين، حيث أنهما تشتركان في خلفية اجتماعية متشابهة كان لها تأثيرها على الأدباء في كلا البلدين وعلى مدى استجابتهم وانفعالهم بروح المقاومة وتصويرهم لمراحل النضال الوطني والصراعات الاجتماعية عند الشعب الصيني والشعب المصري. نود أن نشير هنا إلى أنه في بداية المقاومة الصينية ضد اليابان ظهرت بعض الشعارات التى تنادي بنظرية "عدم جدوى الأدب"، وضرورة أن يترك الأدباء أقلامهم ويحملوا البنادق وينضموا إلى المقاتلين. وهنا نشأت قضية شغلت الأوساط الأدبية الصينية ألا وهي: هل هناك علاقة بين الذين يشتغلون بالأدب وبين المقاومة؟ وهل تحتاج المقاومة إلى الأدب أم لا؟
إن نظرية "عدم جدوى الأدب"، أنكرت تماماً رسالة الأدب، وأنكرت دور الأدباء الهام في المراحل التاريخية الحاسمة، وأنكرت السلاح الخاص الذي يمتلكه الأديب في القتال. فكما تحتاج المقاومة إلى بندقية المحارب فهي في الوقت نفسه في حاجة إلى قلم الأديب الذي هو سلاح للمقاومة لا يمكننا أن نتجاهله.
لقد لعبت "الجمعية الأدبية الصينية"، التي تأسست عام 1938 دورها في توضيح دور الأدب ودور الأدباء كسلاح لإثارة حماسة الجماهير وتعبئتهم، وهذه مهمة لا يقدر على القيام بها إلا العاملون بحرفة الأدب. ومما قاله جو مو رو، الأديب  الصيني الشهير، في هذا الصدد: "إن آدابنا تتجه كلها في الوقت الحاضر نحو هدف واحد، ألا وهو تقوية مفهوم الجماهير لمعنى المقاومة وتدعيم ثقتهم في الحصول على النصر في النهاية."
الأديب الصيني الشهير با جين هو أقرب الأدباء الصينيين شبهاً بالأديب الكبير نجيب محفوظ. فله ثلاثيات تعكس واقع المجتمع الصيني وتعكس كذلك واقع المقاومة، وهو من أهم أدباء الواقعية الصينية. في ثلاثيته "النار"، عبر عن أنه رغم وجود صراعات بين الطبقات المختلفة، فإنه عندما تواجه الأمة أزمة ما تتجلى روح ومشاعر الوطنية في صور متعددة بين هذه الطبقات المختلفة. في رواية "ليلة باردة"، أوضح با جين تخبط المثقفين تحت الضغط السياسي والصراع الطبقي. وكانت روايته هذه دعوة صارخة تقول لهم: إذا لم تحاولوا الصمود والمقاومة والمواجهة والتمرد فلا مكان لكم ولا دور لكم.
والأديب الشهير لاو شي في روايته الطويلة "أربعة أجيال لعائلة واحدة"، تناول تجربة المقاومة ضد اليابان من أولها إلى آخرها من خلال أربعة أجيال اختلف كل جيل في فكره وأسلوب مقاومته. وكذلك انتقالهم من مرحلة الأحلام والأوهام إلى الوعي بما يدور حولهم وبضرورة تواجدهم وأدائهم لدورهم في حرب المقاومة.
والأديب ماو دون في روايته الشهيرة "التآكل"، عكس الوضع المخزي للجاسوسية التي كانت تتحالف مع المستعمر الياباني، ومدى الجرم الذي يرتكبه بعض أبناء الشعب الذين أغواهم الاستعمار ودفعهم لخيانة وطنهم.
كتب الأديب شا تينغ في هذه المرحلة ثلاثيته الشهيرة "البحث عن الذهب"، والتي كشف فيها بسخرية لاذعة وبعمق شديد الواقع المظلم الذي تجلى في الفساد والرجعية وفي سيطرة الإقطاعيين على الحكم، وفضح بضراوة جرائم هذه الطبقة الحاكمة.
والأديب آي وو في روايته "البراري"، تناول حياة النضال والمقاومة في قرية صغيرة من خلال عرض يوم في حياتهم، أي على مدى أربع وعشرين ساعة. وأكد على أن جماهير الشعب من العمال والفلاحين هم القوة الحقيقية لمقاومة الاستعمار.
في كتابه "فن الأدب" قال توفيق الحكيم مقولته الشهيرة: "إن الأديب الحقيقي هو وليد البيئة والعصر الذي يعيش فيه، وإلا صار الأدب شيئاً بعيداً تماماً عن العصر وعن حياة البشرية."
ليس هناك كاتب أو أديب يمكنه أن يتجاهل ما يدور حوله من أحداث عامة، فهذه الأحداث تؤثر في وجوده وفي روحه، وإذا لم يستمع الأديب إلى الأصوات التي تدوي من حوله فإنه يخون رسالة القلم. ليس على الأديب فقط الاستجابة لهذه الأصوات والنداءات، وإنما أيضا يجب عليه أن يضيف إليها قوة من روحه وأفكاره تساعد المجتمع الذي يعيش فيه على أن يتلمس طريقه نحو الحرية التي هي حلمه الأبدي.
--
د. ناهــد عبـدالله إبراهيـم، أستاذ الأدب والترجمة بقسم اللغة الصينية في كلية الألسن بجامعة عين شمس المصرية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق