شَعَرَ ابن الجوزيّ (510هـ -
592 هـ) أنّ كتابه الذي ألّفه عن “أخبار الأذكياء” لا يكتمل الاّ بنقيضه. من هنا، كان التفاته الى تأليف
"أخبار الحمقى والمغفّلين". وهو كتاب مسلٍّ، طريفٌ، وهزليّ ولكن يطوي
تحت جناحيه كثيراً من الجدّ. ولهذا الكتاب طبعات عدّة من دور نشر مختلفة، منها
الجيّد ومنها الرديء. كنت أقرأ في مقدّمة كتبها محقّقُ طبعةٍ جيّدة في صدر نشْرته
لكتاب أخبار الحمقى، وكان من طريف ما أشار إليه المحقّق جمال جمعة شيء لم يكن في
زمن ابن الجوزيّ، وهو تحقيق المخطوطات، فهذه مهنة ولدت مع عصر الطباعة والحاجة إلى
إحياء التراث المخطوط، إذ قال المحقّق لو كان التحقيق دارجاً في زمن المؤلّف لكان
أضاف إليه فصْلاً طريفاً هو "أخبار الحمقى من المحقّقين". والمحقّق محقّ
في ما ذهب إليه، فكثيراً ما أُشفق على الحبر والورق وأنا أرى أسماء أشخاص مسبوقة بحرف
نجمه محبوب جدّاً هو " د." يلي كلمة "تحقيق". والشخص عند التدبّر
والتحقيق يكون ناسخاً أو ماسخاً لكتاب سبق تحقيقه ونشره من قبل أسماء لا ريب في
وزنها العلميّ من قبيل شيخ المحقّقين عبد السلام هارون، أو طه الحاجريّ الذي حقّق
تحقيقاً ممتازاً كتاب "البخلاء" للجاحظ. وغالباً ما أقول لطلاّبي، إذا حضر
كتاب بتحقيق عبد السلام هارون بطُل التيمّم بتحقيق غيره. فلا أعرف كيف لا يخجل شخص
مطوّق بشهادة دكتوراه! من الاستيلاء والسطو بدم بارد على ممتلكات محقّق من طراز عبد
السلام هارون أو بنت الشاطىء مثلاً. أليس أحقر ما في مطلب العلم هو المكسب الماديّ
من دروب ملتويةٍ، مشبوهة، وبالتواطؤ، حكْماً، مع بعض دور النشر التي تهين، للأسف، شرف
مهنة النشر؟
ما كنت كتبت هذه المقدمة لو لم يكن حمقى ابن الجوزيّ غرض هذه المقالة.
والطريف في الأمر أنّ الحمقى كالفاسدين ليسوا صنفاً قائماً بنفسه. ومن يطالع فهرس
كتاب ابن الجوزيّ يعرف أنّ الحمقى موجودون بشكل شاقوليّ في المجتمع أي لا تخلو منهم
طبقة من الطبقات العلميّة وغير العلميّة، فقد ينتمي الواحد من الحمقى الى شريحة القضاة، أو الأمراء، أو الولاة، أو الكتّاب، أو المؤذّنين، أو الأئمّة، أو القُصّاص، أو المتزهّدين، أو المعلّمين، أو الأطبّاء.
وأنا لا أقوم، هنا، إلاّ بذكر بعض من أوردهم ابن الجوزيّ في مسرد كتابه ثمّ تناول بعض
أخبارهم الحمقاء.
أكتفي،
هنا، بذكر أخبار متعلّقة بالحمقى من النحويّين. يستشهد ابن الجوزي بقول أبي القاسم
بن برهان
الأسدي محذّراً أصحابه من التشادق اللغويّ: "إيّاكم والنحْو بين العامّة
فإنه كاللّحْن بين الخاصة". وهذه نظرة ثاقبة تعرف وظائف اللغة ومستوياتها
العمليّة وتربط بين المقامات والمقالات. وينتقد ابن الجوزيّ بعض المتفصّحين
والمتحذلقين والمتشدّدين معتبراً إيّاهم من أهل الغفلة إذ يقول:" وقد تكلّم
قوم من النحويّين بالإعراب
مع العوامّ فكان ذلك من جنس التغفيل، وإن كان صواباً. لا ينبغي أن يكلَّم كلُّ قوم
إلاّ بما يفهمون". فالخطأ
والصواب كما نلحظ، هنا، من كلام ابن الجوزيّ، مسألة خاضعة للنسبيّة ويحدّدها
المقام المتغيّر لا المعيار النحويّ الصارم.
ومن
طرائف اللغويين التي يرويها ابن الجوزيّ أنّه قدم على ابن علقمة النحويّ ابن أخ له فقال
له: "ما فعل أبوك؟" قال:" مات": قال: "وما فعلت
علّته؟" قال: "ورمت قدميه" قال:
"قل قدماه" قال: "فارتفع الورم إلى ركبتاه" قال: "قل
ركبتيه" فقال:" دعني يا عمّ،
فما موت أبي بأشدّ عليّ من نحوك هذا".
ويروي
ابن الجوزيّ خبر نحويّ يقف على بائع باذنجان فيسأله: "كم لي من هذا الباذنجان
بقيراط؟" فقال: "خمسين"، فقال النحويّ: قل:" خمسون"
ثم قال: "لي أكثر" فقال:" ستين"
قال: "قل ستون" ثم قال: "لي أكثر": فقال: "إنما
تدور على مئون وليس لك مئون".
ولا
تخلو بعض النوادر من الاعترافات الذاتية التي ينقلها ابن الجوزيّ بلسان أصحابها،
منها حادثة حصلت مع أبي زيد النحويّ الذي يقول:" وقفت على قصّاب، وعنده بطون،
فقلت: بكم البطْنان فقال: بدرهمان يا ثقيلان".
ويرويّ
ابن الجوزي حكاية شيخ يتعاطى النحو وكان له ابن فقال لابنه:
"إذا أردت أن تتكلّم بشيء فأعرضْه على عقلك، وفكّر فيه بجهدك حتى تقوّمه ثم
أخرج الكلمة
مقوّمة". فبينما
هما جالسان في بعض الأيّام
في الشتاء، والنار تتّقد، وقعت شرارة في
جبّة خزّ كانت على الأب، وهو غافل، والإبن يراه. فسكت ساعة يفكّر ثم قال: "يا
أبت أريد
أن أقول شيئاً فتأذن لي فيه"، قال أبوه: "إنْ حقاً فتكلّم"، قال:
"أراه حقاً" ، فقال:
"قل". قال: "إنّي أرى شيئاً أحمر". قال:" وما هو؟"
قال: "شرارة وقعت في جبّتك"، فنظر الأب إلى جبّته وقد احترق منها قطعة،
فقال للابن: "لِمْ لَمْ تُعْلِمْني
سريعاً"، قال:" فكّرت
فيه كما أمرتني ثم قوّمت الكلام وتكلّمت فيه"، فحلف أبوه بالطَّلاق أنْ لا
يتكلّم بالنحو
أبداً.
وأنهي
بهذه الحكاية عن نحويّ كان مهووساً بالنحو ومسائله
المثيرة للخلاف، فركب، ذات يوم، سفينة، فالتفت الى الملاّح وسأله:" هل قرأت
شيئاً من النّحْو؟" قال:" لا" فقال له النحويّ:" ضاع نصْف
عمرك هدْراً"، فسكت الملاّح وهو كسير القلب من كلام النحويّ الجارح. وما هي إلاّ
هنيهة حتى ألقت الريح السفينة في دوّامة فانتهز الملاّح الفرصة والتفت إلى النحويّ
سائلاً:" هل تعرف شيئاً من السِّباحة؟" فقال:"لا"، فما كان من الملاّح إلاّ أنْ ردّ للنحويّ الصاع
صاعين قائلاً:" كلّ عمرك، أيّها النحويّ، ضاع هدراً، ذلك أنّ السفينة، لا
محالة، غارقةٌ في الدوّامات".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق