بكين 22 يناير 2016 (شينخوا)
لطالما كانت العلاقات الثقافية التي نشأت وتطورت بين الصين ومصر، أحد الركائز الأساسية والفاعلة التي أسهمت في تطوير العلاقات بين البلدين والشعبين الصديقين بشكل عام، حيث نرى ونلمس الأثر الكبير الذي تركته العديد من الشخصيات الثقافية البارزة من الجانبين، والجهود الكبيرة التي بذلوها لتمتين أواصر الصداقة الثنائية ، فأصبحوا كأزهار تزين طريق الحرير وتنشر عبق الثقافة والأدب على جنباته.
وفي هذا السياق، يبرز اسم مصري كان له أثر كبير وجهود ملموسة في إغناء مسيرة العلاقات الثقافية بين الشعبين الصيني والمصري، إنه الدكتور محسن سيد فرجاني، 56 عاما ، أستاذ اللغة الصينية في كلية الألسن بجامعة عين شمس المصرية. وباعتباره أحد أهم مترجمي التراث الأدبي الصيني في مصر والعالم العربي، يشتهر الدكتور فرجاني بإسهاماته في ترجمة الأعمال الأدبية الصينية وعلى رأسها الأعمال الكلاسيكية القديمة.
في 20 يناير عام 2016، كرم الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال زيارته لمصر الدكتور فرجاني بتقليده جائزة المساهمات البارزة للصداقة الصينية العربية، بالاشتراك مع تسعة أشخاص آخرين من الشخصيات العربية بما فيهم الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة بطرس غالي، وذلك لدورهم في مجال دعم وتوطيد علاقات الصداقة بين الصين والدول العربية.
فرجاني والتراث الأدبي الصيني
بدأ الدكتور فرجاني خطواته في ترجمة الأعمال الأدبية الصينية منذ فترة الدراسة الجامعية.
وبعد ذلك، اقترح جمال الغيطاني، وكان آنذاك رئيس تحرير جريدة أخبار الأدب المصرية، اقترح على فرجاني الاتجاه إلى ترجمة الأعمال التراثية الصينية، وأدرك فرجاني الأهمية الكبيرة للتراث الصيني في ظل عدم وجود قدر كاف من ترجمات هذا التراث في المكتبات العربية. فترجم فرجاني كتاب محاورات كونفوشيوس وتبع ذلك كتاب الطاوية ((طاو ده جينغ))، ثم توالت أعمال تراثية كثيرة.
حتى الأن، ترجم فرجاني قرابة 30 كتابا صينيا تمتد أنواعها من الأدب الكلاسيكي القديم إلى الأدب الحديث والمعاصر. ومن هذه الكتب المترجمة، أثارت الأعمال الكلاسيكية انتباها واعجابا ، وتتمثل في محاورات كونفوشيوس والكتب الأربعة المقدسة وكتاب ليتزو "فيلسوف الطاوية" وكتاب الطاوية وكتاب الحرب عند سونبين وكتاب سياسات الدول المتحاربة.
قدر نقاد الأدب فرجاني وقالوا أن منجزاته سدت الثغرات فى مجالات الأدب الصيني القديم والثقافة الصينية القديمة في العالم العربي، إذ لم يكن أحد من العرب قبله يركز بكثافة على دراسة وترجمة الأعمال الصينية القديمة، بسبب أنها مكتوبة باللغة الصينية القديمة التى لم يتم استخدامها في الوقت الراهن ويصعب قراءتها وفهمها حتى بالنسبة الى الصينيين.
وبالرغم من التحديات التى واجهت فرجاني في فهم اللغة الصينية القديمة، بذل كل جهوده للحصول على أصح وأدق ترجمة بقدر الإمكان. ولم يلجأ إلى المعاجم المختلفة ووثائق المعلومات المعنية فقط، بل أيضا قرأ الكتب التى تمت ترجمتها إلى لغات أخرى وقام بمقارنة جدية بينها لمحاولة الاستقادة منها.
كلما صادف حالات حرجة في الترجمة، استعان فرجاني بأصدقائه الصينيين المقيمين في مصر وتناقش معهم. وكان فرجاني يتردد على المركز الثقافي الصيني بالقاهرة دائما، حيث كان يحتفظ في مكتبته بكمية من الكتب الصينية ويراجع فيها ما يحتاج إليه من المعلومات المفيدة.
وأعربت تشن دونغ يون، مديرة المركز الثقافي الصيني بالقاهرة، عن تقديرها للعمل المتواصل الذى يقدمه فرجاني في ترجمة الكتب الأدبية الصينية، قائلة "إنه رجل محترم يعمل بجدية وأسلوب صارم".
وأشادت تشن، وهى أيضا المستشارة الثقافية بسفارة الصين لدى مصر، بأن فرجاني واحد من أبرز المتخصصين المصريين القلائل في دراسة الشؤون والثقافة الصينية.
حبه للحضارة الصينية
منذ فترة صباه، بدأ فرجاني يقرأ عن الصين من خلال كتب الرحالة والمذكرات الشخصية للصحفيين الأجانب والتى كتبت بالعربية والإنجليزية . وقد تأثر فرجاني بكتابين قرأهما عن الصين، أحدهما مذكرات الإمبراطور الأخير للصين والآخر مذكرات صحفي أمريكي زار بكين.
وقال "أخذتنى ما رسمته المذكرات من صورة الصين الجميلة برغم عدم احتوائها على أية صورة. وابهرتني بثقافة الصين الرائعة."
وفي الحقيقة، لم يفكر فرجاني أصلا في دراسة اللغة الصينية بعد انتهاء المرحلة الثانوية عام 1977،حيث لم يكن يوجد في البلاد أية جامعة تعلم اللغة الصينية. وذات مرة، قرأ فرجاني في جريدة خبرا عن إعادة افتتاح قسم اللغة الصينية في كلية الألسن بجامعة عين شمس والذى كان قسما عريقا أنشأ في سنة 1958 ثم توقف لفترة. وبلا تردد، قدم فرجاني أوراقه ونجح أخيرا في الالتحاق بقسم اللغة الصينية.
وذكر فرجاني أن اتقان اللغة الصينية صعب جدا بكل مستوياتها الشفوية والكتابية، وخاصة أنها تعج بآلاف اللهجات بمختلف المناطق، إذ تتسم الصين بكبر المساحة وكثرة السكان. وبغض النظر عن العقبات خلال دراسة هذه اللغة، ظل يجتهد في الدراسة بجد.
والجدير بالذكر أن فرجاني هو أحد طلاب الدفعة الأولى من خريجي قسم اللغة الصينية بجامعة عين شمس بعد إعادة فتحه. ومنذ ذلك الوقت، تطور تعليم ودراسة اللغة الصينية في مصر إلى حد كبير، وازداد تدريجيا عدد الجامعات التي تدرس اللغة الصينية إلى حوالي 11 جامعة، أمثال جامعة القاهرة وجامعة الأزهر وجامعة قناة السويس وجامعة الإسكندرية والخ.
وفي السنوات الأخيرة، شهد تعلم اللغة الصينية اقبالا شديدا بين الشباب في مصر والدول العربية الأخرى. وازداد عدد متعلمي اللغة الصينية سنة بعد أخرى. وفي نفس الوقت، كرس الكثير منهم أنفسهم لترجمة الأدب الصيني، مما ساهم في التبادل الثقافي بين الصين والدول العربية.
-- فرجاني وحبه للريف
ولد محسن فرجاني في مدينة الإسماعيلية المطلة على قناة السويس. وبعد اندلاع الحرب بين مصر وإسرائيل عام 1967، أثيرت هجمات مسلحة على الإسماعيلية . فانتقل فرجاني مع أسرته إلى قرية بمحافظة الفيوم الواقعة في شمال صعيد البلاد.
وعاش فرجاني طفولته في هذه القرية البسيطة، حيث يوجد بها مجتمع زراعي وآثار فرعونية ، ما ترك انطباعا عميقا في ذهنه وتأثيرا مهما في حياته فيما بعد. كان ولا يزال يحمل في قلبه حب الريف، معتبرا نفسه "ابن الريف".
وقال "إن جو المدينة جو انفصام وعدم التقاء، ولكن في الريف كل شيء يتلاحم.. وعندما نسمع أغنية ريفية، نشعر في كلماتها بمشاعر الحميمية والود والصداقة التى يتميز بها الريف."
وكشف فرجاني الكثير من نقاط الالتقاء الخاصة بالأرياف بين الصين والبلدان العربية، وأن علاقة الشعبين متأصلة في جذور التاريخ. وفي هذا الصدد، أفادته التجارب الخاصة التى مر بها في الريف في ترجمة الأعمال الريفية الصينية، خاصة أعمال مو يان، وهو أحد أهم أدباء الصين والحاصل على جائزة نوبل للآداب لعام 2012.
ولد مو يان، الذى حاز على شهرة واسعة في الصين وخارجها، في عائلة مزارعين في قرية نائية. ويرسم مو يان في أعماله صورة حية من الريف الصيني ويهتم بمصير الفلاحين الصينيين، ولا سيما أهله في مسقط رأسه محافظة قاو مي بمقاطعة شاندونغ شرقي الصين.
من جانبه، شرح فرجاني براعة مو يان في المزج بين الواقع والخيال والحكايات العجيبة المعهودة في التراث الصيني القديم، منوها بأن أعماله تفتح نافذة أمام العرب للتعرف على الأرياف الصينية. وبعد حصول مو يان على جائزة نوبل، صار القراء العرب يولون المزيد من الاهتمام بالأدب الصيني والمجتمع الصيني.
وإن رواية "الثور" هى أول رواية لمو يان ترجمها فرجاني وتم إصدارها في عام 2013، لتكون ثاني رواية لمو يان يتم ترجمتها في العالم العربي بعد رواية "الذرة الرفيعة الحمراء"، أشهر عمل له بين القراء الصينيين.
وكان مو يان سعيدا عند معرفة خبر ترجمة روايته إلى اللغة العربية. وخلال الترجمة، تواصل مو يان مع فرجاني عبر الإنترنت ، واتفقا على القيام بالترجمة الأصلية للرواية.
علاوة على كتاب "الثور"، ترجم فرجاني رواية متميزة أخرى لمو يان "الحلم والأوباش" وقدم كتابه "الصبي سارق الفجل" بالعربية الذى ترجمه المترجم المصري حسنين فهمي حسين.
الصداقة بين فرجاني والصين
لقد أقام فرجاني مع الصين روابط حميمة وصداقة وثيقة على مر الزمان. ووصل فرجاني آراضي الصين لأول مرة في عام 1987. وبعد عشر أعوام، أتى فرجاني للصين مرة أخرى، حيث قام بزيارة المدينة المحرمة وسور الصين العظيم. وفي عام 2003، درس في جامعة اللغات والثقافة الصينية.
وقال فرجاني "أنا شهدت تغيرات الصين." مشيرا إلى أنه كان يرى ملامح متخلفة في معظم أرجاء البلاد في المرة الأولى . قائلا "حتى بكين العاصمة، لم تكن مدينة أحسن من القاهرة عاصمة مصر حينذاك."
وبعد ذلك، زار فرجاني الصين لأكثر من عشر مرات، كانت أطول زيارة عاش فيها لسنتين كاملتين. وخلال السنوات العشرين الماضية، شهد فرجاني التغيرات الهائلة والمدهشة التي مرت بها الصين في كل انحائها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، خاصة بعد انطلاق عملية الإصلاح والانفتاح على العالم الخارجي.
وقال فرجاني " إن الحكومة الصينية ساعدت مئات الملايين من السكان على التخلص من الفقر بنجاح، بينما أصبحت الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم."
وفي المرة الأولى التى زار الصين فيها في ثمانينات القرن الماضي، وجد فرجاني أن اجراءات تأشيرات الدخول للصين معقدة. ولكن، خلال عشرين سنة مضت، تم تسهيل كل الإجراءات وتقديم أفضل الخدمات للأجانب، ما يمثل صورة صينية أكثر انفتاحا وثقة أمام العالم.
تقديرا للجهود البارزة التى بذلها فرجاني على المدى الطويل في مجال الترجمة من الصينية إلى العربية والتى فتحت بابا للعالم العربي للاطلاع على ثقافة وآداب الصين، منحت الحكومة الصينية فرجاني جائزة الإسهام المتميز في الكتب الصينية لعام 2013 والتى أنشأت في سنة 2005 تهدف إلى تشجيع نشر الثقافة الصينية وتمنح للناشرين والمترجمين والكتاب الأجانب الذين قدموا إسهامات عظيمة في ترجمة ونشر الكتب الصينية. ويعد فرجاني أول عربي يفوز بهذه الجائزة.
هذا وقد تطور التعاون بين الصين والدول العربية في مجال الترجمة المتبادلة للمؤلفات الكلاسيكية الصينية والعربية في السنوات الأخيرة، حيث انطلقت مشروعات استراتيجية على المستوى الدولي منذ عام 2011 بما فيها مشروع ترجمة ونشر ألف مؤلف كلاسيكي باللغة العربية في غضون عشر سنوات ومشروع الترجمة المتبادلة والنشر للمؤلفات الكلاسيكية الصينية والعربية.
وخلال زيارة الرئيس شي لمصر، قام مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بإطلاق سنة الثقافة الصينية المصرية في مدينة الأقصر، حيث ستقام في السنة الجارية سلسلة من الفعاليات الثقافية التي ستشمل فعاليات الترجمة المتبادلة الصينية العربية.
وفيما يتعلق بالحصول على جائزة المساهمات البارزة للصداقة الصينية العربية، التي تعد من أهم الجوائز التي تمنح تقديرا لإسهامات الأشخاص في دفع الصداقة الصينية العربية، قال الدكتور فرجاني إنه سعيد وفخور جدا بهذا التكريم المشرف الذي حظي به، ولا سيما أنه تم من قبل الرئيس الصيني شخصيا، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على الاهتمام الكبير الذي توليه القيادة الصينية بتعزيز الروابط الثقافية مع جميع شعوب العالم، إلا أنه قال إنه يشعر في نفس الوقت بمسؤولية كبيرة على عاتقه تفرض عليه ضرورة بذل المزيد من الجهود لدفع قضية ترجمة الأدب الصيني في العالم العربي وتوثيق علاقات الصداقة بين الصين ومصر.
ليس هناك فرجاني واحد فحسب، بل يوجد حاليا العديد من الخبراء والعلماء العرب والصينيين الذين يقومون بنشر الثقافة الصينية في الدول العربية من خلال ترجمة ونشر المؤلفات وفي نفس الوقت تقديم الكتب العربية المترجمة إلى الصينيين الذين يعشقون الثقافة العربية.
وأوضح فرجاني أنه يشعر بالسعادة الغامرة من أعماق قلبه لما تحرزه أعمال ترجمة الأدب الصيني من تطور وتقدم، حريصا على أن يشارك المزيد من المترجمين العرب في هذا العمل العظيم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق