لا يخلو بيت، اليوم، من مفردات صينيّة، لا بيت غنيّ ولا بيت فقير، لا بيت عربيّ ولا بيت غربيّ. وقد ينكر القارئ، لأوّل وهلة، وجود كلمات وجمل صينيّة في عقر داره. يكفي فقط أن يقرأ الكلماتِ المكتوبةَ على جزء من أدواته المنزليّة التي يستعملها في حياته اليوميّة، فالبضاعة الصينيّة جزء من حياة الناس العملية، فلم لا تكون الحكايات الصينية بما تحمله من أفكار غير ماديّة جزءاً، أيضاً، من حياتهم ولا سيّما أنّ بعضاً منها زاهي الدلالات، طريفُها؟
إحدى تلك الحكايات تروي سيرة حياة أوّل غراب. ويبدو أنّ للغربان سِيَراً! نحن نعرف أنّ الغراب اقترن اسمه، في اللغة العربيّة، بالغربة والغرابة، وليس أكثر غرابة من حياة الشعب الأصفر الذي لا نعرف عنه الكثير، ولا شكّ في أنّ العبارة التي تسرّبت إلى تراثنا العربيّ والتي تقول:" اطلب العلم ولو في الصين"، تعني، هنا، الإصرار رغم وجود الاستحالة أي على المرء أن يطلب حتى المستحيل. وهذه العبارة، في أيّ حال، درس مكثّف في التفاؤل.
يبدو أنّ للغراب، في الصين، حكاية تفصح عن أصله وفصله، تغاير ما نعرفه عنه، وقد لا يصدّق أحد أنّ الغراب الأوّل كان لون ريشه لا يضاهيه رونقاً ريش كلّ ألوان الطيور، وهي كانت تعرف ذلك، وكانت لهذا السبب تغبطه، وتعجب من بزّته اللونيّة التي منّ الله بها عليه، هذا ما تقوله في أيّ حال الحكاية الصينية.
ولم يكن يتفوّق على سائر الطيور فقط بريشه الناعم كالحرير، وتدرّجات ألوانه الزاهية وإنّما أيضاً بصداحه الذي كانت تطرب له آذان البلابل وتتمنّاه لحنجرتها المبحوحة. ولكن أين ومتى وكيف اسودّت أيامه وألوانه وخسر صوته البهيّ, حتى صار الإنسان يستعيذ بالله من صوته، جالب النحس، ومن سواد لونه الذي يضرم اليأس في عيني رائيه؟
تقول الحكاية إنّ الغراب لم يصدّق نفسه وصار يتكبّر على خلق الله، ويتباهى على الجميع ويخرس بصوته الساحر الصدّاح كلّ طائر. الجمال فتّان، والغراب أخذته العزة بألوانه، فكان كلما دنا منه أحد الطيور للاعتراف له بالبهاء النابت من تضاعيف ألوانه، يشمخ بمنقاره ويقول للطائر المسكين: لماذا لا تغتسل، انظر الى لون ريشك الباهت من القذارة. لا تدنُ منّي، فريشي لا يحتمل دنوّ أمثالك. وصار يأنف من الطيور وعاش مزهوّاً كالطاووس بل أين منه الطاووس المسكين الذي خجل من ألوانه، وأين للببغاوات الإفريقية والطيور الاستوائية حسن طلّته الملوّنة؟
كان الغراب، بكل بساطة، سلطان الطيور، فضربه الغرور، وراح يزهو بنفسه، مطبّقاً حذافير المثل العربيّ:"أزهى من غراب". ولكنّ الدنيا دولاب دوّار وطاحن. ويبدو أنّ الشمس وجعها قلبها ولم تحتمل تكبّر هذا الطير الطائش والمغرور، وأرادت أن تثأر للطيور المسكينة التي لا تعرف كيف توقف الغراب عند حدّه؟ فألقت من صدرها شعلة أضرمت النار في الغابة، فراحت ألسنة اللهب تتطاير بألف لون ولون. ونعرف أنّ النار كالحرباء تغيّر لونها وتبدّله وفق الحرارة، وراحت العصافير تنظر الى النار الفتّانة، وتتأمّل من بعيد أطياف لونها المتوهّجة، وبدأ الفرح يخرج زقزقاتٍ ملوّنة من مناقيرها، أخيراً رأوا ألواناً تفوق، زهواً، ريش الغراب. لم يحتمل الغراب ألوان النار السخيّة، وشعر كما لو أنّ جناحاً مجهولاً يريد أن ينقضّ عليه ليزيحه عن عرش الجمال، فقرّر الانتقام، ليس من العصافير المفتونة وإنّما من النار المتخايلة، وراح يصرخ في وجه النار قائلاً: لا بدّ من تلقينك درساً لا ينسى، سأطفىء ألوانك التي أشعلتها الغيرة وأقصّ ألسنتك الملوّنة، وهجم بكل ما أوتيه من غضب على النار محاولاً إطفاءها بجناحيه وذيله، ولكنّه في أقلّ من ثانية فرّ من جحيمها الكالح.
ولا يعرف كيف أسعفته أجنحته للخروج من حميم المعركة، وحين نظر الى ثوبه الملوّن، لم يجده، ووجد على جسده بدلاً منه ثوباً صبغته دخنة اللهب فبدا أسود كالفحم أو كلون الغراب! وصار يصرخ وينحب. وما صوته الراهن إلاّ صدى محروق لذلك النحيب الذي ورثه من جدّه الأوّل، إلاّ أنّه لم يُعرَفْ إلى اليوم ما إذا كان صراخه ندماً على ما قام به جدّه الأوّل، أو أنّه مجرّد حزن، ناصل الألوان، على ماضيه الملوّن والزاهي الذي لم يعد يراه إلاّ في ريش غيره؟
الحكاية الصينية لم تُرِدْ، فيما يبدو، حسم المسألة المتعلقّة بدلالة نعيق الغربان الراهنة، هذا النعيق الذي تحوّل إلى سوء طالع، ومدعاة للتطيّر، إذ لا يحبّ أحد من الآدميين، ولا حتّى من العصافير، تلويث أذنيه بهذا الصوت الناحب المشؤوم.
إحدى تلك الحكايات تروي سيرة حياة أوّل غراب. ويبدو أنّ للغربان سِيَراً! نحن نعرف أنّ الغراب اقترن اسمه، في اللغة العربيّة، بالغربة والغرابة، وليس أكثر غرابة من حياة الشعب الأصفر الذي لا نعرف عنه الكثير، ولا شكّ في أنّ العبارة التي تسرّبت إلى تراثنا العربيّ والتي تقول:" اطلب العلم ولو في الصين"، تعني، هنا، الإصرار رغم وجود الاستحالة أي على المرء أن يطلب حتى المستحيل. وهذه العبارة، في أيّ حال، درس مكثّف في التفاؤل.
يبدو أنّ للغراب، في الصين، حكاية تفصح عن أصله وفصله، تغاير ما نعرفه عنه، وقد لا يصدّق أحد أنّ الغراب الأوّل كان لون ريشه لا يضاهيه رونقاً ريش كلّ ألوان الطيور، وهي كانت تعرف ذلك، وكانت لهذا السبب تغبطه، وتعجب من بزّته اللونيّة التي منّ الله بها عليه، هذا ما تقوله في أيّ حال الحكاية الصينية.
ولم يكن يتفوّق على سائر الطيور فقط بريشه الناعم كالحرير، وتدرّجات ألوانه الزاهية وإنّما أيضاً بصداحه الذي كانت تطرب له آذان البلابل وتتمنّاه لحنجرتها المبحوحة. ولكن أين ومتى وكيف اسودّت أيامه وألوانه وخسر صوته البهيّ, حتى صار الإنسان يستعيذ بالله من صوته، جالب النحس، ومن سواد لونه الذي يضرم اليأس في عيني رائيه؟
تقول الحكاية إنّ الغراب لم يصدّق نفسه وصار يتكبّر على خلق الله، ويتباهى على الجميع ويخرس بصوته الساحر الصدّاح كلّ طائر. الجمال فتّان، والغراب أخذته العزة بألوانه، فكان كلما دنا منه أحد الطيور للاعتراف له بالبهاء النابت من تضاعيف ألوانه، يشمخ بمنقاره ويقول للطائر المسكين: لماذا لا تغتسل، انظر الى لون ريشك الباهت من القذارة. لا تدنُ منّي، فريشي لا يحتمل دنوّ أمثالك. وصار يأنف من الطيور وعاش مزهوّاً كالطاووس بل أين منه الطاووس المسكين الذي خجل من ألوانه، وأين للببغاوات الإفريقية والطيور الاستوائية حسن طلّته الملوّنة؟
كان الغراب، بكل بساطة، سلطان الطيور، فضربه الغرور، وراح يزهو بنفسه، مطبّقاً حذافير المثل العربيّ:"أزهى من غراب". ولكنّ الدنيا دولاب دوّار وطاحن. ويبدو أنّ الشمس وجعها قلبها ولم تحتمل تكبّر هذا الطير الطائش والمغرور، وأرادت أن تثأر للطيور المسكينة التي لا تعرف كيف توقف الغراب عند حدّه؟ فألقت من صدرها شعلة أضرمت النار في الغابة، فراحت ألسنة اللهب تتطاير بألف لون ولون. ونعرف أنّ النار كالحرباء تغيّر لونها وتبدّله وفق الحرارة، وراحت العصافير تنظر الى النار الفتّانة، وتتأمّل من بعيد أطياف لونها المتوهّجة، وبدأ الفرح يخرج زقزقاتٍ ملوّنة من مناقيرها، أخيراً رأوا ألواناً تفوق، زهواً، ريش الغراب. لم يحتمل الغراب ألوان النار السخيّة، وشعر كما لو أنّ جناحاً مجهولاً يريد أن ينقضّ عليه ليزيحه عن عرش الجمال، فقرّر الانتقام، ليس من العصافير المفتونة وإنّما من النار المتخايلة، وراح يصرخ في وجه النار قائلاً: لا بدّ من تلقينك درساً لا ينسى، سأطفىء ألوانك التي أشعلتها الغيرة وأقصّ ألسنتك الملوّنة، وهجم بكل ما أوتيه من غضب على النار محاولاً إطفاءها بجناحيه وذيله، ولكنّه في أقلّ من ثانية فرّ من جحيمها الكالح.
ولا يعرف كيف أسعفته أجنحته للخروج من حميم المعركة، وحين نظر الى ثوبه الملوّن، لم يجده، ووجد على جسده بدلاً منه ثوباً صبغته دخنة اللهب فبدا أسود كالفحم أو كلون الغراب! وصار يصرخ وينحب. وما صوته الراهن إلاّ صدى محروق لذلك النحيب الذي ورثه من جدّه الأوّل، إلاّ أنّه لم يُعرَفْ إلى اليوم ما إذا كان صراخه ندماً على ما قام به جدّه الأوّل، أو أنّه مجرّد حزن، ناصل الألوان، على ماضيه الملوّن والزاهي الذي لم يعد يراه إلاّ في ريش غيره؟
الحكاية الصينية لم تُرِدْ، فيما يبدو، حسم المسألة المتعلقّة بدلالة نعيق الغربان الراهنة، هذا النعيق الذي تحوّل إلى سوء طالع، ومدعاة للتطيّر، إذ لا يحبّ أحد من الآدميين، ولا حتّى من العصافير، تلويث أذنيه بهذا الصوت الناحب المشؤوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق