استراتيجيّة حسود
الحكايات حول الحسد كثيرة، وأبيات الشعر التي تتناول
مفاعيله، أيضاً، كثيرة. وقرب الحسد من الجسد في الكتابة العربية - إذ الفارق نقطة
لا غير- كثّر من الأمثال والأقوال التي تجمع بين الحسد والجسد. والحسد غيّر مصائر كثير من
الناس، وكان محرّضاً على ارتكاب جرائم وحبك مؤامرات. وحكاية النبيّ يوسف في القرآن
منشأها حسد أدّى الى رميه في غياهب الجبّ، ولقد ذكر الله في كتابه الكريم الحسد،
وجعلنا نستعيذ بالله منه في سورة الفلق: "
ومن شرّ حاسد إذا حسد" . فالحسد كما نرى، هنا، مقرون بالشرّ! كما قرن في
حكاية يوسف بالكيد. وأحبّ، هنا، أن أشير إلى شاعرين، أوّلهما المتنبي الذي عانى من
ويلات الحسد كثيراً، فكلمة الحسد وردت في حالات متنوّعة وملوّنة في شعره: "
حواسد، حسد، حُسَّد، حاسد، محسود"، بل يمكن القول انّ الحسد ترك أثرا لا يمحى في شعره وفي شخصه على
السواء. لم يسبق لي أن سمعت ان شخصا آخر غير المتنبي التصق به الحسد هذا الالتصاق الجليّ
الى حدّ انه اختار لابنه اسما دالاّ على حضور طاغٍ لحسدٍ يطارده ويقضّ مضجعه، فلقد
اختار لابنه اسماً شديد الندرة وغريب الوقع على الأسماع، وهو " مُحَسّد".
هذه التسمية، في أيّ حال، كاشفة عن ذلك الشعور العارم بالذات، وهي ضرب من الهجاء
المستتر الذي أتقنه المتنبي منذ بداياته الشعريّة، ولكنّ مفردة الحسد ومشتقاتها في
شعره تشكّل لبنة من لبنات الحقل الدلاليّ للفخر الممزوج بشتّى الأغراض حتّى في مطلع
الغزل، كما في هذا البيت:
عَواذِلُ ذاتِ الخالِ فيَّ
حَواسِدُ وَإِنَّ ضَجيعَ الخَودِ مِنّي لَماجِدُ
وأبيات أخرى لا تخلو من نفخة الفخر ونفحة التعالي، فللحسد مبرّرات وجود، ومن
هذه الابيات الواردة في قصيدتين:
كثير حاسدي صعب مرامي قليل عائـــدي سقيم فؤادي
إنّي وإنْ لُمْتُ حاسدِيّ فَمَا أُنْكِرُ أنّي عُقُوبَةٌ لَهُمُ
وكَيفَ لا يُحْسَدُ امْرُؤٌ عَلَمٌ لَهُ على كلّ هامَةٍ قَدَمُ؟
اما الشاعر الثاني فهو ابو
تمّام الذي اشار إلى فضيلة الحسد، وهذا من قبيل حسنات المساوئ او فضائل الرذائل،
وأبو تمّام سيّد من آلف بين الأضداد ببعيد استعاراته كما قيل عنه، فالحاسد من دون أن
يدري يكون خادماً بين يدي المحسود، يريد أن يطفىء المحسود ويطمس قيمته ولكن بدلا
من ذلك يكون من المساهمين في إعلاء شأن المحسود! ولا تخلو الدنيا من هذه
الاستراتيجيّات العبثية التي تجري بخلاف ما تشتهي سفن الحاسد، ويبرّر ابو تمّام
أسباب فضائل الحسد بالقول:
وإذا أراد الله نشر فضيلة
طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ما
كان
يعرف
طيب
عرف
العود
لولا محاذرة العواقب لم تزل للحاسد
النعمى
على
المحسود
ولكن من حسنات الحسد أيضا
انه يخلصك من الحاسد، فللحسد قدرة على ايذاء الحاسد كما له قدرة على ايذاء
المحسود. وما من أحد، فيما اتصور، الاّ
وفي جعبته حكاية عن الحسد سمعها، أو واقعة شهدها أو وقعت له. ولقد قرأت حكاية عن
الحسد غريبة في كتاب منسوب للجاحظ بعنوان" تنبيه الملوك والمكائد"، وهو
كتاب يضمّ بين دفّتيه كمّا وافراً من المكائد الفارسية واليونانية والعربيّة
والحبشيّة. عادة ما تكون غاية المكيدة انقاذ النفس، وايقاع الآخرين في الفخّ. ولكن
الحكاية التي سأرويها الآن، هي حكاية وضعها الكاتب تحت عنوان " خبر
عجيب" وهي حكاية تستحقّ هذا الاسم. تقول الحكاية انّ رجلاً ببغداد من أهل
النعمة، كان له جار في مثل حاله ونعمته، فحسده وسعى، لعظم الحسد فيه، بكلّ مكروه
يمكنه فلم يقدر على النيل من جاره، فلما طال امره، ونيران الحسد تتوقّد في قلبه،
والأيام لا تزيده فيه إلا غيظاً اشترى غلاماً صغيراً فربّاه، وأحسن اليه. فلمّا كبر الغلام واشتدّت قوّته، قال له مولاه :
يا بنيّ، إني أريدك لأمر من الأمور جسيم، فليت شعري كيف انت اليّ عند ذلك؟ فقال
الغلام: كما يكون العبد لمولاه المنعم عليه. والله يا مولاي، لو علمت ان رضاك في أن
اغرق في لجّة البحر لفعلت ذلك. فسرّ به، وفرح بقوله، وضمّه الى صدره وقبّله، وقال
بينه وبين نفسه: ارجو ان يكون ممّن يصلح لما أريد، ثم مال الى الغلام وقال له: إنّ
جاري فلاناً قد بلغ منّي مبلغاً، وأحبّ قتله. قال: فأنا أفتك به الساعة. قال: لا
أريد هذا، وأخاف ان لا يمكنك الأمر، ولكن دبّرت أمراً وهو أن تقتلني أنت، وتطرحني
على سطح داره فاستريح من نار الحسد، ويؤخذ فيقتل، وتؤخذ نعمته. فقال له الغلام وهو
لا يصدّق ما يسمع: يا مولاي! أتطيب نفسك بذلك؟ وانت أبرّ بي من الوالد؟ فقال: دع
عنك هذا، فاني انما كنت أربيك لهذا اليوم، فلا تطعن في تدبيري، وتقضي على أمري.
قال: الله الله في نفسك يا مولاي تتلفها في امر لا تدري أيكون ام لا يكون، فان كان
لم تر منه ما أمّلت وأنت ميت. قال: أراك لي عاصياً، وما أرضى عنك ان لم تفعل. ثم سلّم الى الغلام سكيناً فسنّها، واشهد له أنّه
دبّره ووصله بثلاثة آلاف درهم، وقال إذا فعلت ما أمرتك، فاذهب إلى أيّ البلاد شئت
وأنت حرّ طليق، ثم تسوّر حائط جاره في السحر، واضطجع على سطحه، فذبحه الغلام وهرب.
وأُخذ الرجل الذي كان ذلك على سطحه بتهمة القتل. ولكن القاضي بعد أن سمع أقوال
المتّهم تريّث في بتّ الأمر.
لم يستطع الغلام كتمان ما
حصل معه، فالاحتفاظ بهذا الضرب من الأسرار يتلف الأعصاب. فالإنسان لا يمكنه حمل السرّ،
فالسرّ أحياناً له مفعول الجمر أو الحسد، فكلاهما حارق. أسرّ الغلام بما حدث معه لبعض اصحابه، ولكن كلّ سرّ جاوز الاثنين شاع،
وهذا ما حصل، إذ وصل الخبر الى مسامع القاضي فقبض على الغلام الذي اعترف بتفاصيل الجريمة وأسبابها، فتمّ إطلاق
المحسود البريء.
ولا ريب في ان هذا الحاسد
اتّبع استراتيجيّة غريبة، إذ أراد ان يتحوّل جسده الى جثّة تطارد المحسود وتوقعه
في شراكها! غالبا ما يعمل الحاسد الى التخلّص من المحسود أو سلبه ما عنده من نعم،
ولكن أن يعمد المحسود الى التخلّص من ذاته ليشرف من وراء موته على موت من يحسده،
فهذا لا يخطر ببال. ولكن ما لا يخطر ببال ، فيما يبدو، له حضور - والعياذ بالله-
في خواطر الحسّاد.
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق