لفت نظري في كتب تعليم اللغة العربية أو الكتب التي تتناول
الصرف العربيّ والنحو العربيّ المكتوبة باللغة
الفرنسية نقطة محيّرة ومثيرة للتساؤل. لقد وجدت، ومنذ زمن بعيد، أن أفضل طريقة
لتعلّم اللغة الفرنسية هو أن أقرأ كتباً عربية مترجمة إلى اللغة الفرنسية، كأن
أقرأ رواية لنجيب محفوظ بترجمتها الفرنسية مثلاً إلى جوار قراءتها بنصّها الأصليّ.
أو قراءة كتب فرنسية ذات مواضيع عربية، ومن هنا كانت متعتي الكبرى قراءة نصوص
" انسيلوباديا اسلاميكا" . وأعتبر قراءة ما يقوله الآخرون عنّا وسيلة
ناجعة في معرفة الذات من جهة، ومعرفة الطريقة التي ينظر فيها الآخرون إلى
العرب والإسلام وحضارات هذا الشرق المعذّب
من جهة أخرى. كان من جملة الكتب التي
أقتنيها وأقرأها كتب عن اللغة العربية مكتوبة بالفرنسيّة، وهي مكتوبة عادة
للفرنسيّ الراغب في تعلّم اللغة العربيّة، وكنت أستعين دائما بكتاب المستشرق
الكبير رجييس بلاشير حول قواعد اللغة العربيّة.
ولكن ثمّة نقطة اثارت استغرابي ، ولم أجد لها جوابا يروي الغليل.
من يعرف العربية يعرف أن من خصائص مفرداتها
الجذور، فالمعاجم في أغلبها ترتّب الكلمات وفق الجذور التي تتوالد منها صيغ كثيرة
ميدان دراستها علم الصرف، وهو علم كان يراها ابن جنّي لبّ اللغة العربيّة، بل كان
التصريف إن شئت ميدانه الأرحب الذي يحبّ أن يصول ويجول فيه. ومن يقرأ كتابه "الخصائص"،
على سبيل المثال، أو شرحه لكتاب استاذه " التصريف الملوكيّ" يلحظ هذه
الخصيصة التي ولّد منها نظريته اللغوية
المعروفة في التقليبات الصوتية، ومفادها ان الجذر الواحد يبقى محافظا على دلالة
عامّة واحدة مهما قدّمت وأخرت في أصوله، فـ "ملك" و " لكم" و
كمل" و "كلم" مثلا تبقى
حاملة لمعنى عام واحد؟
ولقد اختار النحاة واللغويون العرب، لتعليم العربية وتصريفاتها جذر " فعل" ليكون حاضن كلّ الكلمات
وكلّ المشتقات. فـنقول" دارس" على وزن " فاعل"، و"ملوّن"
على وزن " مفعّل"، و " مكتوب" على وزن " مفعول".
وعلى خطاهم سار أيضا علماء الشعر، واعتمدوا جذر " فعل" لتوليد كلّ أشكال
البحور العربية، بل حتّى حين الشعراء العرب المحدثون على بحور الشعر لم ينل
تمردّهم على هذه الطريقة العربية في تسمية الأشياء، فاختاروا للشعر المتحرر من
بحور الفراهيديّ شعر " التفعيلة" على غرار ما كان الشعر العربيّ خاضع لـ
" تفاعيل" البحور المختلفة أو "تفعيلات" علم العروض من قبيل
" مستفعلن، وفاعلن ، وفعولن، حيث نرى " نواة" الفعل موجودة في
تضاعيف التسميات.
ولكن الاستشراق، وهنا أتكلم على الاستشراق الفرنسيّ، وهو أمر قد
نراه في لغات أخرى غير الفرنسية، كان له نظرة أخرى! نظرة مريبة وغريبة !
ان الجذر " فعل" كان ضحية نفسه، وكان ضحية أصوات اللغات
الأخرى. فالـ"عين" حرف يضني حنجرة الغربيين، لا يسهل خروجه من أعماق
الحناجر، لذا كان من المنطقيّ أو البراغماتي إدارة الظهر له، والإتيان بفعل آخر لا
يثقل التلفظ به على ألسنة الغربيين، وهذا أمر مفهوم، وواضح، فالهدف أكل العنب
اللغويّ لا قتل الناطور.
كانت الجذور التي تراعي طبيعة أصوات اللغة الفرنسية كثيرة، والأمر
ليس صعبا، فالجذور العربية الخالية من
الأحرف غير الموجودة في اللغة الفرنسية كثيرة، كان يمكن تنحية حرف "
الحاء" و " الضاد" و"الصاد" وغيرها من الأصوات، وكان يمكن الاتيان ببديل
جميل لجذر " فعل" يوازي جذر " فعل" من ناحية الدلالة أو من
ناحية القيمة الراقية لهذا الجذر الفعّال!، وجعله مفتاح الصيغ العربية، إلاّ أنّ
الفرنسيين اختاروا جذرا داميا ليكون بديلا عن جذر " فعل"، وهو جذر
" قتل" ( QTL a été choisie comme racine-type par les sémitisants)
، كما وردت العبارة في Dictionnaire des langues
المنشور عن دار puf
. فكلما ارادوا استعمال " فعل" استبدلوه بجذر " قتل"
ومشتقاته!
ولا اعرف السبب الكامن وراء اختيار "القتل" ليكون بديلا
عن " الفعل"؟ وتخيّل وأنت تقرأ في كتاب فرنسيّ يتناول النحو العربي أو
الصرف العربيّ عدد المرّات التي يتكرر فيها فعل القتل، وتخيّل مشتقات القتل التي
تعبر عينيك وأنت تتصفّح كتاب النحو _ لقد أخطأت وأنا أكتب كلمة النحو، بعد كلامي
على القتل، ولا أعرف كيف وضعت حرف الراء بدلا من حرف الواو! فكتبت " كتاب النحر"!، ولعلّ ذلك من
تأثير كلمة القتل التي نحرت في طريقها كتب النحو-.
وتخيّل كمّ القتلى في كتاب النحو الفرنسيّ! فعندك "
قاتل" و"مقتول" و" انقتل" و " استقتل" و
" مقاتل" و " قتال" ، و " تقاتل" و "
قتّال".
استغربت هذا الاختيار الأرعن وغير الموفقّ بل والخبيث لهذا الجذر
الذي يسفك الدم . ماذا سيقول الفرنسيّ تلميذ اللغة العربية في فرنسا وهو يرى هذا
الفيض من القتل؟ أي أثر سيتركه في وعي المتعلّم ولا وعيه على السواء حين يقلّب
صفحات كتاب النحو أو التصريف على القتل المتشعّب والمتمادي؟
ازالة " العين" العربية بل " فقء" هذه العين هو ما
يثير الاستغراب في الاستشراق الفرنسيّ، وغير الفرنسي ربّما.
وما يثير الريبة والتساؤل أيضاً، هو أنّ " القاف" ليست
متوفرة في الفرنسية، بمعنى أن " قاف" القتل" تتحوّل في أفواه
الفرنسيين إلى " كتل"، وبين جذورنا العربية جذور كثيرة كان يمكن ان تكون
بديلاً من دون أن يصيبها تشوّه نطقيّ.
ألم يكن " قتل" الفعل بمثابة " فعل" القتل؟
إلى ماذا كانت " ترنو" عين الاستشراق الفرنسيّة لحظة
ملأت عين العربيّة بالدم؟
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق