الخميس، 19 مايو 2016

مقال فيفيان حداد عن "رواية بيروت" في الشرق الأوسط

بيروت: فيفيان حداد
خفق قلب العاصمة اللبنانية من جديد مساء أول من أمس في افتتاح مهرجانات «بيروت الثقافية» (بيروت تنبض)، التي استهلّت بحفل حمل عنوان «رواية بيروت»، داخل قبة عملاقة، حيث عرضت على سقفها وجوانبها، وبقطر 360 درجة، حكاية المدينة بمشاهد ثلاثية الأبعاد.

وتحت القبّة الدائرية الضخمة التي تبلغ مساحتها نحو ثلاثة آلاف متر مربع استقدمت خصيصًا للمناسبة من الولايات المتحدة، تم تثبيتها وسط بيروت (مقابل فندق فور سيزونس)، استمتع أكثر من 1500 شخص بمشاهدة عرض بصري حي تميّز بتقنية عالية المستوى تعود فكرته لمخرج العمل داني الجرّ (مدير شركة اتز كومونيكيشن). وقد تم التعاون مع فريق «تري دي مابينغ» بقيادة اميل عضيمي لتنفيذ العرض، في حين تولّى عملية الإنتاج شركة «باك ستاج بروداكشن».

تضّمن العمل أهم المحطات التي مرّت بها بيروت، منذ أيام الفينيقيين والرومان مرورًا بعصرها الذهبي، وبالحرب التي شهدتها في السبعينات وصولاً إلى اليوم. فكانت «ستّ الدنيا» محور العرض، فيما النصّ المرافق كتبه الفنان جورج خباّز وقرأه الممثل جوزف بو نصار، وقد تمّت مواكبته بمشاهد تمثيلية وأخرى راقصة حيّة، وبموسيقى من تأليف وتوزيع غي مانوكيان، اقتبس بعضها من تلك الحقب وعزفتها الأوركسترا الفيلهارمونية اللبنانية.

منذ اللحظة الأولى للعرض شعر الحضور بأهمية العمل وضخامة التقنيات المستعملة فيه. فسماء القبّة مضاءة بالنجوم و«ساعة العبد» التي تتوسط ساحة النجمة، تمّ نسخها بمقاييسها الحقيقية لتؤدّي دور الراوي الصامت على المسرح، طيلة الحفل. وتم التنبيه قبيل بدء العرض بضرورة إغماض العينين في حال شعور المشاهد بالانزعاج من قوة المؤثّرات البصرية، وتمركز 70 عازفًا على خشبة المسرح، مما استدعى الإحساس بأننا أمام عرض أعدت له زوادته الموسيقية بعناية.

«هي حكاية ومش حكاية.. هي حلمك وحلمي.. هي الشيخة التي لم تهرم.. هي بيروت الحكاية»، تمثّل بعض العبارات التي استخدمت في اللوحة الأولى من العرض، في مشهد افتراضي وضعنا في قلب ساحة النجمة، عندما راحت صور بيروت اليوم المظلّلة بمشاهد من أيام الفينيقيين، تظهر على جدران الشاشة العملاقة للقبّة، التي تعمل في نطاق 360 درجة بانورامية لعرض المؤثّرات البصرية في تقنية ثلاثية الأبعاد. ورافقت هذه اللوحة التي ذكّرتنا برموز تلك الحقبة التاريخية (السفن الفينيقية واختراع الحرف)، مجموعة من الراقصين على أرض خشبة المسرح حملوا الجرار وتمايلوا بها انسجامًا مع اللحظة.

وبعد أن دارت عقارب «ساعة العبد» بسرعة على أعوام متتالية بدأت مع عام 1516 عندما شهدت بيروت مرور الغزاة المتعاقبين على أرضها، رافقتها مشاهد صورية تدلّ على أصولهم وجنسيّاتهم (الرومان والعثمانيون)، انتقل العرض إلى زمن لبنان في عهد الانتداب، في شريط مصوّر تضمّن أهم محطّات تلك الحقبة مع صدور العملة اللبنانية وتسيير «الترامواي» وغيرها. وبعد مشهد قصير لم يتجاوز اللحظات القليلة من مجمل العرض الذي بلغت مدّته 70 دقيقة، عكست صورة رجالات بيروت وراء القضبان الذين استشهدوا في سبيل استقلاله، انتقل العرض إلى الفترة التي شهدت ولادة الجمهورية اللبنانية. فاحتضنت القبّة في تلك اللحظة العلم اللبناني بحجم ضخم، راح يرفرف فوق رؤوس الحاضرين على أنغام النشيد الوطني اللبناني. فوقفوا ينشدونه على إيقاع موسيقى المايسترو غي مانوكيان، وليصفقّوا طويلا لهذه المشهدية البصرية الصوتية المؤثّرة.

وفجأة شعر الحضور أنهم داخل كرة بلّورية عندما ظهرت على مجسّم «ساعة العبد» رسومات سريالية لخطوط هندسية كريستالية تتجمّع معلنة وضع البنى التحتيّة لبيروت، والتقت تحت سماء القبّة خيوط شبكة عنكبوتية لشوارع بيروت الرئيسية، التي تؤلّف خريطتها الميدانية. ولعلّ المشاهد التي نقلت الحقبة الذهبية للبنان عامة وبيروت خاصة، والتي استهلّت بفترة افتتاح محطّته التلفزيونية الرسمية، تعدّ من بين أجمل المشاهد التي عرضت في «رواية بيروت»، فأعادتنا بالذاكرة إلى زمن الفن الجميل، وإلى عمالقة تلك الحقبة الذين خطّوا بأعمالهم الركائز الأساسية للبنان الفن والثقافة والإعلام المرئي. وبالصوت والصورة توالت المقتطفات من مسلسلات تلفزيونية ما زلنا نشعر بالحنين إليها كـ«آلو حياتي» و«أبو ملحم» و«الدنيي هيك» و«اخوت شاناي» مع مرور سريع لأبطالها الراحلين (هند أبي اللمع وأديب حداد ومحمد شامل ونبيه أبو الحسن وغيرهم). ولنشاهد أيضًا خلالها مقتطفات من برامج حوارية لنجيب حنكش، وأخرى من مسرحيات لـ«الرحابنة» مع فيروز وغيرها لصباح. ولتطلّ بعدها المغنية عزيزة جبّور يرافقها عزف على البيانو غي مانوكيان، فتؤدّي أغنية (الغندورة) تنذرنا بكلماتها ما ينتظر لبنان في أيامه المستقبلية عندما ستحلّ عليه لعنة النحس.



وتدور عقارب «ساعة العبد» مرة جديدة لتحطّ بنا في عام 1974، عندما شهد لبنان ذروة الازدهار في مجالاته المختلفة، وليخيّم على الأجواء حقبة تاريخية ما زلنا نتغنى بها حتى اليوم، التي لمع خلالها اسم فنادق من لبنان (فينيسيا وكارلتون وغيرها)، وأهم مركز سياحي فيه (كازينو لبنان)، وأهم صالات السينما التي غزت وسطه في تلك الفترة وعرضت أجمل الأفلام العربية واللبنانية والغربية (روكسي والحمرا والدورادو وغيرها)، وصولاً إلى مطاعم شكّلت عنوانًا شهيرًا للأطباق اللبنانية الأصيلة (مرّوش ويلدزلار)، مرورًا بالمشروبات الغازية التي انضمّت إلى لائحة منتجات لبنانية كـ(جلول وكندا دراي ونجم). رافق تلك المشاهد التي أدارت أنظار الحضور طيلة وقت عرضها يمينًا ويسارًا، أغان تذكّرنا بتلك الفترة لمروان محفوظ (خايف كون عشقتك وحبّيتك)، وسامي كلارك (قومي تنرقص يا صبيّة)، فصفّق الجمهور لها طويلاً وهو يرددّ كلماتها على موسيقى عزفتها الأوركسترا الفيلهارمونية اللبنانية، وأنشدها فريق كورال من على خشبة المسرح. وعزف بعدها غي مانوكيان مقطعًا من أغنية فيروز (كان عنّا طاحون)، ولتشتعل أجواء المسرح بالتصفيق وليقف غي مانوكيان كتحيّة لردّ فعلهم هذا.



«بيروت العيش الهني» كما وصفها الراوي لحكاية بيروت، ما لبثت أن ذبلت بسبب العين الحاسدة التي طالتها. ولينتقل الحضور بعدها على وقع أغنية إنجليزية شهيرة تعبّر عن ذلك الواقع (can’t take my eyes of you)، أدّاها مغنٍ مباشرة على المسرح بعد أن انطفأت الأضواء لتسود المسرح العتمة، معلنة بذلك اندلاع الحرب اللبنانية في عام 1975. هذه اللوحة التي استغرق عرضها نحو 10 دقائق (الأطول من فقرات العرض) ولتختصر عشرين عامًا من الحرب، كانت الأكثر تأثيرًا على الحضور إن من ناحية مشهديّتها الغنيّة بمؤثّرات بصرية أعادته إلى تلك الحقبة بالصوت والصورة، أو من ناحية الإيقاع السريع الذي اتّسمت به، فكانت لافتة للعين والأذن معًا. خيّم الصمت بين الجمهور الذي التقط أنفاسه ليجول بنظره نحو الأعلى مرة، وعلى حيطان القبّة مرة أخرى، متابعًا قصّة بيروت التي احترقت بعد أن أحرقت قلوب كثيرين، فتمنّوا لها الأذيّة كما تقول كلمات أغنية «ستّ الدنيا» للشاعر الراحل نزار قباني. ومن خلال صور ثلاثية الأبعاد لعماراتها المهدّمة والمنخورة بالرصاص وشظايا القنابل، وأصوات الانفجارات ورشّات الرصاص من الأسلحة المتطوّرة التي تناهت إلى مسمع الجمهور، عاش الحضور تلك اللحظات الأليمة على وقع موسيقى حزينة، ومن خلال أداء مسرحي قامت به مجموعة من الممثلين، الذين تنقّلوا في صالة العرض وهم يحملون أسلحتهم (الخشبية) على أكتافهم ويقودون ناقلات المدافع والسلاح في سيارات رباعية الدفع وقفوا بها على خشبة المسرح لاستعادة تلك الفترة بشكل حي. تسارعت الأحداث لينتقل العرض من فترة زمنية إلى أخرى تراوحت ما بين منتصف الثمانينات وأوائل التسعينات، عندما حاولت بيروت لملمة جراحها، وقد رافقها أداء أغانٍ لماجدة الرومي وفيروز (ستّ الدنيا وبيروت)، مع عزف حي للأوركسترا الفيلهارمونية وأداء للمغنية دالين جبور. ومن ثمّ انتقل الحضور إلى حقبة إعادة إعمار لبنان ووسط بيروت (1995) على وقع أغنية «راجع يتعمّر لبنان» لزكي ناصيف، ولتمر الحكاية بسرعة على عام 2005 الذي شهد عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وننتقل إلى العام الحالي (2016) مع أغنية «لبنان يا قطعة سما» للراحل وديع الصافي، وزّعها غي مانوكيان بطريقة حديثة فجمعت بنوطاتها الموسيقية ما بين لبنان الماضي واليوم. وانتهى العرض بدخول مجموعة من الأطفال يحملون المصابيح بين الحضور، على مقطع من النصّ يدعو إلى وجوب اتحاد اللبنانيين وشبك أياديهم مع بعضهم بعضًا من أجل لبنان أفضل. وكانت أغنية «أجيال» التي وضع ألحانها غي مانوكيان خصيصًا لهذه المناسبة، مسك الختام الذي توّج في اعتلاء رئيسة لجنة «مهرجانات بيروت الثقافية» لمي سلام خشبة المسرح لشكر الحضور وكلّ من ساهم في نجاح هذا العمل.

«رواية بيروت» كانت خير عنوان لمهرجانات بيروت الثقافية التي اتخذت شعار «بيروت تنبض» هدفًا حقيقيًا لها، فترجمته بالفعل والقول في عمل فنّي ذي مستوى عالمي وراق معًا لا يشبه أي من سابقيه. وتستمر أنشطة مهرجانات بيروت الثقافية إلى 22 مايو (أيار) الحالي، فيقام يوم الجمعة 20 مايو حفلة غنائية للنجمين راغب علامة ونانسي عجرم بمشاركة وجوه بارزة من برنامج المواهب «إكس فاكتور» (XFactor)، كذلك يتضمن برنامج المهرجانات إقامة قرية للمحركات الميكانيكية تفتتح الجمعة وتتضمن مجموعة من أنشطة رياضات المحرّكات، على أن يكون الختام الأحد 22 مايو بعرض هو الأول من نوعه في لبنان لسيارة «فورمولا واحد» يقودها السائق الإسباني كارلوس ساينز جونيور من فريق Red Bull.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق