من بين آلاف اللغات التي يتحدثها البشر، توجد قلة مؤثرة تتجاوز حدود أوطانها وثقافاتها إلى غيرها. وفي كثيرٍ من الأحيان اعتُبر عدد المتحدثين بلغةٍ ما، أو القوة الاقتصادية والسياسية للدول التي تتحدث بها، مؤشراً إلى أهميتها. وفي حال سؤال الكثير من الأشخاص عن أهم اللغات العالمية، فغالباً ستضع الإجابة: «الانجليزية» في المرتبة الأولى.
لكن دراسة حديثة اتبعت منهجاً مختلفاً في قياس أهمية اللغات، يتجنب دراسة كل واحدة بمعزلٍ عن الأخرى، ويبحث بدلاً من ذلك في علاقات اللغات بعضها بعضاً، وتفاوت كل منها في درجة الارتباط بغيرها، باعتبار أن موقع لغة ضمن شبكة اللغات العالمية، يُسهِم في بروز بعض المتحدثين بها، والانتشار العالمي للمحتوى الثقافي الذي يُنتجونه.
وتُشير هذه الفكرة إلى أن هوية المتحدثين وأعمالهم وشهرتهم، وليس مجرد أعدادهم، هي العامل الذي يُحدد أكثر من غيره أهمية لغة ما. وربما هذا ما احتفظ للغة اللاتينية بمكانتها وانتشارها بين النخب الأوروبية على مدى 1000 عام، فلا يرجع ذلك إلى علاقتها باللغات الأوروبية، بل إلى تاريخها، باعتبارها لغة الامبراطورية الرومانية ثم الكنيسة الكاثوليكية، والباحثين والعلماء.
منهجية الدراسة
وأجرى الدراسة، التي نُشرت في ديسمبر 2014 في دورية «وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم»، فريق من الباحثين ينتمي إلى «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا»، وجامعتي «هارفارد» و«نورث إيسترن» في الولايات المتحدة، وجامعة «أيكس مارسيليا» الفرنسية.
وبهدف دراسة الصلات بين اللغات، شكل فريق البحث شبكة للغات العالمية بثلاث طرق مختلفة، أولها بدراسة المقالات المحررة في موسوعة «ويكيبيديا»، واعتبر الباحثون وجود محررين يكتبون مقالات بـ«العربية» و«الإنجليزية»، مثلاً، دلالة على العلاقة بين اللغتين.
ومثّل موقع التدوين المُصغر «تويتر» الطريقة الثانية، وحللت الدراسة 550 مليون تغريدة كتبها 17 مليون مستخدم بـ73 لغة، ورأت في المستخدمين الذين كتبوا بلغةٍ ثانية ما لا يقل عن ست جمل كاملة، دلالة على الارتباط بين لغتين.
واعتمد الباحثون على قاعدة بيانات للكتب المترجمة تُوفرها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) لرسم الشبكة الثالثة، وتضم 2.2 مليون كتاب نُشرت بـ1000 لغة. وعدت الدراسة كل كتاب علامةً على الصلة بين لغته الأصلية واللغة المُترجم إليها.
ترتيب اللغات
وأظهرت هذه الشبكات، التي تربط بين لغات عدة، نتائج لافتة للنظر، وكما هو المتوقع جاءت اللغة الإنجليزية في المركز منها. ونالت «الروسية» مركزاً مهماً، من دون الاقتصار على الكتب المترجمة إلى لغات دول الاتحاد السوفييتي السابق مثل «اللاتفية» و«الأرمينية» و«القرغيزية»، بل ارتبطت بلغات أخرى في جنوب وجنوب شرقي آسيا والشرق الأوسط. وفي المقابل، تنحت إلى مراكز هامشية في الشبكات الأحدث مثل مقالات «ويكيبيديا» و«تويتر».
وحلت اللغة الصينية، الأوسع انتشاراً في العالم من ناحية أعداد المتحدثين بها، على طرف شبكات اللغات العالمية التي كونتها الكتب المترجمة، وغالباً ما اقتصر اتصالها على لغات أخرى مستخدمة في الصين، فضلاً عن لغات في جنوب شرق آسيا، لا سيما «الفيتنامية». وقد يكون هذا منطقياً بالنظر إلى الفترة الزمنية التي تشملها قاعدة بيانات الكتب المترجمة، وتشمل الفترة المُمتدة بين عامي 1979 و2011، وتسبق الصعود الحالي للصين.
ولم يكن وضع اللغة الصينية أفضل كثيراً في شبكات اللغات العالمية الخاصة بمقالات موسوعة «ويكيبيديا» و«تويتر»، قياساً على أعداد المتحدثين بها. ويُمكن تبرير ذلك بقلة استخدام الصينيين لموقع «تويتر» نظراً إلى حجبه رسمياً، فضلاً عن شعبية خدمة «سينا ويبو» المحلية المشابهة. وتتمتع اللغة الصينية بوضعٍ أفضل قليلاً في «ويكيبيديا»، وإن كان لا يعكس حجمها أو الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وهو ما قد يرجع إلى «بايدو بايك» Baidu Baike وهي موسوعة حرة تعاونية على الإنترنت أطلقها محرك البحث «بايدو»، وتتوافق مع متطلبات الرقابة الحكومية، ووصل عدد موادها في ديسمبر 2014 إلى أكثر من 10.3 ملايين مقال.
وتُبين نتائج الدراسة بجلاء أن اللغات التي يتحدث بها أعداد كبيرة من الأشخاص ليست بالضرورة الأوسع انتشاراً عالمياً؛ فمثلاً يتحدث باللغتين «العربية» و«الهندية» مئات الملايين، لكنهما تقعان بعيداً عن مركز شبكات اللغات. وتحظى «الهولندية» التي يتحدث بها 27 مليون شخص، بمكانة أكثر أهمية ومركزية من اللغة العربية التي يتحدث بها 530 مليون شخص، لغة أولى وثانية؛ نظراً إلى ارتباط «الهولندية» أكثر بغيرها من اللغات وانتشارها على الإنترنت.
وبالنسبة لمراكز شبكات اللغات، تأتي إلى جانب «الإنجليزية» اللغات: «الفرنسية» و«الإسبانية» و«الألمانية».
ويُمكن تبرير مكانتَي الأولى والثانية بانتشارهما السريع والواسع بسبب الماضي الاستعماري لكلٍ من فرنسا وإسبانيا. أما اللغة الألمانية فتحظى بمكانة راسخة لقرون باعتبارها لغة للعلوم والفلسفة والأدب، على الرغم من إخفاق مساعيها الاستعمارية.
ويُؤكد الباحثون أهمية الحذر في التعامل مع نتائج الدراسة؛ إذ لا تتطرق إلى الصفات المُميزة للغات أو لمدى براعة المتحدثين بها، كما تغفل الاتصالات الشفهية التي تُمثل جانباً مهماً في الاتصال والتبادل بين الثقافات، ويصعب جمع بيانات موثوقة عنها.
وربما تكون النتيجة الرئيسة للدراسة تتمثل في تزايد احتمال نيل الأشخاص وإنتاجهم الثقافي الشهرة على المستوى العالمي إذا ما تحدثوا أو كتبوا بواحدة من اللغات الأكثر ارتباطاً بغيرها، ما يعني أن براعة شخص يتحدث لغة «الهمونج» المستخدمة في المناطق الجبلية في الصين وفيتنام وتايلاند، أو لغة «ناواتل» في وسط المكسيك، لابد أن تمر عبر لغات أخرى في طريقه إلى البروز العالمي.
لغات مؤثرة
وتوصلت الدراسة إلى أن اللغات الأكثر تأثيراً على الصعيد العالمي، التي تصل إلى قاعدة واسعة من القراء عادةً ما تكون تتصل أكثر من غيرها بأشخاص يُتقنون أكثر من لغة، ومنها مثلاً الإنجليزية والإسبانية الفرنسية والألمانية. ويعني ذلك أن استخدام لغة يتقن الناطقون بها لغات عدة، يصل بالمنتج الثقافي إلى قاعدة أكثر تنوعاً من القراء، أي أن أفكار كاتب ينشر بـ«البرتغالية» فقط من المُرجح أن تصل إلى مجتمعات أخرى أكثر من أفكار منشورة بـ«الصينية»، بسبب تفوق «البرتغالية» في ارتباطها بغيرها من اللغات.
وتدفع نتائج الدراسة للتساؤل عما إذا كانت قد بالغت في تقييم دور اللغات الغربية استناداً إلى منتجات غربية الأصل مثل موقعي «تويتر» و«ويكيبيديا» وترجمات الكتب، لكنها مع ذلك تظل ذات مغزى بالنظر إلى أهمية «تويتر» في أحداث عالمية لا ترتبط بالغرب مثل الربيع العربي. وفي المُقابل لا يتمتع «سينا ويبو» Sina Weibo الصيني أو «فكونتاكتي» أو «في كيه» VK البديل الروسي لموقع «فيس بوك» بالأهمية ذاتها؛ فتظل منتجات محلية تبعث على الاعتزاز الوطني، وترضي جهات المراقبة في الحكومات، لكنها تحد من التأثير الثقافي للبلاد.
وربما تُوفر نتائج الدراسة بعض الإرشادات للحكومات والمنظمات الراغبة في تعظيم دورها على الصعيد الدولي وتعزيز القوة الناعمة للغتها. ويرى المؤلف المُشارك والباحث في «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا»، شاهار رونين، أن على مثل هذه الجهات ترجمة المزيد من وثائقها وكتبها، وتشجيع مواطنيها على نشر تغريداتهم بلغتهم الأم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق