الصمت كلام الرجال، عبارة تحمل من التضاد بين مبتدئها وخبرها بقدر ما تحمل من بصمات التاريخ الصامت للرجل. الرجل لا يحكي، ليس أي نوع من الحكي، وإنّما الحكي الذي يلامس منه الأماكن الجوّانية، الدافئة، أي الحكي عن ذاته، رغباته، مشاعره، مخاوفه، عواطفه. تتّهم المرأة دائما الرجل بالصمت، داخل البيت، لا خارجه، أي أنّ نوعاً من الكلام لا تسمح له فحولته المتراكمة كالغبار عبر الأجيال ان ينطق به، كالكلام على حبّه، أو على تفانيه وإخلاصه. وهذا أمر يحزّ في نفس الأنوثة. ان الكلام، في هذا المقام، ضعف يحسب عليه لا له، يمسّ من هيبة الفحولة، لذا يلوذ بالصمت، وحتى يخلص نفسه من عبء الكلام، أو حتى لتبرير صمته يختبىء خلف عبارة تحمل أفكارا مسبقة تأتيه بالوراثة الاجتماعية لا البيولوجية، وهي أن "المرأة ثرثارة" أي انه يعتبر ان الكلام الفائض ثرثرة، وهي نعمة، ربما يحسدها عليها خفية، وثمّة كلام منسوب لتوفيق الحكيم يصبّ في هذا الاتجاه، إلا أنها نعمة لا يريدها ولا يطلبها، لأنّ امتلاكها يتحوّل إلى تهمة تكسر صورته الفحوليّة. كم من مرّة يسمع المرء ان فلانا "يحكي كثيرا كالنسْوان". وثمّة اليوم لمن يريد تبرير صمته من الرجال أنْ يعتمد على نتائج دراسات الدماغ التي تشير إلى أنّ المناطق اللغويّة في دماغ المرأة موزّعة على نصفيْ الدماغ وليست محصورة في النصف الأيسر فقط كما هو الحال لدى الذكور، بحسب ما يقول الدكتور جوزيف لوريتو (Joseph Lurito) وهو من جامعة إنديانا في الولايات المتحدّة الأمريكية ومتخصّص في دراسة الدماغ. هل لهذه المسألة العلمية دور في جعل الرجل شحيح البوح، أم أنّ المسألة أعمق من تلافيف الدماغ؟
صحيح أنّ الرجل لا يبوح لفظاً إلا نزراً أو لضرورات الخطوات الأولى في العشق، غير انه يبوح، مواربة، عن طريق الكتابة التي كرّست الفحولة المكتوبة. وهنا تكفي الإشارة، وهي، غالب الظنّ، دالّة عن فكرة الكلام على الذات، ففي تراثنا العربي، وهو تراث لا احد ينكر انه لا يزال حادّ الحضور والسطوة، طرف خيط العلاقة بين الفحولة والبوح؟ يمكن للمرء ان يستشفّ بعض الأفكار من خلال استعمالات كلمة "فحولة" حين تبرز كعنوان لبعض كتب التراث، فثمة كتاب يحمل عنوانا دالا وهو "طبقات فحول الشعراء" لابن سلام الجمحيّ، وكتاب آخر اسمه "فحولة الشعراء" للأصمعيّ، والكتابان يتناولان بالدرس والتقييم شعراء ذكورا، ولكن حين ترتبط الفحولة هنا بالشعر تفصل في نفس الوقت بين الأنوثة والشعر. وبما أن الشعر فحل، فلا بدّ من أن يستتبع ذلك اعتبار النثر أنثى( ألهذا نسبت ألف ليلة وليلة إلى "فم" الثرثارة شهرذاد؟). ويشترط على الشعر حتى يكون فحلا ان لا يسقط في فخّ البوح. ان البوح يفقده فحولته. من هنا مثلا نلحظ معاناة الشاعر عمر بن أبي ربيعة مع النقّاد، سدنة معبد الشعر، فشعره برأي أحد نقّاد ذلك العصر اعتبر ضرْباً من الهذيان، لأنّه ارتكب خطأً لا يغتفر في حقّ الشعر والفحولة، حين اقترف إثم البوح، مما أدّى إلى ولادة الشعر المائع. والميوعة، برأي النقّاد، على نقيض الفحولة، وهذا ما أدّى إلى منع دخول اسمه حرم الفحولة الشعريّة، أي أنّ ثمّة ما يمنع الرجل من أن يترك كلام الروح والعواطف على سجيّته. ولنا أكثر من دليل على أن الرجل الذي يبوح تطرح حوله علامات استفهام، وتحوم حول كلماته الشبهات، أو يبقى كمن يغنّي خارج سرب الفحولة. وهنا يمكن التذكير بما قام به ابن حزم، فقيه المذهب الظاهريّ في الأندلس، حين غامر ودوّن مشاعره تجاه المرأة في كتابه الذي ترجم إلى غير لغة في العالم، وهو "طوق الحمامة في الألفة والألاف". ولكن نرى ان كتابه ظلّ يتيما، لمْ يتحوّل إلى نوعٍ أدبيّ، ولم يُكتب على غراره كتابٌ يضارعه بوحاً، ولو كان له ما كان للمقامة، على سبيل المثال، من تحوّل نوعيّ، أيْ من تحوّل المقامة من كلمة عادية إلى نمطٍ كتابيٍّ لكان لكلام ابن حزم وبوحه مصيرٌ آخرُ، ووقع غير الذي له اليوم.
إلاّ أن عدم بوح الرجل لا يتحمّل مسؤوليته الرجل بقدر ما تتحمّله المرأة .فالفحولة في الأخير هي صناعة نسائية وليست صناعة ذكورية. ولعلّ ما أتى على سيرته الأنتروبولوجي جيلبير هردت(GILBERT HERDT) وزميله المحلّل النفسي روبير ستولر (ROBERT STOLLER) يضيء بعض الزوايا الغامضة المعتمة من هذه المسألة، يقول العالمان بعد دراسة اجتماعية ونفسية لإحدى القبائل في غانا الجديدة ان هذه القبيلة تعيش نمطا فريدا من العلاقة بين الرجل والمرأة، ان الطفل من لدُنْ ولادته إلى ان يبلغ العاشرة من عمره يفصل فصلا حادّا عن كلّ ذكور القبيلة بما في ذلك والده، أي انه يعيش في وسط نسائي محض، ويظلّ بلا اسم حتى بلوغه الشهر التاسع، ايْ يعامل كما لو كان لا يزال جنينا ولكن خارج الرحم. وفي معتقد هذه القبيلة أنّ الطفل يعامل ،حتى الشهر التاسع، على أساس انه امتداد طبيعيّ لجسد أمه. وبعد العاشرة من عمره، تنقلب العلاقة، حيث يفصل فصلا حادّا وكليّا عن النساء حتّى عن أمّه، ويعيش في مجتمع ذكوريّ محض. وعلى هذا الفتى، في هذه الفترة، ان يستأصل كلّ آثار الأنوثة التي اكتسبها خلال فترة وجوده في محيط أنثوي بامتياز. أيْ أنّ الرجل هنا يعمد على محو كلّ ما يشي بالأنوثة، وبما أنّ البوح جزء من طفولته فعليه أنْ يعمد الى التدرّب على عدم إعلانه بل على محوه ونسيانه. أي انه يبدأ بالصراع المنهك، المرهق، وهو تدمير بقايا الأنوثة فيه بحسب ما يقول العالم النفسي الون غراتش (ALON GRATCH).
ألا يعيش الفحل الصغير في بلادنا، بوساطة الضغط الاجتماعي، طوال عمره على تحطيم الأنوثة الهاجعة في طواياه؟ أليس تحطيم الدمعة، على سبيل المثال، والانتصار عليها وحبسها من الأمور التي يخضع الطفل لها في مجتمعاتنا، لان الدمعة تنتمي إلى طبيعة نسائية، رخوة (البكاء للنساء!).والدمعة هي اعتراف سيّال بخبايا المرء؟ ألا ينتقل قمع الدمع بالعدوى إلى اللسان فيعتاد ان يقمع ما يودّ البوح به، أليس حبس البوح شبيهاً، إلى حدّ بعيد، بحبس الدمعة؟
يمكن للرجل ان يتغزّل، لا أنْ يبوح، بل أنّ العرب في مفارقة لطيفة، كانت تعتبر أنّ القصيدة التي لا تبدأ بغزل أو تشبيب هي قصيدة "مخصيّة" بحسب ما يقول ابن منظور في لسان العرب.
هذا يعني أنّ الفحولة هي ان تتكلّم عن الأنثى لا عن ذاتك. التكلّم على الذات نقيض الفحولة، بل فقدان للرجولة، لأنّه يجعل الرجل ينتمي إلى قبيلة كافور الإخشيدي.
ولكن الرجل بدأ اليوم يتحرّر من قيود الفحولة المفرطة، ولعلّ على عاتق الأنوثة الفائضة التي يلبي لها الحاضر رغباتها( بفضل الليزر والسيليكون وإكسير التكنولوجيا السحريّ) تقع مسؤولية تحرير الرجل من فحولة آخذة بشرة وجهها، في أيّ حال، بالليان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق