الخميس، 30 يوليو 2015

العربية ليست أفضل اللغات ورأي ابن حزم الأندلسي ( من مقالات كتاب لعنة بابل)

ابن حزم، فقيه الأندلس الظاهريّ الأكبر، معروف بآرائه الجريئة، وعدم التفاته إلى ردود الأفعال التي يغيظها الاختلاف بقدر ما يغيظها العقل، والتفكير العلميّ، والتي لا تطيق الاعتقاد بطبيعة الشيء المتعدّدة، ولا تؤمن بمحدوديّة النظرة الواحدة ولو كانت نظرة نسر. ومن آرائه الكثيرة رأي لغويّ نادر عرضه مفصّلاً في كتابه الضخم “الإحْكام في أصول الأحْكام” الذي يعتبر من أهمّ ما ألّف في “أصول الفقه”. والقضيّة التي يتناولها يغاير بها كثيراً من رجالات اللغة العربيّة الذين عشقوها إلى حدّ ذهابهم إلى اعتبارها اللغة الأولى، والأكمل، والأنقى، والأعجب، والأغرب، والأفصح، وطبعاً، الأفضل ( وما أكثر صيغ “أفعل التفضيل” التي ألصقت بالعربية!). وابن حزم ينكر ذلك أشدّ الإنكار، ولا يرى أيّ فرق بين اللغة العربيّة وغيرها من اللغات. في أيّ حال، كثيرة هي الشعوب التي اعتبرت أنّ لغتها هي اللغة البكر، اللغة الأصل، لغة آدم وحواء. وللباحث الفرنسيّ موريس أولندرMaurice Olender ” ” كتاب رصين وشيّق جداً بعنوان:” لغات الجنّة “، “Les langues du Paradis”، وصيغة الجمع في العنوان تعود إلى تعدّد الشعوب التي نسبت لغتها إلى الفردوس قبل سقطة أبينا آدم الذي أغرته بالمعصية “شجرة الخُلْد” (طه:120). ولم يكن العرب هم وحدهم من ذهب إلى الاستئثار بلغة أهل الجنّة، واعتبار أنّ التعدّد اللغويّ وليد الرغبات الأرضيّة الآثمة التي تجلّت في مشروع بناء برج بابل للصعود إلى عرش السماء بحسب الرواية التوراتيّة في الفصل الحادي عَشَرَ من “سفر التكوين”.
اعتبر فقيه الأندلس ابن حزم أنّ الحجج التي يعرضها أصحاب أفضليّة العربية على غيرها من اللغات واهية واهنة ليس لها أيّ أساس وطيد من الصحّة أو المستند القرآنيّ. لا يرى ابن حزم أنّ العربيّة أفضل اللغات، بل هي لا تختلف، سلباً أو إيجاباً، عن أيّ لغة من اللغات الغابرة أو الحاضرة في وقته. ويعتمد في تفصيل رأيه على جملة من الآيات القرآنيّة، وهو يقول رأيه هذا لأنّ اعتبار العربيّة أفضل اللغات نوعٌ من الهرطقة الفكريّة التي قد تؤدّي، من وجهة نظره، إلى ما لا تحمد عقباه. يرى ابن حزم أنّ كلّ لغة هي آية من آيات ربّ العالمين، وهذا بيّن في قوله تعالى: ” ومن آياتِه خلقُ السماواتِ والأرضِ واختلافُ ألسنتِكم وألوانِكم”( الروم:22). فكلّ لغة هي، بحسب قول ربّ العالمين في القرآن، من الآيات البيّنات. ومن هنا فإنّ شأن العربية هو شأن أيّ لغة أخرى، إنّ تفضيل لغة على أخرى كتفضيل جنس على آخر، أو لون على آخر، أو اعتبار أنّ دم بعض اللغات أحمر ودم بعضها الآخر أزرق! وهذا ظلم كبير لحكمة الجغرافيا وتعاليم المناخ وحنكة الأقاليم. إنّ نزول القرآن باللغة العربيّة لا يجعل منها، بحسب رأْي ابنِ حزم، لغةً أفضلَ من غيرِها، وهو يعتمد في تفصيل كلامه هذا، على نصوص قرآنيّة. فالله، سبحانه وتعالى، لم ينزل كتاباً واحداً، ولم يستعمل لغة واحدة في كتبه السماويّة، فكلّ رسول يحمل معه كتاباً بلسان قومه، “وما أرسلنا من رسولٍ إلاّ بلسان قومِه ليبيّنَ لهم”( إبراهيم:4)، وذلك حتى لا تنهار فكرة التواصل من أساسها وتبطل وظيفتها البراغماتيّة أو التداوليّة. وعدد اللغات التي حملت رسالاتٍ سماويّة لا يعلم عددها إلاّ الله، لأنّه لا يعلم عدد الرسل الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى إلاّ هو، وهذا ما يؤكّده ظاهر الآية التالية: “ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قَصَصْنا عليك ومنهم من لم نَقْصُصْ عليك”(غافر: 78). نصّ الآية، هنا، واضح وصريح بأنّ الله لم يأت إلاّ على ذكر ثلّة من الأنبياء، في حين بقيت سير ورسائل أنبياء آخرين طيّ الكتمان لحكمة مضمرة لا يعلمها إلاّ الله سبحانه وتعالى. وعدد رسالات الله بعدد الأمم كما ورد في الآية الكريمة: ” وإنْ من أمّة إلاّ خلا فيها نذير”(فاطر:24).
وهنا يأتي ابن حزم إلى فكرة الإعجاز اللغويّ لكلّ الرسالات الإلهيّة، ويقول إنّ النصوص السماويّة كلّها معجز، لأنّ كلام الله كلّه معجز بأيّ لسان نزل إذ لا يمكن لمؤمن عاقل أن يتصوّر أن كلام الله في القرآن معجز في حين أن كلامه في كتبه الأخرى لا يرقى إلى علياء الإعجاز البيانيّ، لأنّ، في هذا القول، شكّاً عظيماً، والعياذ بالله، بقدرة الخالق على البيان المعجز بلغات أخرى غير اللغة العربية. ويقول ابن حزم بالحرف الواحد:” وقد قال قوم: العربية أفضل اللغات لأنّه بها كلام الله تعالى”. ويعلّق ابن حزم قائلاً: “وهذا لا معنى له”.
وأمر تساوي اللغات مسألة حديثة العهد نسبياً، لم يتمّ التأكيد عليها إلاّ مع ولادة علم اللغة الحديث الذي رفض فكرة التفاضل بين اللغات رفضاً تامّاً، ويعتبر علم اللغة الحديث أنّ أمر تفاضل اللغات ليس أكثر من جهل بوظيفة اللغة، ودورها في عمليّة التواصل، ولا يمكن لهذا الأمر إلاّ أن يكون عنصريّ المصدر سقيم المنبت. وينظر ابن حزم، في الأخير، نظرة علمية وموضوعية راقية نغبِطه عليها حيث يقول: ” وحروف الهجاء واحدة لا تفاضل بينها ولا قبح، فبطلت هذه الدعاوى الزائغة الهجينة”، ويقصد دعاوى التفاضل الزائغة التي لا تتمتّع بالنظر العلميّ والدينيّ الثاقب، والهجينة المطعون في شجرة نسبها.
هل أراد ابن حزم القول: أنْ أحبّ لغتي شيء، وأنْ أعتبرها أفضل اللغات شيء آخر؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق