السبت، 4 يوليو 2015

نباح مديون


للكلب في التراث العربي حكايات كثيرة، كنت قد تناولت بعضها في مقالات سابقة. وثمّة كتاب لا يخلو من طرافة "صادمة" بدءاً من عنوانه " فضل الكلاب على كثير ممّن لبس الثياب" لابن المرزبان. وهناك كتاب ألّفه الإمام جلال الدين السيوطي، اسمه " التَّبَرِّي من مَعَرَّة المعَرِّي "، وعنوانه بعيد كلّ البعد عن سيرة الكلاب إلاّ أنّ من يبحث عن "معرّة المعرّي" يكتشف صلة المعرّة (أي العار) بالكتاب، وعلاقتها بالكلاب. ما كان ليخطر ببال جلال الدين السيوطي أن يكتب كتاباً عن أسماء الكلاب لولا حادثة وقعت مع أبي العلاء المعري. تروي الحادثة أنّ رهين المحبسَيْنِ أبا العلاء المعرّي دخل يوماً على الشريف المرتضى، فعثر برجُل فقال الرجل: مَن هذا الكلب؟ فقال أبو العلاء: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً. وبقيت كلمة المعرّي تعبر الأجيال دون أن يفكّر أحد بعدد ما يعرفه من أسماء الكلاب، إلى أن جاء السيوطيّ وقرّر التقاط أسماء الكلب من بطون كتب اللغة فيقول:" وقد تتبّعت كتب اللغة، فحصّلتها ونظمتها في أرجوزة " التَّبَرِّي من مَعَرَّة المَعَرِّي "، والنظم وسيلة من وسائل الاحتيال على النسيان، ومطلع الأرجوزة:

للهِ حمدٌ دائمُ الوليّ                             ثمّ صلاتُه على النبيّ

قد نقل الثقاتُ عن أبي العلا               لمّا أتى للمرتضى ودخلا

قال له شخصٌ به قد عثرا            من ذلك الكلبُ الذي ما أبصرا

فقال في جوابه قولاً جلي                       معبّراً لذلك المجهّل

الكلبُ من لم يدْرِ من أسمائه                سبعين مومياً الى علائه

لم يكن المعرّي، بالتأكيد، يقصد جلال الدين السيوطي، إذ كان لا يزال هذا الأخير في بطن الغيب، ولكن لسبب ما غير الفضول العلميّ أحسّ السيوطي أنّ من واجبه أن يتبرّأ من الصفة الكلبيّة اللاحقة به، وشرط التخلّص من المعرّة معرفة أسماء الكلب السبعين. كان المعرّي يعرف أنّ  الشريف المرتضى لا يعرف للكلب سبعين اسماً، بمعنى أنّ الصفة الكلبيّة سوف تلحق بالشريف المرتضى لا بأبي العلاء المعرّي، إذ لا يشكّ خبيرٌ لغويّ في معرفة المعرّي، عاجنِ اللغة وخابزِها، أسماء الكلب السبعين، والمعروف أنّ معجم المعرّي الشعريّ والنثريّ، من حيث عدد الموادّ اللغويّة، لا يفوقه معجم أيّ شاعرعربيّ آخر.

إذا كان السيوطيّ ينأى بنفسه عن الصفة الكلبية فثمّة أناس يتقبّلونها برحابة صدر لأنّها تريح حياتهم، في ظنّهم، من العناء البشريّ، وتكون وسيلة إنقاذ لهم من ورطة لا يعرفون كيف يخرجون منها. الإنسان، كما نعرف، حيوانٌ ناطق، ونادراً ما سمعنا عن إنسان نَبَّاح! النطق هو ما يميّز الإنسان عن سائر المخلوقات، بحسب منطوق القرآن الكريم "خلق الإنسان، علّمه البيان" ( سورة الرحمن/ 3-4 ) ولكن ثمّة ضرورات، حتّى ولو كانت غير أخلاقيّة تبيح، لدى البعض، المحظورات، ومن هذه الضرورات أن يُمسخَ الانسانُ كلباً من الناحية الصوتيّة لا الشكلية، هذا ما قرأته في حكاية طريفة ذكرها الجاحظ في الجزء الثاني من كتاب "الحيوان"، وإن أراد شخص أن يعرف ما معنى القراءة؟ وما قيمة القراءة؟ وما هي اللذّات الكامنة في الكتب؟ فليس عليه إلاّ أن يقرأ المقدّمة الضافية التي كتبها الجاحظ لكتابه "الحيوان"، وهي من أبدع ما قيل في الإشادة بالكتب، ولا أعرف السبب الذي حدا بالجاحظ إلى اختيار كتاب "الحيوان"! وليس "البيان والتبيين" للإفاضة في مديح القراءة والمعرفة.

 في أيّ حال، يروي الجاحظ حكاية عن شخص، قرّر أن يستغني، بين ليلة وضحاها، عن خدمات كلماته وعن حسنات لغته رغم صعوبة الاستغناء عنها، وعاش نابحاً بعد أن كان ناطقاً، هروباً من دائنيه. يقول الجاحظ: "كان عندنا بالمدينة رجل قد كثر عليه الدَّيْن حتى توارى من غرمائه، ولزم منزله، فأتاه غريم له عليه شيء يسير، فتلطّف حتى وصل إليه، فقال له: ما تجعل لي إن أنا دللتك على حيلة تصير بها إلى الظهور، والسلامة من غرمائك؟ قال: أقضيك حقّك، وأزيدك ممّا عندي ممّا تقرّ به عينك، فتوثّق منه بالأيمان، فقال له:إذا كان غداً قبل الصلاة مرْ خادمك يكنُسْ بابك وفِناءك ويرشّ، ويبسط على دكّانك حُصراً، ويضع لك متَّكأ، ثمّ أمهِل حتّى تصبح ويمرّ الناس، ثم تجلس، وكلّ من يمرّ عليك ويسلّم انبح له في وجهه، ولا تزيدنّ على النباح أحداً كائناً من كان، ومن كلّمك من أهلك أو خدمك أو من غيرهم، أو غريم أو غيره، حتى تصير إلى الوالي فإذا كلّمك فانبَحْ له، وإيّاك أن تزيده على النُّباح، فإنّ الوالي إذا أيقن أنّ ذلك منك جِدّ لم يشكَّ أنّه قد عرض لك عارض من مسّ فيخلي عنك، ولا يغري عليك، قال: ففعل، فمرّ به بعض جيرانه فسلّم عليه، فنبح في وجهه، ثم فعل آخر ففعل مثل ذلك، حتّى تسامع غرماؤه فأتاه بعضهم فسلّم عليه فلم يزِدْه على النباح، ثمّ آخر، فتعلّقوا به فرفعوه إلى الوالي، فسأله الوالي فلم يَزِدْهُ على النُّباح، فرفعه معهم إلى القاضي، فلم يَزِدْه على ذلك، فأمر بحبسه أيّاماً وجعل عليه العيون، وملَك نفسه، وجعل لا ينطِق بحرف سوى النُّباح، فلمّا رأى القاضي ذلك أمر بإخراجه ووضع عليه العيون في منزله، وجعل لا ينطِق بحرف سوى الُّنباح، فلمّا تقرّر ذلك عند القاضي أمرغرماءه بالكفّ عنه، وقال: هذا رجل به لَمَم. فمكث ما شاء الله تعالى. ثم إنّ غريمه الذي كان علّمه الحيلة، أتاه متقاضياً لعِدَته ( أي ما كان قد وعده به) فلمّا كلمّه جعل لا يزيده على النباح، فقال له: ويلك يا فلان!! وعليّ أيضاً، وأنا علّمتك هذه الحيلة؟ فجعل لا يزيده على النباح، فلمّا يئس منه انصرف يائساً ممّا يطالبه به."

كلّ ما أتمنّاه أن لا يقع هذا المقال في يد مديون لا ينوي أن يسدّد ما عليه من دين، ولا يريد، في الوقت نفسه، أن يستغني عن لسانه الآدميّ الذي يعينه بألاعيبه المعسولة على الاستدانة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق