الحياة حكايات لا تنتهي.
ولكلّ كائن حكاية، الناميّ منها والجامد. كلّها تحمل في ذاكرتها الكثير من الطريف والمثير.
وليس هناك شيء، في الدنيا، لا يحكي. العالم فم فيّاض بالكلام. هنا سأتناول سيرة عذابات
نفسيّة لدرج محفور في الصخر، وسيرة تأفّف الدرج من واقعه البائس ليست من عندي
وانّما قرأتها في كتاب "السعادة من وجهة نظر كونفوشيوس" للكاتبة الصينية
الشهيرة Yu Dan التي أعادت كونفوشيوس الى حياة الناس، واستطاعت أن
تقرّب فكره بسلاسة وبساطة الى الجيل الجديد من ابناء الصين. أودّ الإشارة إلى أنّه
بيع من كتابها عشرة ملايين نسخة، في الصين، دون ان اتناول مبيعات الكتاب في
ترجماته العديدة. وطبعاً، لا يمكن لكتاب يتكلّم عن السعادة أن لا يتعرّض للمواجع والتعاسات.
فالضدّ يظهر حسنه الضدّ كما يقول المثل العربي. السعادة ليست في الأخير الاّ بنت
نظرتنا لما نحن فيه، فقيمة الاشياء، أحياناً، ليست فيها وانّما تستمدّها من النظرة
اليها. وقد يقول قائل: وهل يتعذّب الدرج؟ هل يشعر من لا حسّ له أنّه مغبون أو
محروم؟ الحكايات أشبه بخطاب موجّه للجارة ولكن كي تسمعه الكنّة، الحكايات تعشق الكنايات.
تعجبني عبارة وردت في " المثنوي"
رائعة جلال الدين الروميّ يقول فيها ان قراءة حكاية تشبه تكسير قشرة جوزة
لمن يريد أن يتذوّق لبابها. فالجوزة لا تسلس قيادها بسهولة لآكليها. تقول حكاية الدرج
ان احد النحّاتين قرّر نحت تمثال ضخم لبوذا في مكان شاهق، والمكان الذي قرّر نحت
التمثال فيه لا تصل اليه طريق. وعليه كان لا بدّ من ـتأمين الطريق لتحقيق مبتغاه.
لم يرد النحّات ان يكسر التناغم السائد في المكان لتعبيد الطريق بجسم غريب عن
المكان كالاسفلت مثلا أو غيره. قرّر ان تكون الطريق بنت المكان نفسه، اي لا تقوم
بتشويه الطبيعة الصخرية التي قرّر انجاز التمثال فيها. اهتمّ النحّات بالتمثال كما
اهتمّ بالطريق الى التمثال، بل قرّر ان لا تنفصل الطريق الى التمثال عن التمثال
نفسه، أي قرّر ان تنبثق الطريق من جسد التمثال نفسه وتكون امتداداً طبيعيّا له.
وهكذا راح ينحت الطريق نحتاً وصولاً الى الكتلة التي ستكوّن التمثال. تحوّل التمثال
وهو آية في النحت والجمال الى مزار فاتن للعين يقصده العابدون ومن يطلب السكينة في
حضن الطبيعة وبين يدي تمثال بوذا المهيب. كان الدرج يتأمّل العابرين بعينين
حزينتين وهم يسجدون بخشوع ويتبركّون بلمس التمثال
بينما لم يخطر ببال أحد منهم أن يتبرّك به أو يعيره أدنى اهتمام وكأنّه حرف صخريّ ساقط
تحت أقدامهم. انتابه الحسد والضيق وتأزّمت نفسيته، شعر الحجر بنار الغيرة تشتعل في
أعماقه. لماذا هو وليس أنا؟ كان الدرج يقول في سرّه. كان ينظر الى طبيعته الصخريّة
وينظر الى طبيعة التمثال فلا يرى أدنى فرق. كلانا من صلصال واحد، يقول الدرج، ولكن
معاملة الناس لنا ليست واحدة. صار الدرج يكره الناس، ويكره الزوّار لأنّهم كانوا
يعلنون في وجهه الواطىء انه لا يستحق غير الوطء بالأقدام. انا لست الهدف، انا مجرّد
طريق الى الهدف، طريق ذليل إلى نصب بوذا المنتصب أمامي. لم يعد الدرج يحتمل العذاب
الذي يعكّر صفو أيّامه فقرّر أن يثور، أن ينتفض رافضاً هذه الإهانات الكثيرة التي
يتلقّاها في كلّ يوم. سيقول كلمة الحقّ أمام سلطان التمثال الجائر، المتبجّح. ولن
أسكت بعد اليوم، قال الدرج الغاضب، سأفرض على الناس أن يغيّروا من معاملتهم لي.
حمل الدرج أسئلته التي تقضّ مضجعه وذهب لمواجهة تمثال بوذا واعلان العصيان عليه. وقف
الدرج في وجه بوذا قائلاً: ما الذي يميّزك عنّي لتكون خيراً منّي وتكون مصبّ
الاحترام بينما أنا لا تدوسني إلاّ
الاقدام المتوجهة اليك؟ انظر الى طينتك وانظر الى طينتي، السنا من صخرة واحدة؟ ألسنا
من صنع يد نحّات واحدة؟ أين العدل؟ وأين المساواة؟ وأي فضل لك عليّ؟
لم يستغرب بوذا الصبور
والحكيم كلام الدرج بل ألقى من عينيه الحجريتين الكريمتين نظرة عطف واشفاق إلى
الدرج الذي لا يعرف أنّ الفرق الوحيد بينهما هو الوجع والصبر والتحمّل والعناء.
قال التمثال: وجعي غير وجعك ايّها الدرج. وكلّ السرّ بيني وبينك يكمن في حجم الوجع.
استغرب الدرج كلام التمثال،
ولم يفهم عن أي وجع يتكلّم التمثال المعزّز المكرّم؟ وهل وجعه هو المعبود كوجعي أنا
المسحوق والمداس والمهان؟ قال بوذا: الصخر،
مثل البطن، بستان. أعاد بوذا الكلام على مسمع الدرج، ولكن مفصّلا الفروقات التي لم
تدركها مشاعر الحجر. انظر يا صديقي. نعم، فنحن كما تقول، من صلب واحد ومن كتلة
صخرية واحدة انشقت نصفين، ولكن الى كم ضربة من ازميل احتاج النحات لصنعك؟ والى كم
ضربة احتاج النحات نفسه لصنعي؟ هل عدد الضربات واحد؟ ان الالام التي تحملتها من
ضربات الإزميل أضعاف ما تحمّله جسدك، الضربات هي سرّ الاختلاف الوحيد. انت نسيت وجعي،
نسيت تحمل جسدي لشتّى أصناف التعذيب الإزميليّ. البركة عذاب، والتميّز عذاب، ولكنه
عذاب صامت لا يحبّ الشكوى أو الثرثرة. عذاب يتكوّن في الخفاء تكوّن الجنين في الرحم،
ولكنك في لحظة من اللحظات تشعر بتجلّيه الفاتن الذي تظنّه مباغتاً. القدرة على
التحمّل هي التي جعلت مني ما يقوله الناس عنّي.
راح الدرج ينصت الى كلام
التمثال واذ به شيئا فشيئا يستكين ويعترف في أعماق نفسه بأنّ تمثال بوذا كان على
حقّ، وأقدام العابرين كانت على حقّ. لم يردْ تمثال بوذا أن يحطّم نفسية الحجر بل
على العكس أراد أن يعلي من شأنه، ويعرّفه بقيمة نفسه، فقال التمثال مخاطبا الدرج
الكئيب: لا أنكر فضلك عليّ أيها الدرج رغم أننا لا نتقاسم المشاعر نفسها ولا
الظروف نفسها. وعليك أن تفرح ايها الدرج الحزين، أليس أنت الطريق إليّ؟ وهل بغير
الطريق يتمّ اليّ الوصول؟
خرج الدرج من مقابلة تمثال
بوذا وهو يشعر بفخر وفرح وراحة نفسيّة لم
يسبق له أن شعر بها من قبل وتغيّرت علاقته مع الزوّار بعد أن عرف أنّ الكبار ليسوا
كباراً الاّ بفضل الصغار، وعرف أنّ معدن الأشياء ليس هو القيمة التي تتحدّد بها
مصائر الاشياء.
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق