للحكواتيّ، في غابر الأيام، مجد في أغلب الدول
العربيّة. كان يجمع في مؤثّرات صوته وحركات شخصه السينما والتلفزيون والراديو
والفيديو. لم يكن لمقهى الآنترنت، فيما مضى، وجود ولكنْ كان ثمّة مقهى الحكواتيّ،
ينتظره الرجال في السهرات بعد أن ينفضوا أياديهم من الأعمال. ويتركون، حين يبدأ حكواتيّ
السهرة بالكلام، العنان لآذانهم وخيالاتهم. كان الحكواتيّ يعرف كيف يوقف أنفاس
المستمعين ويقعدهم على أعصابهم إذ يتوقّف تدفّق الأحداث من فمه في لحظة حرجة من القصّة
كأنْ يكون عنترة في الأسر، ولا يفكّ الحكواتيّ عقدة لسانه وأغلال عنترة إلاّ في
اليوم التالي تاركاً حسرة في آذان روّاد المقهى. وكان من جملة المستمعين شابّ في
العشرين من عمره تقريباً لم تسمح له ظروف الجهل العائليّ أن يدخل المدرسة.
تيسّر للشابّ من جني أعماله المتفرّقة البسيطة أن
يجمع شيئاً من المال ساعده في فتح محلّ سمانة. وفي هذه المهنة شيء من الدين، وليس للذاكرة
أمان. وحتّى لا يضيع حقّه أو ينسى ما له وما عليه، قرّر أن يتعلم القراءة والكتابة.
كان يعرف أشكال الحروف الحرّة. وفي العربية إتقان الأحرف يحتاج إلى بعض البراعة
لأنّها ذات مزاج متقلّب، فالحرف تتعدّد صوره وفقاً لظروف الموضع الذي هو فيه، فصورة
العين في أوّل الكلمة غير صورتها في وسط الكلمة وغيرها في آخر الكلمة. وبعض الحروف
تتّصل مع حرف آخرَ من طرفيها (كالتاء) في حين أنّ بعضها الآخر لا يقبل الاتصّال
إلاّ في أوّله(كالراء). ولا ريب في أنّ تعدّد الأشكال دالّ حضاريّ يستحقّ التدبّر
إذ يُستشفّ من ورائه نمط من التفكير خاصّ.
كيف لهذا الشابّ أن يتعامل مع كلمات لم يعتد التعامل
معها طوال عمره؟ والعلم في الكبر كالنقش في رمل البحر! ولكن الفتى اعتمد على
ذاكرته السمعية (أستاذه الوحيد)، وعلى زوّادته من الأحرف وعلى "استراتيجية
التخمين". كان من حسن حظّ الشابّ أنّ الحكواتيّ، حين تنفضّ السهرة، يبقي،
بحكم الجيرة، الكتاب عنده لليوم التالي، فكان ينتهز أوقات فراغه، أو الفترة
الفاصلة بين زبون وآخر، ليفتح الكتاب على الصفحة التي ابتدأ منها الحكواتيّ، ويروح
يتحزّر الكلمات، كلّ كلمة تبدأ بحرف العين هي اسم عنترة حتى إشعار آخر، وكلّ شين
هي شيبوب شقيق عنترة ومساعده في الأزمات.
من خلال هذه
الكلمات الضئيلة كان يحاول ان يستعيد كلام الحكواتيّ المكتوب، يحاول ان يطابق ما
بين محتويات ذاكرته وما هو مدرج في سطور السيرة، يعدّل اسماً هنا واسماً هناك. ومع
الوقت، امتلك زمام القراءة عن طريق الأسماء التي تعجّ بها السيرة. والأسماء في
العربيّة وسيلة ناجعة لتعلّم القراءة، بخلاف الأسماء الفرنسيّة مثلاً التي لا
يتطابق دائماً صوت الاسم فيها مع حروفه.
وراح الشابّ لإتقان الكتابة، ومن ثمّ تيسير عمله،
ينسخ الكلمات التي يقرأها. وهو لا يزال إلى اليوم يقرأ، بل ويكتب في دفتر يوميّاته
طرائف الذكريات.
اشتغل عنده مرّة شخص أمّيّ، لا يعني له عالم القراءة
والكتابة شيئاً على الإطلاق، وكان هذا العامل يسرّ جدّاً بأنّه يستعين، في الضرورات،
ببصمة إبهامه. كانت فرحة هذا العامل بلطخة الحبر على إصبعه تعادل فرحة طفل بلعبة
جديدة، يعتبرها إنجازاً خارقاً ليس في متناول أيّ إبهام. تأفف السمّان، من لطخة
الحبر، وقرّر تعليم العامل توقيع اسمه، على الأقلّ، فكتبه له على ورقة ثمّ وضع
فوقها أخرى شفّافة وطلب منه تمرير القلم وتحديق صورة الاسم إلاّ أنّ العامل خاف أنْ
يخسر إبهامه دوره وقيمته في البصم. فكان يأخذ القلم شمالاً ويميناً، ويخربش
كالدجاج، رافضاً تبيان ملامح اسمه. وتيقّن السمّان أنّ الجهل رغبة، وأنّ العلم
رغبة، وما رمي أسباب الجهل على ظهر الظروف التي قد تكون بريئة أحياناً إلاّ من
قبيل الافتراء الخبيث على الحياة.
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق