السبت، 4 يوليو 2015

سطل بويا




أنتجتْ إحدى القنوات الفرنسيّة منذ فترة برنامجاً طريفاً تحت عنوان "رأسمال".  كلّ حلقة تستضيف شخصيّة ناجحة في المجال الاقتصاديّ نجاحاً غير مألوف لأنّه نجاح وليد مسار شاقّ بدأه صاحبه من أسفل السلّم الاجتماعيّ.

استوقفتني حلقة مع " دهّان" وهو مثقّف ثقافة عالية وإن كانت لا تعنيه الأفكار الكبيرة، ولا يبالي بالأسماء اللامعة في ميدان الأدب أو الفلسفة أو ما شابه. كانت تعنيه الثقافة العمليّة، ويفتنه الفكر اليدويّ كما تغريه الأفكار التي تتجسّد في الأرض.

قال الدهّان إنّه لا يحبّ القراءة ولكنّه يحبّ مهنته. وحبّه لمهنته دفعه إلى تحمّل عذابات القراءة، وتكريس أوقات الفراغ للقراءة في كتب تتناول تاريخ الدهان. العاشق يلذّ له، كما قال، أنْ يقرأ قصائد الحبّ، وأن يستعين بكتب غيره لكي يعيش بعمق تجربة حبّه. وأنا- يقول- تعاملت مع الدهان كما يتعامل العاشق مع معشوقته أي بنوع من الوله. الفرشاة وهي تلامس الجدران والأبواب والسقوف كانت في نظري كاليد الحانية التي تمنح الحبيبة لمسة حبّ. كنت أشعر أنّ الجدران تنقلب بين يديّ إلى قماشة رسم. وهذا ما دفعني إلى معرفة تفاصيل كلّ ما له صلة بالموادّ التي أستعملها. ما هي؟ كيف تركّب؟ ما مكونّاتها؟ الخطوات الأولى كانت قراءة كلّ كلمة مكتوبة على علب الدهان. ثمّة كلمات أعرفها بحكم الخبرة وكلمات أخرى كالطلاسم عبارة عن أسماء علميّة وكيميائيّة لا أفقه منها شيئاً. جذبتني أيضاً الكاتالوغات التي توزّعها شركات الدهان ولم أكن أترك حرفاً من حروفها يفلت من عينيّ. كنت أستعين بالقاموس لأعرف تفاصيل كلّ مادّة جديدة وكلّ كلمة غريبة. وكانت كلمة تدفعني إلى أخرى، وهكذا ينقضي الوقت وأنا أتنزّه في الصفحات يرافقني إحساس لا يختلف عن إحساس سائح لا ترتوي عيناه من طريف المشاهد.

 وصرت في أوقات فراغي، أنهمك في فكّ ألغاز الدهان الكيميائيّة، ووجدتني أنزلق إلى قراءة كتب الكيمياء وعالمها الفاتن، على غموضها، من باب الدهان إلى أن ترعرعت ذات يوم في رأسي فكرة، هي بنت التفاعلات الكيميائيّة ومزاج الألوان، وللألوان أمزجة مشابهة لأمزجة البشر، فقلت: لم لا أجرّب توليد حرارة من الدهان والألوان تغني عن تكاليف أجهزة التكييف. كانت فكرتي هي محاولة بناء علاقة حميمة بين الكهرباء والدهان. ألا يمكن بناء تحالف بينهما؟ نجحت التجربة وقدّمت براءة اختراع. الفكرة عبارة عن مدّ أسلاك نحاسيّة على قطعة من الحائط لا تتعدّى متراً مربّعاً ثم طليها بطلاء خاصّ. ويكفي وصل هذه الأسلاك الخفيّة بالكهرباء حتى تتولّد حرارة كفيلة بتدفئة غرفة مع كلفة بسيطة لا تتعدّى استهلاك مصباح كهربائيّ.

سأل المحاورُ الدهّانَ، في آخر الحلقة، وبماذا تفكّر الآن ؟ أجاب وهو يضحك: أفكّر بوسيلة جديدة لتركيب طلاء يغني عن جهاز التبريد!

أفكار عدد من الناس هي بنت قراءة يدويّة- ولا أحد ينكر ذكاء اليد- أو فكريّة تعرف أنّ السرّ في نجاحات كثيرة يكمن في حرف صغير قد لا يلتفت إليه أحد، أو لا يخرجه أحد من سجنه اللغويّ، وهو حرف "الواو" حين يكون حرف عطف ووصل بين ضفّتين قد لا يجمع بينهما على مستوى السطح أيّ "وجه شبه" بحسب التعبير البيانيّ.

ولكلّ نجاح، فيما يبدو، خلطة سرّيّة معينّة لا تختلف كثيراً عن فنّ "المونتاج" أو فنّ "النَّظْم" بعبارة البلاغيّ النابه عبد القاهر الجرجانيّ في كتابه القيّم "دلائل الإعجاز".


بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق