أهل
الكهف كما ورد ذكرهم في القرآن الكريم يعيشون في زمنين، ويعيشون حالة تثير الحيرة
والالتباس في نظر من يراهم بحسب ما ورد في الآية " وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود
"(17)، أي ما تعتقده ينتمي إلى عالم اليقظة لا يمتّ إلى اليقظة بصلة وإنما هو
من عالم النوم وخداع العيون. هذه الثنائية الزمنية نراها أيضاً وإن بصيغة أخرى في
قصة "رجلين جعلنا لأحدهما جنتين" (32).
تسمية السورة بالكهف تحمل دلالات غنية. إن
الداخل إلى أي كهف يكون عادة حذراً، خائفا ربما، مسكوناً بالرهبة، فالكهف مليء
بالأسرار والعتمة والكنوز. والكنوز المعرفية الواردة في سورة الكهف تتعدى قصة أهل
الكهف الملتبسة. الالتباس الغنيّ والدالّ بيّن من خلال عدم اليقين والتخامين التي
تحوم حول عدد أهل الكهف، واعتبرت السورة أنّ محاولة معرفة تعدادهم "رجما
بالغيب" (22)، وخصوصاَ أن عبرة أهل الكهف ليست في مجرّد العدد.
ما
يلفتني في سورة "الكهف" بشكل خاص هو قصة لقاء النبي موسى مع العبد الذي
منحه الله من لدنْه علما واسعاً يجعل من صحبته مثار بلبلة في الأذهان. ألا تصيب
الجاهل حيرة عارمة حين يرى ما لا يدرك له تفسيرا؟ أو حين يرى أن التفسير البديهي،
العفويّ، والمرتجل والذي لا يملك سواه هو أبعد التفاسير عن الصواب. حيرة موسى مع
العبد الربّاني رائعة الدلالات. إن صحبة موسى للعبد تشبه دخوله إلى كهف معتم،
يحتاج لضوء يمنح الأمان للعين. كان العبد يعرف أن صحبته عسيرة تحتاج إلى صبر
وخصوصاً أنّ المعرفة درس طريف في الصبر على الشدائد.
راحت
المشاهد تنسال أمام عيني موسى، وهي مشاهد وسلوكيات أثارت حفيظته، ولم يستطع
الالتزام بما قطعه من وعد للعبد الذي" قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى
أحدث لك ذكرا" (70).
لم
يستطع موسى أن يبقى ساكتا وهو يرى العبد يخرق السفينة التي نقلته من عالم إلى آخر.
استنكر موسى سلوك العبد، وأراد استعجال الجواب. كان العبد يعرف أن صبر موسى قليل.
وهذا ما تقوله الآية " ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا:"(72)
اعتذر موسى من العبد لعدم صبره على التزام الصمت
وقال للعبد:" لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا" (73). شعر
موسى كم هو مرهق أن لا تحكي، وكم هو عسير عدم التعليق على مشاهد تحرّض المرء على
التعليق. تابع موسى الرحلة مع العبد. وشهد مقتل غلام بريء على يد العبد العارف.
هنا أيضا لم يستطع موسى أن يصمت على جريمة ترتكبها يدً تدّعي الصلاح. المطلوب أن
لا يستغرب مما يدعو إلى الاستغراب. كان رد
فعل موسى العفوي أن يستنكر الجريمة الحاصلة على مرأى من عينيه المذهولتين، ولا
سيّما أنه اعتبر ما قام به العبد " شيئا نكرا" (74) .
ردد
العبد على مسمع موسى عجزه عن الصبر. قرر موسى أن يكفّ عن السؤال، وتابعا طريقهما
حتى" أتيا إلى قرية فاستطعما أهلها فأبَوا أن يضيفوهما" (77)، فانصرفا
وموسى ناقم على أهل القرية البخلاء واللؤماء. وجد العبد في طريقه جدارا على وشك أن
ينهار يعود لأهل القرية. فما كان من العبد إلاّ أن قام بإصلاحه وتابع طريقه.
استغرب موسى، كان يمكن أن يأخذ على إصلاحه أجراً لشراء ما يقيم أودهما. هنا قال
العبد:" هذا فراق بيني وبينك" (78). نكث موسى بتعهداته ثلاث مرات. ولم
يعد بوسع العبد أن يتابع الرحلة معه. ولكن العبد لم يرد أن يبقي حيرة موسى معلّقة
بلا أجوبة. الحياة بلا أجوبة واضحة ممضّة. وراح العبد ينبىء موسى بتأويل ما لم
يستطع عليه صبرا. انطلاقا من التأويل تنقلب الحالة تماماً كما انقلبت حالة أهل
الكهف من الرقود إلى اليقظة. فالمعرفة يقظة والجهل سبات عميق.
السفينة
التي خرقها العبد خرقها حفاظاً عليها. عطبها المتعمّد كان إنقاذاً لها من جبروت
ملك "يأخذ كلّ سفينة غصباً"(79)، أما الغلام فكان طاغياً بخلاف أبويه،
وكان قتله إنقاذا للأبوين أي الاستغناء عن الأكثر ضرراً (مستقبلاً) للحفاظ على
الأكثر نفعا. أما الجدار فكان تحته " كنز" لغلامين يتيمين، وانهيار
الجدار كان يعني انكشاف الكنز الذي سيأخذه الرجل الشحيح الذي لم يرحب بهما ولم
يطعمهما. الإصلاح هنا كان إصلاحاً من وجه وضرراً من وجه آخر. ضرر لأهل القرية من
خلال منعهما من الحصول على الكنز.
وتستمرّ
الثنائيات بدلالاتها الوافرة في السورة مباشرة بعد الانتهاء من قصة العبد مع موسى
والانتقال إلى منعطف آخر في السورة، وبشكل
واضح، من خلال الأسئلة المطروحة حول هويّة "ذي القرنين"(83). إن اسم
" ذي القرنين" بصيغة المثنى ينسجم تماماً مع مسار السورة القائمة على
ثنائيات ومثنّيات كثيرة لا بدّ من فهمها لمن يريد أن لا يبقى عائشاً في عتمة
الكهف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق