الخميس، 23 يوليو 2015

الجرّة وأستاذ علم النفس


«ما عندي وقت»، «ماني فاضي»، «الشغل لفوق راسي»، و«وقتي مليان»، «ما عم لحّق». أكتفي بهذا القدر من العبارات التي يسمعها او يتفوّه بها كثير من الناس. وهي كلها تدل على أزمة الانسان مع الوقت خصمه اللدود. والإنسان يحاول من خلال كل إنجازاته التكنولوجية، الحاضرة والغابرة، الانتصار عليه او استرداده من بعد ما انتزعه لسان الأفعى المعسول والمشقوق من أبويه آدم وحواء في الفردوس الأعلى. أليست تسمية الشجرة التي أسقطت آدم من الجنان، بحسب ما ورد في القرآن، هي «شجرة الخلد» (طه: 120)، أي الشجرة التي لثمراتها مذاق الخلود الشهي، فلا تنكسر أغصانها او تسقط أوراقها أمام أعاصير الفناء؟. الانسان يحاول حيازة الزمان عن طريق الأوهام منها مثلاً التناسل بحسب ما تفصح عنه العبارة المأثورة: «اللي خلّف ما مات». ولكن الإنجاب ليس أكثر من انتصار موهوم على الموت شأنه شأن الأسماء التي يرثها الأبناء.
أغلب ما يقتنيه المرء من مخترعات هو لتوفير الوقت وكسبه، أي بمعنى آخر، لإطالة العمر. الهاتف مثلاً يوفر الوقت الذي يتطلبه الذهاب الشخصي او يوفر الوقت الذي تستغرقه كتابة رسالة. وكل توفير في الوقت هو إطالة، وإن وهمية، في الأعمار.
ولكن الوقت في بلادنا مظلوم وسمعته سيئة، لأننا نُحمّله أوزار كثير من كسلنا وتقصيرنا. مثلاً، اذا قلت لشخص لماذا لا تقرأ؟ يقذف في سمعك تلك العبارة الخدّاعة وهي «ما عندي وقت» او «وقتي ضيّق»، وكأنها أكياس رمل يحتمي وراءها من تقصيره بحق عمره. ثم يصدف ان تراه يحتار ماذا يفعل في وقته الذي يفرّط فيه، وينفقه في الطالع والنازل. طالب في الجامعة يقول لك: «ما عم لحّق أدرس». وحين يقول لي طالب هذه العبارة أجيبه: «اذهب الى أي مكتبة واطلب كتاب «كيف بلحّق؟»»، ثم أوضح له بالقول: «إبحث عن كتاب في «إدارة الوقت»، وقراءته ليست بالتأكيد، مضيعة للوقت!». وإدارة الوقت مادة ثرية وجميلة تدرّس في بعض الجامعات لتعلّم الطالب (الملحوق) كيف يهضم كمّ المواد التي يدرسها من طريق برمجة الأولويات وتنظيمها، وساعتئذ يرى، بأم عينيه، الفراغ في ما يظنه ملآن.
وهنا أسوق حكاية كنت قد قرأتها عن عالم نفس ظريف دخل ذات يوم الى قاعة الدرس، لإلقاء محاضرة وهو يحمل أشياء كثيرة لا علاقة لها بمادة علم النفس. إستغرب الطلاب إحضاره جرّة كبيرة وطابات تنس وأكياس رمل وقناني ماء. لم يفقه الطلاب علاقة هذه الأمور الخارجة على الموضوع بالمحاضرة النفسية، ولا علاقة الجرّة بطابات التنس. راح الطلاب يختلسون الضحكات ظانّين بالأستاذ الظنون، ولاسيما ان البعض يعتبر عالم النفس فيه مسّ، وإنْ خفياً، من جنون!.
وضع الأستاذ بكل هدوء الأغراض على الطاولة التي تحوّلت أثناء المحاضرة الى خشبة مسرح تدور على سطحها أحداث أربكت عيون الطلاب. بدأ بإدخال كرات التنس، كرة تلو أخرى في الجرّة. أشفق الطلاب على الحالة التي وصل اليها أستاذهم. وثمّة عبارة تُستعمل إزاء سلوك غريب يصدر عن بعض المتعلمين، راودت ألسنة طلابه والعبارة تقول: «قد ما تعلّم جنّ بالأخير يا حرام». بعد أن «ملأ» الأستاذ الجرّة بطابات التنس توجّه الى طلابه سائلاً: هل الجرّة الآن فارغة ام ملآنة؟ صار بعض الطلاب يتساءل اذا ما كان الأستاذ تحوّل من علم النفس الى علم السحر. أجابوا وهم واثقون ثقة «عمياء» من قولهم: إنها ملآنة. ولكن الأستاذ نظر في وجوههم وهو يبتسم، ثم طرح عليهم سؤالاً بلبل آذانهم: وهل أنتم متأكدون؟ كيف لا يكونون متأكدين وهم يرون الجرّة محشوّة حشواً بكرات التنس؟ ثم كيف لا يكون الملآن ملآن؟! وهل الجرّة سحرية من سلالة طاقية الإخفاء الخرافية تلقف ما في جوفها؟ طبعاً ملآنة يا أستاذ. وهنا فتح الأستاذ كيس الرمل الذي أحضره معه وراح يفرغ حُبيباته في الجرّة حتى ملأ الرمل كل الفراغ الموجود بين كرات التنس، ثم قال لطلابه الذين ينظرون اليه متعجّبين: نلحظ ان الجرّة الملآنة، كما تعتقدون، لم تكن ملآنة، والرمال قالت بالفم الملآن! كلمتها الفصل. ولكن هل امتلأت الجرّة حقاً؟ قال الطلاب: طبعاً امتلأت بعد ان احتلت ذرّات الرمل الفراغات بين كرات التنس. ولكن الأستاذ قال: الجرّة التي تقولون إنها ملآنة، ليست ملآنة، وما زال فيها متّسع، هذا ما سوف نراه الآن، ثم تناول قنينة الماء وبدأ يصب محتوياتها في الجرّة. قال الأستاذ: إن ما تحسبونه ملآناً ليس ملآناً، والوقت كالجرّة.
ومشكلة من يقول: «ما عندي وقت» شبيهة بأجوبة الطلاب في قاعة أستاذ علم النفس الذين لم ينتبهوا الى الفراغات بين كرات التنس وهي فراغات، يمكن ان تكون كـ«الوقت الضائع» الذي يُغيّر أحياناً مجرى الانتصار ونتائجه كما نلحظ ذلك، على سبيل المثال، في مباراة كرة القدم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق