الأربعاء، 15 يوليو 2015

من وظائف الترادف اللغويّ


يمكن للإنسان أن يتعلّم من كيسه، أو أنْ  يتعلّم من كيس غيره، ولكن هنا أشير إلى إمكانيّة أنْ يتعلّم الانسان من كيس اللغة. واللغة أستاذ يختزن الحكمة، والمعارف، والحلول المبتكرة للمشاكل. اللغة كيس خردوات، والخردة ليست شيئاً تافهاً. كان العالم الانتروبولوجيّ الراحل كلود ليفي استروس يقول إنّه دخل إلى عالم الانسان من باب الخردة ومن باب اللسان، واستعان بالنظريّة اللغويّة البنيويّة في دراسة المجتمعات وكيفيّة تشكيل مفهوم القرابة والاسطورة وعادات الأكل والشراب.

طرحت على نفسي، ذات يوم، السؤال التالي: ما الفرق بين الشوارع والمترادفات؟ فليس هناك شارع واحد تصل به الى المكان الذي تنوي الذهاب اليه. وليس الطريق الأقصر هو الذي يوصلك دائما بوقت أسرع أو أقصر. الطول والقصر مسألتان نسبيتان. والانسان محكوم عليه ان يعيش في عالمي الجاذبية والنسبية. الاحداث الامنية الاخيرة في الفيحاء تظهر بما لا يدع مجالا للشكّ ان الطريق الاقصر والاسرع طريق خطرة لأنّها كانت رهينة قنّاص لا يرحم مصيرك. الأمن والخوف غيّرا طريقتك في التعامل مع الشوارع. العمر من ذهب، والكلام من ذهب، واللغة ايضاً من ذهب. تصل من خلال طريق طويلة او من خلال طريق قصيرة الى المكان نفسه. الطريق القصيرة تشبه الايجاز، والطريق الطويلة تشبه الاطناب. وقد تنقلب المعايير في لحظة من لحظات التواصل فيصير الايجاز اطناباً، ويصير الاطناب ايجازاً. ليس في كلامي ايّ لعب بالكلام، وانّما تصوير فوتوغرافيّ لما ارى. في حال اعتبرنا انّ الطريق القصيرة ايجاز سوف نكتشف انّها ليست ايجازاً في اوقات معيّنة، الايجاز ليس ايجازاً دائما، والاطناب ليس اطناباً دائماً، وحتى تتّضح الصورة بشكل جليّ علينا ادخال عنصر لا يمكن اغفاله في عالم المواصلات كما في عالم التواصل اللغوي. اشير هنا الى حنكة اللغة العربية في اختيار جذر واحد للتعامل مع الطرقات ومع الاتّصال اللغويّ وهو جذر" وصل" وهذا الفعل، بدوره، متعدد الدلالات، هو يوصل ما انقطع، اي انه " جسر" ولكنه يوصلك ايضا الى ما ترغب. والمصطلحات اللغوية التي تربط بين عالم اللغة وعالم الطرق ليست قليلة اذكر منها هنا كلمة "اسلوب" التي لها دلالات كثيرة ولكن من جملة معانيها الطريق، فالأسلوب طريق وطريقة في التعبير في آن. كيف يكون الايجاز اطنابا؟ قد يظنّ ظانّ انني اريد تغيير سنّة الدلالات، وهذا ما لم يخطر لي ببال. المعنى الواحد عند التحرّي هو جديلة دلالات. كلنا نعاني من عجقة السير. ما تفعل عجقة السير بالطريق القصيرة الشبيهة بالايجاز؟ ألا تقضم الطريق القصيرة هنا الوقت والأعصاب؟ وتحوّل الإيجاز إطناباً مكتظّاً بالانتظار؟ ومن قال إنّ اللغة لا تعرف عجقة السير؟ الا يشبه الايجاز الغامض الطريق القصيرة؟  أو الكلمة الغريبة " مطبّاً" في طريق الفهم؟ الا يتحوّل الايجاز هنا الى اطناب حين نستعين بالشرح اي تطويل الطريق من جديد لتيسير سير المعنى؟ وتكون وسيلتي الوحيدة هي استخدام الاطناب لا الايجاز اذا اردت توفيرا في الوقت. والوقت سلطان لغويّ.

البعض يهزأ من كثرة المترادفات في اللغة العربية، ويعتبر الترادف عبئاً على اللغة وعبئاً على الذهن. ولكن اللغة تريد ان تنقذ نفسها وتنقذ في الوقت نفسه مستخدميها. اللغة عبارة عن تقديم خدمات وتلبية حاجات. الدول المتحضرة لها معايير كثيرة منها حجم الطرقات المعبّدة وكلمّا زادت الطرقات زادت فرص النموّ. الحضارة مرتبطة بالطرقات واللغات. وتلاقح الحضارات مرتبط بالطرقات، يقال ان طريق الحرير كان طريق تلاقح الشرق بالغرب، وعلى ضفاف الطرقات تنبت المدن والحضارات. من هنا اعتبر ان من يعتبر الترادف عبئاً على اللغة انما يرى المسألة من زاوية واحدة وحادّة ولكن من يدرس الطبيعة يكتشف انها ليست من هواة الزوايا الحادّة. الترادف ضرورة جمالية وتواصلية وبلاغية. الترادف فرصة للتعبير عن الفروقات البسيطة بين الاشياء، وفرصة لبلورة صفات تغيب بغياب المترادفات. فأنت قد تكون ترغب في تسليط الضوء على ناحية ما من نواحي المعنى، هنا لا يمكنك ان تنفذ رغبتك الا من خلال المترادفات او الصفات. المعاني ليست بيضاء ولا سوداء، المعاني متعددة الألوان. اللون المناسب هنا قد لا يكون مناسبا في مواقع اخرى، واللغة ليس لها استخدام واحد، اللغة لا تحبّذ الرتابة، اللغة مثل غيمة في السماء على ما يقولون في الصين، والغيمة ليس لها شكل جامد، اللغة تحب الحرية وتنفر من الاقفاص. وجوهر الحرية هو ان تملك الخيارات. الخيار الأوحد خيار اخرق، وليس هناك لغة خرقاء، قد تجد من يستخدم اللغة بشكل أخرق ولكن هذا لا يعني ان اللغة خرقاء. الحقّ ليس على السكين اذا أسأت استخدامها، لا يجوز ان تكون ردّة فعلي على لغتي كما كان ردّ فعل الثعلب على عنقود العنب كما في القصة المشهورة.

الترادف ليس عيباً أو ترهّلاً، وتعدّد الطرقات التي توصلني الى الميناء مثلا ليست عاهة في التخطيط المدني، ولكن عليّ ان احسن استخدام الطرقات، واختار منها ما يناسب الأوقات. قد اختار طريقا فأقع في العجقة، الحقّ هنا ليس على الطريق وانما على سوء معرفتي بحالة الطريق في هذا الوقت. وفي ثقافتنا الدينية والعربية نتعامل مع المترادفات بشكل يوميّ ولكن لا ننتبه الى دلالاتها، واقصد ان اسم الله سبحانه وتعالى له مترادفات كثيرة هي ما نعرفه تحت تسمية " أسماء الله الحسنى". وهل هي غير مترادفات مترفة الغنى والدلالات حين تربط بسياقاتها في التنزيل؟ ليس هناك لغة طبيعية خلو من المترادفات.

سأحاول، في الختام، تبيان وظيفة كلمة السحاب في الاية الكريمة التالية:" اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء" ( الروم /30). نعرف ان اللغة العربية غنية جدّا بالمترادفات ذات الصلة بالسحاب، والسبب جغرافيّ محض، الجغرافيا سلطان لغوي، تكثير مترادفات "السحاب"، في العربية، يكشف عن واقع جغرافي صحراويّ. كلمة سحاب في الآية لا تقوم مقامها اي كلمة اخرى، والسبب جماليّ وحيويّ، ابن جوّ المعنى العام، فهناك خيط حركيّ يجمع بين مفردات الاية، الخيط الجامع هو الحركة كما نجد في فعل "ارسل" الذي يعني الانتقال من إلى، وهو يتلاءم بشكل مذهل مع السحاب المنسول من جذر "سحب" اي نقل من إلى، ومع الرياح التي تنتقل من إلى، فضلاً عن الحضور الملحوظ لحرف السين في " يرسل، سحاباً، فيبسطه، السماء". واعتقد أنّ الدخول إلى عالم المترادفات من خلال السياقات  وعلم الاصوات يفرج عن دلالات لا يزال بعضها مطويّ الملامح.

بلال عبد الهادي




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق