بيروت: سوسن الأبطح
إذا كنت تود أن تأكل طبقًا
من العصر البابلي أو من العهد الأموي، وربما على الطريقة الأندلسية المدللة، فكتاب
«مطبخ زرياب» للكاتب المعروف المختص بالتاريخ الاجتماعي والسياسي، فاروق مردم بك
الذي ترجم أخيرا من الفرنسية إلى العربية يؤمن لك هذه المتعة. ففي المؤلّف البديع
الصادر عن «مشروع كلمة» في أبوظبي وترجمه الدكتور جان ماجد جبور بعربية سلسة،
دراسات أنثروبولوجية تستجمع دلالات الحياة الغذائية للشعوب ومطابخها وأطباقها، مع
تركيز على المنطقة العربية.
في الكتاب أيضا وصفات قديمة وحديثة، أقدمها ربما هي التي جمعت ثلاثة ألواح مكتوبة باللغة الأكادية تعود إلى مطلع الألفية الثانية، من بينها فطيرة بالعصافير الصغيرة التي تذبّل في مرجل نحاسي قبل أن تطبخ على نار هادئة في قدر من الفخار. ويعلق الكاتب على هذا الطبق بالقول: «إنه طبق في غاية الروعة يستحق حتى اليوم أن يتربع على أفضل الموائد شريطة ألا نكثر من البصل والكراث والثوم».
تأتي هذه الوصفة في القسم المخصص لـ«العراق مهد كل الفنون» حيث يعرج الكاتب على أطباق عصر النهضة الإسلامية كما يسميها في القرنين الثامن والعاشر للميلاد، حيث يحيلنا إلى كتب بعضها فُقد والآخر لا يزال موجودًا. في هذا الباب الممتع المعنون «مذكرات الرحلة» نقرأ عن «إيران حضارة الأرز»، «سوريا الأذواق مجتمعة»، «لبنان الابتكار على السفر العامرة»، «فلسطين برتقال يافا»، «الأردن حيث الخروف ملك المائدة»، «الخليج العربي قصر التوابل»، و«اليمن دمعة على المخا» وعناوين أخرى من تونس والجزائر و«ملوخية مصر» والمغرب وإسبانيا وفرنسا وغيرها.
ويفرد فاروق مردم بك بابًا للحمص هو الذي قام بوضع مؤلف كامل سابقًا عن «المطول في الحمص». كما يفرد صفحات طوالا للباذنجان «الذي أهين تاريخيًا من قبل عظماء العالم لكثرة ما سخروا منه وتحاملوا عليه باعتباره ثمرة الفقراء»، وآخر للفول الذي يعتبر «عالميا من حيث أصوله وتاريخه وما يختزنه من أسرار وربما يحتوي على (سر الحياة والموت)». كذلك نقرأ عن الزعفران أنه نبت بحسب الأسطورة بعد أن جرح الإله هرمس وهو يلعب الرماية مع صديقه كروكوس، ومات وخضبت دماؤه الأرض لتنبت أزهارًا صغيرة ذات عطر غامض نفاذ ولون فاقع باتت من أثمن التوابل. أما المشمش فرغم أن الأرمن ينسبونه لهم والفرنسيين والإيرانيين أيضًا، «إلا أن هذه الشجرة تنعم بالراحة والهناءة كما ينعم بها المرء في بيت أهله إلا في تركيا وسوريا». وثمة أسطورة لعل الدمشقيين هم الذين ابتدعوها تقول إن «شجرة آدم وحواء التي خلقها الله ليعلمنا التمييز بين الخير والشر ليست شجرة تفاح أو تين بل شجرة مشمش».
وتحت عناوين تحمل أسماء لثمر أو مأكولات أو مشروبات، نقرأ حكايات وأساطير، وأسماء لكتب أجادت في التعمق في دراسة مذاقات الشعوب ونكهاتهم وأمزجتهم الغذائية، كما نعثر على وصفات من كل عصر ومنطقة.
وفاروق مردم بك مؤرخ وكاتب معروف، لكنه أيضا ذواقة من الطراز الرفيع وعاشق لفن الطبخ، وقد كتب خلال ست سنوات مقالات باللغة الفرنسية، نشرت في مجلة «قنطرة» الصادرة عن «معهد العالم العربي»، وقعها باسم زرياب، وجمعت في هذا الكتاب الشيق.
وزرياب الذي استعار فاروق مردم بك اسمه، ونهجه وشرح في بداية كتابه استثنائية سيرته هو أبو الحسن علي بن نافع الملقب بالطائر الأسود بسبب دكنة بشرته، وعذوبة صوته وحلاوة شمائله، من أصول فارسية لازم إسحاق الموصلي في بغداد أشهر موسيقي ومغنٍّ في بلاط العباسيين، ثم غادر بغداد وهو في الثلاثين هربا من نقمة أستاذه، ورحل باتجاه الغرب بحثًا عن المجد والثروة، ووصل إلى قرطبة عام 822م، وكان مجددًا في كل شيء، في الموسيقى حيث تنسب إليه المدرسة الموسيقية الأندلسية، وهو الذي أضاف الوتر الخامس إلى العود، وصنع مضراب العود من مخالب النسر.
زرياب يمكن اعتباره «بيترون الروماني أو الممهد للإنجليزي بروميل، علم أهالي قرطبة إعداد المآدب البغدادية، وابتكر أصولا لتقديم الطعام وترتيب المائدة، كما ابتكر أغطية الجلد الناعم بدلا من شراشف الكتان، وبين أن الكؤوس الزجاجية أكثر أناقة على طاولة الطعام من تلك الذهبية أو الفضية، وهو الذي علم الناس في الأندلس فن التبرج وإزالة الشعر واستعمال معجون الأسنان وطريقة قص الشعر قصيرًا بشكل دائري كاشفًا الحاجبين والأذنين، وأرسى قواعد اللبس حسب الفصول من صيفية بيضاء أو ربيعية حريرية وزاهية الألوان أو شتوية مبطنة وداكنة مع معاطف الفراء. وكتب فاروق مردم بك في كتابه «فمن خلال الاحتكام لرأي زرياب الذي لا يرد، بدل أهل البلاط وسكان المدينة لباسهم وأثاثهم وطبيخهم حتى إنه بعد مضي عدة قرون، كان اسم بيترون العرب يذكر في كل مرة يظهر فيها عرف جديد في قصور شبه الجزيرة الأيبيرية».
فاروق مردم بك يكاد يتقمص في مقالاته هذه التي تحولت إلى كتاب، الجانب المطبخي الحضاري من شخصية زرياب، يجول في أنحاء المعمورة باحثًا عن قصص الأطعمة وأصولها ورحلاتها بين البلدان وفي الأزمنة. فشجرة الزيتون، بها تبدأ منطقة المتوسط وبها أيضا تنتهي، وهي التي تقرب سكان هذه المنطقة من بعض وتجمعهم تحت مذاق واحد. لهذا ربما هناك نزاع شرس على أبوتها. أما المفاجأة فتأتي من ثمرة التمر حيث ثبت بعد أبحاث شاقة على المتحجرات أن موطن شجرة النخيل البري ليس الجزيرة العربية ولا تونس وإنما الحوض الباريسي. لكن الحكاية الشعبية تقول غير ذلك. ويضيف: «أما الحكاية الأجمل، فهي التي تقول إن الله خلق شجرة النخيل من الطين الذي خلق منه آدم، ومن هنا نشأ الاعتقاد السائد في جميع أنحاء العالم الإسلامي بأن هذه الشجرة ليست كغيرها من الشجر، فهي أقرب منها كلها إلى البشر، كما لو أن بينها وبينهم صلة رحم. وثمة حديث شريف يقول: (أكرموا عمتكم النخلة)».
وإذا كانت قصص التمر ورحلاته في الحضارات وبين الشعوب ممتعة وتستحق القراءة فهناك قصص أخرى دالّة في الكتاب حول الطماطم واليقطين والتين والعنب والفستق، ومعجم بديع للذواقة فيه أبحاث صغيرة وشيقة عن الخل واللبن والأترج والطاجن والسمسم والقطائف، كما عن الرمان والسبانخ والكزبرة.
لعله من الكتب القليلة الموجودة بالعربية اليوم التي تهتم بالمطبخ كمادة ثقافية تستحق أن نرتفع بها عن اليومي والمبتذل إلى مستوى المعرفة العميقة الحقة.
في الكتاب أيضا وصفات قديمة وحديثة، أقدمها ربما هي التي جمعت ثلاثة ألواح مكتوبة باللغة الأكادية تعود إلى مطلع الألفية الثانية، من بينها فطيرة بالعصافير الصغيرة التي تذبّل في مرجل نحاسي قبل أن تطبخ على نار هادئة في قدر من الفخار. ويعلق الكاتب على هذا الطبق بالقول: «إنه طبق في غاية الروعة يستحق حتى اليوم أن يتربع على أفضل الموائد شريطة ألا نكثر من البصل والكراث والثوم».
تأتي هذه الوصفة في القسم المخصص لـ«العراق مهد كل الفنون» حيث يعرج الكاتب على أطباق عصر النهضة الإسلامية كما يسميها في القرنين الثامن والعاشر للميلاد، حيث يحيلنا إلى كتب بعضها فُقد والآخر لا يزال موجودًا. في هذا الباب الممتع المعنون «مذكرات الرحلة» نقرأ عن «إيران حضارة الأرز»، «سوريا الأذواق مجتمعة»، «لبنان الابتكار على السفر العامرة»، «فلسطين برتقال يافا»، «الأردن حيث الخروف ملك المائدة»، «الخليج العربي قصر التوابل»، و«اليمن دمعة على المخا» وعناوين أخرى من تونس والجزائر و«ملوخية مصر» والمغرب وإسبانيا وفرنسا وغيرها.
ويفرد فاروق مردم بك بابًا للحمص هو الذي قام بوضع مؤلف كامل سابقًا عن «المطول في الحمص». كما يفرد صفحات طوالا للباذنجان «الذي أهين تاريخيًا من قبل عظماء العالم لكثرة ما سخروا منه وتحاملوا عليه باعتباره ثمرة الفقراء»، وآخر للفول الذي يعتبر «عالميا من حيث أصوله وتاريخه وما يختزنه من أسرار وربما يحتوي على (سر الحياة والموت)». كذلك نقرأ عن الزعفران أنه نبت بحسب الأسطورة بعد أن جرح الإله هرمس وهو يلعب الرماية مع صديقه كروكوس، ومات وخضبت دماؤه الأرض لتنبت أزهارًا صغيرة ذات عطر غامض نفاذ ولون فاقع باتت من أثمن التوابل. أما المشمش فرغم أن الأرمن ينسبونه لهم والفرنسيين والإيرانيين أيضًا، «إلا أن هذه الشجرة تنعم بالراحة والهناءة كما ينعم بها المرء في بيت أهله إلا في تركيا وسوريا». وثمة أسطورة لعل الدمشقيين هم الذين ابتدعوها تقول إن «شجرة آدم وحواء التي خلقها الله ليعلمنا التمييز بين الخير والشر ليست شجرة تفاح أو تين بل شجرة مشمش».
وتحت عناوين تحمل أسماء لثمر أو مأكولات أو مشروبات، نقرأ حكايات وأساطير، وأسماء لكتب أجادت في التعمق في دراسة مذاقات الشعوب ونكهاتهم وأمزجتهم الغذائية، كما نعثر على وصفات من كل عصر ومنطقة.
وفاروق مردم بك مؤرخ وكاتب معروف، لكنه أيضا ذواقة من الطراز الرفيع وعاشق لفن الطبخ، وقد كتب خلال ست سنوات مقالات باللغة الفرنسية، نشرت في مجلة «قنطرة» الصادرة عن «معهد العالم العربي»، وقعها باسم زرياب، وجمعت في هذا الكتاب الشيق.
وزرياب الذي استعار فاروق مردم بك اسمه، ونهجه وشرح في بداية كتابه استثنائية سيرته هو أبو الحسن علي بن نافع الملقب بالطائر الأسود بسبب دكنة بشرته، وعذوبة صوته وحلاوة شمائله، من أصول فارسية لازم إسحاق الموصلي في بغداد أشهر موسيقي ومغنٍّ في بلاط العباسيين، ثم غادر بغداد وهو في الثلاثين هربا من نقمة أستاذه، ورحل باتجاه الغرب بحثًا عن المجد والثروة، ووصل إلى قرطبة عام 822م، وكان مجددًا في كل شيء، في الموسيقى حيث تنسب إليه المدرسة الموسيقية الأندلسية، وهو الذي أضاف الوتر الخامس إلى العود، وصنع مضراب العود من مخالب النسر.
زرياب يمكن اعتباره «بيترون الروماني أو الممهد للإنجليزي بروميل، علم أهالي قرطبة إعداد المآدب البغدادية، وابتكر أصولا لتقديم الطعام وترتيب المائدة، كما ابتكر أغطية الجلد الناعم بدلا من شراشف الكتان، وبين أن الكؤوس الزجاجية أكثر أناقة على طاولة الطعام من تلك الذهبية أو الفضية، وهو الذي علم الناس في الأندلس فن التبرج وإزالة الشعر واستعمال معجون الأسنان وطريقة قص الشعر قصيرًا بشكل دائري كاشفًا الحاجبين والأذنين، وأرسى قواعد اللبس حسب الفصول من صيفية بيضاء أو ربيعية حريرية وزاهية الألوان أو شتوية مبطنة وداكنة مع معاطف الفراء. وكتب فاروق مردم بك في كتابه «فمن خلال الاحتكام لرأي زرياب الذي لا يرد، بدل أهل البلاط وسكان المدينة لباسهم وأثاثهم وطبيخهم حتى إنه بعد مضي عدة قرون، كان اسم بيترون العرب يذكر في كل مرة يظهر فيها عرف جديد في قصور شبه الجزيرة الأيبيرية».
فاروق مردم بك يكاد يتقمص في مقالاته هذه التي تحولت إلى كتاب، الجانب المطبخي الحضاري من شخصية زرياب، يجول في أنحاء المعمورة باحثًا عن قصص الأطعمة وأصولها ورحلاتها بين البلدان وفي الأزمنة. فشجرة الزيتون، بها تبدأ منطقة المتوسط وبها أيضا تنتهي، وهي التي تقرب سكان هذه المنطقة من بعض وتجمعهم تحت مذاق واحد. لهذا ربما هناك نزاع شرس على أبوتها. أما المفاجأة فتأتي من ثمرة التمر حيث ثبت بعد أبحاث شاقة على المتحجرات أن موطن شجرة النخيل البري ليس الجزيرة العربية ولا تونس وإنما الحوض الباريسي. لكن الحكاية الشعبية تقول غير ذلك. ويضيف: «أما الحكاية الأجمل، فهي التي تقول إن الله خلق شجرة النخيل من الطين الذي خلق منه آدم، ومن هنا نشأ الاعتقاد السائد في جميع أنحاء العالم الإسلامي بأن هذه الشجرة ليست كغيرها من الشجر، فهي أقرب منها كلها إلى البشر، كما لو أن بينها وبينهم صلة رحم. وثمة حديث شريف يقول: (أكرموا عمتكم النخلة)».
وإذا كانت قصص التمر ورحلاته في الحضارات وبين الشعوب ممتعة وتستحق القراءة فهناك قصص أخرى دالّة في الكتاب حول الطماطم واليقطين والتين والعنب والفستق، ومعجم بديع للذواقة فيه أبحاث صغيرة وشيقة عن الخل واللبن والأترج والطاجن والسمسم والقطائف، كما عن الرمان والسبانخ والكزبرة.
لعله من الكتب القليلة الموجودة بالعربية اليوم التي تهتم بالمطبخ كمادة ثقافية تستحق أن نرتفع بها عن اليومي والمبتذل إلى مستوى المعرفة العميقة الحقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق