اللصّ والذباب
عنترة بن شدّاد، فارس بني عبس، غنيّ عن التعريف.
يكفي أنّ اسمه لم يبق محصوراً في حيّز الأسماء إذ خرج من صلبه فعل يصرّف كالأفعال,
فنقول: " تعنتر فلان" أي " عامل حالو عنتر" (يلاحظ في
الاستخدام العاميّ حذف حرف التاء من اسم عنترة، تلك التاء التي تغلب على أسماء
النساء، وكأنّ حرف التأنيث لا يليق بفحولته القتالية أو أسطورته) قاصدين السخرية
من ذلك الشخص الذي يظنّ أو يتوهم أنّه بلغ مبلغ عنترةَ في القوّة والبأس وهو لا
يمكن له أن يرقى إلى مصافّ ذلك الفارس الأسود النبيل الذي قال فيه رسول الله:
"ما وصف لي أعرابيّ فأحببت أن أراه إلاّ عنترة".
وليس المقصود، هنا، تناول شجاعة عنترة أو صبابته
أو فصاحته فهي من الأمور المعروفة وإنّما القصد تناول شيء ذي صلة بالذباب! وقد
يقول قائل:وما علاقة عنترة بالذباب؟ أو يردف آخر متأفّفاً: ماذا؟! ألم يبق حديث
غير حديث الذباب؟ في أيّ حال، لا أعرف لهذه الأسئلة مبرّر طرْحٍ، ونحن نعرف أنّ
الله قد ذكر الذباب في "سورة الحجّ". ووراء ذكر كلّ حيوان في القرآن
مغزى أو إشارة إلى ما هو أعمق من محض الأسماء.
إدراج عنترة في الحديث عن الذباب يعود إلى كونه
كتب بيتين عنها اعتبرهما أبو زيد القرشيّ، صاحب جمهرة أشعار العرب "من أعجب
التشبيه" وهما:
وخلا الذُّبابُ بها فليس ببارح
غَرِداً كفعل الشارب المترنِّمِ
هَزِجاً يَحُكُّ ذراعه بذراعه
قَدْحَ المُكِبِّ على الزِّنادِ الأَجْذَمِ
غَرِداً كفعل الشارب المترنِّمِ
هَزِجاً يَحُكُّ ذراعه بذراعه
قَدْحَ المُكِبِّ على الزِّنادِ الأَجْذَمِ
ولكن لم أذكرْ عنترةَ لأنه انزل الذباب، في شعره،
منزلة عالية فقط وإنّما لأنّه بنى شهرته في القوّة على "استراتيجية
الإيهام"، إذ سأله مرّة أحد الأشخاص: من أين لك هذا الشهرة في الشجاعة؟ فأفضى
إلى السائل بسرّ هذه الشهرة وهي أنّه كان يُقْدِم على الجبان إقداماً يطير له قلب
الشجاع أي الانتصار على القويّ ليس من ثغرة ضعفه وإنّما من باب ضعف غيره, وهي
استراتيجية لا تخلو من فعالية في بعض الأوقات. واستراتيجية عنترة لا تختلف كثيراً
عن استراتيجية فارس الحكاية التالية:
يُحكى أن أحد الفرسان أراد أن يستريح قليلاً في
مطعم وكان في حوزته سيف من تلك السيوف التي تخلب العيون لبريق صقلها وبديع صنعها.
ووقعت عيون ثلاثة لصوص على الفارس وهو داخل إلى المطعم وانتبهوا إلى نبل سيفه
وندرة شفرته فقرّروا سلبه إياه. دخلوا وراءه، وجلسوا على مقربة منه، بانتظار سنوح
فرصة السطو عليه. انتبه الفارس إلى نواياهم لكنه بقي جالساً وكأنّ الأمر لا يعنيه.
لم يرفّ له جفن، كما أنّه لم يلتفت إلى حركاتهم المريبة، إذ لبعض الناس حدس كعينيْ
زرقاء اليمامة!
وكانت ثلاث ذبابات، بمحض المصادفة, تحوم فوق طاولة
الفارس. وكلّنا نعرف ما يسببه طنين الذباب من حرق للأعصاب كما نعرف بالتجربة أيضا
عجز الإنسان أمام حيلة الذبابة في التفلّت من الضربات الموجهة إليها أغلب الأحيان.
إلاّ أنّ الفارس الهادىء والصبور، ظاهراً، والعارف بما يحاك خلف ظهره تناول عود
قشّ صغير كان على الطاولة، وبحركة واحدة سريعة كلمح البصر شكّ به الذبابات الثلاث
المحوّمات قدّام وجهه.
كانت عيون اللصوص(القبضايات!) تراقب بذهول حركات
المشهد الخاطف، فما كان منهم إلا أن انسحبوا بعد أن ماتوا رعبةً وهربوا بجلدهم
تاركين خلف ظهورهم دهشتهم ونيّتهم في السطو على سيف الفارس.
ان الفارس أراد ان يوفّر على نفسه جهد القتال الذي
كان سينتهي لا محالة بإراقة الدماء كما أنّه كان يعرف تماماً، فيما يبدو،
"أنّ الفارس الماهر قلّما يستعمل سلاحه"! وكانت الذبابات وسيلة صالحة
لذلك حيث انتبه اللصوص إلى أنّ إزهاق أرواحهم لن يكون أصعب عليه من إزهاق أرواح
الذبابات الثلاث!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق