الجمعة، 24 يوليو 2015

كتاب بين يدي ابن سينا


لا تخلو حياة أيّ امرئ من مصادفات سارّة تأتي كالفرج بعد الشدّة، منها حكاية كنت قرأتها عن الطبيب والفيلسوف ابن سينا اعترضت مسيرته العلمية والفلسفية، وهو يرويها بلسانه، ونادراً ما يجرؤ إنسان على الاعتراف بما اعترف به ابن سينا، والحكاية نقلها ابن أبي أصيبعة في كتابه القيّم:" عيون الأنباء في طبقات الأطباء"، وهي عن علاقة ابن سينا الحميمة مع القراءة، فقد كان قارئاً نهماً يستعين على القراءة، إذا ما تعسّر عليه فهم بعض المسائل، بالصلاة، عندما يقع في حيرة أمام مسألة تستعصي عليه يتردّد إلى المسجد فيصلي ويبتهل إلى "مبدع الكلّ" كما يقول، فيُفتح المنغلق ويتيسّر المتعسّر. وحين يكون في البيت، ليلاً، يضع السِّراج بين يديه ويشتغل بالقراءة والكتابة، ولكن قد يغلبه النوم أو يشعر بتعب وهو لا يريد أنْ ينام ولا يريد أن يريح عينيه من القراءة، فيعدل إلى شرب قدح من الشراب ليستعيد قوّته ثم يعود إلى القراءة. وكما كان يستعين بالصلاة على إضاءة بعض المسائل العلميّة الشائكة كان يستعين أيضاً بالمنامات في إيجاد حلول لمسائل عصية، فيقول إنّ " كثيراً من المسائل اتّضح لي وجوهها في المنام"، ولا ريب في أن تسخيره للمنامات في استحضار حلول المسائل العصيّة هو ابن مهارته في العلاجات النفسية كما يروى عنه.

ولكنّه وقف، ذات يوم، عاجزاً أمام فهم كتاب "ما بعد الطبيعة"، وهو كتاب في الماورائيات لفيلسوف الإغريق أرسطو، فيقول إنّه قرأ الكتاب أربعين مرّة فحفظه حرفاً حرفاً، ومع ذلك لم يفهمه ولم يفهم المقصود به. و"أيست من نفسي" تلفّظ بها فم ابن سينا مستسلماً. لكنّه لم ييأس إلاّ بعد قراءة الكتاب أربعين مرة، وعليه فهو يأس مموّه! فالبعض ييأس من الصفحات الأولى لكتاب ما، ومن القراءة الأولى، فيطوي الأوراق لاعناً حبر الكاتب وكلماته المعقّدة. عزّى ابن سينا نفسه بالقول:"هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه".

كان، ذات عصر، في سوق الورّاقين، وإذ بيد دلاّل مجلّد ينادي عليه، فعرضه على ابن سينا فردّه متبرّماً معتقداً أن لا فائدة من هذا العلم، فقال الدلاّل:" اشترِ منّي هذا الكتاب فإنّه رخيص الثمن أبيعكه بثلاثة دراهم، وصاحبه محتاج إلى ثمنه". فاشتراه ابن سينا بعد إلحاح الدلاّل وإذ به كتاب للفيلسوف أبي نصر الفارابيّ يشرح فيه أغراض كتاب "ما بعد الطبيعة"، ويتابع ابن سينا قائلاً: " رجعت إلى البيت وأسرعت قراءته فانفتح لي في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنّه كان لي محفوظاً على ظهر قلب، وفرحت بذلك وتصدّقت في اليوم الثاني بشيء كثير على الفقراء شكراً لله تعالى."

ولابن سينا حكاية أخرى أيضاً عن سبب تأليفه لكتاب "أسباب حدوث الحروف"، وهو كتاب رائع في علم الأصوات وتشريح جهاز النطق، حكايته مع هذا الكتاب تشبه من طرف ما سابقتها إذ تظهر مدى قدرة ابن سينا على الجلد وتحمّل مشاقّ العلم بمتعة لا تدانيها متعة. لم يُعرف عن ابن سينا أنّه من علماء اللغة، ولكن التحدّي جعله يؤلّف كتاباً لا أظنّ أنّ عالماً لعلم الأصوات يمكن له أن يستغني عن فوائده الجمة ولطائف أفكاره. يروي ابن سينا أسباب وضع الكتاب فيقول إنّه كان، ذات يوم، في مجلس علاء الدولة أيّام السامانيين فجرى ذكر مسألة من مسائل اللغة، فتكلّم ابن سينا بما حضره حينئذ. كان بالمجلس "أبو منصور الجبان" وهو من علماء اللغة ( وروي الجبائيّ أيضاً) فأبى على ابن سينا أن يقحم نفسه في مسائل اللغة التي لا يحسنها وقال له: إنّك فيلسوف وحكيم، ولم تقرأ من اللغة ما يرضى كلامك فيها. فاستنكف ابن سينا من هذه المجابهة وتوفّر على درس كتب اللغة ثلاث سنين مستعيناً، فيما تقول الرواية، بمعجم الأزهريّ المسمّى "تهذيب اللغة"، ثم نظم أشعاراً وكتب عدّة رسائل، ورفع بها إلى أبي منصور الجبان زاعماً له انه عثر عليها في الصحراء، في أثناء الصيد، ولا يدري أحد شيئاً عن صاحبها. فلما عرضت تلك الرسائل والأشعار على أبي منصور في مجلس الأمير أخذ يتفقّدها، وأشكل عليه كثير ممّا فيها. فلما أخبره ابن سينا بما جهله تنبّه أبو منصور وأدرك أنّها جميعاً من تأليف ابن سينا، فاعتذر له عن تلك المجابهة التي بدرت منه، وأصبح منذ ذلك الحين صديقاً مخلصاً له، - وكم من صداقات تولد من هذه الرحم!- ثم طلب منه تأليف مقال مختصر في مخارج الحروف فكانت رسالته الفذّة "أسباب حدوث الحروف" عن نشأة وتركيب الأصوات اللغوية الإنسانيّة من وجهة نظر خبير في الطبّ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق