الأحد، 19 يوليو 2015

كيف تعامل ابو نواس مع ذاكرته؟


عشق ابن منظور اللغة العربيّة فقام باحتضان مفرداتها في معجم " لسان العرب"، وهو من أجمل المعاجم العربية وأوسعها، القراءة فيه سياحة شيّقة لغوية وفكرية واجتماعية. ولكن ابن منظور اهتمّ أيضاً بأمور أخرى، ومنها تتبّع حركات وسكنات الشاعر الرجيم أبي نؤاس، وجمعها في كتاب بعنوان: "أخبار أبي نؤاس". استوقفني في الكتاب خبر صغير، لكنّه مفعم الدلالة، عن فضل النسيان على أسلوب أبي نؤاس الشعريّ. وربّما من الصعب علينا أن نتخيّل ما المسار الذي كان يمكن أن يسلكه شعر أبي نؤاس لولا تلك المداخلة الملحّة من خلف الأحمر، أحد كبار العارفين بأسرار الشعر العربيّ، ومن أدلّة خبرته الشعريّة أنّه كان يقوم بإنشاء قصائد وينسبها لشعراء طوى الموت ألسنتهم من دون أنْ ينتبه كثير من النقّاد إلى أنّ هذا الشعر غريب ومدخول النسب في دواوين الراحلين.

أظهر أبو نؤاس في صباه ميلاً لقرض الشعر، وكان على علاقة مع خلف الأحمر الذي يكبره سنّاً. انتبه خلف إلى امتلاك أبي نؤاس للخميرة الشعريّة، لكنّها وحدها لا تكفي لولادة شاعر لا يكون صدى مهلهلاً ومبحوحاً لأصوات سابقيه.

 كان أبو نؤاس قد استأذن خلف الأحمر في نظم الشعر. وافق خلف ولكن بعد تنفيذ جملة شروط قائلاً لأبي نؤاس الفتى:لا آذن لك في عمل الشعر إلاّ بعد أن تحفظ ألف مقطوع للعرب ما بين أرجوزة وقصيدة ومقطوعة. فغاب الشاعر مدّة ثمّ حضر إلى خلف وهو مسرور بإنجاز المهمّة واجتياز أحابيل الذاكرة قائلاً لخلف: قد حفظتها، فقال خلف: أنشدني إيّاها. وقف التلميذ أبو نؤاس أمام أستاذه وأنشده أكثرها واستغرق الأمر عدّة أيام، ثم سأله أن يأذن له في نظم قصيدة معتبراً أنّه قد نفّذ شروط الشعر، فهو يملك زمام الملكة الشعريّة وذاكرته روّضت آلاف الأبيات. إلاّ أن خلفاً واجه الشاعر الفتى بطلبٍ آخرَ قد ينمّ ظاهره عن عبث محض بالفتى الطامح إلى نظم الشعر إذ قال له: لا آذن لك إلاّ بعد أنْ تنساها! أيّ جهد ضائع؟ وكيف تطاوعه ذاكرته في رمي ما كدح في حفظه؟ أيّة ساديّة يمارسها الأستاذ على التلميذ؟ كان لسان حال أبي نؤاس يقول: لماذا طلب مني، أصلاً، ما لا يريد؟ ذاكرتي ليست لعبة بين يدي نزواته. ولكنّه قبل التحدّي، وهو يعرف أنّ النسيان المتعمّد أشقّ من الحفظ؟ ذهب إلى بعض الأديرة وخلا بنفسه، وأقام مدّة مستعيناً بالشراب أيضاً على النسيان ثم حضر مزهوّاً ومزدهياً بمقدرة ذاكرته على طرد محفوظاتها الطازجة وقال: نسيتها حتى كأنْ لم أكن قد حفظتها قطّ. قال له خلف: الآن انظم الشعر. إلاّ أنّه لم يترك لأبي نؤاس حرّيّة اختيار الغرض الشعريّ من تلقاء ذاته، لا مفرّ من القيود! قام خلف بتحديد موضوع القصيدة، ليست كلّ المواضيع ملائمة لرغبته، فلا يمكن أن يبدأ الشاعر بالمدح أو بالهجاء وهما الموضوعان البارزان في العربية، وكانا بمثابة السالب والموجب في التيّار الشعريّ. اعتبر خلف أنهما لا يسمحان له بتبيان مقدرة أبي نؤاس الذاتيّة، فطلب منه إنشاء قصيدة رثاء، والرثاء لا يختلف عن بقية الموضوعات الشعرية لكنّ طلب خلف الأحمر يمتاز بشيء لم يكن ليتوفّر في غيره من الموضوعات. لقد فاجأت الشاعر رغبة خلف حين سمعه يطلب منه أن ينظم قصيدة رثاء موجّهة إلى روح خلف نفسه رغم أنّه حيّ وينطق بغرائب تربك ذاكرة أبي نؤاس وأذنيه. هل بإمكان التلميذ التمرّد في هذا الموقف على رغبة أستاذه؟ ولكن من أين تؤاتيه الجرأة، ولو مجازاً، في نظم مرثية لروح من يرعى "شتلة " شعره الغضّة، وهو لا يزال على قيد الحياة؟!

غاية خلف من اختيار موضوع الرثاء هو امتحان الملكة الخياليّة لدى الشاعر، فالشعر ليس مجرّد مفردات أو تراكيب وإلاّ لكان الخليل بن أحمد وسيبويه من فطاحل الشعراء! خاض أبو نؤاس تجربة رثاء الأحياء، فرثى من ينتصب أمامه بلحمه وروحه. إستعان بخياله على تصوّر مشهد يناقض ما يراه أمام ناظريه. عليه أن يثبت حضوره الشعريّ بنزع روح أستاذه من بين ضلوعه ومحوها من الوجود تماماً كما محا محفوظاته الشعريّة من ذاكرته!

أليست ميزة شعر أبي نؤاس، في الأخير، هي أنّه ابنٌ شرعيٌّ ووفيٌّ للنسيان بقدر ما هو ابنٌ عاقٌّ للذاكرة التي تخاف السَّيْر في الدروب البكر؟

بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق