السبت، 30 أبريل 2016

ومن الحُبّ ما أَكَل




على أحد أرصفة نهر السين، قريباً من الحيّ اللاتينيّ الشهير في العاصمة الفرنسيّة باريس، محلاّتٌ مرصوفة على امتداد عشرات الأمتار مخصّصة لبيع الحيوانات الأليفة. يبدو لك الرصيف كما لو أنّه حديقةُ حيواناتٍ مصغّرة، بل ينتابُك إحساسٌ أحياناً لدى سماعك صياحاً مفاجئاً لأحد الدِّيَكَة بأنّك في ريف أو مزرعة.

 يصطحب الأهْل أطفالهم إلى تلك المحلاّت للتنزّه واكتشاف الطبيعة الحيّة في قلب المدينة. وكنت اصطحب ابنتي الصغيرة إلى تلك المحلاّت. ومن جمْلةِ الحيوانات التي تلفت نظر الصغار الفئران البيضاء، وهي معروضة للبيع كغيرها من الحيوانات. والصغار يألفون، بخلاف الكبار، كلّ الحيوانات الصغيرة، ولا يمارسون التمييز العنصريّ بحقّها على غرار ما يفعل الكبار. دَنَوْتُ من قفص الفئران، وسرعان ما استرعى انتباهي مشهدٌ غريبٌ، لم تأْلَفْه عينَيّ من قبلُ. وقفت مندهشاً أمام فأرة تلتهم الفئران الصغيرة، ولو أمْكَنَها فمُها لابتلعتهم ابتلاعاً، وهي ترمق بعينَيْها الزئبقيّتينِ يميناً ويساراً كما لو أنّها تخشى أنْ يسرق وليمتها الحيّة فأرٌ آخرُ. أسرعتُ إلى صاحب المحلّ لأخبره بالجريمة النكراء التي تحصل في عقر قفصه على أمل إنقاذ الفئران البريئة التي لم ينبُتْ بعدُ زَغَبٌ على جلدها، وكأنّها بنتُ يومِها، ولا تملك أيّ وسيلة دفاع عن النفس. أقبل صاحب المحلّ بهدوء صارخ وأعصاب كالصقيع كما لو كان غيرَ آبِهٍ بالضحايا ثم أدخل يده في جوف القفص وسحب القاتل/الآكل وضحاياه معاً، ووضع الجميع في قفصٍ مركونٍ في آخر المحلّ. أثار تصرّفه استغرابي إذْ إنّه لم يعمد إلى الفصل بين القاتل والقتيل. قلت له: ولكنّها سوف تتابع، الآن، وليمتها بعيداً عن عيون الناس الفضوليّة. قال: لا، إنّ الفئران، الآن، في أمان. وراح يشرح لي سبب إقدامها على أكلهم سابقاً، وامتناعها عن أكلهم في الظروف الجديدة التي وُضعت فيها. الفأرة هي أمّهم، قال لي، ولم تكن في الحقيقة تأكلهم كما تظنّ، وهي ليست متوحّشة كما تراءى لعينيك. إنّها حنون وتعطِفُ على أولادها كأيّ أمّ، وكلّ ما في الأمْرِ أنّها خافت - وهذا من حقّها الغريزيّ!- على فلذات كبدها من عبث الأصابع التي كانت تنفُذ من ثقوب شبك القفص إلى صغارها. وهي لا تميّز بين الأصابع التي تمتدّ للأذيّة والأخرى التي لا تنوي شرّاً، فالفأرة لا تعلم بِنِيّات الأصابع ولم تجدْ في المكان الذي هي فيه ملاذاً آمناً لأبنائها غير أحشائها، فصارت تأكلهم وهي تظنّ أنّها تخبّئهم بعيداً عن الأصابع الآدميّة النزقة!

 ذكّرتني هذه الحادثة بقصّة قديمة عن رجل كان قد امتلك دُبّاً وروّضه فانعقدت بينه وبين دُبّه، مع مرور الوقت، أواصر صداقة متينة. وذهب صاحب الدُبّ، ذات يوم، برفقة دُبّه إلى البرّيّة، وحين دَبَّ التعب في قدميه أحبّ أن يأخذ قيلولة، فاستظلّ شجرة ونام مطمئنّاً إلى عين الدُبّ التي ترعاه من اعتداء كواسر البرّيّة. استغرق الرجل في النوم والدُبّ مسرورٌ لراحة صاحبه، ولكنّ سروره لم يكتمل إذْ سرعان ما حوّمتْ ذُبابةٌ فوق وجْهِ صاحبِه وحطّتْ على أَرْنَبَةِ أنفه فأزعجته. وانزعج الدُبّ لانزعاج صاحبه وغضب على الذبابة التي عكّرت صفو قيلولته وقرّر تلقينها درْساً فراح يراقبها. والذباب معروف، على ضعْفه، بالعناد والبصر الحديد. عاود الرجل النوم بينما انشغل الدُبّ برصد حركات الذبابة ومطاردتها بعينَيْه بغية الانتقام. وما هي إلاّ هُنَيْهاتٌ حتى حطّت مجدّداً على أنْف صاحبه، فتناول الدّبّ حجراً كبيراً وخبطها به من كلّ عزمه ومن كلّ ما أوتي من حبّ لصاحبه. ولكنّ الذبابة كانت، لمَكْرها، أسرعَ من ضربته فمرقت من تحت الحجر الذي استقرّ فوق وجْهِ صاحبِه بعد أنْ هشّمَه، من قوّة الضربة وفرْط المحبّة، تهشيماً كانت فيه نهايةُ قيلولتِه وخاتمةُ حياتِه. لم يُصَدّق الدُبّ عينيه، فهو لم يقصِدْ إيذاء صاحبِه بل على العكس لقد فعل المستحيل حتى لا تخدِش تلك الذُّبابة اللعينةُ بَشَرَةَ أنفِ صاحبِه.

 لا ريب في أنّ الدُبّ كان صديقاً وفيّاً ومتفانياً في حبّ صاحبه كما لا يشكّ أحد، أيْضاً، في أنّ الفأرة التي كانت تلتهم أبناءها متفانيةٌ ومُحبّةٌ لهم من كلِّ جوارحِها. ولكنْ من المعروف أنّ الحبّ، في بعض الأحْيان، يفعل، بحسب ما يقول الكاتب الفرنسيّ لاروشْفوكو، ما لا تفعله كلّ شرور العالم في حقّ المحبوب. وعبارة "من الحبِّ ما قتل" المأثورة ليست أكثرَ من ملاحظات واقعيّة ثاقبة لمتاهات المشاعر المعقّدة. ولعلّ من الصائب إتمام القول المأثور، بعد أن جرى ما جرى للفئران الصغيرة،  بعبارة "ومن الحبّ، أيْضاً، ما أَكَل".


بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق