الاثنين، 18 أبريل 2016

مَوقفُ الجاحِظِ مِنَ الثَّقافاتِ الأجْنَبيّة

 
 الدّكتور محمّد محمُود الدّروبيّ
قسم اللُّغة العَرَبيّة – جامعة آل البيت
 المُلخّص
تَسْتجلي هذه الدّراسةُ مَوقفَ الأديبِ العَرَبيِّ أبي عُثمان، عَمرو بن بَحر، الجاحِظِ منَ الثّقافاتِ الأجْنبيّةِ الوافدةِ التي أخذت تَحطُّ برِحالها في البِيئاتِ العِلميّةِ الإسْلاميّةِ في العَصرِ العبّاسيّ، ولا سيّما ثقافات أُممِ الجِوار، وهي: الثّقافة اليُونانيّة، والثّقافة الفارسيّة، والثّقافة الهِنديّة.
وقد اتّخذ الجاحِظُ – بِوصفه مُؤصّلاً لِلمنهجِ العِلميّ – رُؤيةً نَقديّةً مَنهجيّةً من هذه الثّقافاتِ القادمةِ، مُتواصلاً معها بما يَنْسجمُ مع مُنطلقاتِهِ الفِكريّة والعِلميّة. وانبثقت عن تِلكم الرُّؤية أربعةُ مَواقفَ تراوحت بينَ:
1. القَبول بالثّقافاتِ الوافدةِ والتّفاعل مع مُعطياتها الإيجابيّة.
2. الاعتذار عن المُشوّهاتِ- المقصُودة وغير المقصُودة- التي أساءت إلى تلك الثّقافاتِ المنقُولة بسبب ما داخلها من لَغطٍ وتَشويشٍ وسُوءِ فَهمٍ؛ جَراءَ نقلها إلى اللّسانِ العَرَبيِّ.
3. إعمال مَنهجِ الشّكِّ العِلميِّ في كثيرٍ ممّا اشتملت عليه تلك الثّقافاتُ من أخبارٍ ومَقولاتٍ تدعُو إلى عدم منحها الثّقة؛ لمجافاتها الواقعَ، ومُخالفتها العَقل.
4. توجيه الاعتراضِ المنهجيّ والنّقد الموضُوعيّ إلى مُنطلقاتِ بعضِ تلك الثّقافات، ونقدها من الدّاخل.
وقد كان الجاحِظُ سبّاقاً – بذلك- إلى تَشكيلِ رُؤيةٍ خاصّةٍ من الثّقافاتِ الأجنبيّةِ، تَتناغمُ مع مَنهجهِ الفِكريّ العامّ. وهي رُؤيةٌ لها ما لها من إيجابيّاتٍ، وعليها ما عليها من نَقداتٍ، ولكنّها على الرُّغم من ذلك دَليلٌ على وعي صاحبها وإيجابيتهِ، وحُريتهِ وفاعليتهِ، وانفتاحهِ على الآخر، من غيرِ أن يفقدَ شخصيتهُ، أو تذوبَ ثَوابتهُ.
"ولكني أخذتُ بآدابِ وجوه أهل دَعـــوتي ومِــلّتي ولُغتي وجَزيرتي وجِيرتي، وهم العَرَب"
(أبو عُثمان الجاحِظ)

المُقدّمة
عاش الجاحِظُ في عَصرٍ انفتحت فيه قَنواتُ الاتصالِ الثَّقافيِّ مع الأُممِ المُجاورةِ على مِصْراعيها، فقد أخذ العَرَبُ ينهلُون من رَوافدِ الثّقافاتِ الأعجميّة: يُونانيّة وفارسيّة وهِنديّة. وكان الجاحِظُ، بحُكمِ مَرباه في البَصرة، حاضرةِ العقليّةِ الإسْلاميّة، وانتحالهِ الاعتزالَ، مَذهبَ أهلِ العَقلِ في الإسْلام، ومَواهبهِ الفِطريّة، واستعدادِهِ الشّخصيِّ، مُطّلاً إطلالةً كافيةً على ما يَدورُ حولهُ من ثقافاتٍ غيرِ عَرَبيّة أخذت تَحطُّ رِحالها في البِيئاتِ العِلميّةِ العَرَبيّة، مُستأثرةً باهتمامِ فئاتٍ من المُجتمعِ العبّاسيِّ، في مساجدهم ومجالسهم وأنْديتهم وأفْنيتهم.
وكان بدهيّاً لمن كان في مَنزلةِ الجاحِظِ، عِلماً وعَقْلاً وثَقافةً، أن يتّخذ رُؤيةً واضحةً يَستطيعُ أن يُؤسّسَ وفْقها أنظارَهُ العِلميّةَ والشّخصيّةَ من هذه الثّقافاتِ الوافدةِ، بما لا يَتعارضُ مع مُنطلقاتِهِ العَقديّةِ والمَذهبيّةِ والعِلميّةِ وأهمّها: اعتزازه بالإسْلام، واعتداده بالثّقافةِ العَرَبيّة الإسْلاميّة، واعتقاده الاعتزالَ، وإيمانه بالحُريةِ والموضُوعيّة، وحماسه للعَقلِ والجَدَلِ، واعتماده الشَّكَّ والتّجريبَ المَنْهجيين ابتغاءَ الوصُولِ إلى الحَقيقةِ وتَسْجيلها.
واتّخذَ الجاحِظُ بداعٍ من تِلكُم الرُّؤية مَوِقفاً ناقداً من الثّقافاتِ الأجْنبيّةِ التي أُتيحَ له أن يَطّلعَ على قَدْرٍ صالحٍ من مَورُوثها الثَّقافيِّ المنقُول، ولا سيّما الثَّقافات المُجاورة لِلثَّقافةِ العَرَبيّةِ الإسْلاميّة، وهي الثَّقافة اليُونانيّة الإغريقيّة، والثَّقافة الفارسّية الإيرانيّة، والثَّقافة الهِنديّة السّنسكريتيّة، فقد سجّل في كِتاباتِهِ مَواقفَ مُتباينةً من هذه الثَّقافات بحُكمِ إيمانه "أنّ الأُممَ التي فيها الأخلاقُ والحِكمُ والعِلمُ أربعٌ، وهي: العَرَبُ، والهِندُ، وفارِسٌ، والرُّوم".
وعلى الرُّغم من هذا التّعميم الذي يُطالعنا مُنذُ البَدء، لم يجعل الجاحِظُ هذه الأُممَ كُلَّها في مُستوًى واحدٍ من الثَّقافةِ المورُوثةِ والمُكتسبة، إذ رأى أنّ بعضَها أميز من بعض، فليست لِلرُّوم – مِثالاً- عنده ما لغيرهم من المكنُونات الثَّقافيّة، ولولا أنّهم اتّكلوا – كما يقولُ- على عُلُوم اليُونان، وادّعوا وراثتها، بسببِ القُربِ والجِوار، لما كان لهم شأنٌ سوى في بعض وجوهِ الثَّقافةِ المُكتسبة، لا المورُوثة، إذ ليس لهم – في منظُورِ الجاحِظِ- رصيدٌ يُعتدّ به في هذا الفَرع من فُروعِ الثَّقافة.
وأمّا التُّركُ الذين وضع الجاحِظُ رسالةً مشهُورةً في فَضائلهم، ولا سيّما ما يتعلّقُ بكفايتهم في مِضمارِ الحَرَب والقِتال وبُطولاتهم العَسكريّة، فهم عندهُ: "أصْحابُ عَمَد، وسُكانُ فَيافٍ، وأربابُ مَواشٍ، وهم أعْرابُ العَجَم...... فحين لم تشغلهم الصّناعاتُ، ولا التِّجاراتُ، والطِّبُّ، والفِلاحةُ، والهِندسةُ، والبُنيانُ، ولا شقُّ أنهارٍ، ولا جِبايةُ غَلاّتٍ، ولم يكن همّهُم غير الغارةِ، والغَزوِ، والصّيدِ، ورُكُوبِ الخيلِ، ومُقارعةِ الأبْطال، وطلبِ الغنائمِ، وتَدْويخِ البِلاد، كانت هِممهُم إلى ذلك مَصْرُوفةً، وكانت لهذه المعاني مُسخَّرةً، ومقصُورةً عليها، وموصُولةً بها، أحكمُوا ذلك الأمرَ بأسرِهِ، وأتوا على آخره، وصارَ ذلك هو صِناعتهم وتِجارتهم ولَذتهم وفَخرهم وحَديثهم وسَمَرهم، فلما كانُوا كذلك صارُوا في الحَرَب كاليُونانيين في الحِكمة، وأهلِ الصِّين في الصِّناعة، والأعْرابِ فيما عَددنا، وآلِ ساسان في المُلك والرِّياسة". وهُو لا يعترفُ- بذا – للأتراك بثقافةٍ يَنمازُون بها، فقد وقفت بداوتُهم المُغرقةُ حائلاً مَنيعاً أمام رُقيهم في سُلمِ الحضارةِ، ولم تتشكل بِداعٍ من ذلك عناصرُ ثقافةٍ تُركيّةٍ خاصّة بهم.
ولعلّ الجاحِظَ اعتقدَ هذا الرّأي الذي يحصرُ الثّقافةَ في أُممٍ، ويستثني أُمماً أُخرى، بناءً على ما تناهت إليه معرفتُهُ بثقافاتِ هذه الأُمم التي أُتيحَ له أن يَتواصلَ مع تُراثها تَواصلاً جيّداً، عن طَريقِ النّقلِ النَّشطِ في ذلك العصر. وما من ريبٍ في أنّ الجاحِظَ عَرَفَ أُمماً أُخرى لها ثقافاتها القَوميّة، لكن لم يَتسنَّ له أن يطّلع عليها اطّلاعاً كافياً. وقد يكونُ دليلُ ذلك ما يتناثرُ في آثارِهِ الباقيةِ من إشاراتٍ إلى بعضِ تلك الأُمم كالدّيلمِ والأكْرادِ والخَزَرِ والصِّينيين والصّقالبةِ والبَرْبَرِ وغَيرهم. بيدَ أنَّ تلك الإشارات – على قيمتها – لم تفِ بِتَشكيلِ رُؤيةٍ واضحةِ المعالمِ لموقفِ الجاحِظِ الثَّقافيِّ من هذه الأجناسِ، بعد ما وضعنا أمام حُكمٍ يُثيرُ إشكالاً حقيقيّاً، إذ يفتحُ على الجاحِظِ باباً من الاعتراضِ، يَسقطُ منه الدّليلُ على بعضِ مناطقِ الضّعفِ في موقفهِ من الثَّقافاتِ الأجْنبيّةِ الوافدةِ.

المَلامحُ الرّئيسةُ في مَوقفِ الجاحِظِ
تراوحت المواقفُ التي اتّخذها أبو عُثمان منَ الثّقافاتِ غيرِ العَرَبيّة بينَ أربعةِ مَواقف يمُكن لِلدّارس أن يستجليها بالنّظر، وهذه المواقفُ- كما يُستبان- هي: مَوقفُ القَبول، ومَوقفُ الاعتذار، ومَوقفُ الشّكِّ، ومَوقفُ الاعتراض. وتَجهدُ هذه الدِّراسةُ في سَبيلِ إلقاءِ ضَوءٍ على كُلِّ مَوقفٍ من هذه المواقف التي توصّل إليها البحثُ استقراءً بالرُّجوع إلى كِتاباتِ الجاحِظِ نفسِهِ، وفي مُقدمتها كتاباه المشهُوران: "الحَيَوان"، و"البَيان والتّبيين"، فضلاً عن آثارٍ أقلّ قيمة من ذينكَ المصدريْن المُهمّيْن، ابتغاءَ أن تكون النّظرةُ إلى الموقفِ الكُليّ دَقيقةً ومَنهجيّةً بقدرِ ما تأذن به الرُّوحُ العِلمّية. وقد قَصَدَ الباحثُ أن تكون النّظرةُ مُستمدةً من مورُوثِ الجاحِظِ نفسِهِ، من أجل تبيّنِ حَقيقةِ تلك الرُّؤية من الدّاخل، بعيداً عن المُؤثراتِ الخارجيّة.
أوّلاً: مَوقفُ القَبَول
يتمثّل مَوقفُ القَبول في نَظرةِ الجاحِظِ الإيجابيّةِ إلى الثّقافةِ الإنسانيّةِ، وهي نَظرةٌ قَوامُها احترامُ ما عند الآخر ما دام مُنْسجماً مع مبدأ المنفعةِ التي تعودُ بالخيرِ على بني البَشر، مُوافقاً للعَقل، بعيداً عن التّعصبِ والانغلاق. فهو يرى في هذا السّياق أنّ لكُلِّ أُمّةٍ من الأُمم إبداعاتها وإنجازاتها الحضاريّة والثّقافيّة التي تعـتدُّ بها، وأنّ كُلَّ أُمّةٍ أهدت إلى الحضارةِ الإنسانيّةِ أثمنَ هذه الإبداعات والإنجازات. فهو يُثمّن بيدِ الشُّكر- مِثالاً- ما قدّمته الحضارةُ الهِنديّةُ إلى الفِكرِ العِلميّ من كُشُوفٍ حِسابيّةٍ رَقميّةٍ عاد جناها على البّشريّة برُمّتها: "ولولا خُطُوطُ الهِند لضاعَ من الحِسابِ الكثيرُ والبسيطُ، ولبطلت مَعرفةُ التّضاعيف".
ويُشيدُ- في غيرِ مُناسبةٍ- بما حقّقته الأُممُ من مُنجزٍ حضاريٍّ تعدّدت صُورهُ وأشكالهُ ومجالاتُهُ، كذكره ما تهيّأ للهِنودِ من نُبوغٍ في عُلُومٍ وفُنُونٍ عدّةٍ كالصّيدلةِ والطّبّ والنُّجوم والسّحر والنّحت والتّصوير والنّبات والصّيرفة والغِناء والطّعام والألعاب، ولا يفوته أنّ يدلّ على حِكمتهم التي استودعها كتاب "كَليلة ودِمنة". ويُطري – بالمِثلِ- تَفوّقَ الصِّينيين في ألوانٍ من الصّناعات، ويُشيدُ كذلك بمدى تفوّقِ الفُرسِ في الحِكمةِ والخَطابةِ والسّياسة، واليُونان في صِناعةِ الفَلسفةِ والمَنطقِ وعُلُومِ الكلام.
ويبيّنُ أنّ تلك الأُمم تَسْعى جاهدةً في سَبيلِ حِفظِ ثَقافتها، واسْتبقاءِ تُراثها، بصُورٍ ووسائلَ شتّى، يقولُ: "فكُلُّ أُمّةٍ تَعتمدُ في استبقاءِ مآثرها، وتحصينِ مناقبها، على ضَربٍ من الضُّروب، وشَكلٍ من الأشكال". ويَسوقُ أمثلةً على اختلافِ وسائلِ حِفظِ التُّراثِ الحَضاريِّ والثّقافيِّ عندِ بعضِ تلك الأُمم، فقد وجدَ أنّ العَجَم اعتمدوا البناءَ وتَشييدَ العَمائِر المُختلفة حِفظاً لتُراثهم، وأنّ العَرَب شاركُوهم هذا الصّنيع، فكان تُراثهم المِعماريّ: قُصوراً وحُصوناً وآطاماً وقِباباً وسُدوداً وقناطرَ وأعمدةً وأبواباً ونُصباً وغيرها وسيلتهم في استبقاءِ تُراثهم، على أنّ العَرَب – فيما يرى الجاحِظُ – عمدُوا إلى وسيلةٍ أُخرى لحفظِ ما لهم من مآثرَ، فكان الشِّعرُ دِيوانهم الذي حفظَ من تُراثهم ما لم يَستطعِ البُنيانُ حفظُهُ.
وضَرَبَ مِثالاً على عنايةِ الزَّنادقة - أشهرِ دُعاةِ الثّقافةِ الدِّينيّةِ الفارسيّةِ في ذلك العصر– بتُراثهم المُدوّن، إذ كانوا يجتهدُون أيّما اجتهادٍ في سَبيلِ العِنايةِ بكُتُبهم ومُدوناتهم، فيُعنون بتخيّر ورقها الأبيض النّقي، وحِبرها الأسود البرّاق، ويُغالون في استجادةِ الخطِّ والزَّخرفة، ويبذلُون من أجلِ ذلك أموالاً طائلةً، ويعدّون ذلك كُلّه ضَرباً من الدِّيانةِ والنُّسكِ والزُّلفى.
وخَلصَ الجاحِظُ إلى أنّ أدقَّ وسائلِ الحِفاظِ على المورُوث الثَّقافيِّ الأُمميّ تقييده بالكُتُب المُدونة التي تُعبّر عن حقيقةِ ذلك التُّراث أكثر من غيرها، يقولُ: "الكُتُب أبلغُ في تقييدِ المآثرِ من البناءِ والشِّعر"، وحُجّته في ذلك أنّ التُّراثَ الثَّقافيَّ أقدرُ على البقاءِ والصُّمود من التُّراثِ الحضاريّ الذي يتعرّضُ بسببِ انقلابِ الدُّولِ وتبدّلِ الممالكِ إلى العَبَثِ والتّدميرِ والهَدم من المُتسلّطين الجُدُد الذين لا يألون وسعاً في سبيلِ طَمسِ ما يقدرُون على طَمسهِ من المعالمِ الحضاريّةِ التي تشهدُ للدُّولِ التي انقلبُوا عليها.
ومضى يَضربُ أمثلةً واقعيّةً لما أصاب التُّراثَ المِعماريَّ المَشِيدَ- على مَدارِ حلقات التّاريخِ الإنسانيِّ- من مَعاولِ الهَدم والنَّقضِ، لأسبابٍ دِينيّةٍ وسياسيّةٍ، يقولُ: "والكُتبُ أولى بذلك من بُنيان الحجارةِ وحِيطان المَدَر؛ لأنَّ من شأنِ المُلُوك أن يطمُسوا على آثارِ من قبلهم، وأن يُميتوا ذكرَ أعدائهم، فقد هدمُوا بذلك السّببِ أكثرَ المُدنِ وأكثرَ الحُصُون، كذلك كانُوا أيّامَ العَجَم وأيّامَ الجاهليّة، وعلى ذلك هم أيّامَ الإسلام، كما هَدمَ عُثْمانُ صَوْمعةَ غُمْدان، وكما هَدمَ الآطامَ التي كانت بالمدينة، وكما هَدمَ زيّادٌ كُلّ قصرٍ ومصنعٍ كان لابن عامر، وكما هَدمَ أصحابُنا بناءَ مُدنِ الشّاماتِ لبني مَروان ".
ولَعلّ اللافتَ أنّ المُثُل التي يَسوقها الجاحِظُ تَقعُ ضمنَ دَوائرِ التّاريخِ الإسلاميِّ، وكأنّما أراد أن يُفارقَ بين جَوهرِ ما دعا إليه الإسلامُ من الحُريةِ وعدمِ الإكراه ودفعِ الضّررِ، وما مارسته طوائف من المُنتسبين إلى هذا الدِّين العظيم من سُلُوكاتٍ جافت ذلك الجوهرَ المِثالي النّبيلَ الذي رسمه لأتباعه. ولَعلَّ الجاحِظَ لم يجد في جَعْبته شَواهدَ حادثةً على ما تعرّض له التُّراثُ الثَّقافيُّ المُدوّن من كَوارثَ بمدعاةٍ من تَقلباتِ السّياسةِ التي أتت على كثيرٍ ممّا دوّنه المغلُوب من مَعارفَ وعُلُومٍ وفُنُونٍ أتلفها الغالبُ؛ انتقاماً من خصمهِ البائد، وما زلنا إلى اليومِ  وبعد الرُّقي الحضاريّ الذي وصلت إليه الشُّعوبُ والأُمم- نرى شَواهدَ مماثلةً من هذا الفعلِ الهَمجيِّ القَبيح.
وقد يكونُ الجاحِظُ مُحقّاً فيما ذَهبَ إليه من جِهةِ أنَّ التُّراثَ المُدوّنَ يَنمازُ عن التُّراثِ المشِيدِ بسيرورتهِ، وانتقالهِ من مكانٍ إلى آخر، ومن جِيلٍ إلى جِيل، فهو على تلك الحال قابلٌ لِلحِراكِ والرِّحلةِ والتّنقال، فالكتابُ الذي يُمثّل أرقى إنجازٍ ثقافيٍّ مورُوث يَسُهلُ نقلُهُ من مكانٍ إلى آخر، وإنْ سَلم من عوادي الدّهرِ أمكن انتقالُهُ من قَرنٍ إلى قَرن، على نحوِ ما انتقل إلينا كثيرٌ من تَرِكةِ التُّراثِ الخَطيِّ الذي أنتجته الحضارةُ العَرَبيّةُ الإسْلاميّةُ. وأمّا التُّراثُ المِعماريّ- كالصُّروح والقُصور والمباني العِظام- فإنّه يثبتُ – حتماً- في مكانِ بنائه لا يَِريمُ، ولا يَتزحزحُ ما تعاقب الزّمان.
وتعبيراً عن نَظرتهِ الإيجابيّةِ إلى الثَّقافةِ الإنسانيّةِ وقواسمها المُشتركةِ، قرّرَ الجاحِظُ أنّ البلاغةَ مُكْتسبٌ مُشْتركٌ في الأُمم كُلّها، فهي أمرٌ فِطريٌّ، فالإنسـانُ –عند الجاحِظِ – فَصيحٌ، وإنّ عبّر عن نَفسِهِ بالفارسيّة أو الهِنديّة أو الرُّوميّة، أو غيرِ ذلك من الألسنة. وفي مُكنةِ القارئ أن يلقى في كتاب "البَيان والتّبيين" أحاديثَ يسوقها الجاحِظُُ - هُنا وهُناك- عن البلاغةِ الأعجميّة: هنديّة وفارسيّة ويونانيّة ورُوميّة، مُعزّزةً بنماذجَ من الأدبيّاتِ النّقديّةِ الأجْنبيّةِ التي ترد حِيناً في صُورة أسئلةٍ وأجوبةٍ مُشافهةٍ، وحِيناً في صُورةِ صحائفَ مكتُوبة نَقَلَ الجاحِظُ نُصُوصَها المُترجمةَ، وقد ترد في أحايينَ أُخرى في غيرِ ذلك من الصُّور.
وانْدغاماً مع هذه الرُّؤية، ذَهَبَ الجاحِظُ إلى قَولتهِ النَّقديّةِ المشهُورة: "المعاني مَطرُوحةٌ في الطّريقِ يعرفها العَجَميُّ والعَرَبيُّ"، ولئن كان القُدماء والمُعاصرُون أفاضُوا في تأويلِ هذه المَقولةِ وتَفْسيرها على وجوهٍ كثيرةٍ، ومن أنحاء مُتعددةٍ، فإنّ الباحثَ ينظرُ إليها – فضلاً عن تلك الأنْظار- من بُعدٍ آخر، فيجد أنّها تحملُ في أعْطافها دَليلاً ناصعاً على مدى إيمانِ قائلها بالرَّوابطِ المُشتركةِ التي تَقومُ بينَ الثَّقافاتِ المُختلفة التي تَتفاعلُ عناصرُها وتتلاقحُ أفكارُها، بما يُفضي إلى تلاقي المعاني في التّعبيرِ عن الفِكرِ الإنسانيِّ المُشْترك.
كما قرّرَ بالمِثل أنّ الحِكمةَ إحدى المكنُونات الموجُودة عندَ كُلِّ أُمّةٍ من الأُمم، وأنّها ليست حِكراً على أُمّةٍ بعينها، يقولُ: "ووجدنا كون العالمِ بما فيه حكمة". وهكذا، فإنّ الجاحِظَ يُقدّم ما يُعزّز موقفَهُ، فهو يُؤمنُ بالرّوابطِ المُشتركةِ التي تلتقي عندها الثّقافاتُ، ودِلالةً على ذلك أنّه نحى ببعضِ تآليفهِ منحى العالميّة، في منظُورِ ذلك العَصر، فقد نَشَدَ لِكتابهِ الموسُوعيّ "الحَيَوان" أنْ يكون كتاباً أُمميّاً: "تَسْتوي فيه رغبةُ الأُمم، وتَتَشابه فيه العُرْب والعَجَم؛ لأنّه وإنْ كان عَربيّاً أعْرابيّاً وإسْلاميّاً جَماعيّاً، فقد أخذَ من طُرفِ الفلسفةِ، وجمعَ بين مَعرفةِ السّماعِ وعِلمِ التّجربة". ولَعلَّ هذه الوِجهة المُبكرة تكون من أسبقِ المُثُلِ على تَفكيرِ المُؤلّفِ العَرَبيِّ – قَديماً – في تَقديمِ لونٍ جديدٍ من الكتاباتِ التي تتغيا العالميّةَ، مُفيدةً من امتدادِ آفاقِ الثَّقافةِ العَرَبيّةِ وتجلياتها الكَونيّة.
وبناءً على قَبول الجاحِظِ بالثَّقافاتِ الأجْنبيّة، مضى يبذرُ في نِتاجه العِلميِّ أشتاتاً من المأثُورات المنقُولةِ عن الفلاسفةِ والحُكمـاءِ غير العَرَب، ممّا وجد فيه نَفعاً وفائدةً، وسَبيلاً إلى العِبرةِ والعِظة، ولَعلَّ نُقولَهُ عن مشاهيرِ اليُونان كأرسطو وإقليدس وجالينيوس وأبقراط وبطليموس وأفليمون وديمقراط وديسيموس وغيرهم تكون أوضح المُثُل على هذا المنحى، فضلاً عمّا نلقاه مبثُوثاً في كِتاباتهِ من منقُولاتٍ، ولا سيّما عن مشاهيرِ الفُرس، والهُنود، وغيرهم من الشُّعوبِ والأُممِ القديمةِ كالصِّينيين والرُّوم والتُّرك والزِّنج. وقد شكّلت المادةُ المنقولةُ عن أرسطو – خاصّةً- رافداً مُهماً من الرَّوافدِ التي استمدَّ منها مَوادَّ كتابه "الحَيَوان"، ولا سيّما أنّ أرسطو كان سبّاقاً إلى التّأليفِ في هذا الموضُوع قبل الجاحِظِ بقُرونٍ طويلةٍ.
ويُمكنُ لِلنّاظرِ في تاريخِ حَركةِ التّأليفِ عندَ العَرَب أن يَتبيّن بجلاءٍ أنّ الجاحِظَ كان من عُلماءِ الصّدرِ الأوّلِ الذين أخذُوا يَتوسعُون في استيعابِ أشتاتٍ من المنقُولاتِ الأجْنبيّةِ فيما يضعُونه من تصانيفَ اتّخذت سَمتَ كُتُبِ الأدبِ العام. وإذا كان ابنُ المُقفّعِ ولَفيفٌ من الكُتّاب الفُرس المُتأثرين به ذرعُوا هذه السّبيل، ونَدَبُوها لمن بعدهم، فإنّ الجاحِظَ- المُعتدَّ بالثّقافةِ العَرَبيّةِ الإسْلاميّةِ- استطاعَ أن يَجعلَ هذا الاتجاهَ أكثرَ انضباطاً، وأجدى تَوظيفاً، بما ينفعُ الثَّقافةَ العَرَبيّةَ الإسْلاميّةَ نفسَها، ويَعودُ بالثِّمارِ الإيجابيّةِ عليها.
واعترافاً بِفضلِ ما قدّمه عُلماءُ العَجَم من جُهُودٍ لا يَصحُّ نُكرانها، رأى الجاحِظُ أنّ كُتُبهم الحكميّة أعمّ نفعاً، وأبقى فائـدةً من الشِّـعر، وهو لا يَخصّ -ههُنا- الشِّعرَ العَرَبيَّ، بل ينظرُ إلى النّوعِ الأدبيِّ، مع إطباقِ الطَّرفِ عن بيئةِ إنتاجهِ، أو جِنسِ مُنْتجهِ. فقد ذهبَ إلى تسمية الحِكمة "الأدب المبسُوط"، بينما سمّى الشِّعر "الأدب المقصُور" وهما تسميتان لهما دِلالاتٌ نقديّةٌ واضحةٌ، تُفصحُ عن رأى الجاحِظِ في تَفضيلِ الحِكمةِ على الأدبِ، بالنّظرِ إلى مدى تحقّقِ المُتعةِ والمَنفعةِ في اللّونين كِليهما.
وهو لا يُقلّلُ من قِيمةِ الأدبِ الذي يَقتصرُ نَفعُهُ على أصحابهِ ومُتذوقيه، بما يُحقّقه من لَذةٍ ومُتعةٍ وجمالٍ، بل يُقرّرُ صَراحةً أنّ المورُوثَ العِلميّ أمسُّ بالحياةِ وأنفعُ للبقاءِ، وأخدمُ للجنسِ البَشريّ، من المورُوثِ الأدبيّ، من غيرِ إنكارٍ لأهميته.
وانتقلَ بموضُوعيّةٍ مُتجرّدةٍ إلى الاعترافِ بأسبقيّةِ الثَّقافةِ اليُونانيّةِ لِلثَّقافةِ العَرَبيّةِ، بما يُوجبُ الإقرارَ بعَراقةِ الثَّقافةِ السّابقةِ، من غيرِ انتقاصٍ لِقيمةِ الثَّقافةِ المسبُوقةِ، وهو يضعُ يدَهُ –هُهنا- على العاملِ التّاريخيِّ الذي وقفَ إلى جانبِ الثَّقافةِ اليُونانيّةِ الضّاربةِ في عُمقِ الزّمن، يقولُ: "وأمّا الشّعرُ، فحديثُ الميلادِ، صغيرُ السّنِ، أوّلُ من نَهَجَ سَبيلَهُ وسَهّلَ الطّريقَ إليه امرؤ القَيْس بنُ حُجر ومُهَلهل بنُ رَبيعة، وكُتُبُ أرسطو طاليس، ومُعلمه أفلاطون، ثُمَّ بطليموس وديمقراطس، وفُلان وفُلان، قبلَ الشِّعرِ بالدُّهورِ قبلَ الدُّهورِ، والأحْقابِ قبلَ الأحْقاب" وهو يُقرّرُ صَراحةً أنّ الحِكمةَ اليُونانيّة ولدت قبلَ الشِّعرِ العَرَبيِّ بزمنٍ طَويلٍ، ممّا أكْسبَ الثَّقافةَ اليُونانيّةَ عَراقةً بداعٍ منَ السّبقِ والقِدم.
وأفْضى مَوقفُ القَبول بالجاحِظِ إلى التّأثرِ بالأفكارِ والآراءِ التي اطّلع عليها تأثراً واضحاً، فقدَ استمدَّ من المورُوث اليُونانيّ والفارسيّ والهِنديّ، وشكلّت هذه الثّقافاتُ مَورداً مُهماً أمدّه بطاقاتٍ جديدةٍ في الكِتابةِ، ولا شكَّ أنّه وقفَ في المورُوثِ الثَّقافيِّ غيرِ العَرَبيّ الذي طالعهُ على أنماطٍ جديدةٍ من التّفكيرِ والبحثِ لم تكن مألُوفةً من قبلُ، فأفاد منها مادةً ومَنْهجاً، وطَوّر – مُوظفاً مُعطياتها- من أساليبِ تَفكيرِهِ وطَرائقِ تناولهِ الموضُوعات.
ومن مظاهرِ هذا التّأثر أنّه لجأ في مَواقفَ عِدّةٍ إلى الاستعانةِ بمقُولاتِ أرسطو العِلميّة، سواء في تأييدِ وجهةِ نظرِهِ، أو الردِّ على المُخالفين له، ورُبّما اعتمدَ رأي أرسطو لِبيانِ عدمِ صحةِ بعضِ الأفْكارِ غير العِلميّةِ الشّائعةِ. وحسب النّاظر أن يُلقي نظرةً على المادّةِ الثَّقافيّةِ الأجْنبيّةِ التي استقاها الجاحِظُ في كتابه "الحَيَوان"، ممّا يقومُ دليلاً على اتّساعِ الأُفقِ الجاحِظيِّ وفاعليتهِ، وقُدرتهِ على استيعابِ الآخرِ، واستدعاءِ ألوانٍ من ثقافتهِ، من غيرِ انغلاقٍ وتقوقعٍ.
والحقُّ أنّ تأثّرَ الجاحِظِ بالثَّقافاتِ غيرِ العَرَبيّة تَلامَحَ في مواقفهِ الأدبيّةِ والنّقديّةِ والفكريّةِ، كما تراءى في مَنهجهِ وطَريقةِ بحثه، ممّا بَسطهَ نَفرٌ من الباحثين في هذه البابة. وليسَ من مَدْفَعٍ في أنّ الجاحِظَ اطّلعَ على الثَّقافاتِ غيرِ العَرَبيّة، وتأثّرَ بمُعطياتها، فذلكم هو البَدهيّ الذي لا يَستطيعُ أحدٌ إنكاره. بيدَ أنّ نَفراً من أُولئك الدّارسينَ أعينهم ضَخّموا من شأنِ هذا الأثر، ونَفخُوا في جَوانبهِ، فأحالوا- مُبالغينَ- كثيراً ممّا خَرَجَ عن الجاحِظِ إلى المُؤثرِ الأجْنبيِّ، ونَسبُوا طائفةً واسعةً من آرائهِ وأفكارهِ وأُطروحاتهِ وإبداعاتهِ إلى الأثريْن: الفارسيّ واليُونانيّ، على وجهٍ خاصّ، ممّا أحال الجاحِظَ إلى مُتلقٍّ مُحـاكٍ، مع أنّه كان مُبدعاً أصيلاً، وكان - فضلاً عن ذلك- يَصْدُرُ عن وعي فيما يأخذهُ عن الآخر.
ويكفي أن يُشارَ في هذا السّياق إلى مِثالٍ واحدٍ على مَسألةِ مُبالغةِ بعضِ الدّارسينَ المُعاصرينَ في صَرفِ كثيرٍ من مَناحي العَطاءِ الجاحِظيِّ إلى مُؤثراتٍ أجْنبيّة، فقد ذَهَبَ شوقي ضَيف، بالرُّغم مما عُرفَ عنه – رحمه اللهُ- من وعي واعتدالٍ، إلى أنّ الجاحِظَ أقام رسالةَ "التّربيع والتّدوير" على فِكرةِ الأوساطِ التي استعارها من النّظريةِ الخُلقيّةِ اليُونانيّة.
ولا شكّ أنّ مِثلَ هذا القولَ لا يَقومُ عليه دَليلٌ، ولا تَسندهُ حُجّةٌ صَريحةٌ، بل هو مُحاولةٌ لِتفسيرِ إبداعِ الجاحِظِ، تنقصُها الأدلةُ الموضُوعيّةُ والفنيّةُ، فإنّ الجاحِظَ كان - بحُكمِ ثقافتهِ العَرَبيّةِ الإسْلاميّةِ العميقةِ- عارفاً بفِكرةِ الأوساطِ في أُصولها العَرَبيّةِ الإسْلاميّةِ، ولا شكَّ أنّه كان قادراً على الإفادةِ من طاقاتِ هذه الفِكرةِ من غير حاجةٍ إلى أن يَسْتعيرَها من اليُونان ما دامت موجُودةً - بشكلٍ أو بآخرَ – في ثقافتهِ العَرَبيّةِ الإسْلاميّةِ.
وإلى جانبِ ما تعرّضَ له الإبداعُ الجاحِظيُّ من استلابِ بَعضِ المُعاصرين، بإحالتهِ إلى مُؤثرٍ خارجيٍّ، اتّهمه بعضُ القُدامى بالسّطوِ على كِتاب أرسطو في "الحَيَوان"، يقولُ عبدُ القاهر البغداديّ في سياقِ تَشنيعهِ على الجاحِظيّةِ وانتقادهِ كُتُبَ الجاحِظِ: "ومنها كِتابُ (طبائع الحَيَوان)، وقد سلخَ فيه معاني كِتاب (الحَيَوان) لأرسطو، وضمّ إليه ما ذكره المدائني من حِكمِ العَرَب وأشعارِها في منافعِ الحَيَوان". وواضحٌ للعِيان أنّ التُّهمةَ التي يُطالعنا بها البغداديّ تُصيبُ الجاحِظَ في الصّميم، فهو أمام تُهمةٍ علميّةٍ قوامها السّلخُ من كُتُبِ الآخرين، فما حقيقةُ السّلخ؟ وأين يُمكن تصنيفُهُ من قضيةِ السّرقاتِ العِلميّة؟
إنّ السّلخَ الذي اُتّهم به الجاحِظُ ذُو صُورٍ وأشكالٍ عَديدةٍ تناولها النُّقادُ العَرَبُ القُدامى في بحثهم قَضيةَ السَّرقاتِ الأدبيّة، لَعلَّ أشهرها وأشيعها استبدالُ اللفظِ بمعنًى مُرادف له، وقد لجأ الجاحِظُ إلى هذا الصّنيعِ – فعلاً - مدفُوعاً إليه بداعٍ من رَكاكةِ الصّياغةِ التي كانت تُسيطرُ على كثيرٍ من التّرجماتِ العَرَبيّة المنقُولة عن اليُونان زَمنذاك، وقد أبدى تذمّرَهُ -غيرَ مرةٍ- من سُوءِ هذه المُترجمات ورَداءةِ أساليبها؛ ممّا جعلهُ – وهو صاحبُ الأُسلوبِ الأدبيِّ المُشرقِ – يَستبدلُ لَفظاً بلفظ، ويُعيدُ النّظرَ في تَركيبِ الجُمل؛ تطلّباً لقُوة العبارةِ، وحُسنِ سَبكهِا، ومُناسبةً للأُسلوبِ العَرَبيِّ المتين.
لقد تأثّر الجاحِظُ- من غير شكٍّ- بأرسطو تأثّراً قويّاً، وأفادَ منه إفادةً واضحةً في كِتاباتِهِ المُختلفة، لا سيّما في كتابه "الحَيَوان"، إذ كان أرسطو سبَّاقاً إلى التّأليفِ في هذا الموضُوع، وتتراءى مَسألةُ التّأثرِ- ههُنا- مَشْرُوعةً، بل لَعلّها تَبدو ضَروريةً، فالجاحِظُ وقد أخَذَ على نَفْسه أن يضعَ مَرجعاً عَرَبيّاً ضافياً في الحَيَوان، كان جَديراً به أن يَسلكَ مَنهجاً عِلميّاً يُفيدُ من الجُهُود التي سبقته في هذا المِضْمار، كما هي حالُ المُؤلفينَ المنهجيينَ الذين يَستكملُون ببحُوثهم مَعارفَ غيرهم، ويتواصلُون مع الأدبيّاتِ السّابقةِ فيما يتناولونه، كون المعرفة العِلميّة منطقة مُشْتركة، تتضافرُ فيها جُهُودُ السّابقِ واللاحق.
ومن هُنا، جاءت إفادتُهُ من أرسطو دليلاً على مَنْهجيته العِلميّة الرَّصينة، ورُبّما يكونُ الدليلُ على دقّةِ هذه المنهجيّةِ وموضُوعيتها أنّه صرّح بالنّقلِ عن أرسطو نَقْلاً صَريحاً في أكثر من ستينَ مَوضعاً من كِتاب "الحَيَوان"، وذكر في بضعةِ مَواضعَ كِتاب "الحَيَوان" لأرسطو صَراحةً. كما صَرّح بالنّقلِ عن المدائنيّ في أكثر من ثَلاثين مَوضعاً أيضاً. ومن المُؤكدِ أنّه تَركَ مَواضعَ أُخرى أومأ إليها إيماءً، أو تعمّد إغْفالها؛ لأنّ واقعَ التّوثيقِ العِلميِّ في عَصْر الجاحِظ كان لَيّناً، ولم يكن صارماً أو دَقيقاً، كما تَطْلبهُ المناهجُ العِلميّةُ الحديثة.وتَميلُ طريقةُ الجاحِظِ في النّقلِ عن أرسطو إلى تَسجيلِ المعنى العام أحياناً، وقد تظهرُ الحقائقُ المُتفرقةُ عند أرسطو مُركّزةً عند الجاحِظِ، وقد يُعقّب الجاحِظُ على رِواياتِ أرسطو، أو يَشكّ فيها، فهيبةُ أرسطو العلميّة لم تكن لتقفَ حائلاً مَنيعاً من أن يت
ّخذَ الجاحِظُ مَوقفَ الشَّكِّ، أو الردّ، أو النّقدِ لهذه الرِّوايات التي نقلها، لا أن يأخذها مُسلّمةً على سَبيلِ الحقائقِ العِلميّةِ التي لا تَقبلُ الأخذَ والردّ.وهكذا يمُكن القولُ: إنّ الجاحِظَ لم يَرضَ أن يكون مُقلّداً لأرسطو، أو ناقلاً، بل أراد أن يكون ندّاً، أو مُنافساً له، يُباريه في هذا المِضمار، ويعترضُ عليه، وينتقدُ آراءه، ما دام يَنطلقُ مُنطلقاً عِلميّاً صِرفاً. فالجاحِظُ – على الرُّغم من تأثّرهِ بأرسطو – عَرَضَ مقولاتِهِ غير العِلميّةِ على المِحكّ، وراح يردّ عليها، ناقداً حيناً، ومُفنّداً حيناً آخر. أيّ إنّ قَبُولَ الجاحِظِ بالآخر لم يكن حائلاً من توجيهِ النّقدِ إليه.
ثانياً: مَوقفُ الاعْتِذار
وحتى لا يُساء إلى الثَّقافاتِ الأجْنبيّةِ المنقُولةِ إلى اللّسانِ العَرَبيِّ فتُحمّل ما لا تَحتمل، وتُفسّر على غير الوجهِ الصّحيح الذي وضعت له أصْلاً، وَقَفَ الجاحِظُ مُعْتذراً عمّا أصابَ التُّراثَ المنقُولَ إلى العَرَبيّة من مُشوهاتٍ أفضت إلى اختلالهِ واستغلاقهِ، حتى جاءت كُتُبه "مُختلفةً منقُوصةً مظلُومةً مُتغيرةً". واتّهم فريقاً من التّراجمةِ والنّقلةِ الذين خانُوا هذا التُّراث إذ لم يفهمُوا كُنههُ، ولم يتهيّأ لهم الوقُوف على مراميه الدّقيقة.
ورأى أنّ التُّرجمانَ مهما كانت مُكنته في اللُّغةِ الأُخرى، فإنّه لا يَستطيعُ الوفاءَ بحقِّ الفِكرةِ التي رام صاحبُها التّعبيرَ عنها، يقولُ: "ومتى كان – رحمه اللهُ – ابنُ البطريق وابنُ ناعمة وابنُ قُرّة وابنُ فِهريز وثيفيل وابنُ وهيلي وابنُ المُقفّع مثل أرسطا طاليس؟ ومتى كان خالد مثل أفلاطون؟". ويقولُ في موضعٍ آخر: "ولن تجد مُترجماً يفي بواحدٍ من هؤلاء العُلماء". فهو يُفارقُ بين صَنيعِ المُؤلفينَ وتشويهِ المُترجمينَ، ممّا أساءَ إلى الأصلِ، وحرّفهُ عن وِجهتهِ المقصُودة.
وساق الجاحِظُ – في غير مَوقفٍ- اعتذارياتِهِ عمّا نقل المُترجمون الحرفيّون من كلامِ أرسطو، فخرجَ مُشوّهاً على غير ما أراد له واضعُهُ، يَقولُ في مَعرضِ تَعليقهِ على خَبرٍ وَرَدَ في النُّسخةِ المُترجمةِ من كِتاب "الحَيَوان" لأرسطو: "ولا أعلمُ هذا من قَولِ صاحبِ المنطقِ.... ولعلّ المُترجمَ قد أساء في الإخْبارِ عنه". وشخّصَ الجاحِظُ الإشْكالَ الواقعَ فيما نُقل من تُراثِ الأُممِ الأُخرى، فعزا ذلك إلى كَذبِ التّراجمةِ وتزيدِهم وسُوءِ فَهمهم، مع جَهلِ طائفةٍ منهم بدَقائقِ اللُّغةِ التي يَنقلُون عنها.
وأضافَ إلى ذلك فِعلَ النُّساخِ في تَشويهِ المنقُول، وقد عدّ الجاحِظُ صَنيعَ هؤلاء النَّسَخَةِ آفةً من أعظمِ الآفاتِ التي ابتُلي بها التُّراثُ الأجْنبيُّ المُعـرّب، إذ عاثت أيديهم فَساداً في النَّسخِ الخاطئ الذي يُخْرجُ الكَلامَ عن حَدّه، وقد تَعظمُ البَليةُ- في نظرِ الجاحِظِ- إذا تَعاورَ النُّساخُ على نُسخةٍ مُحرّفةٍ أعجزهم تَصحيحُها، وإصلاحُ السّقطِ فيها، فعند ذلك نَصيرُ أمام نُسخةٍ شوهاءَ ضَرَبَ الخطأُ فيها أطنابَهُ، واستغلقَ الفَهمُ على قارئها.
ولم يُغفل أبو عُثمان الإشارةَ إلى العامل التَّاريخيّ الذي فَعَلَ فِعلتهُ في هذا التُّراث تَحريفاً وتَشويهاً، فإنّ التّقادمَ والتّعاقبَ وانْفساحَ الزّمنِ بين تأليفِ هذا التُّراث بلُغاته الأصيلةِ وترجمته إلى العَرَبيّة أتى بجناياته على هذا التُّراث، وجرَّ عليه من الفسادِ والتّشويهِ ما يستوجبُ التّماسَ العُذرِ لمؤلفيه، يقولُ: "فما ظنّكم بكِتابٍ تتعاقبه المُترجمون بالإفساد، وتتعاوره الخُطّاطُ بشرٍّ من ذلك، أو بمثله، كِتابٍ مُتقادمِ المِيلادِ، دَهريّ الصّنعة ".
واعْتذرَ- في السّياقِ نفسهِ- عما يَعْتري قارئَ الكُتُبِ اليُونانيّة - ككُتُب أرسطو وإقليدس خاصّةً- من سُوء الفَهم، حتى لو كان القارئُ بليغاً مُتمكّناً من اللُّغة. وليسَ هذا الأمرُ عائداً – وَفقَ تَفسيرِ الجاحِظِ– إلى استغلاقِ النّصِّ اليُونانيّ المُصفّى الذي أجاد المُترجمُ نَقلَهُ، وإنمّا يَرجعُ إلى طَبيعةِ الصّياغةِ الكلاميّة، بما يَسودها من الاصطلاحِ المنطقيِّ الخاصِّ الذي لا يتأتّى لِلبليغِ أن يَفهمهُ، ويعرفَ دِلالاتِهِ الدّقيقة ما لم يُعانِ مَعرفةَ تلك الدِّلالات، ويتمرّس في فَهم حُدُودها ومَراميها، ويُدرك الطّرائقَ الفنيّةَ التي يستعملها المناطقةُ في كِتاباتهم التي لا تُقرأُ على ظاهرِ ما تُقرأُ عليه غيرُها من الكُتُبِ الأُخرى.
ووقفَ أبو عُثمان في بَعضِ الأحايين مُعْتذراً عن نفسهِ إذ لم يكن في مُكنتهِ الفَصْلُ في الإشْكالِ الواقع، ولا سيّما في الأخْبار المُتناقضة والرِّواياتِ المُختلّة، بما يُفضي إلى تَبيّن وجهِ الحقيقةِ العِلميّةِ فيها. ومن هذا الموقفِ المنهجيِّ، يَسقطُ دَليلٌ آخرُ على مدى ما كان يتحلّى به الجاحِظُ من موضُوعيّةٍ، إذ سَلَكَ سَبيلَ العُلماءِ في التّوقّفِ في اتّخاذِ الحُكمِ إذا استشكلت الرُّؤيةُ وضاق فضاؤها، وعَسُرَ تبيّن وجه الصّوابِ مِنْ بَعدُ.
ثالثاً: مَوقفُ الشَّكّ
ووقفَ الجاحِظُ مَوقفَ الشَّكِّ في طائفةٍ من الأفكارِ التي مرّت به، وهو يَدرسُ الثَّقافاتِ الأُخرى، ولا سيّما تلك الأخْبار التي لا يطيقُ العَقلُ قَبولها، وتقومُ في النّفس أشياء تدعُو إلى عَدمِ مَنحِها الثّقة، بمعنى أنّه لم يكن ليطمئن إلى كُلِّ ما كانت تَقعُ عينُهُ عليه من مَقولاتٍ هُنا وهُناك، وإنْ كانت صادرةً عن كِبار العُلماءِ المُحقّقين كأرسطو الذي مضى الجاحِظُ – مع تأثره به – يُثيرُ الشُّكوكَ حولَ كثيرٍ من الآراءِ التي حكاها، ولا سيّما في موضُوعِ الحَيَوان الذي أعاده الجاحِظُ إلى مأدُبةِ البحثِ من جَديدٍ بعد ما رأى أنّ قدراً ممّا ساقه أرسطو – على الرُّغم من رِِيادته – لا يَرقى إلى مُستوى القَبولِ، أو التّصديقِ، بسببِ مُجافاتهِ الواقعَ، أو تعارضهِ مع العَقل، أو مُخالفتهِ التَّجربةَ والعِيان.
وراحَ يَعرضُ علينا طائفةً من الأخْبارِ الغَريبةِ الأرسطيّة مُصّدراً أكثرَها بعبارتهِ النّمطيّةِ: "زَعَمَ صاحبُ المنطق......"، وقد ترددت هذه العبارةُ في كِتاب "الحَيَوان" عشرات المرات. ولَعلّ استفتاحَ العبارةِ بـالفعل "زَعَمَ " يُوحي بموقفِ الجاحِظِ المُتشكِّكِ بما يَقولهُ أرسطو، حتّى إنّه ليجعلُ قَوْلةَ أرسطو تلك زَعماً، أيّ مَحضَ قَولٍ تنقصهُ الأدلةُ التي تَـعضدُهُ.
وأعْملَ الجاحِظُ مَنهجَ الشَّكِّ – بالمِثل- في العَديدِ من المرويّات التي نقلها عن الفُرسِ والهُنودِ، وكثيراً ما طالـعنا بشكُوكهِ التي تدورُ حول "الزّعم" الذي دمغَ به كثيراً من آراءِ أرسطو، من مثل قوله: "زَعَـمَ /تَزْعُمُ الفُرس...."، و"زَعَمَ المجوس...."، و" زَعَمَ زرادشت...."، و" تَزْعُمُ الهِند...."، و"زَعَمَ الهِنديّ صاحبُ كِتاب الباه"، ونظائر هذه العبارات التي تَشفُّ بجلاءٍ عن مَوقفِ الشَّكِّ العِلميِّ الذي رسخّه الجاحِظُ ونبّه إلى مُوجباته المنهجيّةِ حين قالَ: "فاعرف مَواضعَ الشّكِّ وحالاتها المُوجبة، لِتعرفَ مَواضعَ اليقينِ والحالاتِ المُوجبة له".
وقادَ هذا الموقفُ المَنهجيِّ الجاحِظَ إلى الشَّكِّ في المورُوثِ النَّثريِّ الفارسيِّ الذي كان يَغمرُ الأوساطَ الأدبيّةَ في العَصرِ العبّاسيّ، من رسائلَ وسيرٍ وعُهُودٍ ووصايا، وغيرها من الأجناسِ الأدبيّة، ممّا شاعَ تداولُ ترجماتِهِ آنذاك، إذ رأى أنّ هذه المأثُوراتِ التي عُزيت إلى العَصر السّاسانيّ رُبّما تكونُ من صَنيعِ الكُتّاب، أو التّراجمة، ذَوي الأُصولِ الفارسيّة، ألّفوها على نَسقِ ما هو منقُولٌ عن الفُرس، ونحلُوها بني قَومهم، إمّا رَغبةً في التّكثرِ، وإمّا إظهاراً لِلتميز، إذ ليس ثمّة ما يُؤكّدُ أن تكونَ تلك المنقُولات "صحيحة غير مصنُوعة، وقديمة غير مولُدة، إذ كان مِثلُ ابنِ المُقفّع وسَهلِ بن هارون وأبي عُبيدِ الله وعبدِ الحميد وغَيلان يَستطيعُون أن يولّدوا مِثلَ تلك الرّسائل، ويصنعُوا مِثلَ تلك السِّير". ولَعلّ مقولةَ الجاحِظِ هذه تكونُ من أوائلِ الإشاراتِ النّقديّةِ العَرَبيّةِ- على قِلتها- إلى مسألةِ النّحلِ الواقعِ في الفنِّ النّثريِّ، بعد ما طالعتنا إشاراتٌ كُثرٌ إلى مسألةِ النّحلِ في الفنِّ الشِّعريّ.
وفي السّياقِ نَفْسهِ، أبدى الجاحِظُ شَكّه في كثيرٍ من المرويّات التي عُزيت إلى كَعْب الأحْبار مّما يُعرفُ بـ "الإسرائيليات"، وأظهرَ الشَّكَّ من جانبين: أحدهما أنْ يكون النّاقلون تزيّدوا في الوضعِ عليه، فنسبُوا إليه ما لم يقل، أو نسجُوا على غِرار الأخْبارِ والمرويّاتِ التي كان يُحدّث بها فعلاً. وثانيهما أنْ يكون كَعْب نفسُهُ وضعَ أخباراً وحكاياتٍ ثمّ نحلها بني إسرائيل. والوجهان مُحتملان، وإن كان أولهما أسلم في توجيهِ القضيةِ من اتّهام كَعْبٍ بالوضع، فهو – فيما نعتقد- أجلّ من أن يقومَ بفعلٍ كهذا. والوجهان يُعبّران في نِهاءِِ الأمرِ عن مدى قُوةِ حاسةِ الشَّكِّ عند الجاحِظِ، وإخضاعهِ التُّراثَ الدِّينيَّ المنسُوب إلى الأُمم الأُخرى إلى المُحاكمةِ والنّقد.
رابعاً: مَوقفُ الاعْتراض
أفضى مَوقفُ الجاحِظِ المُتشكّكِ إلى تَسجيلِ اعتراضاتِهِ النّقديّةِ على الثَّقافةِ الأجْنبيّةِ التي تواصلَ معها، وهو يَنطلقُ في ذلك من اعتدادِهِ بالثَّقافةِ العَرَبيّةِ الإسْلاميّةِ وإيمانهِ بتميّزها، فالعَرَبُ عنده "الحُجّةُ على جميعِ أهلِ اللُّغات"، وهو يُؤسسُ هذا الرّأي استناداً إلى رُؤيةٍ دِينيّةٍ، ناظراً إلى نُزولِ القُرآنِ الكَريمِ باللّسانِ العَرَبيِّ المُبين. ولكنّه لا يَعدمُ -في الوقتِ نَفْسهِ- في العَرَبِ مِيزاتٍ تجعلهم – في نظرهِ – أنطقَ وأبينَ من غيرهم، فهو يُشيرُ إلى ما اجتمعَ في العَرَبيِّ نَفْسهِ من القُدرةِ الفائقةِ على البَديهةِ والارتجالِ والاقتضابِ ممّا لا يَقدرُ عليه غيرُهُ.
ويتحدّثُ في الجانبِ الآخر عمّا تختزنهُ العَرَبيّةُ نفسُها من طاقاتٍ تَشهدُ بسعتها وقُدراتها التّعبيريّة وغِنى دِلالاتها. ولكنّه فيما يُقابلُ ذلك، وقفَ من اللُّغاتِ الأُخرى مَوقفاً إيجابيّاً، فلم ينظر إليها نَظرةً تَحطُّ من شأنها، بل لم يتردد في الإشادةِ ببعضِ الألسنةِ، والإطراءِ على مَلَكاتها التّعبيريّة، فهو يرى أنّ لِسان الزِّنج- ولعله يُريد لِسان الأحابيش- يَنمازُ عن غيرهِ من الألسنةِ بالخفّةِ واليُسر، يقولُ: "وليسَ في الأرضِ أحسن حُلُوقاً منهم، وليسَ في الأرضِ لُغة أخفّ على اللِّسانِ من لُغتهم، ولا في الأرضِ قَومٌ أذرب ألسنة، ولا أقلّ تمَطيطاً منهم".
وليس بالمُكنةِ أن نتبيّن على وجهِ الحقيقةِ إذا ما كان الجاحِظُ حكى ما حكاه على لُغةِ الحبشان تأسيساً على مَعرفتهِ الدّقيقةِ بلُغتهم، وقد أورد شيئاً من ألفاظهم في بعضِ كُتُبه، ولا سيّما أنّ أعداداً هائلةً منهم كانت تقطنُ البَصرة – مَوطنَ الجاحِظ- تَعملُ في سِباخةِ الأرضِ والخِدمة، أم كان ناقلاً رأي العارفينَ بذاك اللَِّسان؟
وفارقَ الجاحِظُ أثناء مباحثه البيانيّة بين البلاغةِ العَرَبيّةِ والبلاغةِ الأعجميّة، فبيّن أنّ قِوام الأُولى البديهة والارتجال، وأنّ قِوام الأُخرى التّفكير والمُعاودة، وهو فَرقُ ما بين الطّبع والتّكلّف، فالعَرَبيّ – عند الجاحِظ- ذُو مقدرةٍ لِسانيّةٍ فائقةٍ، فإذا تكلّم جاء كلامُهُ طبعاً وإبداعاً من غير عَناءٍ، بينما لا يجئ كلامُ الأعجميّ إلاّ عن نظرٍ ومُدارسةٍ ومَشقّةٍ، يقولُ: "إلاّ أنَ كُلَّ كلامٍ للفُرس، وكُلَّ معنًى للعَجَمِ، فإنّما هو عن طُولِ فكرةٍ واجتهادِ رأيٍ وطولِ خَلْوةٍ، وعن مُشاورةٍ ومُعاونةٍ، وعن طُولِ التّفكرِ ودِراسةِ الكُتُب وحِكايةِ الثّاني عِلمَ الأوّل، وزيادةِ الثّالثِ في عِلمِ الثّاني، حتى اجتمعت ثِمار تلك الفِكَر عند آخرهم. وكُلُّ شيءٍ لِلعَرَب، فإنّما هو بَديهةٌ وارتجالٌ وكأنّه إلهامٌ، وليست هُناك مُعاناة ولا مُكابدة، ولا إجالةُ فكرٍ، ولا استعانة، وإنمّا هو أن يَصرفَ وهمهُ إلى الكلام...... فتأتيه المعاني أرْسالاً، وتَنثالُ عليه الألفاظُ انْثيالاً.....".
واتّخذ الخَطابةَ مَعبراً لِنقدِهِ المُوجّه إلى الثَّقافاتِ غيرِ العَرَبيّة، فقد أخذَ على اليُونان – على الرُّغمِ من نُبوغهم في الفَلسفةِ والمنطقِ وعُلُومِ الكلام – ضَعفَ حَركةِ الخَطابةِ في بيئتهم، وقلّةِ من نال شُهرةً من خُطبائهم، حتى إنّ أرسطو نفسَهُ كان كما يقولُ الجاحِظ: "بكيءَ اللّسان، غيرَ موصُوفٍ بالبيان، مع علمهِ بتمييزِ الكلامِ وتفصيلهِ ومعانيهِ وبخصائصهِ"، ورأى - من بعدُ- أنّ العَرَب يُقدّمون على اليُونان في تعاطيهم هذا الفنَّ من فُنُونِ القول.
بيدَ أنّ رأي الجاحِظِ الذي تُؤيده حَقائقُ موضُوعيّةٌ كثيرةٌ واجه اعتراضاً شديداً من شوقي ضَيف الذي رأى أنّ الفنَّ الخَطابيَّ اليُونانيَّ كان مُزدهراً، بدِلالة ظُهورِ أنواعٍ من الخَطابةِ عِندهم، وشُهرةِ غير خَطيبٍ فيهم كديموستين، وتكلّلت هذه الحركةُ – كما يقولُ ضَيف- بوضعِ أرسطو كتابَهُ في "الخَطابة".
وهذه الأدلةُ التي يُطالعنا بها شوقي ضَيف لا تَدعُو -على وجاهتها- إلى نقضِ ما ذهبَ إليه الجاحِظُ من تقديمِ العَرَبِ على اليُونان في خَطابتهم، إذ كانت الخَطابةُ أمتَّ بحياةِ العَرَب من اليُونان الذين شُغلوا بعُلُوم الجَدل والمَنطق، بخِلافِ العَرَبِ الذين غلبت عليهم فُنُونُ القَولِ، شِعراً ونَثراً، وكانت الخَطابةُ بداعٍ من ذاك سليقةً طبيعيّةً في العَرَبيِّ، ولم تكن كذا الأمر في اليُونانيّ.
وإذا كان ديموستين – كما يرى ضَيف- شُهرَ من بين خُطباء اليُونان، فإنَّ الخُطباءَ المشاهير في الجاهليّة والإسْلام ممّن ذكرهم أبو عُثمان نفسُهُ في "البيان والتّبيين" يُعدّون بالعَشرات، وأمّا لمَ لَمْ يضع العَرَبُ مُؤلّفاتٍ في الفنِّ الخَـطابيّ – كما وضع اليُونان- فذاك بدهيٌّ ما دامت حَركةُ التّدوينِ ظلّت ضَعيفةً عندهم حتى وقتٍ مُتأخرٍ نِسبياً لأسبابٍ ليسَ هذا مَحلّ الخوضِ في تَفصيلها.
والحقُّ أنّ الجاحِظَ لم يُنكر مَعرفةَ الأُممِ الأُخرى بالخَطابة تماماً، كما فُهمَ من قولهِ: "وجمُلةُ القولِ أنّا لا نَعرفُ الخُطبَ إلاّ للعَرَبِ والفُرس". فهو لا يَتحدّث – ههُنا- عن وجُودِ هذا النّوعِ الأدبيّ في الأُمم، لأنّ ذلك أمرٌ مُسلّم به، بل هو من البدهيّات، ولكنّه تحدّث عن التّميّزِ والفَرادةِ في تعاطي هذا النّوع، فهو يرى أنّ العَرَبَ والفُرسَ بلغُوا في الخَطابةِ شأواً لم تبلغه غيرهُم من الأُمم، ممّا استحقَّ تقديمهما على اليُونان، من غير إنكارٍ لوجُودِ الخَطابةِ عند هؤلاء.
ولَعلّ ممّا يُؤكدُ هذه الوِجهة إنارات الجاحِظِ نَفْسِهِ على وجُودِ خَطابةٍ لِبعضِ الشُّعوبِ والأُمم غير العَرَب والفُرس، كقوله في سياقِ الحديثِ عن مآثرِ الهُنود الثّقافيّة: "ولهم شِعرٌ كثيرٌ وخُطبٌ طِوال"، ومن مثل قولهِ عن الأحابيش: "والرّجلُ منهم يَخطبُ عند المَلِك بالزِّنج من لَدن طُلوعِ الشّمسِ إلى غُروبها، فلا يستعينُ بالتفاتةٍ، ولا بسكتةٍ، حتّى يفرغَ من كلامه". ولكنّه وجّه – فيما يُقابل ذلك- نقداً إلى خَطابتهم، على الرُّغم مما عُرف عنهم من طُولِ النّفسِ والقُدرةِ على الإطالةِ والإطناب، وجوهرُ ما أخذه على خَطابتهم ما يتداوله خُطباؤهم من مَعانٍ غثّةٍ رَديئةٍ وضيعةٍ لا تَرتفعُ إلى مُستوى الخِطابِ المنشُود، ممّا يُبعدها عن الدّائرةِ البلاغيّةِ، ويهبطُ بها إلى الحضيضِ. ومهما يكن، فإنّ هذه الإشارات تَنهضُ دليلاً قويّاً على أنّ الجاحِظَ لم يحصرِ الفنَّ الخَطابيَّ في العَرَب والفُرس، كما فُهمَ من ظاهرِ قَولهِ الآنف.
وفي الوِجهةِ المُقابلة، رأى الجاحِظُ أنّ فَضيلةَ الشِّعر"مقصُورة على العَرَبِ، وعلى من تكلّم بلسانهم"؛ لأنّ الشِّعرَ العَرَبيَّ لا يُسْتطاع - في نظرِهِ – أن "يُترّجم، ولا يَجوزُ عليه النّقل، ومتى حُوّل تَقطّع نظمُهُ، وبَطلَ وزنُهُ، وذَهبَ حُسنُهُ، وسَقطَ مَوضعُ التّعجب". وسياقُ الحديثِ لا يَتضمنُ إنكارَ مَعرفةِ غير العَرَبِ بالشِّعر، بل فحواه أنّ العَرَبَ أقدر من غيرهم على تَعاطِي أسبابِ هذا الفنِّ والإبداعِ فيه؛ كونه أمسّ بحياتهم، وأدنى إلى نُفُوسهم من ألوانِ التّعبيرِ الأُخرى التي شُغفت بها غيرُهُم من الأُمم.
ومن هُنا مضى الجاحِظُ يُؤكدُ أصالةَ الثَّقافةِ العَرَبيّةِ الإسْلاميّةِ، ويعتبرها شَديدَ الاعتبار، إذ وَجَدَ بالدِّراسةِ والفَحْصِ أنّ كثيراً من المعارفِ الثَّقافيّةِ الأجْنبيّةِ – الخاصّة بالحَيَوان مِثالاً- تَوصّل إليها العَرَبُ من غيرِ تأثّرٍ واقتباسٍ، يقولُ: "وقلّ معنىً سمعناهُ في باب مَعرفةِ الحَيَوان من الفلاسفة، وقرأناه في كُتُبِ الأطباء و المُتكلمين، إلاّ ونحنُ وجدناه، أو قريباً منه، في أشعارِ العَرَبِ والأعْراب، وفي مَعرفةِ أهلِ لُغتنا ومِلّتنا".
بل ذهبَ إلى أكثر من ذلك حين أكّد أنّ الشِّعرَ العَرَبيَّ لو نُقلَ إلى غيرِ العَرَبيّة- مع ما يرى من صُعوبةِ ذلك- لَوَجَدَ العَجَمُ أنّ معانيه تُناظرُ ما هو مُدوّن عندهُم في الكُتُب من معارف، من غيرِ تأثّرٍ من الطّرفين؛ كون هذه المعاني المُشتركة تمُثّل - في لُبِّ الأمر- لوناً من التّفكيرِ الإنسانيِّ العام الذي تتوصّل إليه الأُمم من تِلقاءِ نفسها. والجاحِظُ يُوجّه – بذلك- إلى ضَرورة مَعرفةِ ما عندنا من تُراثٍ أصيلٍ حتى لا نعتقد – دوماً - بجدّةِ ما عند الآخر، فنُؤخذ ببريقهِ على غير وعي، ونَنثالُ عليه انْثيالَ الرَّمل.
واندفعَ يَسوقُ في هذا المِضمار طائفةً من اعْتراضاتِهِ على الثَّقافاتِ الأُخرى، ولَعلَّ أبرز ما أخذه على بعضِ هذه الثَّقافات قيامها على العَصبيّة المُفرطة التي صبّت بكُلِّ سلبياتها في تَشكيلِ صُورةٍ غير واقعيّةٍ لعناصرِ تلك الثَّقافات، يَقولُ مُعترضاً على طَرفٍ من كلامِ الفُرس: "على أنّ هذه الأحاديثَ من أحاديث الفُرس، وهم أصحاب نَفْجٍ وتزيدٍ، ولا سيّما في كُلِّ شيءٍ ممّا يدخلُ في باب العَصبيّة، ويزيدُ في أقْدارِ الأكاسرة".
وشرّع – من ثَمَّ- أبواباً من الاعتراضِ على الشُّعوبيّةِ، أشدِّ المُثقفين العَجَم انغلاقاً وتعصّباً لثقافتهم، الذين كشفُوا عن عَدائهم المُجاهر لِلثَّقافةِ العَرَبيّةِ الإسْلاميّةِ، يقولُ: "العَصبيّةُ التي هلك بها عالمٌ بعد عالمٍ، والحميّةُ التي لا تُبقي دِيناً إلاّ أفسدته، ولا دُنيا إلاّ أهلكتها، وهو ما صارت إليه العَجَمُ من مَذهبِ الشُّعوبيّة".
وقد جرّتهم تلك العَصبيّةُ إلى الطّعنِ في الثَّقافةِ العَرَبيّةِ الإسْلاميّةِ، ولكن مَطاعنهم كانت شَكليّةً مَحضةً، ولم تكن في الجوهرِ، ولَعلّ تعلّقهم بعيبِ اتّخاذ العِصي والمَخاصر والقَنى من قِبَلِ خُطباء العَرَب؛ لعدمِ مُناسبةِ اتّخاذِ العِصي أثناء الخَطابة، لهو أوضحُ دَليلٍ على إغراقهم في الشّكليّاتِ وابتعادهم عن المُهمات، ممّا يعني أنّ نقدَهم لم يكن مُوجّهاً إلى الخَطابةِ العَرَبيّةِ من الدّاخلِ، وإنمّا اهتمُّوا بنقدِ عناصر خارجيّة تتصل بعوائدِ الخُطباءِ، وما ألفوه من تقاليدَ، ليسَ لِلشُّعوبيّة أن تنظرَ إليها مفصُولةً عن البيئةِ السّائدة والعُرفِ الجاري، إذ لكُلِّ أُمّةٍ – كما يُشيرُ أبو عُثمان - شاراتها وآلاتها وشمائلها وهيئاتها الخاصّة بها، ممّا لا يُسوغ عيبُهُ من غير إدراكِ كُنهِ العِلّة من اتّخاذه.
وساقَ الجاحِظُ فيضاً من الأمثلةِ والشّواهدِ التي تَدلُّ على شَرفِ العَصا وفَوائدِها، بما يكونُ مَدْفَعاً لِطعنِ دُعاةِ العَصبيّةِ الثَّقافيّةِ الشّكليين أُولئك، وذهبَ إلى أكثر من ذلك حين أفصحَ عن الدّوافعِ التي حرّكت الشُّعوبيّةَ إلى افتعالِ هذه المطاعن المُتهافتة، مُبيّناً أنّ الحَسَدَ والبَغضاءَ هُما الباعثُ الذي انزلقَ هؤلاء بسببهِ في هذا المَهوى على غيرِ هُدًى.
كما ذَرَعَ سَبيلاً أُخرى في الاعتراضِ على الزَّنادقة، الوجهِ الآخر من المُتعصبينَ لِلثَّقافةِ الفارسيّة، وسجّلَ في هذا المِضمار انتقاداتِهِ على ثَقافةِ المُتزندقةِ، فأخذَ عليها أنّها ثقافةٌ لَفظيّةٌ شَكليّةٌ، تفتقرُ إلى العُمق، وتتشبث بالزَّخارفِ اللّفظيّة البرّاقة التي لا طائلَ لما تحتها من المعاني السّطحيّة. كما أخذَ على هذه الثّقافةِ ما يكتنفها من غُموضٍ وتَكرارٍ وبهرجٍ، ووصف مَذْهبهم الفِكريَّ بالجُمُودِ والتّقليدِ والبُعدِ عن التّفكيرِ والإبداع، ونفى تضلّعهم بالفلسفةِ والحِكمةِ، وساق نماذجَ من مُحاججةِ أُستاذهِ أبي إسحاق النّظّام المنانيّةَ والدّيصانيّةَ في مَقُولتهم: إنّ أصلَ العالمِ نُورٌ وظلامٌ.
وقد رأى الجاحِظُ في الفريقيْن: شُعوبيينَ وزَنادقةً صُورةً واحدةً أفرزتها العَصبيّةُ الثَّقافيّةُ المُنغلقةُ التي ناصبت الثّقافاتِ الأُخرى، وفي مُقدمتها الثّقافةُ العَرَبيّةُ الإسْلاميّةُ، العَدَاء، ورامت ألاّ تتنفسَ خارجَ مُحيطها الضّيق، وألا ترى إلاّ في ضَوء حلقاتها الذّاتيّةِ الدّاخليّةِ المحصُورة.
وساق نموذجاً آخرَ على العَصبيّةِ الثَّقافيّةِ، ويَدورُ هذا النّموذجُ حول تَعصّب الهُنُود لكُلِّ ما هو هِنديّ، حتّى أفضى بهم هذا المَسلكُ إلى المُدافعةِ عن رَمزٍ من رُموزِ ثقافتهم، هو الفِيل، والاحتجاج لفضائله، وتناقلُوا بشأنه مَزاعمَ وتهاويلَ قِوامها التّعصّبُ المحضُ والبُعدُ عن الحقيقةِ في كثيرٍ من الأحيان. وقَدّم في كِتابه "الحَيَوان" طرفاً من احتجاج "صاحب الهِند المُعبّر عن خِصالِ الفيل"، وعَرَضَ قُبالةَ ذلك نموذجاً من الرُّدودِ التي سيقت في مَعرضِ الاعتراضِ على تَقديمِ الهِندِ فيلتَها على ما سوى ذلك من أجناسِ الحَيَوان.
ولَعلّ أخطرَ ما جرّه هذا اللّونُ من التّعصبِ اتّهام الآخر بالتّبعيّةِ الثَّقافيّةِ والتّقليد، واتّخذ الجاحِظُ من تعصّبِ الرُّوم للثَّقافةِ المسيحيّة مِثالاً على هذه الوِجهةِ القائمةِ على تسفيهِ الآخر وسلبِ فضلهِ، فقد بلغَ من تعصبهم أن تاهُوا على ثقافاتِ أُممِ الجِوار، ومنها الثَّقافةُ العَرَبيّةُ الإسْلاميّةُ، وصيّروها- بزعمهم- عالةً على ثقافتهم، حتّى زعمُوا، كما يقولُ الجاحِظ: "أنّ حُكماءنا أتباعُ حُكمائهم، وأنّ فَلاسفتنا اقتدُوا على مِثالهم".
ولم يلبث حتّى وجّه إلى الثَّقافةِ الرُّوميّةِ النّقدَ نَفْسَهُ، مُبيّناً أنّها ولّدت عالةً على الثَّقافةِ اليُونانيّةِ التي لم تكن رُوميّةً، ولا مَسيحيّةً، يقولُ كاشِفاً الغطاءَ عن الصِّلاتِ المُنعقدةِ بين ثقافتي: اليُونان والرُّوم المُتصاقبتين: "كِتاب (المنطق)، و(الكون)، و(الفساد)، وكِتاب (العلوي)، وغير ذلك، لأرسطا طاليس، وليس بروميّ، ولا نَصرانيّ. وكِتاب (المجسطي) لبطليموس، وليس بروميّ، ولا نَصرانيّ. وكِتاب إقليدس لإقليدس، وليس بروميّ، ولا نَصرانيّ. وكِتاب (الطّبّ) لجالينوس، ولم يكن رُوميّاً، ولا نَصرانيّاً. وكذلك كُتُب ديمقراط وبقراط وأفلاطون، وفُلان وفُلان. وهؤلاء ناسٌ من أُمّةٍ قد بادوا، وبقيت آثارُ عُقُولهم، وهم اليُونانيون، ودِينهم غير دِينهم، وأدبهم غير أدبهم، أُولئك عُلماء، وهؤلاء صُنّاع أخذوا كُتُبهم؛ لقُرب الجِوار، وتداني الدّارِ، فمنها ما أضافُوه إلى أنفسهم، ومنها ما حوّلوه إلى مِلّتهم، إلاّ ما كان من مشهُورِ كُتُبهم ومعرُوفِ حِكمهم، فإنّهم حين لم يقدرُوا على تغييرِ أسمائها زعمُوا أنّ اليُونانيين قَبِيلٌ من قَبائلِ الرُّوم".
وواضحٌ للعِيان أنّ الجاحِظَ قَصَدَ إلى غايتين: أولهما تأكيدُ أصالةِ الثَّقافةِ العَرَبيّةِ الإسْلاميّةِ وقُوّة عناصرِها الكامنة، وأنّ التُّهم التي وُجهت إليها لا تَعدُو أن تكونَ من قَبيلِ العَصبيّةِ الثَّقافيّةِ التي لا ترى سوى نفسها، ولا تُقرُّ لغيرها بفَضلِ سَبقٍ. وثانيهما قَمعُ الغُرورِ الثَّقافيِّ الذي يَستولي على بَعضِ الثَّقافاتِ المُتعصِّبةِ التي تُوجّه النّقدَ غيرَ الموضُوعيّ لغيرها عِوضَ أن تبدأ بتوجيهِ النّقدِ نَفْسهِ إلى ذاتها.
وأخذَ الجاحِظُ- بالمِثلِ- على الثَّقافاتِ غيرِ العَرَبيّة قيامها في كثيرٍ من الأحيان على المُبالغةِ التي تَخرجُ عن حدِّ المعقُول، ولشدّ ما أبدى ضَجرَهُ وضِيقَ صدرِهِ بما صَدَرَ عن أرسطو، رَمزِ الثَّقافةِ اليُونانيّة، من مُبالغاتٍ لا يُصدّقها عِيان، ولا تَصمدُ أمامَ الحقائقِ العِلميّةِ النّاصعةِ. وساق نماذجَ من الاعتراض على مَقولاتِهِ المُغالية في عِلمِ الحَيَوان، ممّا وجد فيه بُعداً عن الواقعِ العَمليِّ والعِلميِّ، من ذلك اعتراضه على الأُزعومةِ الأرسطيّة في النِّتاجِ الحَيَوانيّ المُركّب بقولهِ: "وقد سمعنا ما قال صاحبُ المنطقِ من قبلُ، وما نظنّ بمثلهِ أن يُخلّد على نفسه في الكُتُبِ شهاداتٍ لا يُحقّقها الامتحان، ولا يعرف صدقَها أشباههُ من العُلماء".
ولم يجد الجاحِظُ بُدّاً من إعلانِ برَمهِ بتصديقِ الرِّواياتِ العَجيبةِ التي شابت كِتاب "الحَيَوان" لأرسطو، وكثيراً ما يقرأُ المُتأملُ عباراتِ الجاحِظِ التي يُبدي فيها العُجبَ والدّهشةَ ممّا حكاهُ أرسطو، من مِثلِ قولِهِ: "وقال صاحبُ المنطق في الغَرانيقِ قولاً عجيباً"، وقوله: "وما أعجبَ ما قرأتُ في كِتاب (الحَيَوان) لِصاحبِ المنطق".
وكان مُنطلقهُ في الرّدِّ مُنطلقاً عِلميّاً صِرفاً، إذ كان يُبيّن أنّ ما صَدَرَ عن أرسطو- فيما يُؤخذُ عليه– لم يكن وليدَ مُعاينةٍ واخْتبار، بل كان مَحضَ مَرويّاتٍ واهيةٍ تلقّفها من الأفواه، ولم يُخضعها لِلتّجربةِ العِلميّةِ، كما أنّ المُشاهدةَ فاتتها، فجاءت- من ثَمَّ- على غيرِ تَروٍّ وتَنوقٍ، مُلقاةً على عَواهنِها، لا يَقبلها واقعٌ، ولا يَرتضيها عَقل.
وهكذا، وَقَفَ الجاحِظُ من النَّصِّ الأرسطيِّ المنقُول، وما يَكتنفهُ من رواياتٍ كان له فيها نظرٌ وتأمّلٌ، مَواقفَ مُتباينةً، ولجأ إلى طرائق مُنوّعة لِلتعبيرِ عن موقفه – المُباشر وغير المُباشر- من تلكم الرِّواياتِ التي أثارت أشْياء في نَفْسهِ، ومن أبرزِ تلك الطَّرائق:
1. اتّخاذ مُشاهداته الذّاتيّة ومُلاحظاته العِيانيّة وسيلةً للرّدِّ على ما يقوله أرسطو من مَقولاتٍ لا تَصمدُ أمام الحقائقِ العِلميّةِ الرّاسخة.
2. عرض رواياتِ أرسطو على رِواياتٍ عَرَبيّةٍ – إخْباريّة وأدبيّة – مُصدّقة؛ لتبيّن عدمِ صحةِ الأُولى.
3. إظهار دَهشته من الرِّواياتِ الأرسطيّة التي يَعْسُرُ تَصديقُها والاطمئنانُ إليها.
4. سُؤال أهلِ الخبرةِ والتّجربةِ من الخاصّةِ والعامّةِ عن مدى صِدقِ الخبرِ الأرسطيِّ المنقُول.
5. الموازنة بين ما يسوقهُ أرسطو من أخبارٍ غَرائبيّة مُنكرةٍ؛ لتبّين مدى فسادِ الأخْبارِ الواردةِ من الجهتين.
6. مُناقشة الرِّوايةِ الأرسطيّةِ، وإيراد الدّليل العِلميِّ على تهافتها.
ووَقَفَ – بالمِثلِ- مُعْترضاً على جانبٍ من مُبالغاتِ أطباءِ الهِند، فقد علّقَ على أُزعومتهم أنّ العُقوقَ يُورثُ البَرَص بقولهِ: "وهذه القِصةُ مُجانبةٌ لِسَبيلِ الطِّبّ". فهو يردُّ هذا الزّعم، ويرفضُ تَعليلَ إصابةِ الإنسانِ بمَرضِ البَرَصِ بما يَكونُ من عُقُوقِ والديه، ويرى بروحهِ العِلميّة المُنفتحة ألاّ علاقةَ ماسةً بين السّببِ والمُسبِّبِ؛ لأنّ الطِّبَّ لا يَرتضي مثلَ هذا التّفسير، ولا يَقبلُ إلاّ التّعليلَ العِلميَّ المُقنع.
كما سجّل مأخذاً ثالثاً على الثَّقافاتِ الدِّينيّةِ الأجْنبيّةِ، فقد رأى أنّ التّقليدَ في الدِّينِ و مُحاكاةَ الأسْلاف يُمثّلان أساساً مَتيناً من أُسسِ تلك الثَّقافات، وبيّن أنّ أصْحابَ تلك الثَّقافاتِ كالهُنود والفُرس واليُونان، على ما هم فيه من رُقي عَقليّ غيرِ مُنكرٍ، ظلّت عناصرُ ثقافاتهم الدِّينيّةِ محكُومةً بسُلطانِ التّقليدِ الذي فرضَ قيودَهُ الصّارمةَ على العَقل وكبّله، ولم يسنح للاجتهادِ في الدِّين أن يُواكبَ حِراكَ العَقلِ عندهم. وقد عدَّ الجاحِظُ التّقليدَ في الدِّين داء عصيّاً "لا يُحسن علاجَهُ جالينوس ولا غيرُهُ من الأطباء".
ومن أوضحِ المُثُل التي ساقها الجاحِظُ في مَعرضِ انتقادِهِ التّقليدَ ما أخذه على النَّصارى، الذين دخل معهم في حِجاجٍ كَلاميٍّ طويلٍ، من إنكارِ الاجتهادِ في مَسائلِ الدِّينِ وقضاياه، يقولُ: "على أنّهم يزعمُون أنّ الدِّين لا يَخرجُ في القياس، ولا يَقومُ على المسائلِ، ولا يَثبتُ في الامتحان، وإنّما هو بالتّسليم لما في الكُتُب، والتّقليد للأسلاف".
كما ساق مثالاً أبعدَ وأعمقَ للتّقليدِ غير المُبصر الواقعِ في دِيانةِ اليُهود، فهم يرون: "أنّ النّظرَ في الفلسفة كُفرٌ، والكَلامَ في الدِّين بِدْعةٌ، وأنّه مَجلبةٌ لكُلِّ شُبهة، وأنّه لا عِلمَ إلاّ ما كان في التَّوراة وكُتُب الأنبياء، وأنّ الإيمانَ بالطِّبّ، وتَصديقَ المُنجمينَ من أسْبابِ الزَّندقةِ، والخُرُوجَ إلى الدَّهريّة، والخِلاف على الأسْلافِ وأهلِ القُدوة".
وأخذَ على الأعاجمِ ضَعفَ عِنايتهم بحفظِ مآثرهم وتَخليدِ تَواريخهِم، يقولُ: "فأمّا الأُممُ البائدةُ من العَجَم، مثل كنعان ويُونان وأشباه ذلك، فكثيرٌ، ولكن العَجَم ليس لها عناية بحفظِ شأنِ الأمواتِ ولا الأحياء". ويُؤكّدُ في موضعٍ آخر أنّ تَقييدَ المآثرِ"لم يكن من عادةِ العَجَم".
وهو يَقصدُ بذلك أنّ العَجَم لم تُجارِ العَرَب في تَسجيلِ مآثرِها بالشِّعرِ الذي يُخلّدها، و"يبقى بقاءَ الدّهر، ويلُوحُ ما لاح نجمٌ، ويُنشدُ به ما أُهلَّ بالحجّ، وما هبّت الصَّبا، وما كان للزيتِ عاصرٌ". وقد يكون الجاحِظُ معذُوراً في حُكمه؛ لأنّه لم يجد في المُترجماتِ التي نقلت في زمانه- ولا سيّما عن اليُونانيّة- شِعراً يُخلّدُ مآثرهم، ومن المعرُوف أنّ النّماذجَ المَلحميّة التي تُخلّد المآثرَ والبُطولات اليُونانيّة لم تنقل إلى اللِّسان العَرَبيّ إلاّ بأخرةٍ من الزّمان، بعد ما فات على رحيل الجاحِظِ زُهاء عَشرة قُرُون.

الخاتمة
ينتهي الباحثُ بعد هذا الشّوطِ من عَرضِ مَوقفِ الجاحِظِ منَ الثَّقافاتِ غير العَرَبيّة التي أُتيح له أن يقفَ على معالمها الرّئيسةِ إلى تَسجيلِ النّتائجِ الآتية:
1. كان الجاحِظُ سبّاقاً إلى تشكيلِ رُؤيةٍ منهجيّةٍ خاصّةٍ من الثَّقافاتِ الأجْنبيّةِ الوافدة، تَتناغمُ مع مَنهجهِ ورُؤيته.
2. تلوّنت مَواقفُ الجاحِظِ من الثَّقافاتِ الوافدةِ، وتراوحت بين: القَبول، والاعتذار، والشَّكّ، والاعتراض.
3. لم يقبل الجاحِظُ بمعطيات الثَّقافاتِ غير العَرَبيّة قَبولاً مُطلقاً، ولم يرفض -كذا الأمر- مُعطياتها رفضاً مُطلقاً، وإنّما كانت دَعوتهُ واضحةً إلى التّفاعلِ مع تلك الثَّقافاتِ والأخذِ من إيجابياتها، وطرحِ ما لا يُناسبُ أخذه.
4. وقفَ الجاحِظُ مَوقفاً مَنهجيّاً مُنصفاً حين دعا إلى فَهمِ الثَّقافاتِ الأجْنبيّة فَهماً صَحيحاً، ونفي المُشوّهاتِ التي أساءت إلى تلك الثَّقافاتِ جَراءِ نقلها إلى اللِّسانِ العَرَبيّ.
5. وقفَ الجاحِظُ مَوقفَ الشَّكِّ العِلميِّ من كثيرٍ ممّا اشتملت عليه تلك الثَّقافاتُ، وطبّق بذلك قَواعدَ مَنهجيّةً رائدةً.
6. على الرُّغم من تأثّرِ الجاحِظِ بالثَّقافاتِ الأجْنبيّةِ وتفاعله معها، وجّه إليها انتقاداتٍ شديدةً، وأخذ عليها: التّعصّب، والتّبعيّة، والتّقليد غير المُبصر، والإغراق في المُبالغات.
7. وجد الجاحِظُ أنّ كثيراً من المعارف الأجْنبيّة موجُودة عند العَرَب، ممّا يُؤكّدُ أصالةَ الثَّقافةِ العَرَبيّةِ الإسْلاميّة وقُوّتها.
8. كان مُنطلق الجاحِظ وهو يَتناولُ الثَّقافاتِ الأجْنبيّةَ الإيمان الرّاسخ بفَرادةِ الثَّقافةِ العَرَبيّةِ الإسْلاميّةِ وتميّزها، فهو ينطلقُ من قوةٍ، لا من ضعفٍ.
9. بدا الجاحِظُ في حديثه عن الثَّقافات المُجاورة حُرّاً جَريئاً مُتفاعلاً، يتَعاملُ مع القضايا بمنهجيّةٍ عِلميّةٍ جيّدة.
10. يُؤخذُ على الجاحِظِ في نَظرتهِ إلى الثَّقافةِ الأجنبيّةِ تعميمُهُ حِيناً، وعدمُ وفائه باستكمالِ بحث بعض القضايا المُهمّة حِيناً آخر.


وأخيراً، يُوصي الباحثُ بإجراء مَزيدٍ من الدِّراساتِ المنهجيّة التي تتبيّن مواقفَ العُلماء والمُفكرين والأُدباء في الحضارةِ العَرَبيّةِ الإسْلاميّةِ من الثَّقافات الأُخرى؛ ابتغاءَ تأكيدِ أصالةِ الثَّقافةِ العَرَبيّةِ الإسْلاميّةِ وإيجابيتها، بما يكونُ مَدْفعاً لطعنِ أعْدائها، وبيانِ تهافتِ ما يُثيرونه حولها –في زمنِ العولمةِ- من شُكُوكٍ وشُبهاتٍ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق