بسم الله الرحمن الرحيم
وفقك الله لرشدك، وأعان على شكرك، وأصلحك وأصلح على يديك، وجعلنا وإياك ممن يقول بالحق ويعمل به، ويؤثره ويحتمل ما فيه مما قد يصده عنه، ولا يكون حظه منه الوصف له والمعرفة به، دون الحث عليه والانقطاع إليه وكشف القناع فيه وإيصاله إلى أهله، والصبر على المحافظة في ألا يصل إلى غيرهم، والتثبت في تحقيقه لديهم، فإن الله تعالى لم يعلم الناس ليكونوا عالمين دون أن يكونوا عاملين، بل علمهم ليعملوا، وبين لهم ليتقوا التورط في وسط الخوف، والوقوع في المضار، والتوسط في المهالك.
فذلك طلب الناس التبيّن، ولحب السلامة من الهلكة، والرغبة في المنفعة، احتملوا ثقل العلم، وتعجلوا مكروه المعاناة. ولقلة العاملين وكثرة الواصفين قال الأولون: العارفون أكثر من الواصفين، والواصفون أكثر من العاملين. وإنما كثرت الصفات وقلت المواصفات، لأن ثواب العمل مؤجل، واحتمال ما فيه معجل.
وقد أعجبني ما رأيت من شغفك بطاعة إمامك، والمحاماة لتدبير خليفتك، وإشفاقك من كل خلل وخلة دخل على ملكه وإن دق، ونال سلطانه وإن صغر، ومن كل أمر خالفه وإن خفي مكانه، وجانب رضاه وإن قل ضرره؛ ومن تخوفك أن يجد المتأوِّل إليه طريقاً والعدو عليه متعلقاً؛ فإن السلطان لا يخلوا من متأول ناقم، ومن محكوم عليه ساخط، ومن معدول عن الحكم زارٍ، ومن متعطل متصفح، ومن معجبٍ برأيه ذي خطلٍ في بيانه، مولع بتهجين الصواب، وبالاعتراض على التدبير، حتى كأنه رائدٌ لجميع الأمة، ووكيل لسكان جميع المملكة؛ يضع نفسه في موضع الرقباء، وفي موضع التصفح على الخلفاء والوزراء؛ لا يعذر وإن كان مجاز العذر واضحاً، ولا يقف فيما يكون الشك محتملاً، ولا يصدق بأن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وأنه لا يعرف مصادر الرأي من لم يشهد موارده، ومستدبره من لم يعرف مستقبله. ومن محروم قد أضغنه الحرمان، ومن لئيم قد أفسده الإحسان. ومن مستبطئٍٍ قد أخذ أضعاف حقه، وهو لجهله بقدره،ولضيق ذراعه وقلة شكره، يظن أن الذي بقي له أكثر، وأن حقه أوجب. ومن مستزيدٍ لو ارتجع السلطان سالف أياديه البيض عنده، ونعمه السالفة عليه، لكان لذلك أهلاً، وله مستحقاً. قد غره الإملاء، وأبطره دوام الكفاية، وأفسده طول الفراغ. ومن صاحب فتنةٍ خاملٍ في الجماعة، رئيس في الفرقة،نعاق في الهرج، قد أقصاه السلطان، وأقام صغوه ثقاف الأدب، وأذله الحكم بالحق، فهو مغيظ لا يجد غير التشنيع، ولا يتشفى بغير الإرجاف، ولا يستريح إلا إلى الأماني، ولا يأنس إلا بكل مرجفٍ كذاب، ومفتون مرتاب، وخارصٍ لا خير فيه، وخالفٍ لا غناء عنده، يريد أن يسوَّى بالكفاة، ويرفع فوق الحماة، لأمرٍ ما سلف له، ولإحسانٍ كان من غيره، وليس ممن يرب قديماً بحديث، ولا يحفل بدروس شرف، ولا يفصل بين ثواب المحتسبين، وبين الحفظ لأبناء المحسنين.
وكيف يعرف فرق ما بين حق الذمام وثواب الكفاية، من لا يعرف طبقات الحق في مراتبه، ولا يفصل بين طبقات الباطل في منازله.
ثم أعلمتني بذلك أنك بنفسك بدأت في تعظيم إمامك، والحفظ لمناقب أنصار خليفتك، وإياها حطت بحياطتك لأشياعه، واحتجاجك لأوليائه. ونعم العون أنت إن شاء الله على ملازمة الطاعة، والمؤازرة على الخير، والمكانفة لأهل الحق.
وقد استدللت بذلك بالذي أرى من شدة عنايتك، وفرط اكتراثك، وتفقدك لأخابير الأعداء وبحثك عن مناقب الأولياء، على أن ما ظهر من نصحك أممُ، في جنب ما بطن من إخلاصك.
فأمتع الله بك خليفته، ومنحنا وإياك محبته، وأعاذنا وإياك من قول الزور، والتقرب بالباطل، إنه حميد مجيد، فعالٌ لما يريد.
فذلك طلب الناس التبيّن، ولحب السلامة من الهلكة، والرغبة في المنفعة، احتملوا ثقل العلم، وتعجلوا مكروه المعاناة. ولقلة العاملين وكثرة الواصفين قال الأولون: العارفون أكثر من الواصفين، والواصفون أكثر من العاملين. وإنما كثرت الصفات وقلت المواصفات، لأن ثواب العمل مؤجل، واحتمال ما فيه معجل.
وقد أعجبني ما رأيت من شغفك بطاعة إمامك، والمحاماة لتدبير خليفتك، وإشفاقك من كل خلل وخلة دخل على ملكه وإن دق، ونال سلطانه وإن صغر، ومن كل أمر خالفه وإن خفي مكانه، وجانب رضاه وإن قل ضرره؛ ومن تخوفك أن يجد المتأوِّل إليه طريقاً والعدو عليه متعلقاً؛ فإن السلطان لا يخلوا من متأول ناقم، ومن محكوم عليه ساخط، ومن معدول عن الحكم زارٍ، ومن متعطل متصفح، ومن معجبٍ برأيه ذي خطلٍ في بيانه، مولع بتهجين الصواب، وبالاعتراض على التدبير، حتى كأنه رائدٌ لجميع الأمة، ووكيل لسكان جميع المملكة؛ يضع نفسه في موضع الرقباء، وفي موضع التصفح على الخلفاء والوزراء؛ لا يعذر وإن كان مجاز العذر واضحاً، ولا يقف فيما يكون الشك محتملاً، ولا يصدق بأن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وأنه لا يعرف مصادر الرأي من لم يشهد موارده، ومستدبره من لم يعرف مستقبله. ومن محروم قد أضغنه الحرمان، ومن لئيم قد أفسده الإحسان. ومن مستبطئٍٍ قد أخذ أضعاف حقه، وهو لجهله بقدره،ولضيق ذراعه وقلة شكره، يظن أن الذي بقي له أكثر، وأن حقه أوجب. ومن مستزيدٍ لو ارتجع السلطان سالف أياديه البيض عنده، ونعمه السالفة عليه، لكان لذلك أهلاً، وله مستحقاً. قد غره الإملاء، وأبطره دوام الكفاية، وأفسده طول الفراغ. ومن صاحب فتنةٍ خاملٍ في الجماعة، رئيس في الفرقة،نعاق في الهرج، قد أقصاه السلطان، وأقام صغوه ثقاف الأدب، وأذله الحكم بالحق، فهو مغيظ لا يجد غير التشنيع، ولا يتشفى بغير الإرجاف، ولا يستريح إلا إلى الأماني، ولا يأنس إلا بكل مرجفٍ كذاب، ومفتون مرتاب، وخارصٍ لا خير فيه، وخالفٍ لا غناء عنده، يريد أن يسوَّى بالكفاة، ويرفع فوق الحماة، لأمرٍ ما سلف له، ولإحسانٍ كان من غيره، وليس ممن يرب قديماً بحديث، ولا يحفل بدروس شرف، ولا يفصل بين ثواب المحتسبين، وبين الحفظ لأبناء المحسنين.
وكيف يعرف فرق ما بين حق الذمام وثواب الكفاية، من لا يعرف طبقات الحق في مراتبه، ولا يفصل بين طبقات الباطل في منازله.
ثم أعلمتني بذلك أنك بنفسك بدأت في تعظيم إمامك، والحفظ لمناقب أنصار خليفتك، وإياها حطت بحياطتك لأشياعه، واحتجاجك لأوليائه. ونعم العون أنت إن شاء الله على ملازمة الطاعة، والمؤازرة على الخير، والمكانفة لأهل الحق.
وقد استدللت بذلك بالذي أرى من شدة عنايتك، وفرط اكتراثك، وتفقدك لأخابير الأعداء وبحثك عن مناقب الأولياء، على أن ما ظهر من نصحك أممُ، في جنب ما بطن من إخلاصك.
فأمتع الله بك خليفته، ومنحنا وإياك محبته، وأعاذنا وإياك من قول الزور، والتقرب بالباطل، إنه حميد مجيد، فعالٌ لما يريد.
وذكرتَ أبقاك الله أنك جالست أخلاطاً من جند الخليفة، وجماعةً من أبناء الدعوة، وشيوخاً من جلة الشيعة، وكهولاً من أبناء رجال الدولة، والمنسوبين إلى الطاعة والمناصحة، والمحبة الدينية، دون محبة الرغبة والرهبة، وأن رجلاً من عرض تلك الجماعة، ومن حاشية تلك الجلة، ارتجل الكلام ارتجال مستبدٍ، وتفرد به تفرد معجبٍ، وأنه لم يستأمر زعمائهم، ولم يراقب خطباءهم، وأنه تعسف المعاني وتهجم على الألفاظ، وزعم أن جند الخلافة اليوم على خمسة أقسام: خرا ساني، وتركي، ومولًى، وعربي، وبنوي. وأنه أكثر من حمد الله وشكره على إحسانه ومننه، وعلى جميع أياديه وسابغ نعمه، وعلى شمول عافيته وعلى جزيل مواهبه، حين ألَّف على الطاعة هذه القلوب المختلفة، والأجناس المتباينة، والأهواء المتفرقة،. وأنك اعترضت على هذا المتكلم المستبدّ، وعلى هذا القائل المتكلِّف، الذي قسَّم هذه الأقسام، وخالف بين هذه الأركان، وفصَّل بين أنسابهم، وفرق بين أجناسهم، وباعد بين أسبابهم. وأنك أنكرت ذلك عليه أشد الإنكار، وقذعته أشد القذع، وزعمت أنهم لم يخرجوا من الاتفاق أو من شيء يقرب من الاتفاق. وأنك أنكرت التباعد في النسب، والتباين في السبب. وقلت: بل أزعُم أن الخراساني والتركي أخوان، وأن الحيِّز واحد، وأن حكم ذلك الشرق، والقضية على ذلك الصُّقع متفق غير مختلف، ومتقارب غير متفاوت. وأن الأعراق في الأصل إن لا تكن كانت راسخة فقد كانت متشابهة، وحدود البلاد المشتملة عليهم إن لا تكن متساوية فإنها متناسبة، وكلهم خرا ساني في الجملة وإن تميزوا ببعض الخصائص، فافترقوا ببعض الوجوه.
وزعمت أن اختلاف التركي والخراساني ليس كالاختلاف بين العجمي والعربي، ولا كالاختلاف بين الرومي والصقلي والزغبي والحبشي، فضلاً عما هو أبعد جوهراً وأشد خلافاً. بل كاختلاف ما بين المكي والمدني، والبدوي والحضري، والسهلي والجبلي، وكاختلاف ما بين الطائي الجبلي والطائي السهلي، وكما يقال: أن هذيلاً أكراد العرب، وكاختلاف ما بين من نزل الحزون، وبين نزل البطون، وبين نزل النجود وبين نزل الأغوار.
وزعمت أن هؤلاء وإن اختلفوا في بعض اللغة، وفارق بعضهم بعضاً في بعض الصور، فقد تخالفت عُليا تميمٍ، وسفلي قيس، وعجز هوازن وفصحاء الحجاز، في اللغة، وهي أكثرها على خلاف لغة حِمير، وسكان مخاليف اليمن، وكذلك في الصورة والشمائل والأخلاق. وكلهم مع ذلك عربي خالص، غير مشوب ولا معلهج ولا مذرَّع ولا مزلج.
ولم يختلفوا اختلاف ما بين بني قحطان وبني عدنان، من قبل ما طبع الله عليه تلك البرية من خصائص الغرائز، وما قسم الله تعالى لأهل كل جيزة من الشكل والصورة ومن الأخلاق واللغة.
فإن قلت: فكيف كان أولادهما جميعاً عرباً مع اختلاف الأبوة.
قلنا : إن العرب لما كانت واحدةً فاستووا في التربة وفي اللغة، والشمائل والهمة، وفي الأنف والحمية،وفي الأخلاق والسجية، فسكبوا سبكاً واحداً، وأفرغوا إفراغاً واحداً، وكان القالب واحداً، تشابهت الأجزاء وتناسبت الأخلاط، وحين صار ذلك أشد تشابهاً في باب الأعم والأخص وفي باب الوفاق والمباينة من بعض ذوي الأرحام، جرى عليهم حكم الاتفاق في الحسب، وصارت هذه الأسباب ولادةً أخرى حتى تناكحوا عليها، وتصاهروا من أجلها، وامتنعت عدنان قاطبة من مناكحة بنى إسحاق وهو أخو إسماعيل، وجادوا بذلك في جميع الدهر لبنى قحطان - وهو ابن عابر - ففي إجماع الفريقين على التناكح والمصاهرة، ومنعهما من ذلك جميع الأمم: كسرى فمن دونه، دليل على أن النسب عندهم متفق، وأن هذه المعاني قد قامت عندهم مقام الولادة والأرحام الماسة.
وزعمت أنه أراد الفرقة التخريب، وأنك أردت الألفة والتقريب.
وزعمت أن اختلاف التركي والخراساني ليس كالاختلاف بين العجمي والعربي، ولا كالاختلاف بين الرومي والصقلي والزغبي والحبشي، فضلاً عما هو أبعد جوهراً وأشد خلافاً. بل كاختلاف ما بين المكي والمدني، والبدوي والحضري، والسهلي والجبلي، وكاختلاف ما بين الطائي الجبلي والطائي السهلي، وكما يقال: أن هذيلاً أكراد العرب، وكاختلاف ما بين من نزل الحزون، وبين نزل البطون، وبين نزل النجود وبين نزل الأغوار.
وزعمت أن هؤلاء وإن اختلفوا في بعض اللغة، وفارق بعضهم بعضاً في بعض الصور، فقد تخالفت عُليا تميمٍ، وسفلي قيس، وعجز هوازن وفصحاء الحجاز، في اللغة، وهي أكثرها على خلاف لغة حِمير، وسكان مخاليف اليمن، وكذلك في الصورة والشمائل والأخلاق. وكلهم مع ذلك عربي خالص، غير مشوب ولا معلهج ولا مذرَّع ولا مزلج.
ولم يختلفوا اختلاف ما بين بني قحطان وبني عدنان، من قبل ما طبع الله عليه تلك البرية من خصائص الغرائز، وما قسم الله تعالى لأهل كل جيزة من الشكل والصورة ومن الأخلاق واللغة.
فإن قلت: فكيف كان أولادهما جميعاً عرباً مع اختلاف الأبوة.
قلنا : إن العرب لما كانت واحدةً فاستووا في التربة وفي اللغة، والشمائل والهمة، وفي الأنف والحمية،وفي الأخلاق والسجية، فسكبوا سبكاً واحداً، وأفرغوا إفراغاً واحداً، وكان القالب واحداً، تشابهت الأجزاء وتناسبت الأخلاط، وحين صار ذلك أشد تشابهاً في باب الأعم والأخص وفي باب الوفاق والمباينة من بعض ذوي الأرحام، جرى عليهم حكم الاتفاق في الحسب، وصارت هذه الأسباب ولادةً أخرى حتى تناكحوا عليها، وتصاهروا من أجلها، وامتنعت عدنان قاطبة من مناكحة بنى إسحاق وهو أخو إسماعيل، وجادوا بذلك في جميع الدهر لبنى قحطان - وهو ابن عابر - ففي إجماع الفريقين على التناكح والمصاهرة، ومنعهما من ذلك جميع الأمم: كسرى فمن دونه، دليل على أن النسب عندهم متفق، وأن هذه المعاني قد قامت عندهم مقام الولادة والأرحام الماسة.
وزعمت أنه أراد الفرقة التخريب، وأنك أردت الألفة والتقريب.
وزعمت أيضاً أن البنوىَّ خراساني، وأن نسب الأبناء:نسب آبائهم، وأن حسن صنيع الآباء، وقديم فعال الأجداد هو حس الأبناء. وأن الموالي بالعرب أشبه، وإليهم أقرب، وبهم أمسٌّ؛ لأن السنة جعلتهم منهم. فقلت: إن الموالي أقرب إلى العرب في كثير من المعاني؛ لأنهم عربٌ في المدعى، وفي العاقلة، وفي الوراثة. وهذا تأويل قوله مولى القوم منهم ومولى القوم من أنفسهم، " والولاء لحمةٌ كلحمة النسب " وعلى شبيه ذلك صار حليف القوم منهم، وحكمه حكمهم، فصار الأخنس بن شريق وهو رجلٌ من ثقيف، وكذلك يعلى بن منية وهو رجل من بلعودية، وكذلك خالد بن عرفطة وهو رجل من عذرة من قريش. وبذلك النسب حرمت الصدقة على موالي بني هاشم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أجراهم في باب التنزيه والتطهير مجرى مواليهم. وبذلك السبب قدم النبي صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب على بني عبد شمس، وقرابتهم سواءٌ ونسبهم واحد، للعقد المتقدم، وللأيدي المتفقة.
وقال صلى الله عليه وسلم: " منا خير فارسٍ في العرب: عكاشة بن محصن " ، فقال ضرار بن الأزور الأسدي: ذاك رجلٌ منا يا رسول الله. قال: " بل هو منا بالحلف " . فجعل حليف القوم منهم، كما جعل بن أخت القوم منهم.
ثم زعمت أن الأتراك قد شاركوا هؤلاء القوم في هذا النسب، وصاروا من العرب بهذا السبب، مع الذي بانوا به من الخلال، وحبوا به من شرف الخصال.
على أن ولاء الأتراك للباب قريش، ولمصاص عبد مناف، وهم في سر بني هاشم وهاشم موضع العذار من خد الفرس، والعقد من لبَّة الكاعب، والجوهر المكنون، والذهب المصفى، وموضع المحَّة من البيضة، والعين في الرأس، والروح من البدن؛ وهم الأنف المقدَّم، والسنام الأكبر، والدرة الزهراء، والروضة الخضراء، والذهب الأحمر. فقد شاركوا العرب في أنسابهم، والموالي في أسبابهم، وفضلوهم بهذا الفضل الذي لا يبلغه فضلٌ وإن برع، بل لا يعشره شرفٌ وإن عظم، ولا مجدٌ وإن قدم.
فزعمت أن أنساب الجميع متقاربة غير متباعدة، وعلى حسب ذلك التقارب تكون المؤازرة والمكاتفة، والطاعة والمناصحة، والمحبة للخلفاء الأئمة.
وذكرت أنه ذكر جملاً من مفاخرة الأجناس، وجمهرةً من مناقب هذه الأصناف، وأنه جمع ذلك وفصله وفسره، وأنه ألغى ذكر الأتراك فلم يعرض لهم، وأضرب عنهم صفحا، يخبر عنهم كما أخبر عن حجة كل جيل، وعن برهان كل صنف؛ وذكر أن الخراساني يقول: نحن النقباء وأبناء النقباء، ونحن النجباء وأبناء النجباء، ومنا الدعاة، قبل أن تظهر نقابة، أو تعرف نجابة، وقبل المبالغة والمباراة، وقبل كشف القناع وزوال التَّقيَّة وزوال ملك أعدائنا عن مستقره، وثبات ملك أوليائنا في نصابه. وبين ذلك ما قتلنا وشردنا، ونهكنا ضرباً وبضعنا بالسيوف الحداد، وعذبنا بألوان العذاب.
وبنا شفى الله الصدور، وأدرك الثأر. ومنا الإثنا عشر النقباء، والسبعون النجباء. ونحن الخندقية، ونحن الكَّفيَّة وأبناء الكَّفيَّة، ومنا المستجيبة ومن يهرج التيمية ومنا نيم خزان وأصحاب الجوربين ومنا الزغندية والآزاذمردية.
ونحن فتحنا البلاد وقتلنا العباد، وأبدنا العدو بكل وادٍ. ونحن أهل هذه الدولة، وأصحاب هذه الدعوة، ومنبت هذه الشجرة. ومن عندنا هبت هذه الريح.
والأنصار أنصاران: الأوس والخزرج نصرو النبي صلى الله عليه وسلم في أول الزمان، وأهل خراسان نصروا ورثته في آخر الزمان. غذانا بذلك آباؤنا وغذونا به أبناءنا، وصار لنا نسباً لا نعرف إلا به، وديناً لا نوالي إلا عليه.
ثم نحن على وتيرةٍ واحدة، ومنهاج غير مشترك؛ نعرف بالشيعة، وندين بالطاعة، ونقتل فيها ونموت عليها. سيمانا موصوفٌ، ولباسنا معروفٌ. ونحن أصحاب الرايات السود، والروايات الصحيحة، والأحاديث المأثورة، والذين يهدمون مدن الجبابرة، وينزعون الملك من أيدي الظلمة. وفينا تقدم الخبر، وصح الأثر. وجاء في الحديث صفة الذين يفتحون عمورية ويظهرون عليها، ويقتلون مقاتليها ويسبون ذراريها، حيث قالوا في نعتهم: شعورهم شعور النساء، وثيابهم ثياب الرهبان. فصدق الفعل القول، وحقق الخبر العيان.
ونحن الذين ذكرنا وذكر بلاءنا أمام الأئمة، وأبو الخلائق العشرة: محمد بن علي، حين أراد توجيه الدعاة إلى الآفاق، وتفريق شيعته في البلاد، أن قال:
وقال صلى الله عليه وسلم: " منا خير فارسٍ في العرب: عكاشة بن محصن " ، فقال ضرار بن الأزور الأسدي: ذاك رجلٌ منا يا رسول الله. قال: " بل هو منا بالحلف " . فجعل حليف القوم منهم، كما جعل بن أخت القوم منهم.
ثم زعمت أن الأتراك قد شاركوا هؤلاء القوم في هذا النسب، وصاروا من العرب بهذا السبب، مع الذي بانوا به من الخلال، وحبوا به من شرف الخصال.
على أن ولاء الأتراك للباب قريش، ولمصاص عبد مناف، وهم في سر بني هاشم وهاشم موضع العذار من خد الفرس، والعقد من لبَّة الكاعب، والجوهر المكنون، والذهب المصفى، وموضع المحَّة من البيضة، والعين في الرأس، والروح من البدن؛ وهم الأنف المقدَّم، والسنام الأكبر، والدرة الزهراء، والروضة الخضراء، والذهب الأحمر. فقد شاركوا العرب في أنسابهم، والموالي في أسبابهم، وفضلوهم بهذا الفضل الذي لا يبلغه فضلٌ وإن برع، بل لا يعشره شرفٌ وإن عظم، ولا مجدٌ وإن قدم.
فزعمت أن أنساب الجميع متقاربة غير متباعدة، وعلى حسب ذلك التقارب تكون المؤازرة والمكاتفة، والطاعة والمناصحة، والمحبة للخلفاء الأئمة.
وذكرت أنه ذكر جملاً من مفاخرة الأجناس، وجمهرةً من مناقب هذه الأصناف، وأنه جمع ذلك وفصله وفسره، وأنه ألغى ذكر الأتراك فلم يعرض لهم، وأضرب عنهم صفحا، يخبر عنهم كما أخبر عن حجة كل جيل، وعن برهان كل صنف؛ وذكر أن الخراساني يقول: نحن النقباء وأبناء النقباء، ونحن النجباء وأبناء النجباء، ومنا الدعاة، قبل أن تظهر نقابة، أو تعرف نجابة، وقبل المبالغة والمباراة، وقبل كشف القناع وزوال التَّقيَّة وزوال ملك أعدائنا عن مستقره، وثبات ملك أوليائنا في نصابه. وبين ذلك ما قتلنا وشردنا، ونهكنا ضرباً وبضعنا بالسيوف الحداد، وعذبنا بألوان العذاب.
وبنا شفى الله الصدور، وأدرك الثأر. ومنا الإثنا عشر النقباء، والسبعون النجباء. ونحن الخندقية، ونحن الكَّفيَّة وأبناء الكَّفيَّة، ومنا المستجيبة ومن يهرج التيمية ومنا نيم خزان وأصحاب الجوربين ومنا الزغندية والآزاذمردية.
ونحن فتحنا البلاد وقتلنا العباد، وأبدنا العدو بكل وادٍ. ونحن أهل هذه الدولة، وأصحاب هذه الدعوة، ومنبت هذه الشجرة. ومن عندنا هبت هذه الريح.
والأنصار أنصاران: الأوس والخزرج نصرو النبي صلى الله عليه وسلم في أول الزمان، وأهل خراسان نصروا ورثته في آخر الزمان. غذانا بذلك آباؤنا وغذونا به أبناءنا، وصار لنا نسباً لا نعرف إلا به، وديناً لا نوالي إلا عليه.
ثم نحن على وتيرةٍ واحدة، ومنهاج غير مشترك؛ نعرف بالشيعة، وندين بالطاعة، ونقتل فيها ونموت عليها. سيمانا موصوفٌ، ولباسنا معروفٌ. ونحن أصحاب الرايات السود، والروايات الصحيحة، والأحاديث المأثورة، والذين يهدمون مدن الجبابرة، وينزعون الملك من أيدي الظلمة. وفينا تقدم الخبر، وصح الأثر. وجاء في الحديث صفة الذين يفتحون عمورية ويظهرون عليها، ويقتلون مقاتليها ويسبون ذراريها، حيث قالوا في نعتهم: شعورهم شعور النساء، وثيابهم ثياب الرهبان. فصدق الفعل القول، وحقق الخبر العيان.
ونحن الذين ذكرنا وذكر بلاءنا أمام الأئمة، وأبو الخلائق العشرة: محمد بن علي، حين أراد توجيه الدعاة إلى الآفاق، وتفريق شيعته في البلاد، أن قال:
أما البصرة وسوادها فقد غلب عليها عثمان وصنائع عثمان، فليس بها من شيعتنا إلا القليل. وأما الشام فشيعة بني مروان وآل أبي سفيان.وأما الجزيرة فحرورية شارية، وخارجة مارقة، ولكن عليهم بهذا الشرق؛ فإن هناك صدوراً سليمة وقلوباً باسلة، لم تفسدها الأهواء، ولم تخامرها الأدواء، ولم تعتقبها البدع، وهم مغيظون موتورون. وهناك العدد والعدة، والعتاد والنجدة.
ثم قال: وأنا أتفاءل إلى حيث يطلع منه النهار. فكنا خير جندٍ لخير إمام؛ فصدقنا ظنه، وثبتنا رأيه، وصوبنا فراسته.
وقال مرةً أخرى: أمرنا هذا شرقيٌ لا غربي، ومقبل لا مدبر، يطلع كطلوع الشمس، ويمتد على الآفاق امتداد النهار، حتى يبلغ حيث تبلغه الأخفاف، وتناله الحوافر.
قالوا: ونحن قتلنا الصحصحية، والدالقية، والذكوانية، والراشدية. ونحن أيضاً أصحاب الخنادق أيام نصر بن سيار، وابن جديع الكرماني، وشيبان بن سلمة الخارجي. ونحن أصحاب نباتة بن حنظلة، وعامر بن ضبارة، وأصحاب ابن هبيرة. فلنا قديم هذا الأمر وحديثه، وأوله وآخره ومنا قاتل مروان.
ونحن قومٌ لنا أجسامٌ وأجرام، وشعور وهام، ومناكب عظام، وجباه عراض، وقصر غلاظ، وسواعد طوال.
ونحن أولد للذكورة، وأنسل بعولة، وأقل ضوَّي وضؤولة، وأقل إتآماً وأنتق أرحاماً، وأشد عصبا وأتم عظاما، وأبداننا أحمل للسلاح، وتجفافنا أملأ للعيون.
ونحن أكثر مادةً، وأكثر عددا وعدة.
ولو أن يأجوج ومأجوج كاثروا من وراء النهر منا لظهروا عليهم بالعدد. فأما الأيد وشدة الأسر، فليس لأحدٍ بعد عادٍ وثمود والعمالقة والكنعانيين مثل أيدينا وأسرنا.
ولو أن خيول الأرض وفرسان جميع الأطراف جمعوا في حلبة واحدة، لكنا أكثر في العيون، وأهول في الصدور.
ومتى رأيت مواكبنا وفرساننا، وبنودنا التي لا يحملها غيرنا، علمت أننا لم نخلق إلا لقلب الدول، وطاعة الخلفاء، وتأييد السلطان.
ولو أن أهل التبت ورجال الزَّابج، وفرسان الهند، وحلبة الروم، هجم عليهم هاشم بن أشتاخنج لما امتنعوا من طرح السلاح والهرب في البلاد.
ونحن أصحاب اللحى وأرباب النهي، وأهل الحلم والحجا، وأهل الثخانة في الرأي، والبعد من الطيش. ولسنا كجند الشام المتعرضين للحرم، والمنتهكين لكل محرم.
ونحن ناس لنا أمانة وفينا عفة. ونحن نجمع بين النزاهة والقناعة والصبر على الخدمة، والتجمير عند بعد الشقة. ولنا الطبول المهولة العظام والبنود، ونحن أصحاب التجافيف والأجراس، والبازيكند واللبود الطوال، والأغماد المعقفة والشوارب المعقربة، والقلانس الشاشية، والخيول الشهرية، والكافر كوبات والطبرزينات في الأكف، والخناجر في الأوساط. ولنا حسن الجلسة على ظهور الخيل. ولنا الأصوات التي تسقط منها الحبالى.
وليس في الأرض صناعة غريبة من أدب وحكمة، وحساب وهندسة، وإيقاع وصنعة، وفقه ورواية، نظرت فيها الخراسانية إلا وبرعت فيها الرؤساء، وبزت فيها العلماء.
ولنا صنعة السلاح من لبد وركاب ودرع. ولنا مما جعلناه رياضة وتمريناً، وإرهاصاً للحرب، وتثقيفاً ودربةً للمجاولة والمشاولة، وللكر بعد الكر: مثل الدَّبُّوق، والنَّزو على الخيل صغاراً، ومثل الطبطاب والصوالجة الكبار، ثم رمى المجثمة، والبرجاس والطائر الخطاف.
فنحن أحق بالأثرة، وأولى بشرف المنزلة.
ثم قلت: وزعم أن القربة تستحق بالأسباب الثابتة، وبالأرحام الشابكة، وبالقدمة، والطاعة للآباء والعشيرة، وبالشكر النافع، والمديح الكافي بالشعر الموزون الذي يبقى بقاء الدهر، ويلوح ما لاح نجم، وينشد ما أهل بالحج، وما هبت الصبا، وما كان للزيت عاصر، وبالكلام المنثور والقول المأثور. أو بصفة مخرج الدولة والاحتجاج للدعوة، وتقييد المآثر، إذ لم يكن ذلك من عادة العجم، ولا كان يحفظ ذلك معروفاً لسوى العرب. ونحن نرتبطها بالشعر المقفى، ونصلها بحفظ الأميين. الذين لا يتكلون على الكتب المدونة، والخطوط المطرَّسة. ونحن أصحاب التفاخر والتنافر، والتنازع في الشرف، والتحاكم إلى كل حكم مقنع وكاهن سجاع. ولنا التعاير بالمثالب، والتفاخر بالمناقب. ونحن أحفظ لأنسابنا، وأرعى لحقوقنا وتقييدها أيضاً بالمنثور المرسل، بعد الموزون المعدل، بلسان أمضى من السنان، وأرهف من السيف الحسام، حتى نذكرهم ما قد درس رسمه، وعفا أثره.
ثم قال: وأنا أتفاءل إلى حيث يطلع منه النهار. فكنا خير جندٍ لخير إمام؛ فصدقنا ظنه، وثبتنا رأيه، وصوبنا فراسته.
وقال مرةً أخرى: أمرنا هذا شرقيٌ لا غربي، ومقبل لا مدبر، يطلع كطلوع الشمس، ويمتد على الآفاق امتداد النهار، حتى يبلغ حيث تبلغه الأخفاف، وتناله الحوافر.
قالوا: ونحن قتلنا الصحصحية، والدالقية، والذكوانية، والراشدية. ونحن أيضاً أصحاب الخنادق أيام نصر بن سيار، وابن جديع الكرماني، وشيبان بن سلمة الخارجي. ونحن أصحاب نباتة بن حنظلة، وعامر بن ضبارة، وأصحاب ابن هبيرة. فلنا قديم هذا الأمر وحديثه، وأوله وآخره ومنا قاتل مروان.
ونحن قومٌ لنا أجسامٌ وأجرام، وشعور وهام، ومناكب عظام، وجباه عراض، وقصر غلاظ، وسواعد طوال.
ونحن أولد للذكورة، وأنسل بعولة، وأقل ضوَّي وضؤولة، وأقل إتآماً وأنتق أرحاماً، وأشد عصبا وأتم عظاما، وأبداننا أحمل للسلاح، وتجفافنا أملأ للعيون.
ونحن أكثر مادةً، وأكثر عددا وعدة.
ولو أن يأجوج ومأجوج كاثروا من وراء النهر منا لظهروا عليهم بالعدد. فأما الأيد وشدة الأسر، فليس لأحدٍ بعد عادٍ وثمود والعمالقة والكنعانيين مثل أيدينا وأسرنا.
ولو أن خيول الأرض وفرسان جميع الأطراف جمعوا في حلبة واحدة، لكنا أكثر في العيون، وأهول في الصدور.
ومتى رأيت مواكبنا وفرساننا، وبنودنا التي لا يحملها غيرنا، علمت أننا لم نخلق إلا لقلب الدول، وطاعة الخلفاء، وتأييد السلطان.
ولو أن أهل التبت ورجال الزَّابج، وفرسان الهند، وحلبة الروم، هجم عليهم هاشم بن أشتاخنج لما امتنعوا من طرح السلاح والهرب في البلاد.
ونحن أصحاب اللحى وأرباب النهي، وأهل الحلم والحجا، وأهل الثخانة في الرأي، والبعد من الطيش. ولسنا كجند الشام المتعرضين للحرم، والمنتهكين لكل محرم.
ونحن ناس لنا أمانة وفينا عفة. ونحن نجمع بين النزاهة والقناعة والصبر على الخدمة، والتجمير عند بعد الشقة. ولنا الطبول المهولة العظام والبنود، ونحن أصحاب التجافيف والأجراس، والبازيكند واللبود الطوال، والأغماد المعقفة والشوارب المعقربة، والقلانس الشاشية، والخيول الشهرية، والكافر كوبات والطبرزينات في الأكف، والخناجر في الأوساط. ولنا حسن الجلسة على ظهور الخيل. ولنا الأصوات التي تسقط منها الحبالى.
وليس في الأرض صناعة غريبة من أدب وحكمة، وحساب وهندسة، وإيقاع وصنعة، وفقه ورواية، نظرت فيها الخراسانية إلا وبرعت فيها الرؤساء، وبزت فيها العلماء.
ولنا صنعة السلاح من لبد وركاب ودرع. ولنا مما جعلناه رياضة وتمريناً، وإرهاصاً للحرب، وتثقيفاً ودربةً للمجاولة والمشاولة، وللكر بعد الكر: مثل الدَّبُّوق، والنَّزو على الخيل صغاراً، ومثل الطبطاب والصوالجة الكبار، ثم رمى المجثمة، والبرجاس والطائر الخطاف.
فنحن أحق بالأثرة، وأولى بشرف المنزلة.
ثم قلت: وزعم أن القربة تستحق بالأسباب الثابتة، وبالأرحام الشابكة، وبالقدمة، والطاعة للآباء والعشيرة، وبالشكر النافع، والمديح الكافي بالشعر الموزون الذي يبقى بقاء الدهر، ويلوح ما لاح نجم، وينشد ما أهل بالحج، وما هبت الصبا، وما كان للزيت عاصر، وبالكلام المنثور والقول المأثور. أو بصفة مخرج الدولة والاحتجاج للدعوة، وتقييد المآثر، إذ لم يكن ذلك من عادة العجم، ولا كان يحفظ ذلك معروفاً لسوى العرب. ونحن نرتبطها بالشعر المقفى، ونصلها بحفظ الأميين. الذين لا يتكلون على الكتب المدونة، والخطوط المطرَّسة. ونحن أصحاب التفاخر والتنافر، والتنازع في الشرف، والتحاكم إلى كل حكم مقنع وكاهن سجاع. ولنا التعاير بالمثالب، والتفاخر بالمناقب. ونحن أحفظ لأنسابنا، وأرعى لحقوقنا وتقييدها أيضاً بالمنثور المرسل، بعد الموزون المعدل، بلسان أمضى من السنان، وأرهف من السيف الحسام، حتى نذكرهم ما قد درس رسمه، وعفا أثره.
وبين القتال من جهة الرغبة والرهبة فرق، وليس المعرق في الحفاظ كمن هذا فيه حادث. وهذا باب يتقدم فيه التالد القديم الطارف الحديث.
وطلاب الطوائل رجلان: سجستاني وأعرابي. وهل أكثر النقباء إلا من صميم العرب، ومن صليبة النسب، كأبي عبد الحميد قحطبة بن شبيب الطائي، وأبي محمد سليمان بن كثير الخزاعي، وأبي نصر مالك بن الهيثم الخزاعي، وأبي داود خالد بن إبراهيم الذهلي، وكأبي عمرو لاهز بن قريظ المرئي، وأبي عتيبة موسى بن كعب المرئي، وأبي سهل القاسم بن مجاشع المرئي، ومن كان يجري مجرى النقباء ولم يدخل فيهم، مثل مالك بن الطواف المزني.
وبعد فمن هذا الذي باشر قتل مروان، ومن هزم ابن هبيرة، ومن قتل ابن ضبارة، ومن قتل نباتة بن حنظلة، إلا عرب الدعوة، والصميم من أهل الدولة؟! ومنفتح السند إلا موسى بن كعب، ومن فتح إفريقيا إلا محمد بن الأشعث؟!.
وقلت: وقال: وتقول الموالى: لنا النصيحة الخالصة، والمحبة الراسخة، ونحن موضع الثقة عند الشدة. وعلل المولى من تحت موجبة لمحبة المولى من فوق، لأن شرف مولاه راجعٌ إليه، وكرمه زائد في كرمه، وخموله مسقط لقدره. وبوده أن خصال الكرام كلها اجتمعت فيه؛ لأنه كلما كان مولاه أكبر وأشرف وأظهر، كان هو بها أشرف وأنبل. ومولاك أسلم لك صدراً، وأرد ضميراً، وأقل حسداً.
وبعد فالولاء لحمة كلحمة النسب، فقد صار لنا النسب الذي يصوبه العربي، ولنا الأصل الذي يفتخر به العجمي.
قال: والصبر ضروب، فأكرمها كلها الصبر على إفشاء السر. وللمولى في هذه المكرمة ما ليس لأحد.
ونحن أخص مدخلاً، وألطف في الخدمة مسلكاً. ولنا مع الطاعة والخدمة والإخلاص وحسن النية، خدمة الأبناء للآباء، والآباء للأجداء، وهم بمواليهم آنس، وبناحيتهم أوثق، وبكفايتهم أسر.
وقد كان المنصور، ومحمد بن علي، وعلي بن عبد الله، يخصون مواليهم بالمواكلة والبسط والإيناس، لا يبهرجون الأسود لسواده، ولا الدميم لدمامته، ولا الصناعة الدنيئة لدناءتها. ويوصون بحفظهم أكابر أولادهم، ويجعلون لكثير من موتاهم الصلاة على جنائزهم، وذلك بحضرة من العمومة وبني الأعمام والأخوة.
ويتذاكرون إكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة مولاه، حين عقد له يوم مؤتة على جلَّة بني هاشم، وجعله أمير كل بلدة يطؤها.
ويتذاكرون حبه لأسامة بن زيد، وهو الحبُّ ابن الحبِّ. وعقد له على عظماء المهاجرين وأكابر الأنصار.
ويتذاكرون صنيعه بسائر مواليه، كأبي أنسة، وشُقران، وفلان وفلان.
قالوا: ولنا من رؤوس النقباء أبو منصور مولى خزاعة، وأبو احكم عيسى بن أعين مولى خزاعى، وأبو النجم عمران بن إسماعيل مولى آل أبي معيط. فلنا مناقب الخراسانية، ولنا مناقب الموالى في هذه الدعوة، ونحن منهم وإليهم، ومن أنفسهم، لا يدفع ذلك مسلم ولا ينكره مؤمن، خدمناهم كباراً وحملناهم على عواتقنا صغاراً. هذا مع حق الرضاع والخؤولة، والنشوء في الكتاب، والتقلب في تلك العراص التي لم يبلغها إلا كل سعيد الجد، وجيهٍ في الملوك. فقد شاركنا العربي في فخره، والخراساني في مجده، والبنوي في فضله، ثم تفردنا بما لم يشاركونا فيه، ولا سبقونا إليه.
قالوا: ونحن أشكل بالرعية، وأقرب إلى طباع الدهماء؛ وهم بنا آنس وإلينا أسكن، وإلى لقائنا أحن؛ ونحن بهم أرحم، وعليهم أعطف، وبهم أشبه. فمن أحق بالأثرة، وأولى بحسن المنزلة ممن هذه الخصال له، وهذه الخلال فيه.
وقلت وذكرت أن البنوي قال: أنا أصلي خراسان، وهي مخرج الدولة ومطلع الدعوة؛ ومنها نجم هذا القرن، وصبأ هذا الناب، وتفجر هذا الينبوع، واستفاض هذا البحر، حتى ضرب الحق بجرانه، وطبق الآفاق بضيائه، فأبرأ من السقم القديم، وشفى من الداء العضال، وأغنى من العيلة، وبصر من العمى.
قال: وفرعى بغداد، وهي مستقر الخلافة، والقرار بعد الحولة، وفيها بقية رجال الدعوة، وأبناء الشيعة، وهي خراسان العراق، وبيت الخلافة، وموضع المادة.
وطلاب الطوائل رجلان: سجستاني وأعرابي. وهل أكثر النقباء إلا من صميم العرب، ومن صليبة النسب، كأبي عبد الحميد قحطبة بن شبيب الطائي، وأبي محمد سليمان بن كثير الخزاعي، وأبي نصر مالك بن الهيثم الخزاعي، وأبي داود خالد بن إبراهيم الذهلي، وكأبي عمرو لاهز بن قريظ المرئي، وأبي عتيبة موسى بن كعب المرئي، وأبي سهل القاسم بن مجاشع المرئي، ومن كان يجري مجرى النقباء ولم يدخل فيهم، مثل مالك بن الطواف المزني.
وبعد فمن هذا الذي باشر قتل مروان، ومن هزم ابن هبيرة، ومن قتل ابن ضبارة، ومن قتل نباتة بن حنظلة، إلا عرب الدعوة، والصميم من أهل الدولة؟! ومنفتح السند إلا موسى بن كعب، ومن فتح إفريقيا إلا محمد بن الأشعث؟!.
وقلت: وقال: وتقول الموالى: لنا النصيحة الخالصة، والمحبة الراسخة، ونحن موضع الثقة عند الشدة. وعلل المولى من تحت موجبة لمحبة المولى من فوق، لأن شرف مولاه راجعٌ إليه، وكرمه زائد في كرمه، وخموله مسقط لقدره. وبوده أن خصال الكرام كلها اجتمعت فيه؛ لأنه كلما كان مولاه أكبر وأشرف وأظهر، كان هو بها أشرف وأنبل. ومولاك أسلم لك صدراً، وأرد ضميراً، وأقل حسداً.
وبعد فالولاء لحمة كلحمة النسب، فقد صار لنا النسب الذي يصوبه العربي، ولنا الأصل الذي يفتخر به العجمي.
قال: والصبر ضروب، فأكرمها كلها الصبر على إفشاء السر. وللمولى في هذه المكرمة ما ليس لأحد.
ونحن أخص مدخلاً، وألطف في الخدمة مسلكاً. ولنا مع الطاعة والخدمة والإخلاص وحسن النية، خدمة الأبناء للآباء، والآباء للأجداء، وهم بمواليهم آنس، وبناحيتهم أوثق، وبكفايتهم أسر.
وقد كان المنصور، ومحمد بن علي، وعلي بن عبد الله، يخصون مواليهم بالمواكلة والبسط والإيناس، لا يبهرجون الأسود لسواده، ولا الدميم لدمامته، ولا الصناعة الدنيئة لدناءتها. ويوصون بحفظهم أكابر أولادهم، ويجعلون لكثير من موتاهم الصلاة على جنائزهم، وذلك بحضرة من العمومة وبني الأعمام والأخوة.
ويتذاكرون إكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة مولاه، حين عقد له يوم مؤتة على جلَّة بني هاشم، وجعله أمير كل بلدة يطؤها.
ويتذاكرون حبه لأسامة بن زيد، وهو الحبُّ ابن الحبِّ. وعقد له على عظماء المهاجرين وأكابر الأنصار.
ويتذاكرون صنيعه بسائر مواليه، كأبي أنسة، وشُقران، وفلان وفلان.
قالوا: ولنا من رؤوس النقباء أبو منصور مولى خزاعة، وأبو احكم عيسى بن أعين مولى خزاعى، وأبو النجم عمران بن إسماعيل مولى آل أبي معيط. فلنا مناقب الخراسانية، ولنا مناقب الموالى في هذه الدعوة، ونحن منهم وإليهم، ومن أنفسهم، لا يدفع ذلك مسلم ولا ينكره مؤمن، خدمناهم كباراً وحملناهم على عواتقنا صغاراً. هذا مع حق الرضاع والخؤولة، والنشوء في الكتاب، والتقلب في تلك العراص التي لم يبلغها إلا كل سعيد الجد، وجيهٍ في الملوك. فقد شاركنا العربي في فخره، والخراساني في مجده، والبنوي في فضله، ثم تفردنا بما لم يشاركونا فيه، ولا سبقونا إليه.
قالوا: ونحن أشكل بالرعية، وأقرب إلى طباع الدهماء؛ وهم بنا آنس وإلينا أسكن، وإلى لقائنا أحن؛ ونحن بهم أرحم، وعليهم أعطف، وبهم أشبه. فمن أحق بالأثرة، وأولى بحسن المنزلة ممن هذه الخصال له، وهذه الخلال فيه.
وقلت وذكرت أن البنوي قال: أنا أصلي خراسان، وهي مخرج الدولة ومطلع الدعوة؛ ومنها نجم هذا القرن، وصبأ هذا الناب، وتفجر هذا الينبوع، واستفاض هذا البحر، حتى ضرب الحق بجرانه، وطبق الآفاق بضيائه، فأبرأ من السقم القديم، وشفى من الداء العضال، وأغنى من العيلة، وبصر من العمى.
قال: وفرعى بغداد، وهي مستقر الخلافة، والقرار بعد الحولة، وفيها بقية رجال الدعوة، وأبناء الشيعة، وهي خراسان العراق، وبيت الخلافة، وموضع المادة.
قال: وأنا أعرق في هذا الأمر من أبي، وأكثر ترداداً فيه من جدي، وأحق في هذا الفضل من المولى والعربي. ولنا بعد في أنفسنا ما لا ينكر من الصبر تحت ظلال السيوف القصار والرماح الطوال. ولنا معانقة الأبطال عند تحطم القنا وانقطاع الصفائح. ولنا المواجأة بالسكاكين، وتلقى الخناجر بالعيون، ونحن حماة المستلحم، وأبناء المضايق. ونحن أهل الثبات عند الجولة، والمعرفة عند الحيرة، وأصحاب المشهرات، وزينة العساكر وحلى الجيوش، ومن يمشى في الرمح، ويختال بين الصفين. ونحن أصحاب الفتك والإقدام، ولنا بعد التسلق، ونقب المدن، والتقحم على ظبات السيوف وأطراف الرماح، ورضخ الجندل، وهشم العمد، والصبر على الجراح وعلى جر السلاح إذا طار قلب الأعرابي، وساء ظن الخراساني. ثم الصبر تحت العقوبة، والاحتجاج عند المساءلة، واجتماع العقل، وصحة الطرف، وثبات القدمين، وقلة التكفي بحبل العقابين، والبعد من الإقرار، وقلة الخضوع للدهر والخضوع عند جفوة الزوار وجفاء الأقارب والإخوان.
ولنا القتال عند أبواب الخنادق، ورؤوس القناطر. ونحن الموت الأحمر عند أبواب النقب. ولنا المواجأة في الأزقة، والصبر على قتال السجون. فسل عن ذلك الخليدية، والكتفية، والبلالية، والخريبية. ونحن أصحاب المكابدات وأرباب البيات، وقتل الناس جهاراً في الأسواق والطرقات.
ونحن نجمع بين السلة والمزاحفة. ونحن أصحاب القنا الطوال ما كنا رجالة، والمطارد القصار ما كنا فرسانا. فإن صرنا كمناً فالحتف القاضي، والسم الذعاف. وإن كنا طلائع فكلنا يقوم مقام أمير الجيش. نقاتل بالليل كما نقاتل بالنهار، ونقاتل في الماء كما نقاتل على الأرض، ونقاتل في القرية كما نقاتل في المحلة.
ونحن أفتك وأخشب، ونحن أقطع للطريق وأذكر في الثغور، مع حسن القدود وجودة الخرط ومقادير اللحى، وحسن العمة، والنفس المرة. وأصحاب الباطل والفتوة، ثم الخط والكتابة، والفقه والرواية.
ولنا بغداد بأسرها، تسكن ما سكنا، وتتحرك ما تحركنا. والدنيا كلها معلقةٌ بها، وصائرةٌ إلى معناها. فإذا كان هذا أمرها وقدرها فجميع الدنيا تبعٌ لها. وكذلك أهلها لأهلها، وفتاكها لفتاكها، وخلاعها لخلاعها، ورؤساؤها لرؤسائها، وصلحاؤها لصلحائها.
ونحن بعد تربية الخلفاء، وجيران الوزراء، ولدنا في أفنية ملوكنا، ونحن أجنحة خلفائنا، فأخذنا بآثارهم، واحتذينا على مثالهم، فلسنا نعرف سواهم، ولا نعرف بغيرهم، ولا يطمع فينا أحد قط من خطاب ملكهم، وممن يترشح للاعتراض عليهم. فمن أحق بالأثرة، وأولى بالقرب في المنزلة ممن هذه الخصال فيه، وهذه الخلال له.
بسم الله الرحمن الرحيم إن ذهبنا حفظك الله بعقب هذه الاحتجاجات، وعند مقطع هذه الاستدلالات، نستعمل هذه المعارضة بمناقب الأتراك، والموازنة بين خصالهم وخصال كل صنف من هذه الأصناف، سلكنا في هذا الكتاب سبيل أصحاب الخصومات في كتبهم، وطريق أصحاب الأهواء في الاختلاف الذي بينهم.
وكتابنا هذا إنما تكلفناه لنؤلف بين قلوبهم التي كانت مختلفة، ولنزيد الألفة إن كانت مؤتلفة، ولنخبر عن اتفاق أسبابهم لتجتمع كلمتهم، ولتسلم صدورهم، وليعرف من كان لا يعرف منهم موضع التفاوت في النسب، وكم مقدار الخلاف في الحسب، فلا يغير بعضهم مغير، ولا يفسده عدو بأباطيل مموهة وشبهات مزورة؛فإن المنافق العليم، والعدو ذا الكيد العظيم، قد يصور لهم الباطل في صورة الحق، ويلبس الإضاعة ثياب الحزم. إلا أنا على حال سنذكر جملاً من أحاديث رويناها ووعيناها، وأمور رأيناها وشاهدناها، وفضائل تلقفناها من أفواه الرجال وسمعناها.
وسنذكر جميع ما في هذه الأصناف من الآلات والأدوات، ثم ننظر أيهم لها أشد استعمالاً، وبها أشد استقلالاً، ومن أثقب كيسا وأفتح عيناً وأذكى يقيناً، وأبعد غوراً وأجمع أمراً، وأعم خواطر وأكثر غرائب، وأبدع طريقاً، وأدوم نفعاً في الحروب، وأضرى وأدرب دربةً، وأغمض مكيدةً، وأشد احتراساً وألطف احتيالاً؛ حتى يكون الخيار في يد الناظر المتصفح لمعانيه، والمقلّب لوجوهه، والمفكّر في أبوابه، والمقابل بين أوله وآخره، فلا نكون نحن انتحلنا شيئاً دون شيء، وتقلدنا تفضيل بعضٍ على بعض، بل لعلّنا أن لا نخبر عن خاصة ما عندنا بحرف واحد.
ولنا القتال عند أبواب الخنادق، ورؤوس القناطر. ونحن الموت الأحمر عند أبواب النقب. ولنا المواجأة في الأزقة، والصبر على قتال السجون. فسل عن ذلك الخليدية، والكتفية، والبلالية، والخريبية. ونحن أصحاب المكابدات وأرباب البيات، وقتل الناس جهاراً في الأسواق والطرقات.
ونحن نجمع بين السلة والمزاحفة. ونحن أصحاب القنا الطوال ما كنا رجالة، والمطارد القصار ما كنا فرسانا. فإن صرنا كمناً فالحتف القاضي، والسم الذعاف. وإن كنا طلائع فكلنا يقوم مقام أمير الجيش. نقاتل بالليل كما نقاتل بالنهار، ونقاتل في الماء كما نقاتل على الأرض، ونقاتل في القرية كما نقاتل في المحلة.
ونحن أفتك وأخشب، ونحن أقطع للطريق وأذكر في الثغور، مع حسن القدود وجودة الخرط ومقادير اللحى، وحسن العمة، والنفس المرة. وأصحاب الباطل والفتوة، ثم الخط والكتابة، والفقه والرواية.
ولنا بغداد بأسرها، تسكن ما سكنا، وتتحرك ما تحركنا. والدنيا كلها معلقةٌ بها، وصائرةٌ إلى معناها. فإذا كان هذا أمرها وقدرها فجميع الدنيا تبعٌ لها. وكذلك أهلها لأهلها، وفتاكها لفتاكها، وخلاعها لخلاعها، ورؤساؤها لرؤسائها، وصلحاؤها لصلحائها.
ونحن بعد تربية الخلفاء، وجيران الوزراء، ولدنا في أفنية ملوكنا، ونحن أجنحة خلفائنا، فأخذنا بآثارهم، واحتذينا على مثالهم، فلسنا نعرف سواهم، ولا نعرف بغيرهم، ولا يطمع فينا أحد قط من خطاب ملكهم، وممن يترشح للاعتراض عليهم. فمن أحق بالأثرة، وأولى بالقرب في المنزلة ممن هذه الخصال فيه، وهذه الخلال له.
بسم الله الرحمن الرحيم إن ذهبنا حفظك الله بعقب هذه الاحتجاجات، وعند مقطع هذه الاستدلالات، نستعمل هذه المعارضة بمناقب الأتراك، والموازنة بين خصالهم وخصال كل صنف من هذه الأصناف، سلكنا في هذا الكتاب سبيل أصحاب الخصومات في كتبهم، وطريق أصحاب الأهواء في الاختلاف الذي بينهم.
وكتابنا هذا إنما تكلفناه لنؤلف بين قلوبهم التي كانت مختلفة، ولنزيد الألفة إن كانت مؤتلفة، ولنخبر عن اتفاق أسبابهم لتجتمع كلمتهم، ولتسلم صدورهم، وليعرف من كان لا يعرف منهم موضع التفاوت في النسب، وكم مقدار الخلاف في الحسب، فلا يغير بعضهم مغير، ولا يفسده عدو بأباطيل مموهة وشبهات مزورة؛فإن المنافق العليم، والعدو ذا الكيد العظيم، قد يصور لهم الباطل في صورة الحق، ويلبس الإضاعة ثياب الحزم. إلا أنا على حال سنذكر جملاً من أحاديث رويناها ووعيناها، وأمور رأيناها وشاهدناها، وفضائل تلقفناها من أفواه الرجال وسمعناها.
وسنذكر جميع ما في هذه الأصناف من الآلات والأدوات، ثم ننظر أيهم لها أشد استعمالاً، وبها أشد استقلالاً، ومن أثقب كيسا وأفتح عيناً وأذكى يقيناً، وأبعد غوراً وأجمع أمراً، وأعم خواطر وأكثر غرائب، وأبدع طريقاً، وأدوم نفعاً في الحروب، وأضرى وأدرب دربةً، وأغمض مكيدةً، وأشد احتراساً وألطف احتيالاً؛ حتى يكون الخيار في يد الناظر المتصفح لمعانيه، والمقلّب لوجوهه، والمفكّر في أبوابه، والمقابل بين أوله وآخره، فلا نكون نحن انتحلنا شيئاً دون شيء، وتقلدنا تفضيل بعضٍ على بعض، بل لعلّنا أن لا نخبر عن خاصة ما عندنا بحرف واحد.
فإذا دبرنا كتابنا هذا التدبير، وكان موضوعه على هذه الصفة، كان أبعد له من مذاهب الجدال والمراء، واستعمال الهوى.
وقد ظنّ ناسٌ أنّ أسماء أصناف الأجناس كما اختلفت في الصورة والخط والهجاء، أن حقائقها ومعانيها على حسب ذلك. وليس الأمر على حسب ما توهمه؛ ألا ترى أنّ اسم الشاكرية وإن خالف في الصورة والهجاء اسم الجند،فإن المعنى فيهما ليس ببعيدٍ؛ لأنهم يرجعون إلى معنىً واحد وعمل واحد. والذي إليه يرجعون طاعة الخلفاء، وتأييد السلطان.
وإذا كان المولى منقولاً إلى العرب في أكثر المعاني، ومجعولاً منهم في عامة الأسباب، لم يكن ذلك بأعجب ممن جعل الخال والداً، والحليف من الصميم، وابن الأخت من القوم.
وقد جعل ابن الملاعنة المولود على فراش البعل منسوباً إلى أمه.
وقد جعلوا إسماعيل وهو ابن عجميين عربياً؛ لأن الله تعالى فتق لهاته بالعربية المبينة على غير التلقين والترتيب، ثم فطره على الفصاحة العجيبة على غير النشوِّ والتقدير، وسلخ طباعه من طبائع العجم، ونقل إلى بدنه تلك الأجزاء، وركبه اختراعاً على ذلك التركيب، وسوَّاه تلك التسوية، وصاغه تلك الصياغة، ثم حباه من طبائعهم، ومنحه من أخلاقهم وشمائلهم، وطبعه من كرمهم وأنفتهم وهمهم على أكرمها وأمكنها، وأشرفها وأعلاها، وجعل ذلك برهاناً على رسالته، ودليلاً على نبوته؛ فكان أحق بذلك النسب، وأولى بشرف ذلك الحسب.
وكما جُعل إبراهيم أباً لمن لم يلده، فالبنوي خراساني من جهة الولادة، والمولى عربيٌ من جهة المدعى والعاقلة. وإن أحاط علمنا بأن زيداً لم يخلق من نجل عمرو إلا عهاراً لنفيناه عنه، وإن وثقنا أنه لم يخلق من صلبه.
وكما جعل النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه أمهات المؤمنين وهن لم يلدنهم ولا أرضعنهم، وفي بعض القراءات: " وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم " ، على قوله: " ملة أبيكم إبراهيم " . وجعل المرأة من جهة الرضاع أماً، وجعل امرأة البعل أم ولد البعل من غيرها، وجعل الراب والداً، وجعل العم أباً في كتاب الله. وهم عبيده لا يتقلبون إلا فيما قَّلبهم فيه. وله أن يجعل من عباده من شاء عربياً ومن شاء عجمياً، ومن شاء قرشيَّاً، ومن شاء زنجياً؛ كما له أن يجعل من شاء ذكراً ومن شاء أنثى، ومن شاء خنثى، ومن شاء أفرده من ذلك فجعله لا ذكراً ولا أنثى ولا خنثى.
وكذلك خلق الملائكة وهم أكرم على الله من جميع الخليقة. وخلق أدم فلم يجعل له أباً ولا أماً، وخلقه من طينٍ ونسبه إليه، وخلق حواء من ضلع آدم وجعلها له زوجاً وسكنا. وخلق عيسى من غير ذكرٍ ونسبه إلى أمه التي خلقه منها. وخلق الجان من نار السموم، وآدم من طين، وعيسى من غير نطفة. وخلق السماء من دخان، والأرض من الماء، وخلق إسحاق من عاقرٍ. وأنطق عيسى في المهد، وأنطق يحيى بالحكمة وهو صغير، وعلم سليمان منطق الطير، وكلام النمل، وعلم الحفظة من الملائكة جميع الألسنة حتى كتبوا بكل خط، ونطقوا بكل لسان. وأنطق ذئب أهبان بن أوس. والمؤمنون من جميع الأمم إذا دخلوا الجنة، وكذلك أطفالهم والمجانين منهم، يتكلمون ساعة يدخلون الجنة بلسان أهل الجنة على غير الترتيب والتنزيل، والتعليم على طول الأيام والترقيم والتلقين. فكيف يتعجب الجاهلون من إنطاق إسماعيل بالعربية على غير تعليم الآباء، وتأديب الحواضن؟!.
وهذه المسألة ربما سأل عنها بعض القحطانية، ممن لا علم له، بعض العدنانية، وهي على القحطاني أشد. فأما جواب العدناني فسلس النظام سهل المخرج، قريب المعنى؛ لأن بني قحطان لا يدعون لقحطان نبوة فيعطيه الله مثل هذه الأعجوبة.
وما الذي قسم الله - عز اسمه - بين الناس من ذلك، إلا كما صنع في طينة الأرض، فجعل بعضها حجرا، وبعض الحجر ياقوتاً، وبعضه ذهباً، وبعضه نحاساً، وبعضه رصاصاً، وبعضه حديداً، وبعضه تراباً، وبعضه فخاراً. وكذلك الزاج، والمغرة، والزرنيخ، والمرتك، والكبريت، والقار، والتوتيا، والنوشادر، والمرقشيثا، والمغناطيس.
ومن يحصي عدد أجزاء الأرض،وأصناف الفلز؟!.
وإذا كان الأمر على ما وصفنا فالبنوي خراساني. وإذا كان الخراساني مولى، والمولى عربيٌّ فقد صار الخراساني والبنوي والمولى والعربي واحداً.
وقد ظنّ ناسٌ أنّ أسماء أصناف الأجناس كما اختلفت في الصورة والخط والهجاء، أن حقائقها ومعانيها على حسب ذلك. وليس الأمر على حسب ما توهمه؛ ألا ترى أنّ اسم الشاكرية وإن خالف في الصورة والهجاء اسم الجند،فإن المعنى فيهما ليس ببعيدٍ؛ لأنهم يرجعون إلى معنىً واحد وعمل واحد. والذي إليه يرجعون طاعة الخلفاء، وتأييد السلطان.
وإذا كان المولى منقولاً إلى العرب في أكثر المعاني، ومجعولاً منهم في عامة الأسباب، لم يكن ذلك بأعجب ممن جعل الخال والداً، والحليف من الصميم، وابن الأخت من القوم.
وقد جعل ابن الملاعنة المولود على فراش البعل منسوباً إلى أمه.
وقد جعلوا إسماعيل وهو ابن عجميين عربياً؛ لأن الله تعالى فتق لهاته بالعربية المبينة على غير التلقين والترتيب، ثم فطره على الفصاحة العجيبة على غير النشوِّ والتقدير، وسلخ طباعه من طبائع العجم، ونقل إلى بدنه تلك الأجزاء، وركبه اختراعاً على ذلك التركيب، وسوَّاه تلك التسوية، وصاغه تلك الصياغة، ثم حباه من طبائعهم، ومنحه من أخلاقهم وشمائلهم، وطبعه من كرمهم وأنفتهم وهمهم على أكرمها وأمكنها، وأشرفها وأعلاها، وجعل ذلك برهاناً على رسالته، ودليلاً على نبوته؛ فكان أحق بذلك النسب، وأولى بشرف ذلك الحسب.
وكما جُعل إبراهيم أباً لمن لم يلده، فالبنوي خراساني من جهة الولادة، والمولى عربيٌ من جهة المدعى والعاقلة. وإن أحاط علمنا بأن زيداً لم يخلق من نجل عمرو إلا عهاراً لنفيناه عنه، وإن وثقنا أنه لم يخلق من صلبه.
وكما جعل النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه أمهات المؤمنين وهن لم يلدنهم ولا أرضعنهم، وفي بعض القراءات: " وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم " ، على قوله: " ملة أبيكم إبراهيم " . وجعل المرأة من جهة الرضاع أماً، وجعل امرأة البعل أم ولد البعل من غيرها، وجعل الراب والداً، وجعل العم أباً في كتاب الله. وهم عبيده لا يتقلبون إلا فيما قَّلبهم فيه. وله أن يجعل من عباده من شاء عربياً ومن شاء عجمياً، ومن شاء قرشيَّاً، ومن شاء زنجياً؛ كما له أن يجعل من شاء ذكراً ومن شاء أنثى، ومن شاء خنثى، ومن شاء أفرده من ذلك فجعله لا ذكراً ولا أنثى ولا خنثى.
وكذلك خلق الملائكة وهم أكرم على الله من جميع الخليقة. وخلق أدم فلم يجعل له أباً ولا أماً، وخلقه من طينٍ ونسبه إليه، وخلق حواء من ضلع آدم وجعلها له زوجاً وسكنا. وخلق عيسى من غير ذكرٍ ونسبه إلى أمه التي خلقه منها. وخلق الجان من نار السموم، وآدم من طين، وعيسى من غير نطفة. وخلق السماء من دخان، والأرض من الماء، وخلق إسحاق من عاقرٍ. وأنطق عيسى في المهد، وأنطق يحيى بالحكمة وهو صغير، وعلم سليمان منطق الطير، وكلام النمل، وعلم الحفظة من الملائكة جميع الألسنة حتى كتبوا بكل خط، ونطقوا بكل لسان. وأنطق ذئب أهبان بن أوس. والمؤمنون من جميع الأمم إذا دخلوا الجنة، وكذلك أطفالهم والمجانين منهم، يتكلمون ساعة يدخلون الجنة بلسان أهل الجنة على غير الترتيب والتنزيل، والتعليم على طول الأيام والترقيم والتلقين. فكيف يتعجب الجاهلون من إنطاق إسماعيل بالعربية على غير تعليم الآباء، وتأديب الحواضن؟!.
وهذه المسألة ربما سأل عنها بعض القحطانية، ممن لا علم له، بعض العدنانية، وهي على القحطاني أشد. فأما جواب العدناني فسلس النظام سهل المخرج، قريب المعنى؛ لأن بني قحطان لا يدعون لقحطان نبوة فيعطيه الله مثل هذه الأعجوبة.
وما الذي قسم الله - عز اسمه - بين الناس من ذلك، إلا كما صنع في طينة الأرض، فجعل بعضها حجرا، وبعض الحجر ياقوتاً، وبعضه ذهباً، وبعضه نحاساً، وبعضه رصاصاً، وبعضه حديداً، وبعضه تراباً، وبعضه فخاراً. وكذلك الزاج، والمغرة، والزرنيخ، والمرتك، والكبريت، والقار، والتوتيا، والنوشادر، والمرقشيثا، والمغناطيس.
ومن يحصي عدد أجزاء الأرض،وأصناف الفلز؟!.
وإذا كان الأمر على ما وصفنا فالبنوي خراساني. وإذا كان الخراساني مولى، والمولى عربيٌّ فقد صار الخراساني والبنوي والمولى والعربي واحداً.
وأدنى ذلك أن يكون الذي معهم من خصال الوفاق غامراً ما معهم من خصال الخلاف، بل هم في معظم الأمر وفي كبر الشأن وعمود النسب متفقون. والأتراك خراسانية وموالي الخلفاء قصيرة، فقد صار التركي إلى الجميع راجعاً، وصار شرفه إلى شرفهم زائداً.
وإذا عرف سائر ذلك سامحت النفوس، وذهب التعقيد، ومات الضغن، وانقطع سبب الاستثقال؛ فلم يبقى إلا التحاسد والتنافس الذي لا يزال يكون بين المتقاربين في القرابة وفي المجاورة.
على أن التوازر والتسالم في القرابات وفي بني الأعمام والعشائر، أفشى وأعم من البعداء.
ولخوف التخاذل ولحب التناصر، والحاجة إلى التعاون انضم بعض القبائل في البوادي إلى بعضٍ، ينزلون معاً ويظعنون معاً. ومن فارق أصحابه أقل، ومن نصر ابن عمه أكثر. ومن اغتبط بنعمته وتمنى بقاءها والزيادة فيها أكثر ممن بغاها الغوائل، وطلب انقطاعها وزوالها. ولا بد في أضعاف ذلك من بعض التنافس والتخاذل، إلا أن ذلك قليل من كثيرٌ.
وليس يجوز أن تصفو الدنيا وتنقى من الفساد والمكروه حتى يموت جميع الخلائق، وتستوي لأهلها، وتتمهد لسكانها على ما يشتهون ويهوون؛ لأن ذلك من صفة دار الجزاء، وليس كذلك صفة دار العمل.
بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب كنت كتبته أيام المعتصم بالله، رضي الله عنه، فلم يصل إليه، لأسبابٍ يطول شرحها، فلذلك لم أعرض للإخبار عنها. وأحببت أن يكون كتاباً قصداً، ومذهباً عدلاً، ولا يكون كتاب إسراف في مديح قوم، وإغراق في هجاء آخرين. وإن كان الكتاب كذلك شابه الكذب، وخالطه التزيد، وبنى أساسه على التكلف، وخرج كلامه مخرج الاستكراه والتغليق.
وأنفع المدائح للمادح وأجداها على الممدوح، وأبقاها أثراً وأحسنها ذكراً: أن يكون المديح صدقا، وللظاهر من حال الممدوح موافقا، وبه لائقا، حتى لا يكون من المعبر عنه والواصف له إلا الإشارة إليه، والتنبيه عليه.
وأنا أقول: إن كان لا يمكن ذلك في مناقب الأتراك إلا بذكر مثالب سائر الأجناد، فترك ذكر الجميع أصوب، والإضراب عن هذا الكتاب أحزم، وذكر الكثير من هذه الأصناف بالجميل، لا يقوم بالقليل من ذكر بعضهم بالقبيح، لأن ذكر الأكثر بالجميل نافلة، وباب من التطوع، وذكر الأقل بالقبيح معصية، وباب من ترك الواجب. وقليل الفريضة أجدى علينا من كثير التطوع.
ولكل نصيب من النقض، ومقدار من الذنوب؛ وإنما يتفاضل الناس بكثرة المحاسن وقلة المساوى. فأما الاشتمال على جميع المحاسن، والسلامة من جميع المساوئ دقيقها وجليلها، وظاهرها وخفيها، فهذا لا يعرف.
وقد قال النابغة:
ولست بمستبقٍ أخاً لا تلمه ... على شعثٍ،أيُّ الرجال المهذب
وقال حر يش السعدي:
أخ لي كأيام الحياة إخاؤه ... تلوَّن ألواناً على خطوبها
إذا عبت منه خلة فتركته ... دعتني إليه خلة لا أعيبها
وقال بشار:
إذا كنت في كلِّ الأمور معاتباً ... خليلك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحداً أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنبٍ مرةً ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظميت وأيُّ الناس تصفو مشاربه
وقال مطيع بن إياسٍ الَّليثيّ:
ولئن كنت لا تصاحب إلا ... صاحباً لا تزل، ما عاش، نعله
لم تجده ولو جهدت وأنَّى ... بالذي لا يكون يوجد مثله
إنما صاحبي الذي يغفر الذَّن ... ب ويكفيه من أخيه أقله
وقال محمد بن سعيد، وهو رجلٌ من الجند:
سأشكر عمراً إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلتِ
فتىً غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مُظهر الشكوى إذا النعل زلتِ
رأى خلتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلت
وإذا عرف سائر ذلك سامحت النفوس، وذهب التعقيد، ومات الضغن، وانقطع سبب الاستثقال؛ فلم يبقى إلا التحاسد والتنافس الذي لا يزال يكون بين المتقاربين في القرابة وفي المجاورة.
على أن التوازر والتسالم في القرابات وفي بني الأعمام والعشائر، أفشى وأعم من البعداء.
ولخوف التخاذل ولحب التناصر، والحاجة إلى التعاون انضم بعض القبائل في البوادي إلى بعضٍ، ينزلون معاً ويظعنون معاً. ومن فارق أصحابه أقل، ومن نصر ابن عمه أكثر. ومن اغتبط بنعمته وتمنى بقاءها والزيادة فيها أكثر ممن بغاها الغوائل، وطلب انقطاعها وزوالها. ولا بد في أضعاف ذلك من بعض التنافس والتخاذل، إلا أن ذلك قليل من كثيرٌ.
وليس يجوز أن تصفو الدنيا وتنقى من الفساد والمكروه حتى يموت جميع الخلائق، وتستوي لأهلها، وتتمهد لسكانها على ما يشتهون ويهوون؛ لأن ذلك من صفة دار الجزاء، وليس كذلك صفة دار العمل.
بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب كنت كتبته أيام المعتصم بالله، رضي الله عنه، فلم يصل إليه، لأسبابٍ يطول شرحها، فلذلك لم أعرض للإخبار عنها. وأحببت أن يكون كتاباً قصداً، ومذهباً عدلاً، ولا يكون كتاب إسراف في مديح قوم، وإغراق في هجاء آخرين. وإن كان الكتاب كذلك شابه الكذب، وخالطه التزيد، وبنى أساسه على التكلف، وخرج كلامه مخرج الاستكراه والتغليق.
وأنفع المدائح للمادح وأجداها على الممدوح، وأبقاها أثراً وأحسنها ذكراً: أن يكون المديح صدقا، وللظاهر من حال الممدوح موافقا، وبه لائقا، حتى لا يكون من المعبر عنه والواصف له إلا الإشارة إليه، والتنبيه عليه.
وأنا أقول: إن كان لا يمكن ذلك في مناقب الأتراك إلا بذكر مثالب سائر الأجناد، فترك ذكر الجميع أصوب، والإضراب عن هذا الكتاب أحزم، وذكر الكثير من هذه الأصناف بالجميل، لا يقوم بالقليل من ذكر بعضهم بالقبيح، لأن ذكر الأكثر بالجميل نافلة، وباب من التطوع، وذكر الأقل بالقبيح معصية، وباب من ترك الواجب. وقليل الفريضة أجدى علينا من كثير التطوع.
ولكل نصيب من النقض، ومقدار من الذنوب؛ وإنما يتفاضل الناس بكثرة المحاسن وقلة المساوى. فأما الاشتمال على جميع المحاسن، والسلامة من جميع المساوئ دقيقها وجليلها، وظاهرها وخفيها، فهذا لا يعرف.
وقد قال النابغة:
ولست بمستبقٍ أخاً لا تلمه ... على شعثٍ،أيُّ الرجال المهذب
وقال حر يش السعدي:
أخ لي كأيام الحياة إخاؤه ... تلوَّن ألواناً على خطوبها
إذا عبت منه خلة فتركته ... دعتني إليه خلة لا أعيبها
وقال بشار:
إذا كنت في كلِّ الأمور معاتباً ... خليلك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحداً أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنبٍ مرةً ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظميت وأيُّ الناس تصفو مشاربه
وقال مطيع بن إياسٍ الَّليثيّ:
ولئن كنت لا تصاحب إلا ... صاحباً لا تزل، ما عاش، نعله
لم تجده ولو جهدت وأنَّى ... بالذي لا يكون يوجد مثله
إنما صاحبي الذي يغفر الذَّن ... ب ويكفيه من أخيه أقله
وقال محمد بن سعيد، وهو رجلٌ من الجند:
سأشكر عمراً إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلتِ
فتىً غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مُظهر الشكوى إذا النعل زلتِ
رأى خلتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلت
فإذا كان الخلطاء من جمهور الناس، وأصحاب المعايش من دهماء الجماعة، يرون ذلك واجباً وتدبيراً في التعامل، على ما هم فيه من مشاركة الخطأ للصواب، وامتزاج الضعف بالقوة، فلسنا نشك أن الإمام الأكبر والرئيس الأعظم، مع الأعراق الكريمة والأخلاق الرفيعة، والتمام في الحلم والعلم، والكمال في الحزم والعزم، مع التمكين والقدرة، والفضيلة والرِّياسة والسيادة، والخصائص التي معه من التوفيق والعصمة، والتأييد وحسن المعونة، أن الله جل اسمه لم يكن ليجلله باسم الخلافة، ويحبوَه بتاج الإمامة، وبأعظم نعمة وأسبغها، وأفضل كرامةٍ وأسناها، ثم وصل طاعته بطاعته، ومعصيته بمعصيته، إلا ومعه من الحلم في موضع الحلم، والعفو في موضع العفو، والتغافل في موضع التغافل، ما لا يبلغه فضل ذي فضلٍ، ولا حلم ذي حلمٍ.
ونحن قائلون، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فيما انتهى إلينا في أمر الأتراك: زعم محمد بن الجهم، وثمامة بن الأشرس، والقاسم بن سيار، في جماعة ممن يغشى دار الخلافة، وهي دار العامة، قالوا جميعاً: بيننا حميد بن عبد الحميد جالساً ومعه يخشاد الصُّغدي، وأبو شجاع شبيب بن بخاراخداي البلخي، ويحيى بن معاذ، ورجال من المعدودين المتقدمين في العلم بالحرب من أصحاب التجارب والمراس، وطول المعالجة والمعاناة في صناعات الحرب، إذ خرج رسول المأمون فقال لهم: نقول لكم متفرقين ومجتمعين: ليكتب كل رجلٍ منكم دعواه وحجته، وليقل أيما أحب إلى كل قائد منكم إذا كان في عدته من صحبه وثقاته: أن يلقى مائة تركي أو مائة خارجي؟ فقال القوم جميعاً : لأن نلقى مائة تركي أحب إلينا من أن نلقى مائة خارجي! وحميد ساكت.
فلما فرغ القوم جميعاً من حججهم، قال الرسول: قد قال القوم فقل واكتب قولك، وليكن حجة لك أو عليك.
قال: بل ألقى مائة خارجي أحب إلي؛ لأنني وجدت الخصال التي يفضل بها الخارجي جميع المقاتلة غير تامةٍ في الخارجي، ووجدتها تامة في التركي.ففضل التركي على الخارجي بقدر فضل الخارجي على سائر المقاتلة، ثم بان التركي عن الخارجي بأمورٍ ليس فيها للخارجي دعوى ولا متعلق. على أن هذه الأمور التي بان بها التركي عن الخارجي، أعظم خطراً وأكثر نفعا، مما شاركه الخارجي في بعضها.
ثم قال حميد: والخصال التي يصول بها الخارجي على سائر الناس صدق الشدة عن أول وهلة، وهي الدفعة التي يبلغون بها ما أرادوا، وينالون الذي أملوا.
والثانية: الصبر على الخبب وعلى طول السُّرى، حتى يصبح القوم الذين مرقوا بهم غارين فيهجموا عليهم وهم بسوء،ولحمٌ على وضم، يتعجَّلونهم عن الروية، وعن رد النفس عن النزوة والجولة، لا يظنون أن أحداً يقطع في ذلك المقدار من الزمان ذلك المقدار من البلاد.
والثالثة: أن الخارجي موصوف عند الناس بأنه إن طَلب أدرك، وإن طُلب فات.
والرابعة: خفة الأزواد وقلة الأمتعة، وأنها تجنب الخيل وتركب البغال، وإن احتاجت أمست بأرضٍ وأصبحت بأخرى، وأنهم قوم حين خرجوا لم يخلفوا الأموال الكثيرة، والجنان الملتفة، والدور المشيدة، ولا ضياعاً ولا مستغلات، ولا جواري مطهمات، وأنهم لا سلب لهم ولا مال معهم فيرغب الجند في لقائهم، وإنما هم كالطير لا تدخر ولا تهتم لغدٍ، ولها في كل أرض من المياه والأقوات ما تتبَّلغ به، وإن لم تجد ذلك في بعض البلاد فأجنحتها تقرب لها البعيد، وتسهل لها الحزون.وكذلك الخوارج لا يمتنع عليهم القرى والمطعم، وإن تمنع عليهم ففي بنات شحَّاجٍ وبنات صهَّال، وخفة الأثقال على طول الخبب، ما يسهل أقواتها، ويكثر من أرزاقها.
والخامسة: أن الملوك إن أرسلوا إليهم أعدادهم ليكونوا في خفة أوزارهم وأثقالهم، وليقووا على التنقل كقوتهم، لم يقووا عليهم؛ لأن مائة من الجند لا يقومون لمائة من الخوارج؛ وإن كثفوا الجيش بالجيش، وضاعفوا العدد بالعدد ثقلوا عن طلبهم، وعن الفوت إن طلبهم عدوهم. ومتى شاء الخارجي أن يقرب منهم ليتطرَّفهم أو ليصيب الغرة منهم، أو ليسلبهم، فعل ذلك ثقة بأنه يغنم عند الفرصة ورؤية العورة، ويمكنه الهرب عند الخوف. وإن شاء كبسهم ليقطع نظامهم، أو ليقتطع القطعة منهم.
قال حميد: فهذه هي مفاخرهم وخصالهم، التي لها كره القواد لقاءهم.
ونحن قائلون، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فيما انتهى إلينا في أمر الأتراك: زعم محمد بن الجهم، وثمامة بن الأشرس، والقاسم بن سيار، في جماعة ممن يغشى دار الخلافة، وهي دار العامة، قالوا جميعاً: بيننا حميد بن عبد الحميد جالساً ومعه يخشاد الصُّغدي، وأبو شجاع شبيب بن بخاراخداي البلخي، ويحيى بن معاذ، ورجال من المعدودين المتقدمين في العلم بالحرب من أصحاب التجارب والمراس، وطول المعالجة والمعاناة في صناعات الحرب، إذ خرج رسول المأمون فقال لهم: نقول لكم متفرقين ومجتمعين: ليكتب كل رجلٍ منكم دعواه وحجته، وليقل أيما أحب إلى كل قائد منكم إذا كان في عدته من صحبه وثقاته: أن يلقى مائة تركي أو مائة خارجي؟ فقال القوم جميعاً : لأن نلقى مائة تركي أحب إلينا من أن نلقى مائة خارجي! وحميد ساكت.
فلما فرغ القوم جميعاً من حججهم، قال الرسول: قد قال القوم فقل واكتب قولك، وليكن حجة لك أو عليك.
قال: بل ألقى مائة خارجي أحب إلي؛ لأنني وجدت الخصال التي يفضل بها الخارجي جميع المقاتلة غير تامةٍ في الخارجي، ووجدتها تامة في التركي.ففضل التركي على الخارجي بقدر فضل الخارجي على سائر المقاتلة، ثم بان التركي عن الخارجي بأمورٍ ليس فيها للخارجي دعوى ولا متعلق. على أن هذه الأمور التي بان بها التركي عن الخارجي، أعظم خطراً وأكثر نفعا، مما شاركه الخارجي في بعضها.
ثم قال حميد: والخصال التي يصول بها الخارجي على سائر الناس صدق الشدة عن أول وهلة، وهي الدفعة التي يبلغون بها ما أرادوا، وينالون الذي أملوا.
والثانية: الصبر على الخبب وعلى طول السُّرى، حتى يصبح القوم الذين مرقوا بهم غارين فيهجموا عليهم وهم بسوء،ولحمٌ على وضم، يتعجَّلونهم عن الروية، وعن رد النفس عن النزوة والجولة، لا يظنون أن أحداً يقطع في ذلك المقدار من الزمان ذلك المقدار من البلاد.
والثالثة: أن الخارجي موصوف عند الناس بأنه إن طَلب أدرك، وإن طُلب فات.
والرابعة: خفة الأزواد وقلة الأمتعة، وأنها تجنب الخيل وتركب البغال، وإن احتاجت أمست بأرضٍ وأصبحت بأخرى، وأنهم قوم حين خرجوا لم يخلفوا الأموال الكثيرة، والجنان الملتفة، والدور المشيدة، ولا ضياعاً ولا مستغلات، ولا جواري مطهمات، وأنهم لا سلب لهم ولا مال معهم فيرغب الجند في لقائهم، وإنما هم كالطير لا تدخر ولا تهتم لغدٍ، ولها في كل أرض من المياه والأقوات ما تتبَّلغ به، وإن لم تجد ذلك في بعض البلاد فأجنحتها تقرب لها البعيد، وتسهل لها الحزون.وكذلك الخوارج لا يمتنع عليهم القرى والمطعم، وإن تمنع عليهم ففي بنات شحَّاجٍ وبنات صهَّال، وخفة الأثقال على طول الخبب، ما يسهل أقواتها، ويكثر من أرزاقها.
والخامسة: أن الملوك إن أرسلوا إليهم أعدادهم ليكونوا في خفة أوزارهم وأثقالهم، وليقووا على التنقل كقوتهم، لم يقووا عليهم؛ لأن مائة من الجند لا يقومون لمائة من الخوارج؛ وإن كثفوا الجيش بالجيش، وضاعفوا العدد بالعدد ثقلوا عن طلبهم، وعن الفوت إن طلبهم عدوهم. ومتى شاء الخارجي أن يقرب منهم ليتطرَّفهم أو ليصيب الغرة منهم، أو ليسلبهم، فعل ذلك ثقة بأنه يغنم عند الفرصة ورؤية العورة، ويمكنه الهرب عند الخوف. وإن شاء كبسهم ليقطع نظامهم، أو ليقتطع القطعة منهم.
قال حميد: فهذه هي مفاخرهم وخصالهم، التي لها كره القواد لقاءهم.
قال قاسم بن سيار: وخصلة أخرى، وهي التي رعبت القلوب وخلعتها، ونقضت العزائم وفسختها، وهو ما تسمع الأجناد ومقاتلة العوام، من ضرب المثل بالخوارج، كقول الشاعر:
إذا ما البخيل والمحاذر للقرى ... رأى الضيف مثل الأزرقيِّ المجفَّف
وكقول الآخر:
وقلبِ ودٍّ حال عن عهده ... والسيف ينبو بيد الشاري
وكقول الآخر:
لقاء الأسد أهون من لقاه ... إذا التحكيم يسهر بالأصل
فهذه زيادة قاسم بن سيار.
فأما حميد فإنه قال: الشدة الأولى التركي فيها أحمد أثراً، وأجمع أمراً، وأحكم شأنا؛ لأن التركي من أجل أن تصدق شدته ويتمكن عزمه، ولا يكون مشترك العزم ولا منقسم الخواطر، قد عود برذونه ألا ينثنى وإن ثناه، أن يملأ فروجه للأمر يديره مرة أو مرتين، وإلا فإنه لا يدع سننه، ولا يقطع ركضه.وإنما أراد التركي أن يوئس نفسه من البدوات، ومن أن يعتريه التكذيب بعد الاعتزام، لهول اللقاء، وحب الحياة؛ لأنه إذا علم أنه قد صيَّر برذونه إلى هذه الغاية حتى لا ينثني ولا يجيبه إلى التصرف معه إلا بأن يصنع شيئاً بين الصفين فيه عطبه، لم يُقدم على الشدة إلا بعد إحكام الأمر، والبصر بالعورة. وإنما يريد أن يشبه نفسه بالمُحرج الذي إذا رأى أشد القتال لم يدع جهدا ولم يدخر حيلة، ولينفيَ عن قلبه خواطر الفرار، ودواعيَ الرجوع.
وقال: الخارجيُّ عند الشدة إنما يعتمد على الطِّعان، والأتراك تطعن طعن الخوارج، وإن شدَّ منهم ألف فارس فرموا رشقاً واحداً صرعوا ألف فارس، فما بقاء جيش على هذا النوع من الشدة! والخوارج والأعراب ليست لهم رماية مذكورة إلى ظهور الخيل، والتركيُّ يرمى الوحش والطي، والبرجاس، والناس والمجثَّمة، والمثل الموضوعة، ويرمى بعشرة أسهم قبل أن يفوق الخارجي سهماً واحداً، ويركض دابته منحدراً من جبل، أو مستفلاً إلى بطن واد بأكثر مما يمكن الخارجي على بسيط الأرض .
وللتركيِّ أربعة أعين : عينان في وجهه، وعينان في قفاه. وللخارجيِّ عيب في مستدبر الحرب ، وللخرسانيِّ عيبٌ في مستقبل الحرب. فعيب الخرسانية أن لها جولة عند أول الالتقاء، وإن ركبوا كسأهم كانت هزيمتهم، وكثيراً ما يثوبون، وذلك بعد الخطار بالعسكر، وإطماع العدوِّ في الشدة.
والخوارج إذا ولوا فقد ولوا وليس لهم بعد الفرِّ كر، إلا ما لا يعد. والتركيُّ ليست له جولة الخراساني، وإذا أدبر فهو السم النافع، والحتف القاضي؛ لأنه يصيب بسهمه وهو مدبرٌ كما يصيب به وهو مقبل، ولا يؤمن وهقه، ولا انتساف الفرس، واختطاف الفارس بتلك الراكضة.
ولم يفلت من الوهق في جميع الدهر إلا المهلب بن أبي صفرة، والحريش بن هلال، وعباد بن الحصين. وربما رمى بالوهق وله فيه تدبير آخر وإن لم يجنب المرمى معه، يوهم الجاهل أن ذلك إنما كان لخرق التركي، أو لحذق المرمى.
قال: وهم علموا الفرسان حمل قوسين وثلاثة قسي، ومن الأوتار على حسب ذلك.
قال: والتركي في حال شدته، معه كل شيء يحتاج إليه لنفسه وسلاحه ودابته وأداة دابته. فأما الصبر على الخبب وعلى مواصلة السفر، وعلى طول السُّري وقطع البلاد، فعجيبٌ جداً.
فواحدةً: أن فرس الخارجي لا يصبر صبر برذون التركي.
والخارجي لا يحسن أن يعالج فرسه إلا معالجة الفرسان لخيولهم، والتركي أحذق من البيطار، وأجود تقويماً لبرذونه على ما يريده من الراضة وهو استنتجه، وهو رباه فلواً، وتتبعه إن سماه، وإن ركض ركض خلفه. وقد عوده ذلك حتى عرفه، كما يعرف الفرس أقدم، والناقة حل، والجمل جاه، والبغل عدس، والحمار ساسا، وكما يعرف المجنون لقبه والصبي اسمه.
ولو حصلت عُمر التركي وحسبت أيامه لوجدت جلوسه على ظهر دابته أكثر من جلوسه على ظهر الأرض. والتركي يركب فحلاً أو رمكة، ويخرج غازياً أو مسافراً، أو متباعداً في طلب صيدٍ، أو سببٍ من الأسباب، فتتبعه الرَّمكة وأفلاؤها، إن أعياه اصطياد الناس اصطاد الوحش، وإن أخفق منها أو احتاج إلى طعامٍ فصد دابةً من دوابِّه، وإن عطش حلب رمكة من رماكه، وإن أراح واحدةً تحته ركب أخرى من غير أن ينزل إلى الأرض. وليس في الأرض أحدٌ إلا وبدنه ينتفض على اقتيات اللحم وحده غيره؛ وكذلك دابته تكتفي بالعنقر والعشب والشجر، لا يظُّلها من شمس ولا يكنها من برد.
إذا ما البخيل والمحاذر للقرى ... رأى الضيف مثل الأزرقيِّ المجفَّف
وكقول الآخر:
وقلبِ ودٍّ حال عن عهده ... والسيف ينبو بيد الشاري
وكقول الآخر:
لقاء الأسد أهون من لقاه ... إذا التحكيم يسهر بالأصل
فهذه زيادة قاسم بن سيار.
فأما حميد فإنه قال: الشدة الأولى التركي فيها أحمد أثراً، وأجمع أمراً، وأحكم شأنا؛ لأن التركي من أجل أن تصدق شدته ويتمكن عزمه، ولا يكون مشترك العزم ولا منقسم الخواطر، قد عود برذونه ألا ينثنى وإن ثناه، أن يملأ فروجه للأمر يديره مرة أو مرتين، وإلا فإنه لا يدع سننه، ولا يقطع ركضه.وإنما أراد التركي أن يوئس نفسه من البدوات، ومن أن يعتريه التكذيب بعد الاعتزام، لهول اللقاء، وحب الحياة؛ لأنه إذا علم أنه قد صيَّر برذونه إلى هذه الغاية حتى لا ينثني ولا يجيبه إلى التصرف معه إلا بأن يصنع شيئاً بين الصفين فيه عطبه، لم يُقدم على الشدة إلا بعد إحكام الأمر، والبصر بالعورة. وإنما يريد أن يشبه نفسه بالمُحرج الذي إذا رأى أشد القتال لم يدع جهدا ولم يدخر حيلة، ولينفيَ عن قلبه خواطر الفرار، ودواعيَ الرجوع.
وقال: الخارجيُّ عند الشدة إنما يعتمد على الطِّعان، والأتراك تطعن طعن الخوارج، وإن شدَّ منهم ألف فارس فرموا رشقاً واحداً صرعوا ألف فارس، فما بقاء جيش على هذا النوع من الشدة! والخوارج والأعراب ليست لهم رماية مذكورة إلى ظهور الخيل، والتركيُّ يرمى الوحش والطي، والبرجاس، والناس والمجثَّمة، والمثل الموضوعة، ويرمى بعشرة أسهم قبل أن يفوق الخارجي سهماً واحداً، ويركض دابته منحدراً من جبل، أو مستفلاً إلى بطن واد بأكثر مما يمكن الخارجي على بسيط الأرض .
وللتركيِّ أربعة أعين : عينان في وجهه، وعينان في قفاه. وللخارجيِّ عيب في مستدبر الحرب ، وللخرسانيِّ عيبٌ في مستقبل الحرب. فعيب الخرسانية أن لها جولة عند أول الالتقاء، وإن ركبوا كسأهم كانت هزيمتهم، وكثيراً ما يثوبون، وذلك بعد الخطار بالعسكر، وإطماع العدوِّ في الشدة.
والخوارج إذا ولوا فقد ولوا وليس لهم بعد الفرِّ كر، إلا ما لا يعد. والتركيُّ ليست له جولة الخراساني، وإذا أدبر فهو السم النافع، والحتف القاضي؛ لأنه يصيب بسهمه وهو مدبرٌ كما يصيب به وهو مقبل، ولا يؤمن وهقه، ولا انتساف الفرس، واختطاف الفارس بتلك الراكضة.
ولم يفلت من الوهق في جميع الدهر إلا المهلب بن أبي صفرة، والحريش بن هلال، وعباد بن الحصين. وربما رمى بالوهق وله فيه تدبير آخر وإن لم يجنب المرمى معه، يوهم الجاهل أن ذلك إنما كان لخرق التركي، أو لحذق المرمى.
قال: وهم علموا الفرسان حمل قوسين وثلاثة قسي، ومن الأوتار على حسب ذلك.
قال: والتركي في حال شدته، معه كل شيء يحتاج إليه لنفسه وسلاحه ودابته وأداة دابته. فأما الصبر على الخبب وعلى مواصلة السفر، وعلى طول السُّري وقطع البلاد، فعجيبٌ جداً.
فواحدةً: أن فرس الخارجي لا يصبر صبر برذون التركي.
والخارجي لا يحسن أن يعالج فرسه إلا معالجة الفرسان لخيولهم، والتركي أحذق من البيطار، وأجود تقويماً لبرذونه على ما يريده من الراضة وهو استنتجه، وهو رباه فلواً، وتتبعه إن سماه، وإن ركض ركض خلفه. وقد عوده ذلك حتى عرفه، كما يعرف الفرس أقدم، والناقة حل، والجمل جاه، والبغل عدس، والحمار ساسا، وكما يعرف المجنون لقبه والصبي اسمه.
ولو حصلت عُمر التركي وحسبت أيامه لوجدت جلوسه على ظهر دابته أكثر من جلوسه على ظهر الأرض. والتركي يركب فحلاً أو رمكة، ويخرج غازياً أو مسافراً، أو متباعداً في طلب صيدٍ، أو سببٍ من الأسباب، فتتبعه الرَّمكة وأفلاؤها، إن أعياه اصطياد الناس اصطاد الوحش، وإن أخفق منها أو احتاج إلى طعامٍ فصد دابةً من دوابِّه، وإن عطش حلب رمكة من رماكه، وإن أراح واحدةً تحته ركب أخرى من غير أن ينزل إلى الأرض. وليس في الأرض أحدٌ إلا وبدنه ينتفض على اقتيات اللحم وحده غيره؛ وكذلك دابته تكتفي بالعنقر والعشب والشجر، لا يظُّلها من شمس ولا يكنها من برد.
قال: وأما الصبر على الخبب فإن الثغريين، والفرانقيين، والخصيان والخوارج، لو اجتمعت قواهم في شخصٍ واحد لما وفوا بتركي واحد. والتركي لا يبقى معه على طول الغاية إلا الصميم من دوابه. والذي يقتله التركي بإتعابه له، وينفيه عند غزاته، هو الذي لا معه فرس الخارجي، ولا يبقى معه كل برذون بخاري. ولو ساير خارجياً لاسترغ وسعه قبل أن يبلغ الخارجي عفوه.
والتركي هو الراعي، وهو السائس وهو الراكض، وهو النخاس، وهو البيطار، وهو الفارس. والتركي الواحد أمةٌ على حدة.
قال: وإذا سار التركي في غير عساكر الترك، فسار القوم عشرة أميال سار عشرين ميلاً؛ لأنه ينقطع عن العسكر يمنةً ويسرة، ويسرع في ذرى الجبال، ويستبطن قعور الأودية في طلب الصيد؛ وهو في ذلك يرمي كل ما دب ودرج، وطار ووقع.
قال: والتركي لم يسر في العساكر سير الناس قط، ولا سار مستقيماً قط.
قالوا: وإذا طالت الدلجة واشتد السير، وبعد المنزل، وانتصف النهار، واشتد التعب، وشغل الناس الكلال، وصمت المتسايرون فلم ينطقوا، وقطعهم ما هم فيه عن التشاغل بالحديث، وتفسخ كل شيءٍ من شدة الحر، وخمد كل شيء من شدة البرد، وتمنى كل جليد القوى على طول السرى أن تطوى له الأرض، وكلما رأى خيالاً أو أبصر علماً سر به واستبشر، وظن أنه قد بلغ المنزل؛ فإذا بلغه الفارس نزل وهو متفحج كأنه صبيٌّ محقون، يئن أنين المريض، ويستريح إلى التثاؤب، ويتداوى مما به بالتمطي والتضجع. وترى التركي في تلك الحال وقد سار ضعف ما ساروا وقد أتعب منكبيه كثرة النزع، يرى قرب المنزل عيراً أو ظبياً، أو عرض له ثعلب أو أرنب، خيركض ركض مبتدئ مستأنف، كأن الذي سار ذلك السير وتعب ذلك التعب غيره.
وإن بلغ الناس وادياً فازدحموا على مسلكه أو على قنطرته، بطن برذونه فأقحمه ثم طلع من الجانب الآخر كأنه كوكب. وإن انتهوا إلى عقبةٍ صعبةٍ ترك السنن وذهب في الجبل صعداً، ثم تدلى من موضع يعجز عنه الوعل؛ وأنت تحسبه مخاطراً بنفسه، للذي ترى من مطَّلعه. ولو كان في كل ذلك مخاطراً لما دامت له السلامة مع تتابع ذلك منه.
قال: ويفخر الخارجي بأنه إذا طلب أدرك، وإذا طُلب لم يدرك. والتركي ليس يحوج إلى أن يفوت؛ لأنه لا يُطلب ولا يرام. ومن يروم ما لا يطمع فيه؟! فهذا. على أنا قد علمنا العلة التي عمت الخوارج بالنجدة استواء حالتهم في الديانة، واعتقادهم أن القتال دين؛ لأننا حين وجدنا السجستاني والخراساني والجزري واليمامي والمغربي والعماني، والأزرقي منهم والنجدي والإباضي والصفري، والمولى والعربي، والعجمي والأعرابي، والعبيد والنساء، والحائك والفلاح، كلهم يقاتل مع اختلاف الأنساب وتباين البلدان علمنا أن الديانة هي التي سوت بينهم، ووفقت بينهم في ذلك. كما أن كل حجامٍ في الأرض من أي جنسٍ كان، ومن أي بلدٍ كان، فهو يحب النبيذ، وكما أن أصحاب الخلقان والسماكين والنخاسين والحاكة في كل بلد من كل جنس، شرار خلق الله في المبايعة والمعاملة. فعلمنا بذلك أن ذلك خلقة في هذه الصناعات، وبنية في هذه التجارات، حين صاروا من بين جميع الناس كذلك.
قال: ورأينا التركي في بلاده ليس يقاتل على دينٍ ولا على تأويل، ولا على ملك ولا على خراج، ولا على عصبية ولا على غيرة دون الحرمة والمحرم، ولا على حمية ولا على عداوة، ولا على وطنٍ ومنع دار ولا مال؛ وإنما يقاتل على السلب والخيار في يده. وليس يخاف الوعيد إن هرب، ولا يرجو الوعد إن أبلى عذرا. وكذلك هم في بلادهم وغاراتهم وحروبهم. وهو الطالب غير المطلوب؛ ومن كان كذلك فإنما يأخذ العفو من قوته، ولا يحتاج إلى مجهوده. ثم هو مع ذلك لا يقوم له شيء ولا يطمع فيه أحد، فما ظنك بمن هذه صفته أن لو اضطره إحراج أو غيرة أو غضب أو تدين، أو عرض له بعض ما يصحب المقاتل المحامي من العلل والأسباب.
والتركي هو الراعي، وهو السائس وهو الراكض، وهو النخاس، وهو البيطار، وهو الفارس. والتركي الواحد أمةٌ على حدة.
قال: وإذا سار التركي في غير عساكر الترك، فسار القوم عشرة أميال سار عشرين ميلاً؛ لأنه ينقطع عن العسكر يمنةً ويسرة، ويسرع في ذرى الجبال، ويستبطن قعور الأودية في طلب الصيد؛ وهو في ذلك يرمي كل ما دب ودرج، وطار ووقع.
قال: والتركي لم يسر في العساكر سير الناس قط، ولا سار مستقيماً قط.
قالوا: وإذا طالت الدلجة واشتد السير، وبعد المنزل، وانتصف النهار، واشتد التعب، وشغل الناس الكلال، وصمت المتسايرون فلم ينطقوا، وقطعهم ما هم فيه عن التشاغل بالحديث، وتفسخ كل شيءٍ من شدة الحر، وخمد كل شيء من شدة البرد، وتمنى كل جليد القوى على طول السرى أن تطوى له الأرض، وكلما رأى خيالاً أو أبصر علماً سر به واستبشر، وظن أنه قد بلغ المنزل؛ فإذا بلغه الفارس نزل وهو متفحج كأنه صبيٌّ محقون، يئن أنين المريض، ويستريح إلى التثاؤب، ويتداوى مما به بالتمطي والتضجع. وترى التركي في تلك الحال وقد سار ضعف ما ساروا وقد أتعب منكبيه كثرة النزع، يرى قرب المنزل عيراً أو ظبياً، أو عرض له ثعلب أو أرنب، خيركض ركض مبتدئ مستأنف، كأن الذي سار ذلك السير وتعب ذلك التعب غيره.
وإن بلغ الناس وادياً فازدحموا على مسلكه أو على قنطرته، بطن برذونه فأقحمه ثم طلع من الجانب الآخر كأنه كوكب. وإن انتهوا إلى عقبةٍ صعبةٍ ترك السنن وذهب في الجبل صعداً، ثم تدلى من موضع يعجز عنه الوعل؛ وأنت تحسبه مخاطراً بنفسه، للذي ترى من مطَّلعه. ولو كان في كل ذلك مخاطراً لما دامت له السلامة مع تتابع ذلك منه.
قال: ويفخر الخارجي بأنه إذا طلب أدرك، وإذا طُلب لم يدرك. والتركي ليس يحوج إلى أن يفوت؛ لأنه لا يُطلب ولا يرام. ومن يروم ما لا يطمع فيه؟! فهذا. على أنا قد علمنا العلة التي عمت الخوارج بالنجدة استواء حالتهم في الديانة، واعتقادهم أن القتال دين؛ لأننا حين وجدنا السجستاني والخراساني والجزري واليمامي والمغربي والعماني، والأزرقي منهم والنجدي والإباضي والصفري، والمولى والعربي، والعجمي والأعرابي، والعبيد والنساء، والحائك والفلاح، كلهم يقاتل مع اختلاف الأنساب وتباين البلدان علمنا أن الديانة هي التي سوت بينهم، ووفقت بينهم في ذلك. كما أن كل حجامٍ في الأرض من أي جنسٍ كان، ومن أي بلدٍ كان، فهو يحب النبيذ، وكما أن أصحاب الخلقان والسماكين والنخاسين والحاكة في كل بلد من كل جنس، شرار خلق الله في المبايعة والمعاملة. فعلمنا بذلك أن ذلك خلقة في هذه الصناعات، وبنية في هذه التجارات، حين صاروا من بين جميع الناس كذلك.
قال: ورأينا التركي في بلاده ليس يقاتل على دينٍ ولا على تأويل، ولا على ملك ولا على خراج، ولا على عصبية ولا على غيرة دون الحرمة والمحرم، ولا على حمية ولا على عداوة، ولا على وطنٍ ومنع دار ولا مال؛ وإنما يقاتل على السلب والخيار في يده. وليس يخاف الوعيد إن هرب، ولا يرجو الوعد إن أبلى عذرا. وكذلك هم في بلادهم وغاراتهم وحروبهم. وهو الطالب غير المطلوب؛ ومن كان كذلك فإنما يأخذ العفو من قوته، ولا يحتاج إلى مجهوده. ثم هو مع ذلك لا يقوم له شيء ولا يطمع فيه أحد، فما ظنك بمن هذه صفته أن لو اضطره إحراج أو غيرة أو غضب أو تدين، أو عرض له بعض ما يصحب المقاتل المحامي من العلل والأسباب.
قال : وقناة الخارجىّ طويلة صماء، وقناة التركيّ مطرد أجوف والقنىُّ المجوفة القصار أشد طعنة وأخف في المحمل. والعجم تجعل القنى الطوال للرجالة، وهي قنى الأبناء، على أبواب الخنادق والمضايق. والأبناء في هذا الباب لا يجرون مع الأتراك والخراسانية؛ لأن الغالب على الأبناء المطاعنة على أبواب الخنادق وفي المضايق، وهؤلاء أصحاب الخيل والفرسان وعلى الخيل والفرسان تدور الجيوش، لهم الكر والفر. والفارس هو الذي يطوي الجيش طيَّ السجل، ويفرقهم تفريق الشعر. وليس يكون الكمين إلا منهم ولا الطليعة ولا السَّاقة. وهم أصحاب الأيام المذكورة والحروب الكبار والفتوح العظام، ولا تكون المقانب والكتائب إلا منهم. ومنهم من يحمل البنود والرايات، والطبول والتجافيف والأجراس. وهم أصحاب الصهيل والقتام، وزجر الخيل، وقعقة الريح في الثياب والسلاح ووقع الحوافر، والإدراك إذا طَلبوا، والغوث إذا طُلبوا. ولم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم للفارس سهمين وللراجل من المقاتلة سهماً واحداً إلا لتضاعيف الرد في القتل والفتوح، والنهبة والمغانم.
ثم قال: ولعمري إن الأبناء من القتال في السكك والسجون والمضايق ما ليس لغيرهم. ولكن الرجال أبداً أتباعٌ ومأمورون ومنقادون، وقائد الرجال لا يكون إلا فارساً، وقائد الفرسان من الممتنع أن يكون راجلاً. ومن تعود الطعان والضرب والرمي راكباً إن اضطر إلى الطعن والرمي راجلاً كان على ذاك أدفع على نفسه، وأرد عن أصحابه، من الراجل إذا احتاج أن يستعمل سلاحه فارساً. وعلى أنه ما أكثر ما ينزلون ويقاتلون. وقد قال الشاعر:
لم يطيقوا أن ينزلوا ونزلنا ... وأخو الحرب من أطاق النزولا
وقال الضبيُّ: وعلام أركبه إذا لم أنزل.
وقال آخر: فمعانقٌ ومنازل.
وقال حميد: وليس في الأرض قومٌ إلا والتساند في الحروب، والإشتراك في الرياسة ضارٌ لهم، إلا الأتراك. على أن الأتراك لا يتساندون ولا يتشاركون؛ وذلك أن الذي يكره من المساندة والمشاركة اختلاف الرأي، والتنافس في السر، والتحاسد بين الأشكال، والتواكل فيما بين المشتركين.
والأتراك إذا صافوا جيشاً إن كان في القوم موضع عورةٍ فكلهم قد أبصرها وعرفها؛ وإن لم تكن هناك عورةٌ لم يكن فيهم مطمع، وكان الرأي الانصراف، فكلهم قد رأى ذلك الرأي وعرف الصواب فيه. وخواطرهم واحدة، ودواعيهم مستوية بإقبالهم معاً. وليس هم أصحاب تأويلاتٍ ولا أصحاب تفاخرٍ وتناشدٍ، وإنما شأنهم إحكام أمرهم؛ فالاختلاف يقل بينهم.
وكانت الفرس تعيب العرب إذا خرجوا إلى الحرب متساندين، وكانت تقول: الاشتراك في الحرب وفي الزوجة وفي الإمرة سواء.
قال حميد: فما ظنك بقومٍ إذا تساندوا لم يضرهم التساند، فكيف يكونون إذا تحاسدوا.
فلما انتهى الخبر إلى المأمون قال: ليست بالترك حاجةٌ إلى حكم حاكم بعد حميد؛ فإن حميداً قد مارس الفريقين، وحميد خراساني وحميد عربي، فليس للتهمة عليه طريق.
قالوا: وأتى الخبر ذا اليمينين طاهر بن الحسين فقال: ما أحسن ما قال حميد. أما إنه لم يقصر ولم يفرط.
فهذا قول الخليفة المأمون، وحكم حميد، وتصويب طاهر.
وخبرني رجلٌ من أهل خراسان أو من بني سدوس قال: سمعت أبا البط يقول: ويلكم، كيف أصنع بفارسٍ يملأ فروج دابته منحدراً من جبل، أو مصعداً في مقطعٍ عفير، ويمكنه على ظهر الفرس ما لا يمكن الرقاص الأبلَّىَّ على ظهر الأرض.
قال: وقال سعيد بن عقبة بن سلمٍ الهنائي، وكان ذا رأيٍ في الحرب وابن ذي رأيٍ فيها: فرق ما بيننا وبين الترك أن الترك لم تغز قوماً قط، ولا صافت جيشاً ولا هجمت على عدو كانوا عرباً أو عجماً، فأخرجوا إليهم أعدادهم ولقوهم بمثلهم. وليس غايتهم إلا أن ينقادوا ليكفوا عنهم بأسهم ومعرتهم، ويصرفوا عنهم كيدهم.فإن هم امتنعوا من الصلح واعتزموا على الحرب فليس شأنهم والذي يدور عليه أمرهم إلا منع أنفسهم وتحصين عسكرهم، والاحتراس منهم. فأما أن ترقى هممهم وتسمو أنفسهم إلى الاحتيال عليهم، والتماس غرتهم، فإن هذا شيءٌ لا يخطر على بال من يحاربهم.
ثم قال: وقد عرفتم حيلهم في دخول المدن من جهة حيطانها المصمتة العريضة، وحيلتهم في عبور نهر بلخ.
وسعيدٌ هذا هو الذي قال:إذا حاربتم وكنتم ثلاثةً فاجعلوا واحداً مددا، وآخر كمينا. وله كلام في الحرب غير هذا كثير.
ثم قال: ولعمري إن الأبناء من القتال في السكك والسجون والمضايق ما ليس لغيرهم. ولكن الرجال أبداً أتباعٌ ومأمورون ومنقادون، وقائد الرجال لا يكون إلا فارساً، وقائد الفرسان من الممتنع أن يكون راجلاً. ومن تعود الطعان والضرب والرمي راكباً إن اضطر إلى الطعن والرمي راجلاً كان على ذاك أدفع على نفسه، وأرد عن أصحابه، من الراجل إذا احتاج أن يستعمل سلاحه فارساً. وعلى أنه ما أكثر ما ينزلون ويقاتلون. وقد قال الشاعر:
لم يطيقوا أن ينزلوا ونزلنا ... وأخو الحرب من أطاق النزولا
وقال الضبيُّ: وعلام أركبه إذا لم أنزل.
وقال آخر: فمعانقٌ ومنازل.
وقال حميد: وليس في الأرض قومٌ إلا والتساند في الحروب، والإشتراك في الرياسة ضارٌ لهم، إلا الأتراك. على أن الأتراك لا يتساندون ولا يتشاركون؛ وذلك أن الذي يكره من المساندة والمشاركة اختلاف الرأي، والتنافس في السر، والتحاسد بين الأشكال، والتواكل فيما بين المشتركين.
والأتراك إذا صافوا جيشاً إن كان في القوم موضع عورةٍ فكلهم قد أبصرها وعرفها؛ وإن لم تكن هناك عورةٌ لم يكن فيهم مطمع، وكان الرأي الانصراف، فكلهم قد رأى ذلك الرأي وعرف الصواب فيه. وخواطرهم واحدة، ودواعيهم مستوية بإقبالهم معاً. وليس هم أصحاب تأويلاتٍ ولا أصحاب تفاخرٍ وتناشدٍ، وإنما شأنهم إحكام أمرهم؛ فالاختلاف يقل بينهم.
وكانت الفرس تعيب العرب إذا خرجوا إلى الحرب متساندين، وكانت تقول: الاشتراك في الحرب وفي الزوجة وفي الإمرة سواء.
قال حميد: فما ظنك بقومٍ إذا تساندوا لم يضرهم التساند، فكيف يكونون إذا تحاسدوا.
فلما انتهى الخبر إلى المأمون قال: ليست بالترك حاجةٌ إلى حكم حاكم بعد حميد؛ فإن حميداً قد مارس الفريقين، وحميد خراساني وحميد عربي، فليس للتهمة عليه طريق.
قالوا: وأتى الخبر ذا اليمينين طاهر بن الحسين فقال: ما أحسن ما قال حميد. أما إنه لم يقصر ولم يفرط.
فهذا قول الخليفة المأمون، وحكم حميد، وتصويب طاهر.
وخبرني رجلٌ من أهل خراسان أو من بني سدوس قال: سمعت أبا البط يقول: ويلكم، كيف أصنع بفارسٍ يملأ فروج دابته منحدراً من جبل، أو مصعداً في مقطعٍ عفير، ويمكنه على ظهر الفرس ما لا يمكن الرقاص الأبلَّىَّ على ظهر الأرض.
قال: وقال سعيد بن عقبة بن سلمٍ الهنائي، وكان ذا رأيٍ في الحرب وابن ذي رأيٍ فيها: فرق ما بيننا وبين الترك أن الترك لم تغز قوماً قط، ولا صافت جيشاً ولا هجمت على عدو كانوا عرباً أو عجماً، فأخرجوا إليهم أعدادهم ولقوهم بمثلهم. وليس غايتهم إلا أن ينقادوا ليكفوا عنهم بأسهم ومعرتهم، ويصرفوا عنهم كيدهم.فإن هم امتنعوا من الصلح واعتزموا على الحرب فليس شأنهم والذي يدور عليه أمرهم إلا منع أنفسهم وتحصين عسكرهم، والاحتراس منهم. فأما أن ترقى هممهم وتسمو أنفسهم إلى الاحتيال عليهم، والتماس غرتهم، فإن هذا شيءٌ لا يخطر على بال من يحاربهم.
ثم قال: وقد عرفتم حيلهم في دخول المدن من جهة حيطانها المصمتة العريضة، وحيلتهم في عبور نهر بلخ.
وسعيدٌ هذا هو الذي قال:إذا حاربتم وكنتم ثلاثةً فاجعلوا واحداً مددا، وآخر كمينا. وله كلام في الحرب غير هذا كثير.
قال سعيد: وأخبرني أبي قال: شهدت أبا الخطاب يزيد بن قتادة بن دعامة الفقيه، وذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الترك حيث قال: " عدوٌّ شديدٌّ طلبه، قليلٌ سلبه " ، فقال رجلٌ من العالية: نهى عمر أبا زبيدٍ الطائيَّ عن وصف الأسد؛ لأن ذلك مما يزيد في رعب الجبان، وفي هول الجنان، ويقل من رغب الشجاع، وقد وصف الترك بأشد من وصف أبي زبيدٍ الأسد.
وقال سعيد في حديثه يومئذٍ،وقد قطعت شرذمةٌ منهم بلاد أبي خزيمة - يريد حمزة بن أدرك الخارجي - وما والي خراسان في بعض الأمر، وحمزة في معظم الناس، فقال لأصحابه: أفرجوا لهم ما تركوكم، ولا تتعرضوا لهم؛ فإنه قد قيل: تاركوهم ما تاركوكم.
فهذا قول سعيد بن عقبة ورأيه وحديثه؛وهو عربي خرساني.
وذكر يزيد بن مزيد الوقعة التي قتل فيها يولبا التركي الوليد بن طريف الخارجي، فقال في بعض ما يصف من شأن الترك: ليس لبدن التركي على ظهر الدابة ثقل، ولا لمشيه على الأرض وقع، وإنه ليرى وهو مدبرٌ ما لا يرى الفارس منا وهو مقبل. وهو يرى الفارس منا صيداً ويعد نفسه فهدا، ويعده ظبياً ويعد نفسه كلبا. والله لو رمى به في قعر بئر مكتوفاً لما أعجزته الحيلة؟ ولولا أن أعمار عامتهم تقصر دون الجبل - يعني جبل حلوان - ثم هموا بنا، لألقوا لنا شغلاً طويلاً.
وأنشد رجلٌ من أصحابه:
هب الدنيا تساق إليك عفواً ... أليس مصير ذاك إلى زوال
قال: أما التركي فلأن ينال الكفاف غصباً أحب إليه من أن ينال الملك عفواً. ولم يتهن تركيٌّ بطعامٍ إلا أن يكون صيداً او مغنما، ولا يعز على ظهر دابته طالباً كان أو مطلوبا.
وقال ثمامة بن أشرس، وكان مثل محمد بن الجهم في كثرة ذكره للترك. قال ثمامة: التركي لا يخاف إلا مخوفا ولا يطمع في غبر مطمع، ولا يكفُّه عن الطلب إلا اليأس صرفا، ولا يدع القليل حتى يصيب أكثر منه، وإن قدر أن يجمعهما لم يفرط في واحدٍ منهما. والباب الذي لا يحسنه لا يحسن منه شيئاً، والباب الذي يحسنه قد أحكمه بأسره وأمره وخفيه عنده كظاهره، ولا يتشاغل بشيء، ولا على نفسه من شيء. ولولا أن يجم نفسه بالنوم لما نام، على أن نومه مشوبٌ باليقظة، ويقظته سليمة من الوسنة، ولو كان في شقهم أنبياء، وفي أرضهم حكماء، وكانت هذه الخواطر قد مرت على قلوبهم، وقرعت أسماعهم، لأنسوك أدب البصريين، وحكمة اليونانيين، وصنعة أهل الصين.
وقال ثمامة: عرض لنا في طريق خراسان تركيٌّ ومعنا قائد يصول بنفسه ورجاله، وبيننا وبين التركي وادٍ، فسأله أن يبارزه فارسٌ من القوم، فأخرج له رجلاً لم أرقط أكمل منه، ولا أحسن تماماً وقواماً منه، فاحتال حتى عبر إليهم الفارس، فتجاولا ساعةً، ولا نظن إلا أن صاحبنا يفي بأضعافه، وهو في ذلك يتباعد عنا. فبينما هما في ذلك إذ ولى عنه التركي كالهارب منه، وفعل ذلك في موضعٍ ظننا أن صاحبنا قد ظهر عليه، وأتبعه الفارس لا نشك إلا أنه سيأتينا برأسه، أو يأتينا به مجنوباً إلى فرسه، فلم نشعر إلا وصاحبنا قد أفلت عن فرسه وغاب عنه، فنزل التركي إليه فأخذ سلبه وقتله،ثم عارض فرسه فجنبه إليه معه.
قال ثمامة: ثم رأيت بعد ذلك التركي قد جيء به أسيراً إلى دار الفضل ابن سهل، فقلت له: كيف صنعت يومئذ، وكيف طاولته ثم علاك ثم وليت عنه هارباً ثم قتلته؟ قال: أما إني لو شئت أن أقتله حين عبر؛ وقد كان مقتله بارزاً لي، ولكني احتلت عليه حتى نحيته عن أصحابه لأجوِّزه، فلا يحال بيني وبين فرسه وسلبه.
قال ثمامة: وإذا هو يدير الفارس من سائر الناس ويريغه كيف شاء وأحب.
قال ثمامة: وقد غبرت في أيديهم أسيراً فما رأيت كإكرامهم وتحفهم وألطافهم.
فهذا ثمامة بن أشرس، وهو عربي لا يتهم في الإخبار عنهم.
وأنا أخبرك أني قد رأيت منهم شيئاً عجيباً وأمراً غريباً: رأيت في بعض غزوات المأمون سماطي خيل على جنبتي الطريق بقرب المنزل، مائة فارسٍ من الأتراك في الجانب الأيمن، ومائةٌ من سائر الناس في الجانب الأيسر، وإذا هم قد اصطفوا ينتظرون مجيء المأمون، وقد انتصف النهار واشتد الحر. فورد عليهم وجمع الأتراك جلوسٌ على ظهور خيولهم إلا ثلاثة أو أربعة، وجميع تلك الأخلاط من الجند قد رموا بنفوسهم إلى الأرض إلا ثلاثة أو أربعة. فقلت لصاحبٍ لي: انظر أي شيءٍ اتفق لنا. أشهد أن المعتصم كان أعرف بهم حين جمعهم واصطنعهم.
وقال سعيد في حديثه يومئذٍ،وقد قطعت شرذمةٌ منهم بلاد أبي خزيمة - يريد حمزة بن أدرك الخارجي - وما والي خراسان في بعض الأمر، وحمزة في معظم الناس، فقال لأصحابه: أفرجوا لهم ما تركوكم، ولا تتعرضوا لهم؛ فإنه قد قيل: تاركوهم ما تاركوكم.
فهذا قول سعيد بن عقبة ورأيه وحديثه؛وهو عربي خرساني.
وذكر يزيد بن مزيد الوقعة التي قتل فيها يولبا التركي الوليد بن طريف الخارجي، فقال في بعض ما يصف من شأن الترك: ليس لبدن التركي على ظهر الدابة ثقل، ولا لمشيه على الأرض وقع، وإنه ليرى وهو مدبرٌ ما لا يرى الفارس منا وهو مقبل. وهو يرى الفارس منا صيداً ويعد نفسه فهدا، ويعده ظبياً ويعد نفسه كلبا. والله لو رمى به في قعر بئر مكتوفاً لما أعجزته الحيلة؟ ولولا أن أعمار عامتهم تقصر دون الجبل - يعني جبل حلوان - ثم هموا بنا، لألقوا لنا شغلاً طويلاً.
وأنشد رجلٌ من أصحابه:
هب الدنيا تساق إليك عفواً ... أليس مصير ذاك إلى زوال
قال: أما التركي فلأن ينال الكفاف غصباً أحب إليه من أن ينال الملك عفواً. ولم يتهن تركيٌّ بطعامٍ إلا أن يكون صيداً او مغنما، ولا يعز على ظهر دابته طالباً كان أو مطلوبا.
وقال ثمامة بن أشرس، وكان مثل محمد بن الجهم في كثرة ذكره للترك. قال ثمامة: التركي لا يخاف إلا مخوفا ولا يطمع في غبر مطمع، ولا يكفُّه عن الطلب إلا اليأس صرفا، ولا يدع القليل حتى يصيب أكثر منه، وإن قدر أن يجمعهما لم يفرط في واحدٍ منهما. والباب الذي لا يحسنه لا يحسن منه شيئاً، والباب الذي يحسنه قد أحكمه بأسره وأمره وخفيه عنده كظاهره، ولا يتشاغل بشيء، ولا على نفسه من شيء. ولولا أن يجم نفسه بالنوم لما نام، على أن نومه مشوبٌ باليقظة، ويقظته سليمة من الوسنة، ولو كان في شقهم أنبياء، وفي أرضهم حكماء، وكانت هذه الخواطر قد مرت على قلوبهم، وقرعت أسماعهم، لأنسوك أدب البصريين، وحكمة اليونانيين، وصنعة أهل الصين.
وقال ثمامة: عرض لنا في طريق خراسان تركيٌّ ومعنا قائد يصول بنفسه ورجاله، وبيننا وبين التركي وادٍ، فسأله أن يبارزه فارسٌ من القوم، فأخرج له رجلاً لم أرقط أكمل منه، ولا أحسن تماماً وقواماً منه، فاحتال حتى عبر إليهم الفارس، فتجاولا ساعةً، ولا نظن إلا أن صاحبنا يفي بأضعافه، وهو في ذلك يتباعد عنا. فبينما هما في ذلك إذ ولى عنه التركي كالهارب منه، وفعل ذلك في موضعٍ ظننا أن صاحبنا قد ظهر عليه، وأتبعه الفارس لا نشك إلا أنه سيأتينا برأسه، أو يأتينا به مجنوباً إلى فرسه، فلم نشعر إلا وصاحبنا قد أفلت عن فرسه وغاب عنه، فنزل التركي إليه فأخذ سلبه وقتله،ثم عارض فرسه فجنبه إليه معه.
قال ثمامة: ثم رأيت بعد ذلك التركي قد جيء به أسيراً إلى دار الفضل ابن سهل، فقلت له: كيف صنعت يومئذ، وكيف طاولته ثم علاك ثم وليت عنه هارباً ثم قتلته؟ قال: أما إني لو شئت أن أقتله حين عبر؛ وقد كان مقتله بارزاً لي، ولكني احتلت عليه حتى نحيته عن أصحابه لأجوِّزه، فلا يحال بيني وبين فرسه وسلبه.
قال ثمامة: وإذا هو يدير الفارس من سائر الناس ويريغه كيف شاء وأحب.
قال ثمامة: وقد غبرت في أيديهم أسيراً فما رأيت كإكرامهم وتحفهم وألطافهم.
فهذا ثمامة بن أشرس، وهو عربي لا يتهم في الإخبار عنهم.
وأنا أخبرك أني قد رأيت منهم شيئاً عجيباً وأمراً غريباً: رأيت في بعض غزوات المأمون سماطي خيل على جنبتي الطريق بقرب المنزل، مائة فارسٍ من الأتراك في الجانب الأيمن، ومائةٌ من سائر الناس في الجانب الأيسر، وإذا هم قد اصطفوا ينتظرون مجيء المأمون، وقد انتصف النهار واشتد الحر. فورد عليهم وجمع الأتراك جلوسٌ على ظهور خيولهم إلا ثلاثة أو أربعة، وجميع تلك الأخلاط من الجند قد رموا بنفوسهم إلى الأرض إلا ثلاثة أو أربعة. فقلت لصاحبٍ لي: انظر أي شيءٍ اتفق لنا. أشهد أن المعتصم كان أعرف بهم حين جمعهم واصطنعهم.
وأردت مرة القاطول - وهي المباركة - وأنا خارجٌ من بغداد، وأرى فوارس من أهل خراسان والأبناء وغيرهم من أصناف الجندي، قد عار لهم فرس، وهم على خيلٍ عتاق يريغونه فلا يقدرون على أخذه، ومر تركيٌ ولم يكن من ذوي هيئاتهم وذوي القدر منهم، وهو على برذونٍ له خسيس، وهم على الخيول المطهمة، فاعترض الفرس اعتراضاً، وقتله قتلاً وحياً؛ وأتاه من زجره بشيءٍ، فوقف أولئك الجند وصاروا نظارة، فقال بعضهم ممن كان يزري على ذلك التركي: هذا وأبيك التكلف والتعرض: أن فرساً قد أعجزهم وهم أسد البلاد، وجاء هذا مع قصر قامته وضعف دابته، فطمع أن يأخذه. فمى انقضى كلامه حتى أقبل به ثم سلمه إليهم ومضى لطلبته، لم ينتظر ثناءهم ولا دعاءهم، ولا أراهم أنه قد صنع شيئاً، أو أتى إليهم معروفاً.
والأتراك قومٌ لا يعرفون الملق ولا الخلابة، ولا النفاق ولا السعاية، ولا التصنع ولاالنميمة ولا الرياء، ولا البذخ على الأولياء، ولا البغيَ على الخلطاء، ولا يعرفون البدع، ولم تفسدهم الأهواء، ولايستحلُّون الأموال على التأوُّل، وإنما كان عيبهم، والذي يوحش منهم، الحنين إلى الأوطان، وحبُّ التقلب في البلدان، والصبابة بالغارات، والشغف بالنهب، وشدة الإلف للعادة، مع ما كانوا يتذاكرون من سرور الظفر وتتابعه، وحلاوة المغنم وكثرته، وملاعبهم في تلك الصحارى، وتردُّدهم في تلك المروج، وألا يذهب بطول الفراغ فضل نجدتهم باطلاً، ويصير حدهم على طول الأيام كليلاً.
ومن حذق شيئاً لم يصبر عنه، ومن كره أمراً فر منه.
وإنما خصوا بالحنين من بين جميع العجم لأن في تركيبهم وأخلاط طبائعهم من تركيب بلدهم وتربيتهم، ومشاكلة مياههم ومناسبة إخوانهم، ما ليس مع أحدٍ سواهم. ألا ترى أنك ترى البصريَّ فلا تدري أبصريٌّ هو أم كوفيٌّ، وترى المكيَّ فلا تدري أمكيّ هو أم مدنيّ. وترى الجبليَّ فلا تدري أجبليٌّ هو أم خراسانيّ، وترى الجزريَّ فلا تدري أجزريٌّ هو أم شاميّ. وأنت لا تغلط في التركيّ، ولا تحتاج فيه إلى قيافةٍ ولا إلى فراسة، ولا إلى مساءلة. ونساؤهم كرجالهم، ودوابهم تركيةٌ مثلهم.
وهكذا طبع الله تلك البلدة، وقسم لتلك التربة. وجميع دور الدنيا ونشوُّها إلى منتهى قواها ومدة أجلها، جارية على عللها، وعلى مقدار أسبابها وعلى قدر ما خصها الله تعالى به وأبانها، وجعل فيها. فإذا صاروا إلى دار الجزاء، فهي كما قال اللَّه تعالى: " إنا أنشأناهنَّ إنشاءً " .
وكذلك ترى أبناء العرب والأعراب الذين نزلوا خراسان، لا تفصل بين من نزل أبوه بفرغانة وبين أهل فرغانة، ولا ترى بينهم فرقاً في السبال الصهب والجلود القشرة، والأقفاء العظيمة، والأكسية الفرغانية. وكذلك جميع تلك الأرباع، لا تفصل بين أبناء النازلة وبين أبناء النابتة.
ومحبة الوطن شيءٌ شامل لجميع الناس، وغالب على جميع الجيرة. ولكن ذاك في الترك أغلب، وفيها أرسخ؛ لما معها من خاصة المشاكلة والمناسبة، واستواء الشبه، وتكافي التركيب. ألا ترى أن العبدي يقول: " عمر الله البلدان بحب الأوطان " ، وأن ابن الزبير قال: " ليس الناس بشيءٍ من أقسامهم أقنع منهم بأوطانهم " ، وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " لولا تفرق أهواء العباد لما عمَّر الله البلاد " ، وأن جمعة الإيادبة قالت: " لولا ما أوصى الله به العباد من قفر البلاد، لما وسعهم وادٍ ولا كفاهم زاد " .
وذكر قتيبة بن مسلم الترك فقال: " هم والله أحن من الإبل المعقلة إلى أوطانها " ؛ لأن البعير يحن إلى وطنه وعطنه، وهو بعمان، من ظهر البصرة، فهو يخبط كل شيء ويستبطن كل وادٍ، حتى يأتي مكانه؛ على أنه طريقٌ لم يسلكه إلا مرةً واحدة، فلا يزال بالشم والاسترواح وحسن الاستدلال، وبالطبيعة المخصوص بها حتى يأتي مبركه، على بعد ما بين عمان والبصرة.
فلذلك ضرب به قتيبة المثل.
والشح على الوطن والحنين إليه، والصبابة به، مذكورةٌ في القرآن، مخطوطةٌ في الصحف بين جميع الناس. غير أن التركي للعلل التي ذكرناها أشد حنيناً وأكثر نزوعاً.
والأتراك قومٌ لا يعرفون الملق ولا الخلابة، ولا النفاق ولا السعاية، ولا التصنع ولاالنميمة ولا الرياء، ولا البذخ على الأولياء، ولا البغيَ على الخلطاء، ولا يعرفون البدع، ولم تفسدهم الأهواء، ولايستحلُّون الأموال على التأوُّل، وإنما كان عيبهم، والذي يوحش منهم، الحنين إلى الأوطان، وحبُّ التقلب في البلدان، والصبابة بالغارات، والشغف بالنهب، وشدة الإلف للعادة، مع ما كانوا يتذاكرون من سرور الظفر وتتابعه، وحلاوة المغنم وكثرته، وملاعبهم في تلك الصحارى، وتردُّدهم في تلك المروج، وألا يذهب بطول الفراغ فضل نجدتهم باطلاً، ويصير حدهم على طول الأيام كليلاً.
ومن حذق شيئاً لم يصبر عنه، ومن كره أمراً فر منه.
وإنما خصوا بالحنين من بين جميع العجم لأن في تركيبهم وأخلاط طبائعهم من تركيب بلدهم وتربيتهم، ومشاكلة مياههم ومناسبة إخوانهم، ما ليس مع أحدٍ سواهم. ألا ترى أنك ترى البصريَّ فلا تدري أبصريٌّ هو أم كوفيٌّ، وترى المكيَّ فلا تدري أمكيّ هو أم مدنيّ. وترى الجبليَّ فلا تدري أجبليٌّ هو أم خراسانيّ، وترى الجزريَّ فلا تدري أجزريٌّ هو أم شاميّ. وأنت لا تغلط في التركيّ، ولا تحتاج فيه إلى قيافةٍ ولا إلى فراسة، ولا إلى مساءلة. ونساؤهم كرجالهم، ودوابهم تركيةٌ مثلهم.
وهكذا طبع الله تلك البلدة، وقسم لتلك التربة. وجميع دور الدنيا ونشوُّها إلى منتهى قواها ومدة أجلها، جارية على عللها، وعلى مقدار أسبابها وعلى قدر ما خصها الله تعالى به وأبانها، وجعل فيها. فإذا صاروا إلى دار الجزاء، فهي كما قال اللَّه تعالى: " إنا أنشأناهنَّ إنشاءً " .
وكذلك ترى أبناء العرب والأعراب الذين نزلوا خراسان، لا تفصل بين من نزل أبوه بفرغانة وبين أهل فرغانة، ولا ترى بينهم فرقاً في السبال الصهب والجلود القشرة، والأقفاء العظيمة، والأكسية الفرغانية. وكذلك جميع تلك الأرباع، لا تفصل بين أبناء النازلة وبين أبناء النابتة.
ومحبة الوطن شيءٌ شامل لجميع الناس، وغالب على جميع الجيرة. ولكن ذاك في الترك أغلب، وفيها أرسخ؛ لما معها من خاصة المشاكلة والمناسبة، واستواء الشبه، وتكافي التركيب. ألا ترى أن العبدي يقول: " عمر الله البلدان بحب الأوطان " ، وأن ابن الزبير قال: " ليس الناس بشيءٍ من أقسامهم أقنع منهم بأوطانهم " ، وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " لولا تفرق أهواء العباد لما عمَّر الله البلاد " ، وأن جمعة الإيادبة قالت: " لولا ما أوصى الله به العباد من قفر البلاد، لما وسعهم وادٍ ولا كفاهم زاد " .
وذكر قتيبة بن مسلم الترك فقال: " هم والله أحن من الإبل المعقلة إلى أوطانها " ؛ لأن البعير يحن إلى وطنه وعطنه، وهو بعمان، من ظهر البصرة، فهو يخبط كل شيء ويستبطن كل وادٍ، حتى يأتي مكانه؛ على أنه طريقٌ لم يسلكه إلا مرةً واحدة، فلا يزال بالشم والاسترواح وحسن الاستدلال، وبالطبيعة المخصوص بها حتى يأتي مبركه، على بعد ما بين عمان والبصرة.
فلذلك ضرب به قتيبة المثل.
والشح على الوطن والحنين إليه، والصبابة به، مذكورةٌ في القرآن، مخطوطةٌ في الصحف بين جميع الناس. غير أن التركي للعلل التي ذكرناها أشد حنيناً وأكثر نزوعاً.
وباب آخر، مما كان يدعوهم إلى الرجوع قبل العزم الثابت، والعادة المنقودة: وذلك أن الترك قومٌ يشتد عليهم الحصر والجثوم، وطول اللُّبث والمكث، وقلة التصرف والتحرك، وأصل بنيتهم إنما وضع على الحركة، وليس للسكون فيها نصيب، وفي قوى أنفسهم فضلٌ على قوى أبدانهم، وهم أصحاب توقد وحرارة، واشتغال وفطنة، كثيرةٌ خواطرهم، سريع لحظهم، وكان يرون الكفاية معجزة، وطول المقام بلادة، والراحة عقلة، والقناعة من قصر الهمة؛ وأن ترك الغزو يورث الزلة.
وقد قالت العرب في مثل ذلك: قال عبد الله بن وهبٍ الراسبيَّ: " حب الهوينا يكسب النصب " . والعرب تقول: " من غلا دماغه في الصيف غلت قدره في الشتاء " . وقال أكثم بن صيفيَّ: " ما أحب أني مكفيٌ كل أمر الدنيا " . قيل: ولم؟ قال: " أخاف العجز " .
فهذه كانت علل الترك في حب الرجوع والحنين إلى الوطن.
ومن أعظم ما كان يدعوهم إلى الشرود ويبعثهم على الرجوع، ويكره عندهم المقام، ما كانوا فيه من جهل قوادهم بأقدارهم، وقلة معرفتهم بأخطارهم، وإغفالهم موضع الرد عليهم والانتفاع بهم، حتى جعلوهم أسوة أجنادهم، ولم يقنعوا أن يكونوا في الحاشية والحشوة، وفي غمار العامة ومن عرض العساكر، وأنفوا من ذلك لأنفسهم، وذكروا ما يجب لهم، ورأوا أن الضيم لا يليق بهم؛ وأن الخمول لا يجوز عليهم، وأنهم في المقام على من لا يعرف حقهم ألوم ممن منعهم حقهم، فلما صادفوا ملكاً حكيماً، وبأقدار الناس عليماً، لايميل إلى سوءعادةٍ ولايجنح إلى هوى، ولايتعصب لبلد على بلد؛ يدور مع التدبير حيثما دار، ويقيم مع الحق حيثما أقام، أقاموا إقامة من قد فهم الحظ، ودان بالحق ونبذ العادة، وآثر الحقيقة، ورحل نفسه لقطيعة وطنه، وآثر الإمام على ملك الجبرية، واختار الصواب على الإلف.
ثم اعلم بعد هذا كله أن كل أمةٍ وقرنٍ، وكل جيلٍ وبني أبٍ وجدتهم قد برعوا في الصناعات، وفضلوا الناس في البيان، أو فاقوهم في الآداب، وفي تأسيس الملك، وفي البصر بالحرب؛ فإنك لا تجدهم في الغاية وفي أقصى النهاية، إلا أن يكون الله قد سخرهم لذلك المعنى بالأسباب، وقصرهم عليه بالعلل التي تقابل تلك الأمور، وتصلح لتلك المعاني؛ لأن من كان متقسم الهوى، مشترك الرأي، ومتشعب النفس، غير موفر على ذلك الشيء ولا مهيَّأٍ له، لم يحذق من تلك الأشياء شيئاً بأسره، ولم يبلغ في غايته، كأهل الصين في الصناعات، واليونانيين في الحكم والآداب، والعرب فيما نحن فيه ذاكروه في موضعه، وآل ساسان في الملك، والأتراك في الحروب. ألا ترى أن اليونانيين الذين نظروا في العلل لم يكونوا تجاراً ولا صناعاً بأكفهم، ولا أصحاب زرعٍ ولا فلاحة وبناءٍ وغرسٍ، ولاأصحاب جمعٍ ومنعٍ، وحرصٍ وكدٍّ، وكانت الملوك تفرغهم، وتجري عليهم كفايتهم، فنظروا حين نظروا بأنفسٍ مجتمعة، وقوةٍ وافرة، وأذهانٍ فارغة، حتى استخرجوا الآلات والأدوات، والملاهي التي تكون جماماً للنفس، وراحةً بعد الكد، وسروراً يداوي قرح الهموم، فصنعوا من المرافق، وصاغوا من المنافع كالقرصوطونات، والقبانات، والأسطرلابات، وآلة الساعات، وكالكونيا، وكالشيزان، والبركار، وكأصناف المزامير والمعازف، وكالطب والحساب والهندسة واللحون، وآلات الحرب كالمجانيق، والعرادات، والرتيلات، والدبابات، وآلة النفاط، وغير ذلك مّما يطول ذكره.
وكانوا أصحاب حكمة ولم يكونوا فعلة؛ يصورون الآلة، ويخرطون الأداة، ويصوغون المثل ولا يحسنون العمل بها، ويشيرون إليها ولا يمسونها، ويرغبون في العلم ويرغبون في العمل.
فأما سكان الصين فهم أصحاب السبك والصياغة، والإفراغ والإذابة والأصباغ العجيبة، وأصحاب الخرط والنحت والتصوير، والنسخ والخطّ، ورفق الكف في كل شيءٍ يتولونه ويعانونه، وإن اختلف جوهره، وتباينت صنعته، وتفاوت ثمنه.
وقد قالت العرب في مثل ذلك: قال عبد الله بن وهبٍ الراسبيَّ: " حب الهوينا يكسب النصب " . والعرب تقول: " من غلا دماغه في الصيف غلت قدره في الشتاء " . وقال أكثم بن صيفيَّ: " ما أحب أني مكفيٌ كل أمر الدنيا " . قيل: ولم؟ قال: " أخاف العجز " .
فهذه كانت علل الترك في حب الرجوع والحنين إلى الوطن.
ومن أعظم ما كان يدعوهم إلى الشرود ويبعثهم على الرجوع، ويكره عندهم المقام، ما كانوا فيه من جهل قوادهم بأقدارهم، وقلة معرفتهم بأخطارهم، وإغفالهم موضع الرد عليهم والانتفاع بهم، حتى جعلوهم أسوة أجنادهم، ولم يقنعوا أن يكونوا في الحاشية والحشوة، وفي غمار العامة ومن عرض العساكر، وأنفوا من ذلك لأنفسهم، وذكروا ما يجب لهم، ورأوا أن الضيم لا يليق بهم؛ وأن الخمول لا يجوز عليهم، وأنهم في المقام على من لا يعرف حقهم ألوم ممن منعهم حقهم، فلما صادفوا ملكاً حكيماً، وبأقدار الناس عليماً، لايميل إلى سوءعادةٍ ولايجنح إلى هوى، ولايتعصب لبلد على بلد؛ يدور مع التدبير حيثما دار، ويقيم مع الحق حيثما أقام، أقاموا إقامة من قد فهم الحظ، ودان بالحق ونبذ العادة، وآثر الحقيقة، ورحل نفسه لقطيعة وطنه، وآثر الإمام على ملك الجبرية، واختار الصواب على الإلف.
ثم اعلم بعد هذا كله أن كل أمةٍ وقرنٍ، وكل جيلٍ وبني أبٍ وجدتهم قد برعوا في الصناعات، وفضلوا الناس في البيان، أو فاقوهم في الآداب، وفي تأسيس الملك، وفي البصر بالحرب؛ فإنك لا تجدهم في الغاية وفي أقصى النهاية، إلا أن يكون الله قد سخرهم لذلك المعنى بالأسباب، وقصرهم عليه بالعلل التي تقابل تلك الأمور، وتصلح لتلك المعاني؛ لأن من كان متقسم الهوى، مشترك الرأي، ومتشعب النفس، غير موفر على ذلك الشيء ولا مهيَّأٍ له، لم يحذق من تلك الأشياء شيئاً بأسره، ولم يبلغ في غايته، كأهل الصين في الصناعات، واليونانيين في الحكم والآداب، والعرب فيما نحن فيه ذاكروه في موضعه، وآل ساسان في الملك، والأتراك في الحروب. ألا ترى أن اليونانيين الذين نظروا في العلل لم يكونوا تجاراً ولا صناعاً بأكفهم، ولا أصحاب زرعٍ ولا فلاحة وبناءٍ وغرسٍ، ولاأصحاب جمعٍ ومنعٍ، وحرصٍ وكدٍّ، وكانت الملوك تفرغهم، وتجري عليهم كفايتهم، فنظروا حين نظروا بأنفسٍ مجتمعة، وقوةٍ وافرة، وأذهانٍ فارغة، حتى استخرجوا الآلات والأدوات، والملاهي التي تكون جماماً للنفس، وراحةً بعد الكد، وسروراً يداوي قرح الهموم، فصنعوا من المرافق، وصاغوا من المنافع كالقرصوطونات، والقبانات، والأسطرلابات، وآلة الساعات، وكالكونيا، وكالشيزان، والبركار، وكأصناف المزامير والمعازف، وكالطب والحساب والهندسة واللحون، وآلات الحرب كالمجانيق، والعرادات، والرتيلات، والدبابات، وآلة النفاط، وغير ذلك مّما يطول ذكره.
وكانوا أصحاب حكمة ولم يكونوا فعلة؛ يصورون الآلة، ويخرطون الأداة، ويصوغون المثل ولا يحسنون العمل بها، ويشيرون إليها ولا يمسونها، ويرغبون في العلم ويرغبون في العمل.
فأما سكان الصين فهم أصحاب السبك والصياغة، والإفراغ والإذابة والأصباغ العجيبة، وأصحاب الخرط والنحت والتصوير، والنسخ والخطّ، ورفق الكف في كل شيءٍ يتولونه ويعانونه، وإن اختلف جوهره، وتباينت صنعته، وتفاوت ثمنه.
واليونان يعرفون الفلك، لأن أولئك حكماء وهؤلاء فعلة. وكذلك العرب، لم يكونوا تجاراً ولا صناعا، ولا أطباء ولا حساباً، ولا أصحاب فلاحة فيكونون مهنة، ولا أصحاب زرع، لخوفهم من صغار الجزية. ولم يكونوا أصحاب جمع وكسب، ولا أصحاب احتكار لما في أيديهم وطلب ما عند غيرهم، ولا طلبوا المعاش من ألسنة الموازين ورءوس المكاييل، ولا عرفوا الدوانيق والقراريط، ولم يفتقروا الفقر المدقع الذي يشغل عن المعرفة، ولم يستغنوا الغني الذي يورث البلدة، والثروة التي تحدث الفرَّة، ولم يحتملوا ذُلاً قط فيميت قلوبهم ويصغر عندهم أنفسهم. وكانوا سكان فيافٍ وتربية العراء، لا يعرفون الغمق ولا اللثق، ولا البخار ولا الغلط ولا العفن، ولا التخم. أذهان حداد، ونفوس منكرة، فحين حملوا حدهم ووجهوا قواهم لقول الشعر وبلاغة المنطق، وتشقيق اللغة وتصاريف الكلام، بعد قيافة الأثر وحفظ النسب، والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآفاق، وتعرُّف الأنوار، والبصر بالخيل والسلاح وآلة الحرب، والحفظ لكل مسموع والاعتبار بكل محسوس، وإحكام شأن المثالب والمناقب، بلغوا في ذلك الغاية، وحازوا كل أمنية. وببعض هذه العلل صارت نفوسهم أكبر، وهممهم أرفع من جميع الأمم وأفخر، ولأيامهم أحفظ وأذكر.
وكذلك الترك أصحاب عمد وسكان فيافٍ وأرباب مواشٍ، وهم أعراب العجم كما أن هذيلاً أكراد العرب. فحين لم تشغلهم الصناعات والتجارات، والطب والفلاحة والهندسة؛ ولا غرسٌ ولا بيانٌ، ولا شقٌّ أنهار، ولا جباية غلات، ولم يكن هممهم غير الغزو والغارة والصيد وركوب الخيل، ومقارعة الأبطال، وطلب الغنائم وتدويخ البلدان، وكانت هممهم إلى ذلك مصروفةً وكانت لهذه المعاني والأسباب مسخرةً ومقصورةً، عليها، وموصولة بها أحكموا ذلك الأمر بأسره، وأتوا على آخره، وصار ذلك هو صناعتهم وتجارتهم، ولذتهم وفخرهم، وحديثهم وسمرهم.
فلما كانوا كذلك صاروا في الحرب كاليونانيين في الحكمة، وأهل الصين في الصناعات، والأعراب فيما عددنا ونزلنا، وكآل ساسان في الملك والرياسة.
ومما يستدل به على أنهم قد استقصوا هذا الباب واستغرقوا، وبلغوا أقصى غايته وتعرفوه، أن السيف إلى أن يتقلده متقلد، أو يضرب به ضارب، قد مرَّ على أيدٍ كثيرة، وعلى طبقات من الصناع، كل واحدٍ منهم لا يعمل عمل صاحبه، ولا يحسنه ولا يدعيه ولا يتكلفه، لأن الذي يذيب حديد السيف ويميعه، ويصفيه ويهذبه، غير الذي يمده ويمطله؛ والذي يمده ويمطله غير الذي يطبعه ويسوي متنه، ويقيم خشيبته؛ والذي يطبعه ويسوي متنه غير الذي يسقيه ويرهفه، والذي يرهفه غير الذي يركب قبيعته ويستوثق من سيلانه، والذي يعمل مسامير السيلان وشاربي القبيعة ونصل السيف غير الذي ينحت خشب غمده، والذي ينحت خشب غمده غير الذي يدبغ جلده، والذي يدبغ جلده غير الذي يحليه، والذي يحليه ويركب نعله غير الذي يخرز حمائله. وكذلك السرج، وحالات السهم والجعبة والرمح وجميع السلاح، مما هو جارحٌ أو جُنَّة.
والتركي يعمل هذا كله لنفسه من ابتدائه إلى غايته، فلا يستعين برفيق، ولا يفزع فيه إلى صديق، ولا يختلف إلى صانع، ولا يشغل قلبه بمطاله وتسويفه، وأكاذيب مواعيده، وبعزم كرائه.
وحين بلغ أوس بن حجر صفة القانص، وبلغ له الغاية في جمعه لأبواب الكفاية بنفسه، قال:
قصيٌّ مبيت الليل للصيد مطعم ... لأسهمه غارٍ، وبارٍ وراصفُ
وليس أنه ليس في الأرض تركيٌّ إلا وهو كما وصفنا، كما أنه ليس كل يونانيٌّ حكيماً ولا كل صينيٍّ غايةً في الحذق، ولا كل أعرابيٍّ شاعراً قائفا، ولكن هذه الأمور في هؤلاء أعم وأتم، وهي فيهم أظهر وأكثر.
قد قلنا في السبب الذي تكاملت به النجدة والفروسية في الترك دون جميع الأمم، وفي العلل التي من أجلها انتظموا جميع معاني الحرب، وهي معانٍ تشتمل على مذاهب غربية، وخصالٍ عجمية.
فمنها: ما يقضي لأهله بالكرم وببعد الهمة وطلب الغاية. ومنها: ما يدل على الأدب السديد والرأي الأصيل، والفطنة الثاقبة والبصيرة النافذة. ألا ترى أنه ليس بدٌّ لصاحب الحرب من الحلم والعلم، والحزم والعزم، والصبر والكتمان، ومن الثقافة، وقلة الغفلة وكثرة التجربة. ولا بد من البصر بالخيل والسلاح، والخبرة بالرجال وبالبلاد، والعلم بالمكان والزمان والمكايد، وبما فيه صلاح هذه الأمور كلها.
وكذلك الترك أصحاب عمد وسكان فيافٍ وأرباب مواشٍ، وهم أعراب العجم كما أن هذيلاً أكراد العرب. فحين لم تشغلهم الصناعات والتجارات، والطب والفلاحة والهندسة؛ ولا غرسٌ ولا بيانٌ، ولا شقٌّ أنهار، ولا جباية غلات، ولم يكن هممهم غير الغزو والغارة والصيد وركوب الخيل، ومقارعة الأبطال، وطلب الغنائم وتدويخ البلدان، وكانت هممهم إلى ذلك مصروفةً وكانت لهذه المعاني والأسباب مسخرةً ومقصورةً، عليها، وموصولة بها أحكموا ذلك الأمر بأسره، وأتوا على آخره، وصار ذلك هو صناعتهم وتجارتهم، ولذتهم وفخرهم، وحديثهم وسمرهم.
فلما كانوا كذلك صاروا في الحرب كاليونانيين في الحكمة، وأهل الصين في الصناعات، والأعراب فيما عددنا ونزلنا، وكآل ساسان في الملك والرياسة.
ومما يستدل به على أنهم قد استقصوا هذا الباب واستغرقوا، وبلغوا أقصى غايته وتعرفوه، أن السيف إلى أن يتقلده متقلد، أو يضرب به ضارب، قد مرَّ على أيدٍ كثيرة، وعلى طبقات من الصناع، كل واحدٍ منهم لا يعمل عمل صاحبه، ولا يحسنه ولا يدعيه ولا يتكلفه، لأن الذي يذيب حديد السيف ويميعه، ويصفيه ويهذبه، غير الذي يمده ويمطله؛ والذي يمده ويمطله غير الذي يطبعه ويسوي متنه، ويقيم خشيبته؛ والذي يطبعه ويسوي متنه غير الذي يسقيه ويرهفه، والذي يرهفه غير الذي يركب قبيعته ويستوثق من سيلانه، والذي يعمل مسامير السيلان وشاربي القبيعة ونصل السيف غير الذي ينحت خشب غمده، والذي ينحت خشب غمده غير الذي يدبغ جلده، والذي يدبغ جلده غير الذي يحليه، والذي يحليه ويركب نعله غير الذي يخرز حمائله. وكذلك السرج، وحالات السهم والجعبة والرمح وجميع السلاح، مما هو جارحٌ أو جُنَّة.
والتركي يعمل هذا كله لنفسه من ابتدائه إلى غايته، فلا يستعين برفيق، ولا يفزع فيه إلى صديق، ولا يختلف إلى صانع، ولا يشغل قلبه بمطاله وتسويفه، وأكاذيب مواعيده، وبعزم كرائه.
وحين بلغ أوس بن حجر صفة القانص، وبلغ له الغاية في جمعه لأبواب الكفاية بنفسه، قال:
قصيٌّ مبيت الليل للصيد مطعم ... لأسهمه غارٍ، وبارٍ وراصفُ
وليس أنه ليس في الأرض تركيٌّ إلا وهو كما وصفنا، كما أنه ليس كل يونانيٌّ حكيماً ولا كل صينيٍّ غايةً في الحذق، ولا كل أعرابيٍّ شاعراً قائفا، ولكن هذه الأمور في هؤلاء أعم وأتم، وهي فيهم أظهر وأكثر.
قد قلنا في السبب الذي تكاملت به النجدة والفروسية في الترك دون جميع الأمم، وفي العلل التي من أجلها انتظموا جميع معاني الحرب، وهي معانٍ تشتمل على مذاهب غربية، وخصالٍ عجمية.
فمنها: ما يقضي لأهله بالكرم وببعد الهمة وطلب الغاية. ومنها: ما يدل على الأدب السديد والرأي الأصيل، والفطنة الثاقبة والبصيرة النافذة. ألا ترى أنه ليس بدٌّ لصاحب الحرب من الحلم والعلم، والحزم والعزم، والصبر والكتمان، ومن الثقافة، وقلة الغفلة وكثرة التجربة. ولا بد من البصر بالخيل والسلاح، والخبرة بالرجال وبالبلاد، والعلم بالمكان والزمان والمكايد، وبما فيه صلاح هذه الأمور كلها.
والملك يحتاج إلى أواخٍ شداد وأسباب متان، ومن أتمها سبباً وأعمقها نفعاً ما ثبته في نصابه، وأقره وسكنه في قراره، وزاد في تمكنه وبهائه، وقطع أسباب المطعمة فيه، ومنع أيدي البغاة من الإشارة إليه فضلاً عن البسط عليه.
قال: ثم إن الترك عطفت على العرب بالمحاجّة والمقايسة، وقالوا: قلتم إن تكن القرابة مما يستحق بالكفاية فنحن أقدم في الطاعة والود والمناصحة، وإن تكن تستحقّ بالقربة فنحن أقرب قرابةً.
قالوا: والعرب بعد هذا صنفان: عدنان وقحطان. فأما القحطانيّ فنسبتنا إلى الخلفاء أقرب من نسبتهم، ونحن أمس بهم رحماً؛ لأن الخليفة من ولد إسماعيل بن ابراهيم، دون قحطان وعابر. وولد إبراهيم عليه السلام إسماعيل، وأمه هاجر، وهي قبطية. وإسحاق وأمه سريانية. والستة الباقون أمهم قطورا بنت مفطون عربية، من العرب العاربة.
وفي قول القحطانية: إنّ أمّنا أشرف في الحسب إذ كانت عربية. وأربعة من الستة هم الذين وقعوا بخرسان، فأولدوا ترك خرسان. فهذا قولنا للقحطانيّ.
وأما قولنا للعدنانيّ، فإبراهيم أبونا، وإسماعيل عمّنا، وقرابتنا من إسماعيل كقرابتكم.
قال الهيثم بن عدىّ: قيل لمبارك التركي، وعنده حمّادٌ التركي: إنّكم من مذحج. قال: ومذحج هذا من هو ذاك؟ وما نعرف إلاّ إبراهيم خليل الله وأمير المؤمنين.
قال الهيثم: وقد كان سقط إلى بلاد الترك رجلٌ من مذحجٍ فأنسل نسلاً كثيراً، ولذلك قال شاعر الشعوبية للعرب في قصيدة طويلة:
زعمتم بأنّ الترك أبناء مذحجٍ ... وبينكم قربى وبين البرابر
وذالكم نسل ابن ضبة باسلٍ ... وصوفان أنسال كثير الجرائر
وقال آخر:
متى كانت الأتراك أبناء مذبحٍ ... ألا إن في الدنيا عجيباً لمن عجب
وقد سمعتم ما جاء في سد بني قطورا وشأن خيولهم بنخل السود، وإنما كان الحديث على وجه التهويل والتخويف بهم لجميع الناس، فصاروا للإسلام مادةً وجنداً كثيفاً، وللخلفاء وقايةً وموئلاً وجنةً حصينة، وشعاراً دون الدثار.
وفي المأثور من الخبر: " تاركوا الترك ما تاركوكم " . وهذه وصيةٌ لجميع العرب؛ فإن الرأي متاركتنا ومسالمتنا. وما ظنكم بقومٍ لم يعرض لهم ذو القرنين. وبقوله " اتركوهم " سمُّوا الترك. هذا بعد أن غلب على جميع الأرض غلبةً وقسراً، وعنوةً وقهراً.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " هذا عدوٌّ شديدٌ كلبه، قليل سلبه " . فنهى كما ترى عن التعرض لهم، بأحسن كناية.
والعرب إذا ضربت المثل في العداوة الشديدة قالوا: ما هم إلا الترك والديلم.
قال عملس بن عقيل بن علفة:
تبدلت منه بعد ما شاب مفرقي ... عداوة تركي وبغض أبي حسل
وأبو حسل هو الضَّبّ. والعرب تقول: " هو أعقُّ من ضبّ " ؛ لأنه يأكل أولاده.
ولم يرعب قلوب أجناد العرب مثل الترك. وقال خلفٌ الأحمر:
كأني حين أرهنهم بنيَّ ... دفعتهم إلى صهب السبال
قال: وإياهم عني أوسٌ بن حجر:
تكّبتها ماءهم لما رأيتهم ... صهب السبال بأيديهم بيازير
وحدثني إبراهيم بن السندي مولى أمير المؤمنين، وكان عالماً بالدولة، شديد الحب لأبناء الدعوة، وكان يحوط مواليه ويحفظ أيامهم، ويدعو الناس إلى طاعتهم، ويدرسهم مناقبهم، وكان فخم المعاني فخم الألفاظ، لو قلت لسانه كان أردَّ على هذا الملك من عشرة آلاف سيفٍ شهير، وسنانٍ طريرٍ، لكان ذلك قولاً ومذهباً.
قال: حدثني عبد الملك بن صالح، عن أبيه صالح بن علي أن خاقان ملك الترك واقف مرةالجنيد بن عبد الرحمن أمير خراسان، وقد كان الجنيد هاله أمره، وأفزعه شأنه، وتعاظمه جموعه وجمعه، وبعل به، وفطن به خاقان وعرف ما قد وقع فيه، فأرسل إليه:
قال: ثم إن الترك عطفت على العرب بالمحاجّة والمقايسة، وقالوا: قلتم إن تكن القرابة مما يستحق بالكفاية فنحن أقدم في الطاعة والود والمناصحة، وإن تكن تستحقّ بالقربة فنحن أقرب قرابةً.
قالوا: والعرب بعد هذا صنفان: عدنان وقحطان. فأما القحطانيّ فنسبتنا إلى الخلفاء أقرب من نسبتهم، ونحن أمس بهم رحماً؛ لأن الخليفة من ولد إسماعيل بن ابراهيم، دون قحطان وعابر. وولد إبراهيم عليه السلام إسماعيل، وأمه هاجر، وهي قبطية. وإسحاق وأمه سريانية. والستة الباقون أمهم قطورا بنت مفطون عربية، من العرب العاربة.
وفي قول القحطانية: إنّ أمّنا أشرف في الحسب إذ كانت عربية. وأربعة من الستة هم الذين وقعوا بخرسان، فأولدوا ترك خرسان. فهذا قولنا للقحطانيّ.
وأما قولنا للعدنانيّ، فإبراهيم أبونا، وإسماعيل عمّنا، وقرابتنا من إسماعيل كقرابتكم.
قال الهيثم بن عدىّ: قيل لمبارك التركي، وعنده حمّادٌ التركي: إنّكم من مذحج. قال: ومذحج هذا من هو ذاك؟ وما نعرف إلاّ إبراهيم خليل الله وأمير المؤمنين.
قال الهيثم: وقد كان سقط إلى بلاد الترك رجلٌ من مذحجٍ فأنسل نسلاً كثيراً، ولذلك قال شاعر الشعوبية للعرب في قصيدة طويلة:
زعمتم بأنّ الترك أبناء مذحجٍ ... وبينكم قربى وبين البرابر
وذالكم نسل ابن ضبة باسلٍ ... وصوفان أنسال كثير الجرائر
وقال آخر:
متى كانت الأتراك أبناء مذبحٍ ... ألا إن في الدنيا عجيباً لمن عجب
وقد سمعتم ما جاء في سد بني قطورا وشأن خيولهم بنخل السود، وإنما كان الحديث على وجه التهويل والتخويف بهم لجميع الناس، فصاروا للإسلام مادةً وجنداً كثيفاً، وللخلفاء وقايةً وموئلاً وجنةً حصينة، وشعاراً دون الدثار.
وفي المأثور من الخبر: " تاركوا الترك ما تاركوكم " . وهذه وصيةٌ لجميع العرب؛ فإن الرأي متاركتنا ومسالمتنا. وما ظنكم بقومٍ لم يعرض لهم ذو القرنين. وبقوله " اتركوهم " سمُّوا الترك. هذا بعد أن غلب على جميع الأرض غلبةً وقسراً، وعنوةً وقهراً.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " هذا عدوٌّ شديدٌ كلبه، قليل سلبه " . فنهى كما ترى عن التعرض لهم، بأحسن كناية.
والعرب إذا ضربت المثل في العداوة الشديدة قالوا: ما هم إلا الترك والديلم.
قال عملس بن عقيل بن علفة:
تبدلت منه بعد ما شاب مفرقي ... عداوة تركي وبغض أبي حسل
وأبو حسل هو الضَّبّ. والعرب تقول: " هو أعقُّ من ضبّ " ؛ لأنه يأكل أولاده.
ولم يرعب قلوب أجناد العرب مثل الترك. وقال خلفٌ الأحمر:
كأني حين أرهنهم بنيَّ ... دفعتهم إلى صهب السبال
قال: وإياهم عني أوسٌ بن حجر:
تكّبتها ماءهم لما رأيتهم ... صهب السبال بأيديهم بيازير
وحدثني إبراهيم بن السندي مولى أمير المؤمنين، وكان عالماً بالدولة، شديد الحب لأبناء الدعوة، وكان يحوط مواليه ويحفظ أيامهم، ويدعو الناس إلى طاعتهم، ويدرسهم مناقبهم، وكان فخم المعاني فخم الألفاظ، لو قلت لسانه كان أردَّ على هذا الملك من عشرة آلاف سيفٍ شهير، وسنانٍ طريرٍ، لكان ذلك قولاً ومذهباً.
قال: حدثني عبد الملك بن صالح، عن أبيه صالح بن علي أن خاقان ملك الترك واقف مرةالجنيد بن عبد الرحمن أمير خراسان، وقد كان الجنيد هاله أمره، وأفزعه شأنه، وتعاظمه جموعه وجمعه، وبعل به، وفطن به خاقان وعرف ما قد وقع فيه، فأرسل إليه:
" إني لم أقف هذا الموقف وأمسك هذا الإمساك وأنا أريد مكروهاً، فلا ترع. ولو كنت أريد غلبةً أو مكروهاً لقد كنت انتسفت عسكرك انتسافاً أعجلك فيه عن الروية وقد أبصرت موقع العورة. ولولا أن تعرف هذه المكيدة فتعود بها على غيري من الأتراك، لعرَّفتك موضع الانتشار والخلل والخطأ في عسكرك وتعبيتك. وقد بلغني أنك رجلٌ عاقل، وأن لك شرفاً في بيتك وفضلاً في نفسك، وعلماً بدينك، وقد أحببت أن أسأل عن شيءٍ من أحكامهم لأعرف به مذهبكم، فاخرج إليَّ في خاصتك لأخرج إليك وحدي، وأسائلك عما أحتاج إليه بنفسي. ولا تحتفل ولا تحترس؛ فليس مثلي من غدر،وليس مثلي يؤمن من نفسه، ومن مكره وكيده، ثم ينكث بوعده. ونحن قومٌ لا نخدع بالعمل، ولا نستحسن الخديعة إلا في الحرب، ولو استقام أمر الحرب بغير خديعة لما جوَّزنا ذلك بأنفسنا " .
فأبى الجنيد أن يخرج إليه إلا وحده، ففصلا من الصفوف. وقال: سل عما أحببت، فإن كان عندي جوابٌ أرضاه أجبتك وإلا أشرت عليك بمن هو أبصر بذلك مني.
قال: ما حكمكم في الزاني؟ قال الجنيد: الزاني عندنا رجلان: رجلٌ دفعنا إليه امرأةً تغنيه عن حرم الناس، وتكفه عن حرم الجيران؛ ورجلٌ لم نعطه ذلك، ولم نحل بينه وبين أن يفعل ذلك لنفسه. فأما الذي لا زوجة له فإن نجلده مائة جلدة ونحضر ذلك الجماعة من الناس لنشهره ونحذره به، ونغربه في البلدان لنزيد من شهرته وفي التحذير منه، ولينزجر بذلك كل من كان يهم بمثل عمله. فاما الذي قد أغنيناه فإنا نرجمه بالجندل حتى نقتله.
قال: حسن جميلٌ، وتدبيرٌ كبير، فما قولكم في الذي يقذف عفيفاً بالزنى؟ قال: يجلد ثمانين جلدة، ولا نقبل له شهادةً، ولا نصدق له حديثاً.
قال: حسنٌ جميلٌ، وتدبيرٌ كبير، فما حكمكم في السارق؟ قال: السارق عندنا رجلان: رجلٌ يحتال لما قد أحرزه الناس من أموالهم حتى يأخذها بنقب حيطانهم وبالتسلق من أعالي دورهم؛ فهذا نقطع يده التي سرق بها، ونقب بها واعتمد عليها. ورجلٌ آخر يخيف السبيل، ويقطع الطريق، ويكايد على الأموال، ويشهر السلاح فإن منعه صاحب المتاع قتله، فهذا نقتله ونصلبه على المناهج والطرق.
قال: حسنٌ جميلٌ، وتدبيرٌ كبير. قال: فما حكمكم في الغاصب والمستلب؟ قال: كلُّ ما فيه الشبهة ويجوز فيه الغلط والوجوه، كالغصب والاستلاب، والجناية، والسرقة لما يؤكل أو يشرب فإنا لا نقطع فيما فيه شبهة ونتمحَّل لذلك وجهاً غير السرقة.
قال: حسنٌ جميلٌ، وتدبيرٌ كبير. قال: فما حكمكم في القاتل وقاطع الأذن والأنف؟ قال: النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف. وإن قتل رجلاً عشرةٌ قتلناهم. ونقتل القويَّ البدن بالضعيف البدن، وكذلك اليد والرِّجل.
قال: حسنٌ جميلٌ، وتدبيرٌ كبير. قال: فما تقولون في الكذاب والنمام والضراط.
قال: عندنا فيهم الإقصاء لهم وإبعادهم وإهانتهم، ولا نقبل شهادتهم، ولا نصدق أحكامهم.
قال: وليس إلا هذا؟ قال: هذا جوابنا على ديننا.
قال له: أما النمام عندي هو الذي يُضرِّب بين الناس، فإني أحبسه في مكانٍ لا يرى فيه أحداً. وأما الضراط فإني أكوي أسته، وأعاقب ذلك المكان فيه. وأما الكذاب فإني أقطع الجارح التي بها يكذب، كما قطعتم اليد التي بها يسرق، وأما الذي يضحك الناس ويعودهم السخف فإني أخرجه من سلطانه، وأصلح بإخراجه عقول رعيتي.
قال: فقال الجنيد بن عبد الرحمن: أنتم قومٌ تردون أحكامكم إلى جواز العقول، وإلى ما يحسن في ظاهر الرأي؛ ونحن قومٌ نتبع الأنبياء، ونرى أنْ لم نصلح على تدبير العباد. وذلك أن الله تعالى أعلم بغيب المصالح وسر الأمروحقائقه، ومحصوله وعواقبه، والناس لا يعلمون ولا يرون الحزم إلا على ظاهر الأمور. وكم من مضيع يسلم، وحازمٍ يعطب.
قال: ما قلت كلاماً أشرف من هذا، ولقد ألقيت لي في فكراً طويلاً.
قال إبراهيم: قال عبد الملك: قال صالح: قال الجنيد: فلم أرى أوفى ولا أنصف ولا أفهم ولا أذكى منه. ولقد واقفته ثلاث ساعاتٍ من النهار وما تحرك منه شيءٌ إلا لسانه، وما مني شيء لم أحركه.
فأبى الجنيد أن يخرج إليه إلا وحده، ففصلا من الصفوف. وقال: سل عما أحببت، فإن كان عندي جوابٌ أرضاه أجبتك وإلا أشرت عليك بمن هو أبصر بذلك مني.
قال: ما حكمكم في الزاني؟ قال الجنيد: الزاني عندنا رجلان: رجلٌ دفعنا إليه امرأةً تغنيه عن حرم الناس، وتكفه عن حرم الجيران؛ ورجلٌ لم نعطه ذلك، ولم نحل بينه وبين أن يفعل ذلك لنفسه. فأما الذي لا زوجة له فإن نجلده مائة جلدة ونحضر ذلك الجماعة من الناس لنشهره ونحذره به، ونغربه في البلدان لنزيد من شهرته وفي التحذير منه، ولينزجر بذلك كل من كان يهم بمثل عمله. فاما الذي قد أغنيناه فإنا نرجمه بالجندل حتى نقتله.
قال: حسن جميلٌ، وتدبيرٌ كبير، فما قولكم في الذي يقذف عفيفاً بالزنى؟ قال: يجلد ثمانين جلدة، ولا نقبل له شهادةً، ولا نصدق له حديثاً.
قال: حسنٌ جميلٌ، وتدبيرٌ كبير، فما حكمكم في السارق؟ قال: السارق عندنا رجلان: رجلٌ يحتال لما قد أحرزه الناس من أموالهم حتى يأخذها بنقب حيطانهم وبالتسلق من أعالي دورهم؛ فهذا نقطع يده التي سرق بها، ونقب بها واعتمد عليها. ورجلٌ آخر يخيف السبيل، ويقطع الطريق، ويكايد على الأموال، ويشهر السلاح فإن منعه صاحب المتاع قتله، فهذا نقتله ونصلبه على المناهج والطرق.
قال: حسنٌ جميلٌ، وتدبيرٌ كبير. قال: فما حكمكم في الغاصب والمستلب؟ قال: كلُّ ما فيه الشبهة ويجوز فيه الغلط والوجوه، كالغصب والاستلاب، والجناية، والسرقة لما يؤكل أو يشرب فإنا لا نقطع فيما فيه شبهة ونتمحَّل لذلك وجهاً غير السرقة.
قال: حسنٌ جميلٌ، وتدبيرٌ كبير. قال: فما حكمكم في القاتل وقاطع الأذن والأنف؟ قال: النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف. وإن قتل رجلاً عشرةٌ قتلناهم. ونقتل القويَّ البدن بالضعيف البدن، وكذلك اليد والرِّجل.
قال: حسنٌ جميلٌ، وتدبيرٌ كبير. قال: فما تقولون في الكذاب والنمام والضراط.
قال: عندنا فيهم الإقصاء لهم وإبعادهم وإهانتهم، ولا نقبل شهادتهم، ولا نصدق أحكامهم.
قال: وليس إلا هذا؟ قال: هذا جوابنا على ديننا.
قال له: أما النمام عندي هو الذي يُضرِّب بين الناس، فإني أحبسه في مكانٍ لا يرى فيه أحداً. وأما الضراط فإني أكوي أسته، وأعاقب ذلك المكان فيه. وأما الكذاب فإني أقطع الجارح التي بها يكذب، كما قطعتم اليد التي بها يسرق، وأما الذي يضحك الناس ويعودهم السخف فإني أخرجه من سلطانه، وأصلح بإخراجه عقول رعيتي.
قال: فقال الجنيد بن عبد الرحمن: أنتم قومٌ تردون أحكامكم إلى جواز العقول، وإلى ما يحسن في ظاهر الرأي؛ ونحن قومٌ نتبع الأنبياء، ونرى أنْ لم نصلح على تدبير العباد. وذلك أن الله تعالى أعلم بغيب المصالح وسر الأمروحقائقه، ومحصوله وعواقبه، والناس لا يعلمون ولا يرون الحزم إلا على ظاهر الأمور. وكم من مضيع يسلم، وحازمٍ يعطب.
قال: ما قلت كلاماً أشرف من هذا، ولقد ألقيت لي في فكراً طويلاً.
قال إبراهيم: قال عبد الملك: قال صالح: قال الجنيد: فلم أرى أوفى ولا أنصف ولا أفهم ولا أذكى منه. ولقد واقفته ثلاث ساعاتٍ من النهار وما تحرك منه شيءٌ إلا لسانه، وما مني شيء لم أحركه.
وهكذا يصفون ملوك الترك، يزعمون أن ساسان وخاقان الأكبر، تواقفا ببعض الكسور، وفصلاً من الصفين، وطالت المناجاة، فلما انفتلا قالوا: كان خاقان أركن وأدب، وكان مركب كِسرى أركن وأدب، ولم يتحرك من خاقان إلا لسانه، وكان برذونه يرفع قائمةً ويضع أخرى، وكان مركب كسرى كأنما صبّ صبا، وكان كسرى يحرك رأسه ويشير بيده.
قالوا: ومن الأعاجيب أن الحارث بن كعب لا يقوم لحزم، وحزم لا تقوم لكندة، وكندة لا تقوم للحارث بن كعب.
قالوا: ومثل ذلك من الأعاجيب في الحارث: أنّ العرب لا تقوم للترك، والترك لا تقوم للروم، والروم لا تقوم للعرب.
قال جهم بن صفوان الترمذي: قد عرفنا ما كان بين فارس والترك من الحرب، حتى تزوج كسرى أبرويز، خانتون بنت خاقان، يستميله بذلك الصهر، ويدفع بأسه عنه. وقد عرفنا الحروب التي كانت بين فارس والروم، وكيف تساجلوا الظفر، وبأي سببٍ غرس الزيتون بالمدائن وسوسا، وبأي سببٍ بنيت الرومية ولم سميت بذلك، ولم بنى كسرى على الخليج قبالة قسطنطينية النواويس وبيوت النار. ولكن متى ظهرت الروم على ترك خرسان ظهوراً موالياً، ضربوا بها المثل إلى آخر دارمسه، ومن الأشباه، ومن يتخلل هذا النسب.
وكانت خانتون بنت خاقان عند أبرويز فولدت له شيرويه. وقد ملك شيرويه بعد أبرويز، فتزوج شيرويه مريم بنت قيصر، فولدت له فيروزاشاهى أم يزيد الناقص والوليد. وكان يقول: ولدني أربعة أملاك: كسرى، وخاقان، وقيصر، ومروان. وكان يرتجز في حروبه التي قتل فيها الوليد بن يزيد بن عاتكة:
أنا ابن كسرى وأبي خاقان ... وقيصرٌ جدي وجدي مروان
فلما صار إلى الافتخار في شعره بالنجدة والثقافة بالحرب، لم يفخر إلا بخاقان فقط فقال:
فإن كنت أرمى مقبلاً ثم مدبرا ... وأطلع من طودٍ زليق على مهر
فخاقان جدى فاعرفى ذاك واذكرى ... أخابيره فى السهل والجبل الوعر
قوله " وأطلع " يريد: وأنزل، وهى لغة أهل الشام وأخذوها من نازلة العرب في أول الدهر. وجعل دابته مهراً، لأن ذلك أشد وأشق.
وقال الفضل بن العباس بن رزين: أتانا ذات يوم فرسانٌ من الترك، فلم يبق أحد ممن كان خارجاً إلا دخل حصنه وأغلق بابه، وأحاطوا بحصن من ذلك الحصون، وأبصر فارسٌ منهم شيخاً يطلع إليهم من فوق، فقال له التركي: لئن لم تنزل إلي لأقتلنك قتلة ما قتلتها أحدا! قال: فنزل إليه وفتح له الباب، ودخلوا الحصن، واكتسحوا كل شيء فيه، فضحك من نزوله إليه وفتحه له وهو في أحصن موضع وأمنع مكان، ثم أقبل به إلى حصن أنا فيه فقال: اشتروه مني. قلنا: لا حاجة لنا في ذلك. قال: فإني أبيعه بدرهم واحد. فرمينا إليه بدرهم فخلى سبيله، ثم أدبر عنا ومضى مع أصحابه، فما لبث إلا قليلاً حتى عاد إلينا فوقف حيث نسمع كلامه، فراعنا ذلك، فأخرج الدرهم من فمه وكسره بنصفين. وقال: لا يسوى درهما، وهذا غبن فاحش، فخذوا هذا النصف، وهو على كل حال غالٍ جداً بالنصف الآخر.
قال: فإذا هو أظرف الخلق.
قال: وكنا نعرف ذلك الرجل بالجبن، وقد كان سمع باحتيال الترك في دخول المدن وعبور الأنهار في الحروب، فتوهم أنه لم يتوعد بفتح الباب.
وقال ثمامة: ما شبهت الذر إلا بالترك؛ لأن كل ذرة على حدتها معها من المعرفة بادخار الطعم، ومن الشم والاسترواح، ونجب المدّخر حتى لا ينبت في جحره، ثم الاحتيال للناس في الاحتيال لها بالصمامة والعفاص والمزدجر، وتعليق الطعام على الأوتاد والبرادات، مثل الذرّ مع صاحبتها.
وقال أبو موسى الأشعرىّ: كل جنسٍ يحتاج إلى أمير ورئيس ومدبر، حتى الذّرّ.
وروى أبو عمر الضرير، أن رئيس الذّرّ الرائد الذي يخرج أولاً لشيءٍ قد شمه دون أصحابه، لخصوصيةٍ خصه الله تعالى بها، ولطافة الحس، فإذا حاول حمله وتعاطى نقله، وأعجزه ذلك بعد أن يبلى عذرا، أتاهن فأخبرهنَّ فرجع، وخرجت بعده كأنها خيطٌ أسود ممدود. وليست ذرةٌ أبداً تستقبل ذرةً أخرى إلا واقفتها وسارتها بشىءٍ ثم انصرفت عنها.
وكذلك الأتراك كل واحدٍ منهم غير عاجزٍ عن معرفة مصلحة أمره، إلا أنّ التفاضل واجبٌ في جميع أصناف الأشياء والنبات والموات. وقد تختلف الجواهر وكلها كريم، وتتفاضل العتاق وكلها جواد.
قالوا: ومن الأعاجيب أن الحارث بن كعب لا يقوم لحزم، وحزم لا تقوم لكندة، وكندة لا تقوم للحارث بن كعب.
قالوا: ومثل ذلك من الأعاجيب في الحارث: أنّ العرب لا تقوم للترك، والترك لا تقوم للروم، والروم لا تقوم للعرب.
قال جهم بن صفوان الترمذي: قد عرفنا ما كان بين فارس والترك من الحرب، حتى تزوج كسرى أبرويز، خانتون بنت خاقان، يستميله بذلك الصهر، ويدفع بأسه عنه. وقد عرفنا الحروب التي كانت بين فارس والروم، وكيف تساجلوا الظفر، وبأي سببٍ غرس الزيتون بالمدائن وسوسا، وبأي سببٍ بنيت الرومية ولم سميت بذلك، ولم بنى كسرى على الخليج قبالة قسطنطينية النواويس وبيوت النار. ولكن متى ظهرت الروم على ترك خرسان ظهوراً موالياً، ضربوا بها المثل إلى آخر دارمسه، ومن الأشباه، ومن يتخلل هذا النسب.
وكانت خانتون بنت خاقان عند أبرويز فولدت له شيرويه. وقد ملك شيرويه بعد أبرويز، فتزوج شيرويه مريم بنت قيصر، فولدت له فيروزاشاهى أم يزيد الناقص والوليد. وكان يقول: ولدني أربعة أملاك: كسرى، وخاقان، وقيصر، ومروان. وكان يرتجز في حروبه التي قتل فيها الوليد بن يزيد بن عاتكة:
أنا ابن كسرى وأبي خاقان ... وقيصرٌ جدي وجدي مروان
فلما صار إلى الافتخار في شعره بالنجدة والثقافة بالحرب، لم يفخر إلا بخاقان فقط فقال:
فإن كنت أرمى مقبلاً ثم مدبرا ... وأطلع من طودٍ زليق على مهر
فخاقان جدى فاعرفى ذاك واذكرى ... أخابيره فى السهل والجبل الوعر
قوله " وأطلع " يريد: وأنزل، وهى لغة أهل الشام وأخذوها من نازلة العرب في أول الدهر. وجعل دابته مهراً، لأن ذلك أشد وأشق.
وقال الفضل بن العباس بن رزين: أتانا ذات يوم فرسانٌ من الترك، فلم يبق أحد ممن كان خارجاً إلا دخل حصنه وأغلق بابه، وأحاطوا بحصن من ذلك الحصون، وأبصر فارسٌ منهم شيخاً يطلع إليهم من فوق، فقال له التركي: لئن لم تنزل إلي لأقتلنك قتلة ما قتلتها أحدا! قال: فنزل إليه وفتح له الباب، ودخلوا الحصن، واكتسحوا كل شيء فيه، فضحك من نزوله إليه وفتحه له وهو في أحصن موضع وأمنع مكان، ثم أقبل به إلى حصن أنا فيه فقال: اشتروه مني. قلنا: لا حاجة لنا في ذلك. قال: فإني أبيعه بدرهم واحد. فرمينا إليه بدرهم فخلى سبيله، ثم أدبر عنا ومضى مع أصحابه، فما لبث إلا قليلاً حتى عاد إلينا فوقف حيث نسمع كلامه، فراعنا ذلك، فأخرج الدرهم من فمه وكسره بنصفين. وقال: لا يسوى درهما، وهذا غبن فاحش، فخذوا هذا النصف، وهو على كل حال غالٍ جداً بالنصف الآخر.
قال: فإذا هو أظرف الخلق.
قال: وكنا نعرف ذلك الرجل بالجبن، وقد كان سمع باحتيال الترك في دخول المدن وعبور الأنهار في الحروب، فتوهم أنه لم يتوعد بفتح الباب.
وقال ثمامة: ما شبهت الذر إلا بالترك؛ لأن كل ذرة على حدتها معها من المعرفة بادخار الطعم، ومن الشم والاسترواح، ونجب المدّخر حتى لا ينبت في جحره، ثم الاحتيال للناس في الاحتيال لها بالصمامة والعفاص والمزدجر، وتعليق الطعام على الأوتاد والبرادات، مثل الذرّ مع صاحبتها.
وقال أبو موسى الأشعرىّ: كل جنسٍ يحتاج إلى أمير ورئيس ومدبر، حتى الذّرّ.
وروى أبو عمر الضرير، أن رئيس الذّرّ الرائد الذي يخرج أولاً لشيءٍ قد شمه دون أصحابه، لخصوصيةٍ خصه الله تعالى بها، ولطافة الحس، فإذا حاول حمله وتعاطى نقله، وأعجزه ذلك بعد أن يبلى عذرا، أتاهن فأخبرهنَّ فرجع، وخرجت بعده كأنها خيطٌ أسود ممدود. وليست ذرةٌ أبداً تستقبل ذرةً أخرى إلا واقفتها وسارتها بشىءٍ ثم انصرفت عنها.
وكذلك الأتراك كل واحدٍ منهم غير عاجزٍ عن معرفة مصلحة أمره، إلا أنّ التفاضل واجبٌ في جميع أصناف الأشياء والنبات والموات. وقد تختلف الجواهر وكلها كريم، وتتفاضل العتاق وكلها جواد.
وقد قلنا في مناقب جميع الأصناف بجمل ما انتهى إلينا وبلغه علمنا؛ فإن وقع ذلك بالموافقة فبتوفيق الله وصنعه، وإن قصر دون ذلك فالذي قصر بنا نقصان علمنا، وقلة حفظنا وسماعنا. فأما حسن النِّيَّة، والذي نضمر من المحبة والاجتهاد في القربة، فإنا لا نرجع في ذلك إلى أنفسنا بلائمة. وبين التقصير من جهة التفريط والتضييع، وبين التقصير من جهة العجز وضعف العزم، فرقٌ.
ولو كان هذا الكتاب من كتب المناقضات، وكتب المسائل والجوابات، وكان كل صنفٍ من الأصناف يريد الاستقصاء على صاحبه، ويكون غايته إظهار فضل نفسه وإن لم يصل إلى ذلك إلا بإظهار نقص أخيه ووليه، لكان كتاباً كبيراً، كثير الورق عظيماً، ولكان العدد الذي يقضون لمؤلفه بالعلم والاتساع في المعرفة أكثر وأظهر، ولكنا رأينا أن القليل الذي يُجمع خيرٌ من الكثير الذي يفرِّق.
ونحن نعوذ بالله من هذا المذهب، ونسأله العون والتسديد، إنه سميعٌ قريبٌ، فعال لما يريد.
تم الكتاب ولله المنة، وبيده الحول والقوة والله الموفق للصواب.
والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله الطيبين الطاهرين وسلامه وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ولو كان هذا الكتاب من كتب المناقضات، وكتب المسائل والجوابات، وكان كل صنفٍ من الأصناف يريد الاستقصاء على صاحبه، ويكون غايته إظهار فضل نفسه وإن لم يصل إلى ذلك إلا بإظهار نقص أخيه ووليه، لكان كتاباً كبيراً، كثير الورق عظيماً، ولكان العدد الذي يقضون لمؤلفه بالعلم والاتساع في المعرفة أكثر وأظهر، ولكنا رأينا أن القليل الذي يُجمع خيرٌ من الكثير الذي يفرِّق.
ونحن نعوذ بالله من هذا المذهب، ونسأله العون والتسديد، إنه سميعٌ قريبٌ، فعال لما يريد.
تم الكتاب ولله المنة، وبيده الحول والقوة والله الموفق للصواب.
والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله الطيبين الطاهرين وسلامه وهو حسبنا ونعم الوكيل.
بسم الله الرحمن الرحيم
حفظك الله وأمتع بك
أما بعد فإن جماعات أهل الحكمة قالوا: واجبٌ على كل حكيمٍ أن يحسن الارتياد لموضع البغية، وأن يبين أسباب الأمور ويمهد لعواقبها. فإنما حمدت العلماء بحسن التثبت في أوائل الأمور، واستشفافهم بعقولهم ماتجيء به العواقب، فيعلمون عند استقبالها ما تؤول به الحالات في استدبارها. وبقدر تفاوتهم في ذلك تستبين فضائلهم. فأما معرفة الأمور عند تكشفها وما يظهر من خفياتها فذاك أمرٌ يعتدل فيه الفاضل والمفضول، والعالمون والجاهلون.
وإني عرفتك - أكرمك الله - في أيام الحداثة، وحيث سلطان اللهو المخلق للأعراض أغلب على نظرائك، وسكر الشباب والجدة المتحيِّفين للدين والمروءة مستولٍ على لداتك فاختبرت أنت وهم ففقتهم ببسطة المقدرة وحميَّا الحداثة، وطول الجدة، مع ما تقدمتهم فيه من الوسامة في الصورة والجمال في الهيئة. وهذه كلها أسباب تكاد أن توجب الانقياد للهوى، ولججٌ من المهالك لا يسلم منها إلا المنقطع القرين في صحة الفطرة، وكمال العقل. فاستبعدتهم الشهوات حتى أعطوها أزمة أدياتهم، وسلطوها على مروءاتهم وأباحوها أعراضهم، فآلت بأكثرهم الحال إلى ذل العدم وفقد عز الغنى في العاجل، والندامة الطويلة والحسرة في الآجل.
وخرجت نسيج وحدك، أوحدياً في عصرك، حكمت وكيل الله عندك - وهو عقلك - على هواك، وألقيت إليه أزمة أمرك، فسلك بك طريق السلامة، وأسلمك إلى العاقبة المحمودة، وبلغ بك من نيل اللذات أكثر مما بلغوا، ونال بك من الشهوات أكثر مما نالوا، وصرفك من صنوف النعم أكثر مما تصرفوا، وربط عليك من نعم الله التي خولك ما أطلقه من أيديهم إيثار اللهو وتسليطهم الهوى على أنفسهم؛ فخاض بهم سبل تلك اللجج، واستنقذك من تلك المعاطب، فأخرجك سليم الدين، وافر المروءة، نقى العرض، كثير الثراء، بيِّن الجدة. وذلك سبيل من كان ميله إلى اللَّه تعالى أكثر من ميله إلى هواه.
فلم أزل أبقاك اللَّه في أحوالك تلك كلُّها بفضيلتك عارفاً، ولك بنعم اللَّه عندك غابطاً، أرى ظواهر أمورك المحمودة فتدعوني إلى الانقطاع إليك، وأسأل عن بواطن أحوالك فتزيدني رغبةً في الاتصال بك، ارتياداً مني لموضع الخيرة في الأخوَّة، والتماساً لإصابة الاصطفاء في المودة، وتخيُّراً لمستودع الرجاء في النائبة.
فلما محضتك الخبرة، وكشفك الابتلاء عن المحمدة، وقضت لك التجارب بالتقدمة، وشهدت لك قلوب العامة بالقبول والمحبة، وقطع اللَّه عذر كل من كان يطلب الاتصال بك، طلبت الوسيلة إليك والاتصال بحبلك، ومتتُّ بحرمة الأدب وذمام كرمك. وكان من نعمة اللَّه عندي أن جعل أبا عبد اللَّه - حفظه اللَّه - وسيلتي إليك، فوجدت المطلب سهلاً والمراد محموداً، وأفضيت إلى ما يجوز الأمنيَّة ويفوت الأمل، فوصلت إخاي بمودتك، وخلطتني بنفسك، وأسمتني في مراعي ذوي الخاصة بك، تفضلاً لا مجازاة، وتطولاً لا مكافاة، فأمنت الخطوب، واعتليت على الزمان، واتخذتك للأحداث عدةً، ومن نوائب الدهر حصناً منيعاً.
أما بعد فإن جماعات أهل الحكمة قالوا: واجبٌ على كل حكيمٍ أن يحسن الارتياد لموضع البغية، وأن يبين أسباب الأمور ويمهد لعواقبها. فإنما حمدت العلماء بحسن التثبت في أوائل الأمور، واستشفافهم بعقولهم ماتجيء به العواقب، فيعلمون عند استقبالها ما تؤول به الحالات في استدبارها. وبقدر تفاوتهم في ذلك تستبين فضائلهم. فأما معرفة الأمور عند تكشفها وما يظهر من خفياتها فذاك أمرٌ يعتدل فيه الفاضل والمفضول، والعالمون والجاهلون.
وإني عرفتك - أكرمك الله - في أيام الحداثة، وحيث سلطان اللهو المخلق للأعراض أغلب على نظرائك، وسكر الشباب والجدة المتحيِّفين للدين والمروءة مستولٍ على لداتك فاختبرت أنت وهم ففقتهم ببسطة المقدرة وحميَّا الحداثة، وطول الجدة، مع ما تقدمتهم فيه من الوسامة في الصورة والجمال في الهيئة. وهذه كلها أسباب تكاد أن توجب الانقياد للهوى، ولججٌ من المهالك لا يسلم منها إلا المنقطع القرين في صحة الفطرة، وكمال العقل. فاستبعدتهم الشهوات حتى أعطوها أزمة أدياتهم، وسلطوها على مروءاتهم وأباحوها أعراضهم، فآلت بأكثرهم الحال إلى ذل العدم وفقد عز الغنى في العاجل، والندامة الطويلة والحسرة في الآجل.
وخرجت نسيج وحدك، أوحدياً في عصرك، حكمت وكيل الله عندك - وهو عقلك - على هواك، وألقيت إليه أزمة أمرك، فسلك بك طريق السلامة، وأسلمك إلى العاقبة المحمودة، وبلغ بك من نيل اللذات أكثر مما بلغوا، ونال بك من الشهوات أكثر مما نالوا، وصرفك من صنوف النعم أكثر مما تصرفوا، وربط عليك من نعم الله التي خولك ما أطلقه من أيديهم إيثار اللهو وتسليطهم الهوى على أنفسهم؛ فخاض بهم سبل تلك اللجج، واستنقذك من تلك المعاطب، فأخرجك سليم الدين، وافر المروءة، نقى العرض، كثير الثراء، بيِّن الجدة. وذلك سبيل من كان ميله إلى اللَّه تعالى أكثر من ميله إلى هواه.
فلم أزل أبقاك اللَّه في أحوالك تلك كلُّها بفضيلتك عارفاً، ولك بنعم اللَّه عندك غابطاً، أرى ظواهر أمورك المحمودة فتدعوني إلى الانقطاع إليك، وأسأل عن بواطن أحوالك فتزيدني رغبةً في الاتصال بك، ارتياداً مني لموضع الخيرة في الأخوَّة، والتماساً لإصابة الاصطفاء في المودة، وتخيُّراً لمستودع الرجاء في النائبة.
فلما محضتك الخبرة، وكشفك الابتلاء عن المحمدة، وقضت لك التجارب بالتقدمة، وشهدت لك قلوب العامة بالقبول والمحبة، وقطع اللَّه عذر كل من كان يطلب الاتصال بك، طلبت الوسيلة إليك والاتصال بحبلك، ومتتُّ بحرمة الأدب وذمام كرمك. وكان من نعمة اللَّه عندي أن جعل أبا عبد اللَّه - حفظه اللَّه - وسيلتي إليك، فوجدت المطلب سهلاً والمراد محموداً، وأفضيت إلى ما يجوز الأمنيَّة ويفوت الأمل، فوصلت إخاي بمودتك، وخلطتني بنفسك، وأسمتني في مراعي ذوي الخاصة بك، تفضلاً لا مجازاة، وتطولاً لا مكافاة، فأمنت الخطوب، واعتليت على الزمان، واتخذتك للأحداث عدةً، ومن نوائب الدهر حصناً منيعاً.
فلما حزت المؤانسة، وتقلبت من فضلك في صنوف النعمة، وزاد بصرى من مواهبك في السرور والحبرة، أردت خبرة المشاهدة، فبلوت أخلاقك، وامتحنت شيمك، وعجمت مذاهبك على حين غفلاتك، وفي الأوقات التي يقل فيها تحفظك، أراعي حركاتك، وأراقب مخارج أثرك ونهيك، فأرى من استصغارك لعظيم النعم التي تنعم بها، واستكثارك لقليل الشكر من شاكريك، ما أعرف به وبما قد بلوت من غيرك، وما قد شهدت لي به التجارب، أن ذلك منك طبعٌ غير تكلُّف.
هيهات! ما يكاد ذو التكلف أن يخفي على أهل الغباوة، فكيف على مثلي من المتصفحين. فزادتني المؤانسة فيك رغبةً، وطول العشرة لك محبة، وامتحاني أفاعيلك لك تفضيلاً، وبطاعتك دينونةً.
وكان من تمام شكري لربي ولي كل نعمة، والمبتدئ بكل إحسان، الشكر لك والقيام بمكافأتك بما أمكن من قولٍ وفعل؛ لأن الله تبارك وتعالى نظم الشكر له بالشكر لذي النعمة من خلقه، وأبي أن يقبلهما إلا معاً؛ لأن أحدهما دليلٌ على الآخر، وموصولٌ به. فمن ضيع شكر ذي نعمةٍ من الخلق فأمر الله ضيَّع، وبشاهده استخف.
ولقد جاء بذلك الخبر عن الطاهر الصادق صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: " من لم يشكر للناس لم يشكر الله " .
ولعمري إن ذلك لموجودٌ في الفطرة، قائم في العقل: أن من كفرنعم الخلق كان لنعم الله أكفر؛ لأن الخلق يعطي بعضهم بعضاً بالكلفة والمشقة، وثقل العطية على القلوب، والله يعطي بلا كلفة. ولهذه العلة جمع بين الشكر له والشكر لذوي النعم من خلقه.
فلما وجبت على الحجة بشكرك، وقطع عذري في مكافأتك، اعترفت بالتقصير عن تقصي ذلك، إلا أني بسطت لساني بتقريظك ونشر محاسنك. موصولٌ ذلك مني عند السامعين بالاعتراف بالعجز عن إحصائها.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أودع عرفاً فليشكره، فإن لم يمكنه فلينشره، فإذا نشره فقد شكره، وإذا كتمه فقد كفره " .
ثم رأيت أن قد بقي علي أمرٌ من الأمور يمكنني فيه برك، وهو عندي عتيد، وأنت عنه غير مستغنٍ، والمنفعة لك فيه عظيمة عاجلة وآجلة إن شاء الله.
ولم أزل أبقاك الله بالموضع الذي قد عرفت، من جمع الكتب ودراستها والنظر فيها، ومعلومٌ أن طول دراستها إنما هو تصفح عقول العالمين، والعلم بأخلاق النبيين، وذوي الحكمة من الماضين والباقين من جميع الأمم، وكتب أهل الملل.
فرأيت أن أجمع لك كتاباً من الأدب، جامعاً لعلم كثيرٍ من المعاد والمعاش، أصف لك فيه علل الأشياء، وأخبرك بأسبابها وما اتفقت عليه محاسن الأمم. وعلمت أن ذلك من أعظم ما أبرك به، وارجح ما أتقرب به إليك. وكان الذي حداني على ذلك ما رأيت الله قسم لك من الفهم والعقل، وركب فيك من الطبع الكريم.
وقد أجمعت الحكماء أن العقل المطبوع والكرم الغريزي لا يبلغان غاية الكمال إلا بمعاونة العقل المكتسب. ومثلوا ذلك بالنار والحطب، والمصباح والدهن. وذلك أن العقل الغريزي آلة والمكتسب مادة، وإنما الأدب عقل غيرك تزيده في عقلك.
ورأيت كثيراً من واضعي الآداب قبلي قد عهدوا إلى الغابرين بعدهم في الآداب عهوداً قاربوا فيها الحق، وأحسنوا فيها الدلالة، إلا أنى رأيت أكثر ما رسموا من ذلك فروعاً لم يبينوا عللها، وصفاتٍ حسنةٍ لم يكشفوا أسبابها، وأموراً محمودة لم يدلوا علىأصولها.
فإن كان ما فعلوا من ذلك رواياتٍ رووها عن أسلافهم، ووراثات ورثوها عن أكابرهم، فقد قاموا بأداء الأمانة، ولم يبلغوا فضيلة من استنبط. وغن كانوا تركوا الدلالة على علل الأمور التي بمعرفة عللها يوصل إلى مباشرة اليقين فيها، وينتهى إلى غاية الاستبصار منها، فلم يعدوا في ذلك منزلة الظن بها. ولن تجدوا وصايا أنبياء الله أبداً إلا مبينة الأسباب، مكشوفة العلل، مضروبةً معها الأمثال.
فألفت لك كتابي هذا إليك، وأنا واصفٌ لك فيه الطبائع التي ركب عليها الخلق، وفطرت عليها البرايا كلهم، فهم فيها مستوون، وإلى وجودها في أنفسهم مضطرون، وفي المعرفة بما يتولد عنها متفقون.
هيهات! ما يكاد ذو التكلف أن يخفي على أهل الغباوة، فكيف على مثلي من المتصفحين. فزادتني المؤانسة فيك رغبةً، وطول العشرة لك محبة، وامتحاني أفاعيلك لك تفضيلاً، وبطاعتك دينونةً.
وكان من تمام شكري لربي ولي كل نعمة، والمبتدئ بكل إحسان، الشكر لك والقيام بمكافأتك بما أمكن من قولٍ وفعل؛ لأن الله تبارك وتعالى نظم الشكر له بالشكر لذي النعمة من خلقه، وأبي أن يقبلهما إلا معاً؛ لأن أحدهما دليلٌ على الآخر، وموصولٌ به. فمن ضيع شكر ذي نعمةٍ من الخلق فأمر الله ضيَّع، وبشاهده استخف.
ولقد جاء بذلك الخبر عن الطاهر الصادق صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: " من لم يشكر للناس لم يشكر الله " .
ولعمري إن ذلك لموجودٌ في الفطرة، قائم في العقل: أن من كفرنعم الخلق كان لنعم الله أكفر؛ لأن الخلق يعطي بعضهم بعضاً بالكلفة والمشقة، وثقل العطية على القلوب، والله يعطي بلا كلفة. ولهذه العلة جمع بين الشكر له والشكر لذوي النعم من خلقه.
فلما وجبت على الحجة بشكرك، وقطع عذري في مكافأتك، اعترفت بالتقصير عن تقصي ذلك، إلا أني بسطت لساني بتقريظك ونشر محاسنك. موصولٌ ذلك مني عند السامعين بالاعتراف بالعجز عن إحصائها.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أودع عرفاً فليشكره، فإن لم يمكنه فلينشره، فإذا نشره فقد شكره، وإذا كتمه فقد كفره " .
ثم رأيت أن قد بقي علي أمرٌ من الأمور يمكنني فيه برك، وهو عندي عتيد، وأنت عنه غير مستغنٍ، والمنفعة لك فيه عظيمة عاجلة وآجلة إن شاء الله.
ولم أزل أبقاك الله بالموضع الذي قد عرفت، من جمع الكتب ودراستها والنظر فيها، ومعلومٌ أن طول دراستها إنما هو تصفح عقول العالمين، والعلم بأخلاق النبيين، وذوي الحكمة من الماضين والباقين من جميع الأمم، وكتب أهل الملل.
فرأيت أن أجمع لك كتاباً من الأدب، جامعاً لعلم كثيرٍ من المعاد والمعاش، أصف لك فيه علل الأشياء، وأخبرك بأسبابها وما اتفقت عليه محاسن الأمم. وعلمت أن ذلك من أعظم ما أبرك به، وارجح ما أتقرب به إليك. وكان الذي حداني على ذلك ما رأيت الله قسم لك من الفهم والعقل، وركب فيك من الطبع الكريم.
وقد أجمعت الحكماء أن العقل المطبوع والكرم الغريزي لا يبلغان غاية الكمال إلا بمعاونة العقل المكتسب. ومثلوا ذلك بالنار والحطب، والمصباح والدهن. وذلك أن العقل الغريزي آلة والمكتسب مادة، وإنما الأدب عقل غيرك تزيده في عقلك.
ورأيت كثيراً من واضعي الآداب قبلي قد عهدوا إلى الغابرين بعدهم في الآداب عهوداً قاربوا فيها الحق، وأحسنوا فيها الدلالة، إلا أنى رأيت أكثر ما رسموا من ذلك فروعاً لم يبينوا عللها، وصفاتٍ حسنةٍ لم يكشفوا أسبابها، وأموراً محمودة لم يدلوا علىأصولها.
فإن كان ما فعلوا من ذلك رواياتٍ رووها عن أسلافهم، ووراثات ورثوها عن أكابرهم، فقد قاموا بأداء الأمانة، ولم يبلغوا فضيلة من استنبط. وغن كانوا تركوا الدلالة على علل الأمور التي بمعرفة عللها يوصل إلى مباشرة اليقين فيها، وينتهى إلى غاية الاستبصار منها، فلم يعدوا في ذلك منزلة الظن بها. ولن تجدوا وصايا أنبياء الله أبداً إلا مبينة الأسباب، مكشوفة العلل، مضروبةً معها الأمثال.
فألفت لك كتابي هذا إليك، وأنا واصفٌ لك فيه الطبائع التي ركب عليها الخلق، وفطرت عليها البرايا كلهم، فهم فيها مستوون، وإلى وجودها في أنفسهم مضطرون، وفي المعرفة بما يتولد عنها متفقون.
ثم مبين لك كيف تفترق بهم الحالات، وتفاوت بهم المنازل، وما العلل التي يوجب بعضها بعضا، وما الشيء الذي يكون سبباً لغيره، متى كان الأول كان ما بعده، وما السبب الذي لا يكون الثاني فيه إلا بالأول، وربما كان الأول ولم يكن الثاني. وفرق ما بين الطبع الأول وبين الاكتساب والعادة التي تصير طبعاً ثانيا. ولم اختلف ذلك؟ وكيف دواعي قلوب الناس، وما منها يمتنعون عنه، وما منها لا يمتنعون منه. وما أسباب نوازع شهواتهم؟ وما الشيء الذي يحتال لقلوبهم به حتى تستمال، وحتى تؤنس بعد الوحشة، وتسكن بعد النفار؟ وكيف يتأتى لينقض ما فيهم من الطبائع المذمومة حتى تصرف إلى الشيم المحمودة؟ وراسمٌ لك في ذلك أصولاً، ومبين لك مع كل أصل منها عليه وسببه.
وقد علمت أن في كثير من الحق مشبهات لا تستبان إلا بعد النظر، وهناك يختل الشيطان أهل الغفلة، وذاك أنه لا يجد سبيلاً إلى اختداعهم عن الأمور الظاهرة.
فلم أدع من تلك المواضع الخفية موضعاً إلا أقمت لك بإزاء كل شبهة منه دليلاً، ومع كل خفيًّ من الحق حجةً ظاهرة تستنبط بها غوامض البرهان وتستبين بها دقائق الصواب، وتستشف بها سرائر القلوب، فتاتى ما تأتى عن بينة، وتدع ما تدع عن خبرة، ولا يكون بك وحشةٌ إلى معرفةِ كثيرٍ مما يغيب عنك، إذا عرفت العلل والأسباب، حتى كأنك مشاهدٌ لضمير كل امرئٍ، لمعرفتك بطبعه وماركب عليه، وعوارض الأمور الداخلة عليه مم؛ غير راضٍ لك بالأصول حتى أتقصى لك ما بلغه علمي من الفروع.
ثم لا أرسم لك من ذلك إلا الأمر المعقول في كل طبيعة، والموجود في فطر البرايا كلها. فإن أحسنت رعاية ذلك وأقمته على حدوده، ونزلته منازله، كان عمرك - وإن قصرت أيامه - طويلاً، وفارقت ما لابدّ لك من فراقه محموداً، إن شاء الله.
واعلم أن الآداب إنّما هى آلاتٌ تصلح أن تستعمل في الدّين وتستعمل في الدنيا، وإنما وضعت الآداب على أصول الطبائع. وإنما أصول أمور التدبير في الدّين والدنيا واحدة، فما فسدت فيه المعاملة في الدّين فسدت فيه المعاملة في الدنيا، وكل أمرٍ لم يصح في معاملات الدنيا لم يصح في الدّين. وإنما الفرق بين الدين والدنيا اختلاف الدارين من الدنيا والآخرة فقط، والحكم ها هنا الحكم هناك، ولولا ذلك ما قامت مملكة، ولا ثبتت دولة، ولا استقامة سياسة. ولذلك قال اللَّه عزَّ وجل: " ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً " ، قال ابن عباس في تفسيرها: من كان ليس له من العقل ما يعرف به كيف دبِّرت أمور الدنيا، فكذلك هو إذا انتقل إلى الدين، فإنما ينتقل بذلك العقل. فبقدر جهله بالدنيا يكون جهله بالآخرة أكثر؛ لأن هذه شاهدةٌ وتلك غيب؛ فإذا جهل ما شاهد فهو بما غاب عنه أجهل.
فأوّل ما أوصيك به ونفسي تقوى اللَّه؛ فإنها جماع كل خير، وسبب كل نجاة، ولقاح كل رشد. هي أحرز حرزٍ، وأقوى معين، وأمنع جُنَّة. هي الجامعة محبة قلوب العباد، والمستقبلة بك محبة قلوب من لا تجري عليهم نعمك. فاجعلها عدتك وسلاحك، واجعل أمر الله ونهيه نصب عينيك.
وأحذرك ونفسي الله والاغترار به، والإدهان في أمره، والاستهانة بعزائمه، والأمن لمكره؛ فقد رأيت آثاره في أهل ولايته وعداوته، كيف جعلهم للماضين عبرةً، وللغابرين مثلاً.
واعلم أن خلقه كلهم بريته، لا وصلة بينه وبين أحدٍ منهم إلا بالطاعة، فأولاهم به أكثرهم تزايداً في طاعته، وما خالف هذا فإنه أمانيٌّ وغرور.
وقد مكن الله لك من أسباب المقدرة، ومهد لك في تمكين الغنى والبسطة ما لم تنحله بحيلة، ولا بلغته بقوة، لولا فضله وطوله. ولكنه مكنك ليبلوا خبرك، ويختبر شكرك، ويحصى سعيك، ويكتب أثرك، ثم يوفيك أجرك، ويأخذك بما اجترحت يدك أو يعفو؛ فأهل العفو هو.
ولله ابتلاءان في خلقه - والابتلاء هو الاختبار - ابتلاء بنعمة، وابتلاء بمصيبة. وبقدر عظمها يجب التكليف من الله عليها؛ فبقدر ما خولك من النعمة يستأديك الشكر.
ولو تقصَّى الله على خلقه لعذبهم، ولذلك قال: " ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابةٍ " . ولكنه قبل التوبة، وأقال العثرة، وجعل بالحسنة أضعافها.
وقد علمت أن في كثير من الحق مشبهات لا تستبان إلا بعد النظر، وهناك يختل الشيطان أهل الغفلة، وذاك أنه لا يجد سبيلاً إلى اختداعهم عن الأمور الظاهرة.
فلم أدع من تلك المواضع الخفية موضعاً إلا أقمت لك بإزاء كل شبهة منه دليلاً، ومع كل خفيًّ من الحق حجةً ظاهرة تستنبط بها غوامض البرهان وتستبين بها دقائق الصواب، وتستشف بها سرائر القلوب، فتاتى ما تأتى عن بينة، وتدع ما تدع عن خبرة، ولا يكون بك وحشةٌ إلى معرفةِ كثيرٍ مما يغيب عنك، إذا عرفت العلل والأسباب، حتى كأنك مشاهدٌ لضمير كل امرئٍ، لمعرفتك بطبعه وماركب عليه، وعوارض الأمور الداخلة عليه مم؛ غير راضٍ لك بالأصول حتى أتقصى لك ما بلغه علمي من الفروع.
ثم لا أرسم لك من ذلك إلا الأمر المعقول في كل طبيعة، والموجود في فطر البرايا كلها. فإن أحسنت رعاية ذلك وأقمته على حدوده، ونزلته منازله، كان عمرك - وإن قصرت أيامه - طويلاً، وفارقت ما لابدّ لك من فراقه محموداً، إن شاء الله.
واعلم أن الآداب إنّما هى آلاتٌ تصلح أن تستعمل في الدّين وتستعمل في الدنيا، وإنما وضعت الآداب على أصول الطبائع. وإنما أصول أمور التدبير في الدّين والدنيا واحدة، فما فسدت فيه المعاملة في الدّين فسدت فيه المعاملة في الدنيا، وكل أمرٍ لم يصح في معاملات الدنيا لم يصح في الدّين. وإنما الفرق بين الدين والدنيا اختلاف الدارين من الدنيا والآخرة فقط، والحكم ها هنا الحكم هناك، ولولا ذلك ما قامت مملكة، ولا ثبتت دولة، ولا استقامة سياسة. ولذلك قال اللَّه عزَّ وجل: " ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً " ، قال ابن عباس في تفسيرها: من كان ليس له من العقل ما يعرف به كيف دبِّرت أمور الدنيا، فكذلك هو إذا انتقل إلى الدين، فإنما ينتقل بذلك العقل. فبقدر جهله بالدنيا يكون جهله بالآخرة أكثر؛ لأن هذه شاهدةٌ وتلك غيب؛ فإذا جهل ما شاهد فهو بما غاب عنه أجهل.
فأوّل ما أوصيك به ونفسي تقوى اللَّه؛ فإنها جماع كل خير، وسبب كل نجاة، ولقاح كل رشد. هي أحرز حرزٍ، وأقوى معين، وأمنع جُنَّة. هي الجامعة محبة قلوب العباد، والمستقبلة بك محبة قلوب من لا تجري عليهم نعمك. فاجعلها عدتك وسلاحك، واجعل أمر الله ونهيه نصب عينيك.
وأحذرك ونفسي الله والاغترار به، والإدهان في أمره، والاستهانة بعزائمه، والأمن لمكره؛ فقد رأيت آثاره في أهل ولايته وعداوته، كيف جعلهم للماضين عبرةً، وللغابرين مثلاً.
واعلم أن خلقه كلهم بريته، لا وصلة بينه وبين أحدٍ منهم إلا بالطاعة، فأولاهم به أكثرهم تزايداً في طاعته، وما خالف هذا فإنه أمانيٌّ وغرور.
وقد مكن الله لك من أسباب المقدرة، ومهد لك في تمكين الغنى والبسطة ما لم تنحله بحيلة، ولا بلغته بقوة، لولا فضله وطوله. ولكنه مكنك ليبلوا خبرك، ويختبر شكرك، ويحصى سعيك، ويكتب أثرك، ثم يوفيك أجرك، ويأخذك بما اجترحت يدك أو يعفو؛ فأهل العفو هو.
ولله ابتلاءان في خلقه - والابتلاء هو الاختبار - ابتلاء بنعمة، وابتلاء بمصيبة. وبقدر عظمها يجب التكليف من الله عليها؛ فبقدر ما خولك من النعمة يستأديك الشكر.
ولو تقصَّى الله على خلقه لعذبهم، ولذلك قال: " ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابةٍ " . ولكنه قبل التوبة، وأقال العثرة، وجعل بالحسنة أضعافها.
واعلم أن الحكم في الآخرة هو الحكم في الدنيا: ميزانٌ قسط، وحكمٌ عدل. وقد قال الله تعالى: " فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون. ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون " .
وهذا مثلٌ ضربه الله؛ لأن الناس يعلمون أن لو وضع في إحدى كفتي الميزان شيءٌ ولم يك في الأخرى قليلٌ ولا كثير، لم يكن للوزن معنىً يعقل. وذلك أن أحداً من الخلق لا يخلو من هفوةٍ أو زلة أو غفلة؛ فأخبر أن من كان حسناته الراجحة على سيئاته، مع الندم على السيئات، كان على سبيل النجاة، وطريق الفوز بالإفلاح. ومن مالت سيئاته كان العطب والعذاب أولى به.
وكذلك حكمه في الدنيا؛ لأنه قد تولى أولياء من خلقه وشهد لهم بالعدالة، وقد عاتبهم في بعض الأمور لغلبة الصلاح في أفعالهم وإن هفوا، وتبرأ من آخرين وعاداهم لغلبة الجور على أفاعيلهم، وإن أحسنوا في بعض الأمور.
وكذلك جرت معاملات الخلق بينهم، يعدلون العادل بالغالب من فعله وربما أساء، ويفسقون الفاسق وربما أحسن. وإنما الأمور بعواقبها، وإنما يُقضى على كل امرئ بما شاكل أحواله.
فهذه الأمور قائمة في العقول، جرت عليها المعاملة، واستقامت بها السياسة، لا اختلاف بين الأمة فيها.
فلا تغبننَّ حظك من دينك، وإن استطعت أن تبلغ من الطاعة غايتها فلنفسك تُمهِّد، وإلا فاجهد أن يكون أغلب أفعالك عليك الطاعة، مع الندامة عند الإساءة، ويكون ميلك عند الإساءة، إلى الله أكثر. والله يوفقك.
اعلم أن الله جل ثناؤه خلق خلقه، ثم طبعهم على حب اجترار المنافع، ودفع المضار، وبغض ما كان بخلاف ذلك. هذا فيهم طبعٌ مركب، وجبلة مفطورة، لا خلاف بين الخلق فيه؛ موجودٌ في الإنس والحيوان، لم يدع غيره مدعٍ من الأولين والآخرين. وبقدر زيادة ذلك ونقصانه تزيد المحبة والبغضاء؛ فنقصانه كزيادته تميل الطبيعة معهما كميل كفتي الميزان، قل ذلك أو أكثر.
وهاتان جملتان داخلٌ فيهما جميع محابِّ العباد ومكارههم. والنفس في طبعها حب الراحة والدعة، والازدياد والعلوّ، والعز والغلبة، والاستطراف والتَّنُّوق، وجميع ما تستلذ الحواس من المناظر الحسنة، والروائح العبقة، والطعوم الطيبة، والأصوات المونقة، والملامس اللذيذة. ومما كراهيته في طباعهم أضداد ما وصفت لك وخلافه.
فهذه الخلال التي تجمعها خلتان غرائز في الفطر، وكوامن في الطبع؛ جبلةٌ ثابتة، وشيمة مخلوقة. على أنها في بعضٍ أكثر منها في بعضٍ، ولا يعلم قدر القلة فيه والكثرة إلا الذي دبَّرهم.
فلما كانت هذه طبائعهم، أنشأ لهم من الأرض أرزاقهم، وجعل في ذلك ملاذَّ لجميع حواسهم، فتعلقت به قلوبهم، وتطلعت إليه أنفسهم. فلو تركهم وأصل الطبيعة، مع ما مكن لهم من الأرزاق المشتهاة في طبائعهم، صاروا إلى طاعة الهوى، وذهب التعاطف والتبارُّ. وإذا ذهبا كان ذلك سبباً للفساد، وانقطاع التناسل، وفناء الدنيا وأهلها؛ لأن طبع النفس لا يسلس بعطية قليل ولا كثير مما حوته، حتى تعوَّض أكثر مما تعطى، إما عاجلاً وإما آجلاً مما تستلذه حواسها.
فعلم الله أنهم لا يتعاطفون ولا يتواصلون ولا ينقادون إلا بالتأديب، وأن التأديب ليس إلا بالأمر والنهي غير ناجعين فيهم إلا بالترغيب والترهيب الذين في طباعهم. فدعاهم بالترغيب إلى جنته، وجعلها عوضاً مما تركوا في جنب طاعته، وزجرهم بالترهيب بالنار عن معصيته، وخوفهم بعقابها على ترك أمره. ولو تركهم جل ثناؤه والطباع الأول جروا على سنن الفطرة، وعادة الشيمة.
ثم أقام الرغبة والرهبة على حدود العدل، وموازين النَّصفة، وعدَّلهم تعديلاً متفقا، فقال: " فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره " .
وهذا مثلٌ ضربه الله؛ لأن الناس يعلمون أن لو وضع في إحدى كفتي الميزان شيءٌ ولم يك في الأخرى قليلٌ ولا كثير، لم يكن للوزن معنىً يعقل. وذلك أن أحداً من الخلق لا يخلو من هفوةٍ أو زلة أو غفلة؛ فأخبر أن من كان حسناته الراجحة على سيئاته، مع الندم على السيئات، كان على سبيل النجاة، وطريق الفوز بالإفلاح. ومن مالت سيئاته كان العطب والعذاب أولى به.
وكذلك حكمه في الدنيا؛ لأنه قد تولى أولياء من خلقه وشهد لهم بالعدالة، وقد عاتبهم في بعض الأمور لغلبة الصلاح في أفعالهم وإن هفوا، وتبرأ من آخرين وعاداهم لغلبة الجور على أفاعيلهم، وإن أحسنوا في بعض الأمور.
وكذلك جرت معاملات الخلق بينهم، يعدلون العادل بالغالب من فعله وربما أساء، ويفسقون الفاسق وربما أحسن. وإنما الأمور بعواقبها، وإنما يُقضى على كل امرئ بما شاكل أحواله.
فهذه الأمور قائمة في العقول، جرت عليها المعاملة، واستقامت بها السياسة، لا اختلاف بين الأمة فيها.
فلا تغبننَّ حظك من دينك، وإن استطعت أن تبلغ من الطاعة غايتها فلنفسك تُمهِّد، وإلا فاجهد أن يكون أغلب أفعالك عليك الطاعة، مع الندامة عند الإساءة، ويكون ميلك عند الإساءة، إلى الله أكثر. والله يوفقك.
اعلم أن الله جل ثناؤه خلق خلقه، ثم طبعهم على حب اجترار المنافع، ودفع المضار، وبغض ما كان بخلاف ذلك. هذا فيهم طبعٌ مركب، وجبلة مفطورة، لا خلاف بين الخلق فيه؛ موجودٌ في الإنس والحيوان، لم يدع غيره مدعٍ من الأولين والآخرين. وبقدر زيادة ذلك ونقصانه تزيد المحبة والبغضاء؛ فنقصانه كزيادته تميل الطبيعة معهما كميل كفتي الميزان، قل ذلك أو أكثر.
وهاتان جملتان داخلٌ فيهما جميع محابِّ العباد ومكارههم. والنفس في طبعها حب الراحة والدعة، والازدياد والعلوّ، والعز والغلبة، والاستطراف والتَّنُّوق، وجميع ما تستلذ الحواس من المناظر الحسنة، والروائح العبقة، والطعوم الطيبة، والأصوات المونقة، والملامس اللذيذة. ومما كراهيته في طباعهم أضداد ما وصفت لك وخلافه.
فهذه الخلال التي تجمعها خلتان غرائز في الفطر، وكوامن في الطبع؛ جبلةٌ ثابتة، وشيمة مخلوقة. على أنها في بعضٍ أكثر منها في بعضٍ، ولا يعلم قدر القلة فيه والكثرة إلا الذي دبَّرهم.
فلما كانت هذه طبائعهم، أنشأ لهم من الأرض أرزاقهم، وجعل في ذلك ملاذَّ لجميع حواسهم، فتعلقت به قلوبهم، وتطلعت إليه أنفسهم. فلو تركهم وأصل الطبيعة، مع ما مكن لهم من الأرزاق المشتهاة في طبائعهم، صاروا إلى طاعة الهوى، وذهب التعاطف والتبارُّ. وإذا ذهبا كان ذلك سبباً للفساد، وانقطاع التناسل، وفناء الدنيا وأهلها؛ لأن طبع النفس لا يسلس بعطية قليل ولا كثير مما حوته، حتى تعوَّض أكثر مما تعطى، إما عاجلاً وإما آجلاً مما تستلذه حواسها.
فعلم الله أنهم لا يتعاطفون ولا يتواصلون ولا ينقادون إلا بالتأديب، وأن التأديب ليس إلا بالأمر والنهي غير ناجعين فيهم إلا بالترغيب والترهيب الذين في طباعهم. فدعاهم بالترغيب إلى جنته، وجعلها عوضاً مما تركوا في جنب طاعته، وزجرهم بالترهيب بالنار عن معصيته، وخوفهم بعقابها على ترك أمره. ولو تركهم جل ثناؤه والطباع الأول جروا على سنن الفطرة، وعادة الشيمة.
ثم أقام الرغبة والرهبة على حدود العدل، وموازين النَّصفة، وعدَّلهم تعديلاً متفقا، فقال: " فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره " .
ثم أخبر الله تبارك وتعالى أنه غير داخلٍ في تدبيره الخلل، ولا جائزٌ عنده المحاباة؛ ليعمل كل عاملٍ على ثقةٍ مما وعده وواعده، فتعلقت قلوب العباد بالرغبة والرهبة، فاطرَّد التدبير، واستقامت السياسة، لموافقتهما ما في الفطرة، وأخذهما بمجامع المصلحة، ثم جعل أكثر طاعته فيما تستثقل النفوس، وأكثر معصيته فيما تلذ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " حفت الجنة بالمكاره، والنار بالشهوات " . يخبر أن الطريق إلى الجنة احتمال المكاره، والطريق إلى النار اتباع الشهوات ، فإذا كانوا لم يصلحوا لخالقهم ولم ينقادوا لأمره إلا بما وصفت لك كم الرغبة والرهبة، فأعجز الناس رأياً وأخطؤهم تدبيراً، وأجهلهم بموارد الأمور ومصادرها، من أمل أو ظن أو رجا أن أن أحداً من الخلق فوقه أو دونه أو من نظرائه يصلح له ضميره، وصح له أو بخلاف ماد برهم الله عليه ، فيما بينه وبينهم.
فالرغبة والرهبة أصلا كل تدبير ، وعليها مدار كلَ سياسة ، عظمت أو صغرت. فاجعلها مثالك الذي تحتذي عليه، وركنك الذي تستند إليه. واعلم أنك إن أهملت ما وصفت لك عرضت تدبيرك للاختلاط.
وإن آثرت الهوينا واتكلت على الكفاة في الأمر الذي لا يجوز فيه إلا نظرك، وزجَّيت أمورك على رأي مدخول، وأصلٍ غير محكم، رجع ذلك عليك بما لو حكم فيك عدوك كان ذلك غاية أمنيته، وشفاء غيظه.
واعلم أن إجراءك الأمور مجاريها، واستعمالك الأشياء على وجودها، يجمع لك ألفة القلوب، فيعاملك كل من عاملك بمودةٍ، أو أخذ أو إعطاءٍ، وهو على ثقةٍ من بصرك بمواضع الإنصاف، وعلمك بموارد الأمور.
واعلم أن أثرتك على غير النصيحة والشفقة، والحرمة والكفاية، يوجب لك المباعدة وقلة الثقة ممن آثرته أو آثرت عليه.
فاعرف لأهل البلاء - ممن جرت بينك وبينه مودةٌ أو حرمة، ممن فوقك أو دونك أو نظرائك - أقدارهم ومنازلهم. ثم لتكن أمورك معهم على قدر البلاء والاستحقاق، ولا تؤثر في ذلك أحداً لهوى؛ فإن الأثرة على الهوى توجب السُّخطة، وتوجب استصغار عظيم النعمة، ويمحق بها الإفضال، وتفسد عليها الطائفتان: من آثرت ومن آثرت عليه.
أما من آثرت فإنه يعلم أنك لم تؤثره باستحقاقٍ بل لهوى، فهو مترقِّبٌ أن ينتقل هواك إلى غيره، فتحول أثرتك حيث مال هواك. فهو مدخول القلب في مودتك، غير آمنٍ لتغيرك.
وأما من آثرت عليه بعد الاستحقاق منه، فقد جعلت له السبيل إلى الطعن عليك، وأعطيته الحجة على نفسك. فكل من يعمل على غير ثقةٍ عاد ما أراد به النفع ضرراً، والإصلاح فيه فساداً.
وربما آثر الرجل المرء من إخوانه بالعطية السنية على بلاء أبلاه، فيعظم قدرها عنده حتى لعله تطيب نفسه ببذل ماله ودمه دونه.فإن أعطى من أبلى كبلائه وكانت له مثل دالته، أكثر مما أعطاه، انتقل كل محمودٍ من ذلك مذموماً، وكل مستحسنٍ مستقبحاً. وكذلك الأمر في العقوبة، يجريان مجرى واحداً.
فاجعل العدل والنَّصفة في الثواب والعقاب حاكماً بينك وبين إخوانك، فمن قدمت منهم فقدمه على الاستحقاق، وبصحة النية في مودته، وخلوص نصيحته لك مما قد بلوت من أخلاقه وشيمه، وعلمت بتجربتك له، أنه يعلم أن صلاحه موصولٌ بصلاحك، وعطبه كائن مع عطبك، ففوض الأمر إليه، وأشركه في خواص أمورك وخفي أسرارك، ثم اعرف له قدره في مجلسك ومحاورتك ومعاملتك، في كل حالاتك ومزاولاتك في خلواتك معه، وبحضرة جلسائك؛ فإن ذلك زيادة في نيته، وداعيةٌ لمن دونه إلى التقرب إليك بمثل نصيحته.
فإن ابتليت في بعض الأوقات بمن يضرب بحرمة ويمتُّ بدالة، يطلب المكافأة بأكثر مما يستوجب، فدعاك الكرم والحياء إلى تفضيله على من هو أحق منه، إما تخوفاً من لسانه، أو مداراةً لغيره، فلا تدع الاعتذار إلى من فوقه من أهل البلاء والنصيحة وإظهار ما أردت من ذلك لهم؛ فإن أهل خاصتك والمؤتمنين على أسرارك، هم شركاؤك في العيش، فلا تستهينن بشيءٍ من أمورهم؛ فإن الرجل قد يترك الشيء من ذلك اتكالاً على حسن رأي أخيه، فلا يزال ذلك يجرح في القلب وينمو، حتى يولد ضِغناً ويحول عداوة.
فتحفظ من هذا الباب، واحمل إخوانك عليه بجهدك.
فالرغبة والرهبة أصلا كل تدبير ، وعليها مدار كلَ سياسة ، عظمت أو صغرت. فاجعلها مثالك الذي تحتذي عليه، وركنك الذي تستند إليه. واعلم أنك إن أهملت ما وصفت لك عرضت تدبيرك للاختلاط.
وإن آثرت الهوينا واتكلت على الكفاة في الأمر الذي لا يجوز فيه إلا نظرك، وزجَّيت أمورك على رأي مدخول، وأصلٍ غير محكم، رجع ذلك عليك بما لو حكم فيك عدوك كان ذلك غاية أمنيته، وشفاء غيظه.
واعلم أن إجراءك الأمور مجاريها، واستعمالك الأشياء على وجودها، يجمع لك ألفة القلوب، فيعاملك كل من عاملك بمودةٍ، أو أخذ أو إعطاءٍ، وهو على ثقةٍ من بصرك بمواضع الإنصاف، وعلمك بموارد الأمور.
واعلم أن أثرتك على غير النصيحة والشفقة، والحرمة والكفاية، يوجب لك المباعدة وقلة الثقة ممن آثرته أو آثرت عليه.
فاعرف لأهل البلاء - ممن جرت بينك وبينه مودةٌ أو حرمة، ممن فوقك أو دونك أو نظرائك - أقدارهم ومنازلهم. ثم لتكن أمورك معهم على قدر البلاء والاستحقاق، ولا تؤثر في ذلك أحداً لهوى؛ فإن الأثرة على الهوى توجب السُّخطة، وتوجب استصغار عظيم النعمة، ويمحق بها الإفضال، وتفسد عليها الطائفتان: من آثرت ومن آثرت عليه.
أما من آثرت فإنه يعلم أنك لم تؤثره باستحقاقٍ بل لهوى، فهو مترقِّبٌ أن ينتقل هواك إلى غيره، فتحول أثرتك حيث مال هواك. فهو مدخول القلب في مودتك، غير آمنٍ لتغيرك.
وأما من آثرت عليه بعد الاستحقاق منه، فقد جعلت له السبيل إلى الطعن عليك، وأعطيته الحجة على نفسك. فكل من يعمل على غير ثقةٍ عاد ما أراد به النفع ضرراً، والإصلاح فيه فساداً.
وربما آثر الرجل المرء من إخوانه بالعطية السنية على بلاء أبلاه، فيعظم قدرها عنده حتى لعله تطيب نفسه ببذل ماله ودمه دونه.فإن أعطى من أبلى كبلائه وكانت له مثل دالته، أكثر مما أعطاه، انتقل كل محمودٍ من ذلك مذموماً، وكل مستحسنٍ مستقبحاً. وكذلك الأمر في العقوبة، يجريان مجرى واحداً.
فاجعل العدل والنَّصفة في الثواب والعقاب حاكماً بينك وبين إخوانك، فمن قدمت منهم فقدمه على الاستحقاق، وبصحة النية في مودته، وخلوص نصيحته لك مما قد بلوت من أخلاقه وشيمه، وعلمت بتجربتك له، أنه يعلم أن صلاحه موصولٌ بصلاحك، وعطبه كائن مع عطبك، ففوض الأمر إليه، وأشركه في خواص أمورك وخفي أسرارك، ثم اعرف له قدره في مجلسك ومحاورتك ومعاملتك، في كل حالاتك ومزاولاتك في خلواتك معه، وبحضرة جلسائك؛ فإن ذلك زيادة في نيته، وداعيةٌ لمن دونه إلى التقرب إليك بمثل نصيحته.
فإن ابتليت في بعض الأوقات بمن يضرب بحرمة ويمتُّ بدالة، يطلب المكافأة بأكثر مما يستوجب، فدعاك الكرم والحياء إلى تفضيله على من هو أحق منه، إما تخوفاً من لسانه، أو مداراةً لغيره، فلا تدع الاعتذار إلى من فوقه من أهل البلاء والنصيحة وإظهار ما أردت من ذلك لهم؛ فإن أهل خاصتك والمؤتمنين على أسرارك، هم شركاؤك في العيش، فلا تستهينن بشيءٍ من أمورهم؛ فإن الرجل قد يترك الشيء من ذلك اتكالاً على حسن رأي أخيه، فلا يزال ذلك يجرح في القلب وينمو، حتى يولد ضِغناً ويحول عداوة.
فتحفظ من هذا الباب، واحمل إخوانك عليه بجهدك.
وستجد في من يتصل بك من يغلبه إفراط الحرص وحمياً الشره، ولين جانبك له، على أن ينقم العافية، ويطلب الُّلحوق بمنازل من ليس هو مثله، ولا له مثل دالته، فتلقاه لما تصنع به مستقلاً، ولمعرفتك مستصغراً. وصلاح من كانت هذه حاله بخلاف ما فسد عليه أمره. فاعرف طرائقهم وشيمهم، وداو كل من لا بد لك من معاشرته بالدواء الذي هو أنجع فيه، إن ليناً فليناً، وإن شدةً فشدة؛ فقد قيل في المثل:
من لا يؤدبه الجمي ... ل ففي عقوبته صلاحه
وقد قال بعض الحكماء: " ليس بحكيمٍ من لم يعاشر من لا يجد من معاشرته بداً، بالعدل والنَّصفة، حتى يجعل الله له من أمره فرجاً ومخرجاً.
فاحفظ هذه الأبواب التي يوجب بعضها بعضاً، وقد ضمنت لك أوائلها كون أواخرها. فاعرفها واقتبسها، واعلم أنه متى كان الأول منها وجب ما بعده لا بد منه. فاحذر المقدمات اللاتي يعقبها المكروه، واحرص على توطيد الأمور التي على أثرها السلامة، وألقح في البديِّ الأمور التي نتاجها العافية.
فمن الأمور التي يوجب بعضها بعضاً: المنفعة توجب المحبة، والمضرة توجب البغضاء، والمضادة توجب العداوة، وخلاف الهوى يوجب الاستثقال، ومتابعته توجب الألفة، والصدق يوجب الثقة، والكذب يورث التهمة، والأمانة توجب الطمأنينة، والعدل يوجب اجتماع القلوب، والجور يوجب الفرقة، وحسن الخلق يوجب المودة، وسوء الخلق يوجب المباعدة، والانبساط يوجب المؤانسة، والانقباض يوجب الوحشة، والتكبر يوجب المقت، والتواضع يوجب المقة، والجود بالقصد يوجب الحمد، والبخل يوجب المذمة، والتواني يوجب التضييع، والجد يوجب رخاء الأعمال، والهوينا تورث الحسرة، والحزم يورث السرور، والتغرير يوجب الندامة، والحذر يوجب العذر، وإصابة التدبير توجب بقاء النعمة، والاستهانة توجب التباغي، والتباغي مقدمة الشر وسبب البوار.
ولكل شيء من هذا إفراط وتقصير، وإنما تصح نتائجها إذا أقيمت على حدودها، وبقدر ما يدخل من الخلل فيها يدخل فيما يتولد منها، لا بد منه ولا مزحل عنه، عليه عادة الخلق، وبه جرت طبائعهم، وتمام المنفعة بها إصابة مواضعها: فالإفراط في الجود يوجب التبذير، والإفراط في التواضع يوجب المذلة، والإفراط في الكبر يدعو إلى مقت الخاصة، والإفراط في المؤانسة يدعو خلطاء السوء، والإفراط في الانقباض يوحش ذا النصيحة. وآفة الأمانة ائتمان الخانة، وآفة الصدق تصديق الكذبة، والإفراط في الحذر يدعو إلى ألا يوثق بأحد؛ وذاك ما لا سبيل إليه. والإفراط في المضرة مبعثةٌ على حربك، والإفراط في جر المنفعة غناءٌ لمن أفرطت في نفعه عنك.
واحذر كل الحذر أن يختدعك الشيطان عن الحزم فيمثل لك التواني في صورة التوكل، ويسلبك الحذر، ويورثك الهوينا بإحالتك على الأقدار؛ فإن الله إنما أمر بالتوكل عند انقطاع الحيل، والتسليم للقضاء بعد الإعذار، بذلك انزل كتابه، وأمضى سنته فقال: " خذوا حذركم " ، " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " . وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " اعقلها وتوكل " . وسُئل ما الحزم؟ فقال: الحذر.
فتحفظ من هذا الباب وأحكم معرفته إن شاء الله تعالى.
واعلم أن أكثر الأمور إنما هو على العادة وما تضرى عليه النفوس، ولذلك قالت الحكماء: " العادة أملك بالأدب " .
فرض نفسك على كل أمرٍ محمود العاقبة، وضرِّها بكل ما لا يذمّ من الأخلاق يصر ذلك طباعاً، وينسب إليك منه أكثر مما أنت عليه.
واعلم أن الذي يوجب لك اسم الجود القيام بواجب الحقوق عند النوائب، مع بعض التفضل على الراغبين. وإذا أوجب لك اسم الجود زال عنك اسم البخل.
واعلم أن تثمير المال آلةٌ للمكارم، وعونٌ على الدِّين، ومتألَّفٌ للإخوان؛ وأن من فقد المال قلت الرغبة إليه، والرهبة منه؛ ومن لم يكن بموضع رغبةٍ ولا رهبة استهان الناس بقدره.
فاجهد الجهد كله ألا تزال القلوب معلقةً منك برغبة أو رهبةٍ، في دينٍ أو دنيا.
واعلم أن السَّرف لا بقاء معه لكثير، ولا تثمير معه لقليل، ولا تصلح عليه دنيا ولا دين. وتأديب بما أدب الله تعالى به نبيه فقال: " ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً " .
وقالت الحكماء: " القصد أبقى للجمام " .
فداوم حالك وبقاء النعمة عليك، بتقديرك أمورك على قدر الزمان، وبقدر الإمكان؛ فقد قال الشاعر:
من لا يؤدبه الجمي ... ل ففي عقوبته صلاحه
وقد قال بعض الحكماء: " ليس بحكيمٍ من لم يعاشر من لا يجد من معاشرته بداً، بالعدل والنَّصفة، حتى يجعل الله له من أمره فرجاً ومخرجاً.
فاحفظ هذه الأبواب التي يوجب بعضها بعضاً، وقد ضمنت لك أوائلها كون أواخرها. فاعرفها واقتبسها، واعلم أنه متى كان الأول منها وجب ما بعده لا بد منه. فاحذر المقدمات اللاتي يعقبها المكروه، واحرص على توطيد الأمور التي على أثرها السلامة، وألقح في البديِّ الأمور التي نتاجها العافية.
فمن الأمور التي يوجب بعضها بعضاً: المنفعة توجب المحبة، والمضرة توجب البغضاء، والمضادة توجب العداوة، وخلاف الهوى يوجب الاستثقال، ومتابعته توجب الألفة، والصدق يوجب الثقة، والكذب يورث التهمة، والأمانة توجب الطمأنينة، والعدل يوجب اجتماع القلوب، والجور يوجب الفرقة، وحسن الخلق يوجب المودة، وسوء الخلق يوجب المباعدة، والانبساط يوجب المؤانسة، والانقباض يوجب الوحشة، والتكبر يوجب المقت، والتواضع يوجب المقة، والجود بالقصد يوجب الحمد، والبخل يوجب المذمة، والتواني يوجب التضييع، والجد يوجب رخاء الأعمال، والهوينا تورث الحسرة، والحزم يورث السرور، والتغرير يوجب الندامة، والحذر يوجب العذر، وإصابة التدبير توجب بقاء النعمة، والاستهانة توجب التباغي، والتباغي مقدمة الشر وسبب البوار.
ولكل شيء من هذا إفراط وتقصير، وإنما تصح نتائجها إذا أقيمت على حدودها، وبقدر ما يدخل من الخلل فيها يدخل فيما يتولد منها، لا بد منه ولا مزحل عنه، عليه عادة الخلق، وبه جرت طبائعهم، وتمام المنفعة بها إصابة مواضعها: فالإفراط في الجود يوجب التبذير، والإفراط في التواضع يوجب المذلة، والإفراط في الكبر يدعو إلى مقت الخاصة، والإفراط في المؤانسة يدعو خلطاء السوء، والإفراط في الانقباض يوحش ذا النصيحة. وآفة الأمانة ائتمان الخانة، وآفة الصدق تصديق الكذبة، والإفراط في الحذر يدعو إلى ألا يوثق بأحد؛ وذاك ما لا سبيل إليه. والإفراط في المضرة مبعثةٌ على حربك، والإفراط في جر المنفعة غناءٌ لمن أفرطت في نفعه عنك.
واحذر كل الحذر أن يختدعك الشيطان عن الحزم فيمثل لك التواني في صورة التوكل، ويسلبك الحذر، ويورثك الهوينا بإحالتك على الأقدار؛ فإن الله إنما أمر بالتوكل عند انقطاع الحيل، والتسليم للقضاء بعد الإعذار، بذلك انزل كتابه، وأمضى سنته فقال: " خذوا حذركم " ، " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " . وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " اعقلها وتوكل " . وسُئل ما الحزم؟ فقال: الحذر.
فتحفظ من هذا الباب وأحكم معرفته إن شاء الله تعالى.
واعلم أن أكثر الأمور إنما هو على العادة وما تضرى عليه النفوس، ولذلك قالت الحكماء: " العادة أملك بالأدب " .
فرض نفسك على كل أمرٍ محمود العاقبة، وضرِّها بكل ما لا يذمّ من الأخلاق يصر ذلك طباعاً، وينسب إليك منه أكثر مما أنت عليه.
واعلم أن الذي يوجب لك اسم الجود القيام بواجب الحقوق عند النوائب، مع بعض التفضل على الراغبين. وإذا أوجب لك اسم الجود زال عنك اسم البخل.
واعلم أن تثمير المال آلةٌ للمكارم، وعونٌ على الدِّين، ومتألَّفٌ للإخوان؛ وأن من فقد المال قلت الرغبة إليه، والرهبة منه؛ ومن لم يكن بموضع رغبةٍ ولا رهبة استهان الناس بقدره.
فاجهد الجهد كله ألا تزال القلوب معلقةً منك برغبة أو رهبةٍ، في دينٍ أو دنيا.
واعلم أن السَّرف لا بقاء معه لكثير، ولا تثمير معه لقليل، ولا تصلح عليه دنيا ولا دين. وتأديب بما أدب الله تعالى به نبيه فقال: " ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً " .
وقالت الحكماء: " القصد أبقى للجمام " .
فداوم حالك وبقاء النعمة عليك، بتقديرك أمورك على قدر الزمان، وبقدر الإمكان؛ فقد قال الشاعر:
من سابق الدهر كبا كبوةً ... لم يستقلها من خطى الدهر
فاخط مع الدهر على ما خطا ... واجر مع الدهر كما يجري
واعلم أن الصمت في موضعه ربما كان أنفع من الإبلاغ بالمنطق في موضعه، وعند إصابة فرصته. وذاك صمتك عند من يعلم أنك لم تصمت عنه عياً ولا رهبة. فليزدك في الصمت رغبةً ما ترى من كثرة فضائح المتكلمين في غير الفرص، وهذر من أطلق لسانه بغير حاجة.
واعلم أن الجبن جبنان، والشجاعة شجاعتان، وليست تكون الشجاعة إلا في كل أمر لا يدرى ما عاقبته، يخاطر فيه بالأنفس والأموال. فإذا أردت الحزم في ذلك فلا تشجِّعنَّ نفسك على أمرٍ أبداً إلا والذي ترجو من نفعه في العاقبة أعظم مما تبذل فيه في المستقبل، ثم يكون الرجاء في ذلك أغلب عليك من الخوف.
وها هنا موضعٌ يحتاج فيه إلى النظر: فإن كان ذلك أمراً واجباً في الدِّين، أو خوفاً لعارٍ تسبُّ به الأعقاب فأنت معذورٌ بالمخاطرة فيه بنفسك ومالك. وإن كان أمراً تعظم منفعته في الدنيا إلا أنك لا تناله إلا بالخطار بمهجة نفسك أو بتعريض كل مالك للتلف، فالإقدام على مثل هذا ليس بشجاعة، ولكن حماقةً بينةً عند الحكماء.
وقد قالت علماء أوائل الناس: لا يرسل السَّاق إلا ممسكاً ساقا.
وقالوا: " لا تخرج الأمر كله من يدك وخذ بأحد جانبيه " . ثم الشجاعة والجبن في ذلك بقدر الحالات والأوقات.
واعلم أن أصل ما أنت مستظهر به على عدوك ثلاث خلال: أشرفها: أن تأخذ عليه بالفضل وتبتدئه بالحسنى، فتكون عليه رحمةً ولنفسك ناظراً؛ فإن كثرة الأعداء تنغيصٌ للسرور، وقد قال الله تبارك وتعالى: " ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌّ حميم " .
فإن كان عدوك مما لا يصلح على ذلك فحصن عنه أسرارك، وعم عليه آثار تدبيرك، ولا يطلعن على شيءٍ من مكايدتك له بقولٍ ولا فعل، فيأخذ حذره، ويعرف مواضع عوارك، فإنَّ تحصين الأسرار أخذٌ بأزمة التدبير، والإكثار من الوعيد للأعداء فشل. ولكن داج عدوك ما داجاك، وأحص معايبه ما لا حاك.
وقال الشاعر:
كلٌّ يداجى على البغضاء صاحبه ... زكنت منهم على مثل الذي زكنوا
واعلم أن أعظم أعوانك عليه الحجج ثم الفرصة، ثم لا تظهرن عليه حجةً، ولا تهتبل منه غرة، ولا تطلبن له عثرة، ولا تهتكنَّ له ستراً إلا عند الفرصة في ذلك كله، وفي المواضع التي يجب لك فيها العذر ويعظم فيها ضرره، إن كان العفو عنه شراً له.
وإن كان ممن يظهر لك العداوة ويكشف لك قناع المحاربة، وكان ممن أعياك استصلاحه بالحلم والأناة، فلتكن في أمره بين حالين: استبطان الحذر منه، والاستعداد له وإظهار الاستهانة به. ولست مستظهراً عليه بمثل طهارتك من الأدناس، وبراءتك من المعايب.
فلتكن هذه سيرتك في أعدائك.
واعلم أن إشاعة الأسرار فسادٌ في كل وجهٍ من الوجوه، من العدو والصديق. وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " استعينوا على الحوائج بسترها؛ فإن كل ذي نعمة محسود " .
وإذا أفشيت سرك فجاءت الأمور على غير ما تقدر كان ذلك منك فضلاً من قولك على فعلك. وقد قيل في الأمثال: " من أفشى سره كثر المتآمرون عليه " . فلا تضع سرك إلا عند من يضره نشره كما يضرك، وينفعه ستره بحسب ما ينفعك.
واعلم أنك ستصحب من الناس أجناساً متفرقةً حالاتهم، متفاوتةً منازلهم، وكلهم بك إليه حاجة، وكل طائفة تسد عنك كثيراً من المنافع لا يقوم به من فوقها، ولعلهم مجتمعون على نصيحتك والشفقة عليك. فمنهم من تريد منه الرأي والمشورة، ومنهم من تريده للحفظ والأمانة، ومنهم من تريده للشدة والغلظة، ومنهم من تريده للمهنة. وكلٌّ يسد مسده على حياله. وقد قيل في الحكمة: " إن الخلال تنفع حيث لا ينفع السيف " .
ولا تُخلينَّ أحداً منهم - عظم قدره أو صغرت منزلته - من عنايتك وتعهدك بالجزاء على الحسنة، والمعاتبة عند العثرة؛ ليعلموا أنهم منك بمرأى ومسمع. ثم لا تجوزنَّ بأحدٍ منهم حده، ولا تدخله فيما لا يصلح له، تستقم لك حاله، ويتسق لك أمره.
فاخط مع الدهر على ما خطا ... واجر مع الدهر كما يجري
واعلم أن الصمت في موضعه ربما كان أنفع من الإبلاغ بالمنطق في موضعه، وعند إصابة فرصته. وذاك صمتك عند من يعلم أنك لم تصمت عنه عياً ولا رهبة. فليزدك في الصمت رغبةً ما ترى من كثرة فضائح المتكلمين في غير الفرص، وهذر من أطلق لسانه بغير حاجة.
واعلم أن الجبن جبنان، والشجاعة شجاعتان، وليست تكون الشجاعة إلا في كل أمر لا يدرى ما عاقبته، يخاطر فيه بالأنفس والأموال. فإذا أردت الحزم في ذلك فلا تشجِّعنَّ نفسك على أمرٍ أبداً إلا والذي ترجو من نفعه في العاقبة أعظم مما تبذل فيه في المستقبل، ثم يكون الرجاء في ذلك أغلب عليك من الخوف.
وها هنا موضعٌ يحتاج فيه إلى النظر: فإن كان ذلك أمراً واجباً في الدِّين، أو خوفاً لعارٍ تسبُّ به الأعقاب فأنت معذورٌ بالمخاطرة فيه بنفسك ومالك. وإن كان أمراً تعظم منفعته في الدنيا إلا أنك لا تناله إلا بالخطار بمهجة نفسك أو بتعريض كل مالك للتلف، فالإقدام على مثل هذا ليس بشجاعة، ولكن حماقةً بينةً عند الحكماء.
وقد قالت علماء أوائل الناس: لا يرسل السَّاق إلا ممسكاً ساقا.
وقالوا: " لا تخرج الأمر كله من يدك وخذ بأحد جانبيه " . ثم الشجاعة والجبن في ذلك بقدر الحالات والأوقات.
واعلم أن أصل ما أنت مستظهر به على عدوك ثلاث خلال: أشرفها: أن تأخذ عليه بالفضل وتبتدئه بالحسنى، فتكون عليه رحمةً ولنفسك ناظراً؛ فإن كثرة الأعداء تنغيصٌ للسرور، وقد قال الله تبارك وتعالى: " ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌّ حميم " .
فإن كان عدوك مما لا يصلح على ذلك فحصن عنه أسرارك، وعم عليه آثار تدبيرك، ولا يطلعن على شيءٍ من مكايدتك له بقولٍ ولا فعل، فيأخذ حذره، ويعرف مواضع عوارك، فإنَّ تحصين الأسرار أخذٌ بأزمة التدبير، والإكثار من الوعيد للأعداء فشل. ولكن داج عدوك ما داجاك، وأحص معايبه ما لا حاك.
وقال الشاعر:
كلٌّ يداجى على البغضاء صاحبه ... زكنت منهم على مثل الذي زكنوا
واعلم أن أعظم أعوانك عليه الحجج ثم الفرصة، ثم لا تظهرن عليه حجةً، ولا تهتبل منه غرة، ولا تطلبن له عثرة، ولا تهتكنَّ له ستراً إلا عند الفرصة في ذلك كله، وفي المواضع التي يجب لك فيها العذر ويعظم فيها ضرره، إن كان العفو عنه شراً له.
وإن كان ممن يظهر لك العداوة ويكشف لك قناع المحاربة، وكان ممن أعياك استصلاحه بالحلم والأناة، فلتكن في أمره بين حالين: استبطان الحذر منه، والاستعداد له وإظهار الاستهانة به. ولست مستظهراً عليه بمثل طهارتك من الأدناس، وبراءتك من المعايب.
فلتكن هذه سيرتك في أعدائك.
واعلم أن إشاعة الأسرار فسادٌ في كل وجهٍ من الوجوه، من العدو والصديق. وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " استعينوا على الحوائج بسترها؛ فإن كل ذي نعمة محسود " .
وإذا أفشيت سرك فجاءت الأمور على غير ما تقدر كان ذلك منك فضلاً من قولك على فعلك. وقد قيل في الأمثال: " من أفشى سره كثر المتآمرون عليه " . فلا تضع سرك إلا عند من يضره نشره كما يضرك، وينفعه ستره بحسب ما ينفعك.
واعلم أنك ستصحب من الناس أجناساً متفرقةً حالاتهم، متفاوتةً منازلهم، وكلهم بك إليه حاجة، وكل طائفة تسد عنك كثيراً من المنافع لا يقوم به من فوقها، ولعلهم مجتمعون على نصيحتك والشفقة عليك. فمنهم من تريد منه الرأي والمشورة، ومنهم من تريده للحفظ والأمانة، ومنهم من تريده للشدة والغلظة، ومنهم من تريده للمهنة. وكلٌّ يسد مسده على حياله. وقد قيل في الحكمة: " إن الخلال تنفع حيث لا ينفع السيف " .
ولا تُخلينَّ أحداً منهم - عظم قدره أو صغرت منزلته - من عنايتك وتعهدك بالجزاء على الحسنة، والمعاتبة عند العثرة؛ ليعلموا أنهم منك بمرأى ومسمع. ثم لا تجوزنَّ بأحدٍ منهم حده، ولا تدخله فيما لا يصلح له، تستقم لك حاله، ويتسق لك أمره.
واعلم أنه سيمر بك في معاملات الناس حالاتٌ تحتاج فيها إلى مداراة أصناف الناس وطبقاتهم، يبلغ بك غاية الفضيلة فيها، وكمال العقل والأدب منها، أن تسالم أهلها وتملك نفسك عن هواها، وتكف من جماحها، بالأمر الذي لا يحرجك في دينك ولا عرضك ولا بدنك، بل يفيدك عزَّ الحلم، وهيبة الوقار. وهي أمور مختلفة، تجمعها حالٌ واحدة.
منها: أن تأتي محفلاً فيه جمعٌ من الناس، فتجلس منه دون للوضع الذي تستحقه حتى يكون أهله الذين يرفعونك، فتظهر جلالتك وعظم قدرك.
ومنها: أن يفيض القوم في حديثٍ، عندك منه مثل ما عندهم أو أفضل، فيتنافسون في إظهار ما عندهم، فإن نافستهم كنت واحداً منهم، وإن أمسكت اقتضوك ذلك، فصرت كأنك ممتنٌّ عليهم بحديثك، وأنصتوا لك ما لم ينصتوا لغيرك.
ومنها: أن يتمارى جلساؤك - والمراء نتاج اللجاجة وثمرةٌ أصلها الحمية - فإن ضبطت نفسك كان تحاكمهم إليك، ومعولهم عليك.
واعلم أن طبع النفوس - إذ كان على حسب العلو والغلبة - أن في تركيبها بغض من استطال عليها. فاستدع محبة العامة بالتواضع، ومودة الأخلاء بالمؤانسة والاستشارة، والثقة والطمأنينة.
واعلم أن الذي تُعامل به صديقك هو ضد ما تعامل به عدوك. فالصديق وجه معاملته المسالمة، والعدو وجه معاملته المداراة والمواربة، هما ضدان يتنافيان، يفسد هذا ما أصلح هذا، وكلما نقصت من أحد البابين زاد في صاحبه، إنْ قليلٌ فقليل، وإن كثيرٌ فكثير. فلا تسلم بالمواربة صداقةٌ، ولا تظفر بالعدو مع الاستسلام إليه. فضع الثقة موضعها، وأقم الحذر مقامه، وأسرع إلى التفهم بالثقة، ولا تبادر إلى التصديق، ولا سيَّما بالمحال من الأمور.
واعلم أن كل علمٍ بغائبٍ، كائناً ما كان، إنما يصاب من وجوهٍ ثلاثة لا رابع لها، ولا سبيل لك ولا لغيرك إلى غاية الإحاطات؛ لاستئثار الله بها. ولن تهنأ بعيشٍ مع شدة التحرز، ولن يتسق لك أمرٌ مع التضييع. فاعرف أقدار ذلك.
فما غاب عنك مما قد رآه غيرك مما يدرك بالعيان، فسبيل العلم به الأخبار المتواترة، التي يحملها الوليُّ والعدوُّ، والصالح والطالح، المستفيضة في الناس، فتلك لا كلفة على سامعها من العلم بتصديقها. فهذا الوجه يستوي فيه العالم والجاهل.
وقد يجيء خبرٌ أخصُّ من هذا إلا أنه لا يُعرف إلا بالسؤال عنه، والمفاجأة لأهله، كقوم نقلوا خبراً، ومثلك يحيط علمه أن مثلهم في تفاوت أحوالهم، وتباعدهم من التعارف، لا يمكن في مثله التواطؤ وإن جهل ذلك أكثر الناس. وفي مثل هذا الخبر يمتنع الكذب، ولا يتهيأ الاتفاق فيه على الباطل.
وقد يجيء خبرٌ أخصُّ من هذا، يحمله الرجل والرجلان ممن يجوز أن يَصدق ويجوز أن يكذب، فصدق هذا الخبر في قلبك إنما هو بحسن الظن بالمخبر، والثقة بعدالته. ولن يقوم هذا الخبر من قلبك ولا قلب غيرك مقام الخبرين الأولين أبداً. ولو كان ذلك كذلك بطل التصنع بالدِّين واستوى الظاهر والباطن من العالمين.
ولما أن كان موجوداً في العقول أنه قد يفتش بعض الأمناء عن خيانةٍ، وبعض الصادقين عن كذبٍ، وأن مثل الخبرين الأولين لم يتعقب الناس في مثلهما كذباً قطُّ، علم أن الخبر إذا جاء من مثلهما جاء مجيء اليقين، وأن ما علم من خبر الواحد فإنما هو بحسن الظن والإئتمان.
فهذه الأخبار عن الأمور التي تدركها الأبصار.
فأما العلم بما غاب مما لا يدركه أحدٌ بعيان، مثل سرائر القلوب وما أشبهما، فإنما يدرك علمها بآثار أفاعيلها وبالغالب من أمورها، على غير إحاطة كإحاطة الله بها.
وأول العلم بكل غائبٍ الظنون، والظنون إنما تقع في القلوب بالدلائل، فكلما زاد الدليل قوي الظنُّ حتى ينتهي إلى غاية تزول معها الشكوك عن القلوب؛ وذلك لكثرة الدلائل، ولترادفها.
فهذا غاية علم العباد بالأمور الغائبة.
فمن عرف ما طبع عليه الخلق وجرت به عاداتهم، وعرف أسباب اتصالهم واتصاله بهم، وتقصى علل ذلك، كان خليقاً - إن لم يحط بعلم ما في قلوبهم - أن يقع من الإحاطة قريباً.
منها: أن تأتي محفلاً فيه جمعٌ من الناس، فتجلس منه دون للوضع الذي تستحقه حتى يكون أهله الذين يرفعونك، فتظهر جلالتك وعظم قدرك.
ومنها: أن يفيض القوم في حديثٍ، عندك منه مثل ما عندهم أو أفضل، فيتنافسون في إظهار ما عندهم، فإن نافستهم كنت واحداً منهم، وإن أمسكت اقتضوك ذلك، فصرت كأنك ممتنٌّ عليهم بحديثك، وأنصتوا لك ما لم ينصتوا لغيرك.
ومنها: أن يتمارى جلساؤك - والمراء نتاج اللجاجة وثمرةٌ أصلها الحمية - فإن ضبطت نفسك كان تحاكمهم إليك، ومعولهم عليك.
واعلم أن طبع النفوس - إذ كان على حسب العلو والغلبة - أن في تركيبها بغض من استطال عليها. فاستدع محبة العامة بالتواضع، ومودة الأخلاء بالمؤانسة والاستشارة، والثقة والطمأنينة.
واعلم أن الذي تُعامل به صديقك هو ضد ما تعامل به عدوك. فالصديق وجه معاملته المسالمة، والعدو وجه معاملته المداراة والمواربة، هما ضدان يتنافيان، يفسد هذا ما أصلح هذا، وكلما نقصت من أحد البابين زاد في صاحبه، إنْ قليلٌ فقليل، وإن كثيرٌ فكثير. فلا تسلم بالمواربة صداقةٌ، ولا تظفر بالعدو مع الاستسلام إليه. فضع الثقة موضعها، وأقم الحذر مقامه، وأسرع إلى التفهم بالثقة، ولا تبادر إلى التصديق، ولا سيَّما بالمحال من الأمور.
واعلم أن كل علمٍ بغائبٍ، كائناً ما كان، إنما يصاب من وجوهٍ ثلاثة لا رابع لها، ولا سبيل لك ولا لغيرك إلى غاية الإحاطات؛ لاستئثار الله بها. ولن تهنأ بعيشٍ مع شدة التحرز، ولن يتسق لك أمرٌ مع التضييع. فاعرف أقدار ذلك.
فما غاب عنك مما قد رآه غيرك مما يدرك بالعيان، فسبيل العلم به الأخبار المتواترة، التي يحملها الوليُّ والعدوُّ، والصالح والطالح، المستفيضة في الناس، فتلك لا كلفة على سامعها من العلم بتصديقها. فهذا الوجه يستوي فيه العالم والجاهل.
وقد يجيء خبرٌ أخصُّ من هذا إلا أنه لا يُعرف إلا بالسؤال عنه، والمفاجأة لأهله، كقوم نقلوا خبراً، ومثلك يحيط علمه أن مثلهم في تفاوت أحوالهم، وتباعدهم من التعارف، لا يمكن في مثله التواطؤ وإن جهل ذلك أكثر الناس. وفي مثل هذا الخبر يمتنع الكذب، ولا يتهيأ الاتفاق فيه على الباطل.
وقد يجيء خبرٌ أخصُّ من هذا، يحمله الرجل والرجلان ممن يجوز أن يَصدق ويجوز أن يكذب، فصدق هذا الخبر في قلبك إنما هو بحسن الظن بالمخبر، والثقة بعدالته. ولن يقوم هذا الخبر من قلبك ولا قلب غيرك مقام الخبرين الأولين أبداً. ولو كان ذلك كذلك بطل التصنع بالدِّين واستوى الظاهر والباطن من العالمين.
ولما أن كان موجوداً في العقول أنه قد يفتش بعض الأمناء عن خيانةٍ، وبعض الصادقين عن كذبٍ، وأن مثل الخبرين الأولين لم يتعقب الناس في مثلهما كذباً قطُّ، علم أن الخبر إذا جاء من مثلهما جاء مجيء اليقين، وأن ما علم من خبر الواحد فإنما هو بحسن الظن والإئتمان.
فهذه الأخبار عن الأمور التي تدركها الأبصار.
فأما العلم بما غاب مما لا يدركه أحدٌ بعيان، مثل سرائر القلوب وما أشبهما، فإنما يدرك علمها بآثار أفاعيلها وبالغالب من أمورها، على غير إحاطة كإحاطة الله بها.
وأول العلم بكل غائبٍ الظنون، والظنون إنما تقع في القلوب بالدلائل، فكلما زاد الدليل قوي الظنُّ حتى ينتهي إلى غاية تزول معها الشكوك عن القلوب؛ وذلك لكثرة الدلائل، ولترادفها.
فهذا غاية علم العباد بالأمور الغائبة.
فمن عرف ما طبع عليه الخلق وجرت به عاداتهم، وعرف أسباب اتصالهم واتصاله بهم، وتقصى علل ذلك، كان خليقاً - إن لم يحط بعلم ما في قلوبهم - أن يقع من الإحاطة قريباً.
واعلم أن المقادير ربما جرت بخلاف ما تقدِّر الحكماء، فنال بها الجاهل في نفسه، المختلط في تدبيره، ما لا ينال الحازم الأريب الحذر. فلا يدعونك ما ترى من ذلك إلى التضييع والاتكال على مثل تلك الحال؛ فإن الحكماء قد أجمعت أن من أخذ بالحزم وقدم الحذر، فجاءت المقادير بخلاف ما قدر، كان عندهم أحمد رأياً وأوجب عذراً، ممن عمل بالتفريط وإن اتفقت له الأمور على ما أراد.
ولعمري ما يكاد ذلك يجيء إلا في أقل الأمور، وما كثر مجيءٌ السلامات إلا لمن أتى الأمور من وجوهها وإنما الأشياء بعوامها. فلا تكونن لشيءٍ مما في يدك أشد ضناً، ولا عليه أشد حدباً، منك بالأخ الذي قد بلوته في السراء والضراء، فعرفت مذاهبه وخبرت شيمه، وصح لك غيبه، وسلمت لك ناحيته؛ فإنما هو شقيق روحك وباب الروح إلى حياتك، ومستمد رأيك وتوأم عقلك. ولست منتفعاً بعيشٍ مع الوحدة. ولا بد من المؤانسة، وكثرة الاستبدال تهجم بصاحبه على المكروه. فإذا صفا لك أخٌ فكن به أشد ضناً منك بنفائس أموالك، ثم لا يزهدنك فيه أن ترى منه خلقاً أو خلقين تكرههما؛ فإن نفسك التي هي أخص النفوس بك لا تعطيك المقادة في كل ما تريد، فكيف بنفس غيرك! وبحسبك أن يكون لك من أخيك أكثره، وقد قالت الحكماء: " من لك بأخيك كله " ، و " أي الرجال المهذب " .
ثم لا يمنعك ذلك من الاستكثار من الأصدقاء فإنهم جندٌ معدُّون لك ينشرون محاسنك، ويحاجون عنك. ولا يحملنك استطراف صديق ثانٍ على ملالةٍ للصديق الأول؛ فأن ذلك سبيل أهل الجهالة، مع ما فيها من الدناءة وسوء التدبير، وزهد الأصدقاء جميعاً في إخائك. والله يوفقك.
وستجد في الناس من قد جربته الرجال قبلك، ومحضه اختبارهم لك. فمن كان معروفاً بالوفاء في أوقات الشدة وحالات الضرورة، فنافس فيه واسبق إليه؛ فإن اعتقاده أنفس العقد. ومن بلاه غيرك فكشف عن كفر النعمة، والغدر عند الشدة، فقد حذرك نفسه وإن آنسك وكما غدر بغيرك يغدر بك؛ فإن من شيمته الوفاء يفي للصديق والعدو، ومن طبيعته الغدر لا يفي لأحد، وإنما يميل مع الرجحان: يذل عند الحاجة ويشمخ مع الاستغناء.
فاحذر ذلك أشد الحذر. واعلم أن الحكماء لم تذم شيئاً ذمها أربع خلال: الكذب فإنه جماع كل شر. وقد قالوا: لم يكذب أحدٌ قطُّ إلا لصغر قدر نفسه عنده.
والغضب فإنه لؤمٌ وسوءُ مقدرة؛ وذاك أن الغضب ثمرةٌ لخلاف ما تهوى النفس، فإن جاء الإنسان خلاف ما يهوى ممن فوقه أغضى وسمى ذلك حزناً، وإن جاءه ذلك ممن دونه حمله لؤم النفس وسوء الطباع على الاستطالة بالغضب، والمقدرة والبسطة على البطش.
والجزع عند المصيبة التي لا ارتجاع لها؛ فإنهم لم يجعلوا لصاحب الجزع في مثل هذا عذراً، لما يتعجل من غم الجزع مع علمه بفوت المجزوع عليه. وزعموا أن ذلك من إفراط الشره، وأن أصل الشره والحسد واحدٌ وإن افترق فرعاهما.
وذموا الحسد كذمهم الجزع، لما يتعجل صاحبه من ثقل الاغتمام، وكلفة مقاساة الاهتمام، من غير أن يجدي عليه شيئاً. فالحسد اغتمام، والغدر لؤم. وقال بعض الحكماء: " الحسد خلقٌ دنيء، ومن دناءته أنه يبدأ بالأقرب فالأقرب " . وزعموا أنه لم يغدر غادرٌ قط إلا لصغر همته عن الوفاء، وخمول قدره عن احتمال المكاره في جنب نيل المكارم.
وبقدر ما ذمت الحكماء هذه الأخلاق الأربعة، فكذلك حمدت أضدادها من الأخلاق، فأكثرت في تفضيلها الأقاويل، وضربت فيها الأمثال، وزعمت أنها أصلٌ لكل كرم، وجماعٌ لكل خير، وأن بها تنال جسام الأمور في الدنيا والدين.
فاجعل هذه الأخلاق إماماً لك، ومثلاً بين عينيك، ورُضْ عليها نفسك، وحكمها في أمرك، تفز بالراحة في العاجل، والكرامة في الآجل.
والصبر صبران: فأعلاهما أن تصبر على ما ترجو فيه الغنم في العاقبة. والحلم حلمان: فأشرفهما حلمك عمن هو دونك. والصدق صدقان: أعظمهما صدقك فيما يضرُّك. والوفاء وفاءان: أسناهما وفاؤك لمن لا ترجوه ولا تخافه. فإن من عرف بالصدق صار الناس له أتباعاً، ومن نسب إلى الحلم ألبس ثوب الوقار والهيبة وأبهة الجلالة، ومن عرف بالوفاء استنامت بالثقة به الجماعات ومن استعز بالصبر نال جسيمات الأمور.
ولعمري ما غلطت الحكماء حين سمتها أركان الدين والدنيا.
فالصدق والوفاء توأمان، والصبر والحلم توأمان، فهن تمام كل دين، وصلاح كل دنيا. وأضدادهن سبب كل فرقة، وأصل كل فساد.
ولعمري ما يكاد ذلك يجيء إلا في أقل الأمور، وما كثر مجيءٌ السلامات إلا لمن أتى الأمور من وجوهها وإنما الأشياء بعوامها. فلا تكونن لشيءٍ مما في يدك أشد ضناً، ولا عليه أشد حدباً، منك بالأخ الذي قد بلوته في السراء والضراء، فعرفت مذاهبه وخبرت شيمه، وصح لك غيبه، وسلمت لك ناحيته؛ فإنما هو شقيق روحك وباب الروح إلى حياتك، ومستمد رأيك وتوأم عقلك. ولست منتفعاً بعيشٍ مع الوحدة. ولا بد من المؤانسة، وكثرة الاستبدال تهجم بصاحبه على المكروه. فإذا صفا لك أخٌ فكن به أشد ضناً منك بنفائس أموالك، ثم لا يزهدنك فيه أن ترى منه خلقاً أو خلقين تكرههما؛ فإن نفسك التي هي أخص النفوس بك لا تعطيك المقادة في كل ما تريد، فكيف بنفس غيرك! وبحسبك أن يكون لك من أخيك أكثره، وقد قالت الحكماء: " من لك بأخيك كله " ، و " أي الرجال المهذب " .
ثم لا يمنعك ذلك من الاستكثار من الأصدقاء فإنهم جندٌ معدُّون لك ينشرون محاسنك، ويحاجون عنك. ولا يحملنك استطراف صديق ثانٍ على ملالةٍ للصديق الأول؛ فأن ذلك سبيل أهل الجهالة، مع ما فيها من الدناءة وسوء التدبير، وزهد الأصدقاء جميعاً في إخائك. والله يوفقك.
وستجد في الناس من قد جربته الرجال قبلك، ومحضه اختبارهم لك. فمن كان معروفاً بالوفاء في أوقات الشدة وحالات الضرورة، فنافس فيه واسبق إليه؛ فإن اعتقاده أنفس العقد. ومن بلاه غيرك فكشف عن كفر النعمة، والغدر عند الشدة، فقد حذرك نفسه وإن آنسك وكما غدر بغيرك يغدر بك؛ فإن من شيمته الوفاء يفي للصديق والعدو، ومن طبيعته الغدر لا يفي لأحد، وإنما يميل مع الرجحان: يذل عند الحاجة ويشمخ مع الاستغناء.
فاحذر ذلك أشد الحذر. واعلم أن الحكماء لم تذم شيئاً ذمها أربع خلال: الكذب فإنه جماع كل شر. وقد قالوا: لم يكذب أحدٌ قطُّ إلا لصغر قدر نفسه عنده.
والغضب فإنه لؤمٌ وسوءُ مقدرة؛ وذاك أن الغضب ثمرةٌ لخلاف ما تهوى النفس، فإن جاء الإنسان خلاف ما يهوى ممن فوقه أغضى وسمى ذلك حزناً، وإن جاءه ذلك ممن دونه حمله لؤم النفس وسوء الطباع على الاستطالة بالغضب، والمقدرة والبسطة على البطش.
والجزع عند المصيبة التي لا ارتجاع لها؛ فإنهم لم يجعلوا لصاحب الجزع في مثل هذا عذراً، لما يتعجل من غم الجزع مع علمه بفوت المجزوع عليه. وزعموا أن ذلك من إفراط الشره، وأن أصل الشره والحسد واحدٌ وإن افترق فرعاهما.
وذموا الحسد كذمهم الجزع، لما يتعجل صاحبه من ثقل الاغتمام، وكلفة مقاساة الاهتمام، من غير أن يجدي عليه شيئاً. فالحسد اغتمام، والغدر لؤم. وقال بعض الحكماء: " الحسد خلقٌ دنيء، ومن دناءته أنه يبدأ بالأقرب فالأقرب " . وزعموا أنه لم يغدر غادرٌ قط إلا لصغر همته عن الوفاء، وخمول قدره عن احتمال المكاره في جنب نيل المكارم.
وبقدر ما ذمت الحكماء هذه الأخلاق الأربعة، فكذلك حمدت أضدادها من الأخلاق، فأكثرت في تفضيلها الأقاويل، وضربت فيها الأمثال، وزعمت أنها أصلٌ لكل كرم، وجماعٌ لكل خير، وأن بها تنال جسام الأمور في الدنيا والدين.
فاجعل هذه الأخلاق إماماً لك، ومثلاً بين عينيك، ورُضْ عليها نفسك، وحكمها في أمرك، تفز بالراحة في العاجل، والكرامة في الآجل.
والصبر صبران: فأعلاهما أن تصبر على ما ترجو فيه الغنم في العاقبة. والحلم حلمان: فأشرفهما حلمك عمن هو دونك. والصدق صدقان: أعظمهما صدقك فيما يضرُّك. والوفاء وفاءان: أسناهما وفاؤك لمن لا ترجوه ولا تخافه. فإن من عرف بالصدق صار الناس له أتباعاً، ومن نسب إلى الحلم ألبس ثوب الوقار والهيبة وأبهة الجلالة، ومن عرف بالوفاء استنامت بالثقة به الجماعات ومن استعز بالصبر نال جسيمات الأمور.
ولعمري ما غلطت الحكماء حين سمتها أركان الدين والدنيا.
فالصدق والوفاء توأمان، والصبر والحلم توأمان، فهن تمام كل دين، وصلاح كل دنيا. وأضدادهن سبب كل فرقة، وأصل كل فساد.
واحذر خصلة رأيت الناس قد استهانوا بها، وضيعوا النظر فيها، مع اشتمالها على الفساد، وقدحها البغضاء في القلوب، والعداوة بين الأوداء: المفاخرة بالأنساب؛ فإنه لم يغلط فيها عاقلٌ قط، مع اجتماع الإنس جميعاً على الصورة وإقرارهم جميعاً بتفرق الأمور المحمودة والمذمومة من الجمال والدمامة، واللؤم والكرم، والجبن والشجاعة، في كل حين، وانتقالهما من أمةٍ إلى أمة، ووجود كل محمود ومذموم في أهل كل جنسٍ من الآدميين. وهذا غير مدفوع عند الجميع.
فلا تجعلن له من عقلك نصيباً، ولا من لسانك حظاً، تسلم بذلك على الناس أجمعين، مع السلامة في الدين.
واعلم أنك موسومٌ بسيما من قارنت، ومنسوبٌ إليك أفاعيل من صاحبت. فتحرز من دخلاء السوء، ومجالسة أهل الريب، وقد جرت لك في ذلك الأمثال، وسطرت لك فيه الأقاويل، فقالوا: " المرء حيث يجعل نفسه " ، وقالوا: " يظن المرء ما ظن بقرينه " ، وقالوا: " بالمرء بشكله، والمرء بأليفه " .
ولن تقدر على التحرز من جماعة الناس، ولكن أقل المؤانسة إلا بأهل البراءة من كل دنس. واعلم أن المرء بقدر ما يسبق إليه يعرف، وبالمستفيض من أفعاله يوصف، وإن كان بين ذلك كثيرٌ من أفعاله ألغاه الناس وحكموا عليه بالغالب من أمره.
فاجهد أن يكون أغلب الأشياء على أفاعيلك كل ما تحمده العوام ولا تذمه الجماعات، فإن ذلك يعفى على كل خلل إن كان.
فبادر ألسنة الناس فاشغلها بمحاسنك، فإنهم إلى كل سيءٍ سراع، واستظهر على من دونك بالتفضل، وعلى نظرائك بالإنصاف، وعلى من فوقك بالإجلال. تأخذ بوثائق الأمور، وأزمة التدبير.
واعلم أن كثرة العتاب سببٌ للقطيعة، واطراحه كله دليلٌ على قلة الاكتراث لأمر الصديق. فكن فيه بين أمرين: عاتبه فيما تشتركان في نفعه وضره وذلك في الهينات، وتجاف له عن بعض غفلاته تسلم لك ناحيته. وبحسب ذلك فكن في زيارته، فإن الإلحاح في الزيارة يذهب بالبهاء، وربما أورث الملالة؛ وطول الهجران يعقب الجفوة، ويحلُّ عقدة الإخاء، ويجعل صاحبه مدرجة للقطيعة وقد قال الشاعر:
إذا ما شئت أن تسلى حبيباً ... فأكثر دونه عدد الليالي
فما يسلي حبيبك مثل نأيٍ ... ولا يبلى جديدك كابتذال
وزر غِبّاً إذا أحببت خلا ... فتحظى بالوداد مع اتصال
واقتصد في مزاحك؛ فإن الإفراط فيه يذهب بالبهاء، ويجري عليك أهل الدناءة. وإن التقصير فيه يقبض عنك المؤانسين. فإن مزحت فلا تمزح بالذي يسوء معاشريك.
وأنا أوصيك بخلقٍ قلّ من رأيته يتخلق به، وذاك أنّ محمله شديد، ومرتقاه صعب، وبسبب ذلك يورث الشرف وحميد الذكر: ألا يحدث لك انحطاط من حطت الدنيا من إخوانك استهانةً به، ولا لحقه إضاعة، ولما كنت تعلم من قدره استصغاراً؛ بل إن زرته قليلاً كان أشرف لك، وأعطف للقلوب عليك. ولا يحدث لك ارتفاع من رفعت الدنيا منهم تذللاً وإيثاراً له على نظرائه في الحفظ والإكرام؛ بل لو انقبضت عنه كان مادحك أكثر من ذامك، وكان هو أولى بالتعطّف عليك، إلا أن يكون مسلطاً تخاف شذاه ومعرته، وترجو عنده جرّ منفعةٍ لصديق، أو دفع مضرةٍ عنه، أو كبتاً لعدو وإنزال هوانٍ به، فإن السلطان وخيلاءه وزهوه يحتمل فيه ما لا يجوز في غيره، ويعذر فيه ما لا يعذر في سواه.
واعلم أن نشر محاسنك لا يليق بك، ولا يقبل منك، إلا إذا كان القول لها على ألسن أهل المروءات، وذوي الصدق والوفاء، ومن ينجع قوله في القلوب ممن يستنام إلى قوله، ويصدق خبره، وممن إن قال صدق، أو مدح اقتصد، يثنى بقدر البلاء، فإن إشراف الثناء على قدر النعمة يولّد في القلوب التكذيب، ويدل على طلب المزايد.
فأما ثناء المادحين لك في وجهك، فإنما تلك أسواقٌ أقاموها للأرباح، وساهلوك في المبايعة، ولم يكن في الثناء عليهم كلفة، لكساد أقاويلهم عند الناس. أولئك الصادقون عن طرق المكارم، والمثبطون عن ابتناء المعالى.
فارتد لنعمك مغرساً تنمو فيه فروعها، وتزكو ثمرتها، لا تذهب نفقتك ضياعاً،إما لعاجلٍ تقدمه، أو لآجلِ ثناء تنتفع به.
فلا تجعلن له من عقلك نصيباً، ولا من لسانك حظاً، تسلم بذلك على الناس أجمعين، مع السلامة في الدين.
واعلم أنك موسومٌ بسيما من قارنت، ومنسوبٌ إليك أفاعيل من صاحبت. فتحرز من دخلاء السوء، ومجالسة أهل الريب، وقد جرت لك في ذلك الأمثال، وسطرت لك فيه الأقاويل، فقالوا: " المرء حيث يجعل نفسه " ، وقالوا: " يظن المرء ما ظن بقرينه " ، وقالوا: " بالمرء بشكله، والمرء بأليفه " .
ولن تقدر على التحرز من جماعة الناس، ولكن أقل المؤانسة إلا بأهل البراءة من كل دنس. واعلم أن المرء بقدر ما يسبق إليه يعرف، وبالمستفيض من أفعاله يوصف، وإن كان بين ذلك كثيرٌ من أفعاله ألغاه الناس وحكموا عليه بالغالب من أمره.
فاجهد أن يكون أغلب الأشياء على أفاعيلك كل ما تحمده العوام ولا تذمه الجماعات، فإن ذلك يعفى على كل خلل إن كان.
فبادر ألسنة الناس فاشغلها بمحاسنك، فإنهم إلى كل سيءٍ سراع، واستظهر على من دونك بالتفضل، وعلى نظرائك بالإنصاف، وعلى من فوقك بالإجلال. تأخذ بوثائق الأمور، وأزمة التدبير.
واعلم أن كثرة العتاب سببٌ للقطيعة، واطراحه كله دليلٌ على قلة الاكتراث لأمر الصديق. فكن فيه بين أمرين: عاتبه فيما تشتركان في نفعه وضره وذلك في الهينات، وتجاف له عن بعض غفلاته تسلم لك ناحيته. وبحسب ذلك فكن في زيارته، فإن الإلحاح في الزيارة يذهب بالبهاء، وربما أورث الملالة؛ وطول الهجران يعقب الجفوة، ويحلُّ عقدة الإخاء، ويجعل صاحبه مدرجة للقطيعة وقد قال الشاعر:
إذا ما شئت أن تسلى حبيباً ... فأكثر دونه عدد الليالي
فما يسلي حبيبك مثل نأيٍ ... ولا يبلى جديدك كابتذال
وزر غِبّاً إذا أحببت خلا ... فتحظى بالوداد مع اتصال
واقتصد في مزاحك؛ فإن الإفراط فيه يذهب بالبهاء، ويجري عليك أهل الدناءة. وإن التقصير فيه يقبض عنك المؤانسين. فإن مزحت فلا تمزح بالذي يسوء معاشريك.
وأنا أوصيك بخلقٍ قلّ من رأيته يتخلق به، وذاك أنّ محمله شديد، ومرتقاه صعب، وبسبب ذلك يورث الشرف وحميد الذكر: ألا يحدث لك انحطاط من حطت الدنيا من إخوانك استهانةً به، ولا لحقه إضاعة، ولما كنت تعلم من قدره استصغاراً؛ بل إن زرته قليلاً كان أشرف لك، وأعطف للقلوب عليك. ولا يحدث لك ارتفاع من رفعت الدنيا منهم تذللاً وإيثاراً له على نظرائه في الحفظ والإكرام؛ بل لو انقبضت عنه كان مادحك أكثر من ذامك، وكان هو أولى بالتعطّف عليك، إلا أن يكون مسلطاً تخاف شذاه ومعرته، وترجو عنده جرّ منفعةٍ لصديق، أو دفع مضرةٍ عنه، أو كبتاً لعدو وإنزال هوانٍ به، فإن السلطان وخيلاءه وزهوه يحتمل فيه ما لا يجوز في غيره، ويعذر فيه ما لا يعذر في سواه.
واعلم أن نشر محاسنك لا يليق بك، ولا يقبل منك، إلا إذا كان القول لها على ألسن أهل المروءات، وذوي الصدق والوفاء، ومن ينجع قوله في القلوب ممن يستنام إلى قوله، ويصدق خبره، وممن إن قال صدق، أو مدح اقتصد، يثنى بقدر البلاء، فإن إشراف الثناء على قدر النعمة يولّد في القلوب التكذيب، ويدل على طلب المزايد.
فأما ثناء المادحين لك في وجهك، فإنما تلك أسواقٌ أقاموها للأرباح، وساهلوك في المبايعة، ولم يكن في الثناء عليهم كلفة، لكساد أقاويلهم عند الناس. أولئك الصادقون عن طرق المكارم، والمثبطون عن ابتناء المعالى.
فارتد لنعمك مغرساً تنمو فيه فروعها، وتزكو ثمرتها، لا تذهب نفقتك ضياعاً،إما لعاجلٍ تقدمه، أو لآجلِ ثناء تنتفع به.
ولن تعدم أن يفجأك في بعض أحوالك حقوقٌ تبهظك، وأحوالٌ تفدحك، وأمورٌ كلها تتقسم عنايتك، وفي التثبت في مثلها تُعرف فضيلتك، فلا تستقبلها بالتضجع وتفتير الرأى، وابدأ منها بأعظمها منفعةً، وأشدها خوف ضرر. وكل ما أعجزك إلى الكفاة، واعتذر من تقصيرٍ إن كان؛ فإن الاعتذار يكسر حُمياً اللائمة، ويردع شذاة الشرة.
ثم تلاف بعد انكشاف ذلك عنك ما فاتك، واجهد الجهد كله أن تكون مخارج الحقوق اللازمة لك من عندك سهلةً، موصولةً لأصحابها ببشرك وطلاقة وجهك؛ فقد زعمت الحكماء أن القليل مع طلاقة الوجه أوقع بقلوب ذوى المروءات من الكثير مع العبوس والانقباض.
وقد قال بعض الحكماء: " غاية الأحرار أن يلقوا ما يحبون ويحرموا، أحب إليهم من أن يلقوا ما يكرهون ويعطوا " .
وما أبعدوا عن الحق.
ولا يدعونك كفر كافرٍ لبعض نعمك ممن آثر هواه على دينه ومروءته، أو غدرة غادرٍ تصنع لك وختلك عن مالك، أن تزهد في الإنعام، وتسيء بثقاتك الظنون؛ فإن هذا موضع يجد الشيطان في مثله الذريعة إلى استفساد الصنائع، وتعطيل المكارم.
واعلم أن استصغارك نعمك يكبرها عند ذوى العقول، وسترك لها نشرٌ لها عندهم؛ فانشرها بسترها، وكبرها باستصغارها.
واعلم أن من الفعل أفاعيل وإن عظمت منافعها، ومنافع أضدادها فلإيثارها فضيلة على كل حال. فاجعل صمتك أكثر من كلامك؛ فإنه أدل على حكمتك. واجعل عفوك أكثر من عقوبتك؛ فإن ذلك أدل على كرمك. ولا تفرطن فيه كل الإفراط حتى تطرح الكلام في موضعه، والتأديب في أوانه.
واعلم أن لكل امرئ سيداً من عمله، قد ساهلته فيه نفسه وسلس له فيه هواه، فتحفظ ذلك من نفسك، وتقاضها الزيادة فيه ، ورضها على تثميره والمواظبة عليه .
واحذر الحذر كله الاغترار بأمور ثلاثة؛ فإن من عطب بها كثير، وتلافيها صعب شديد: أحدها: ألا تولى جسائم تصرفك وتقلدمهم أمورك ووثائق تدبيرك إلا امرأً صلاحه موصول بصلاحك، وباء النعمة عليك هو بقاء النعمة عليه.
أو أن تأنس أو تغتر بمن تعلم أن بصلاحك فساده، وبارتفاعك انحطاطه، وبسلامتك عطبه؛ فإن من كان هكذا فأنت ملك موته. فبحسب ذلك فليكن عندك.
أو أن تجعل مالك كله في عقدة واحدة، أو حيز واحد، أو وجه منفرد، إن اجتاحته جائحةٌ أو نابته نائبة بقيت حسيراً. وقد قال بعض الحكماء: " فرقوا المنية " ، و " اطلبوا الأرباح بكل شعب " .
واعلم أنه ليس من الأخلاق التي ذمتها الحكماء خلق إلا وقد ينفع في بعض الحالات، ويرد به شكله، ويقام بإزاء مثله، ويدافع به نظيره.
إنك ستمنى بصحبة السلطان الحازم العادل، وبصحبة السلطان الأخرق الجهول الغشوم. فالحازم العادل يسوسه لك الأدب والنصح، والأخرق تسوسه لك الحلة والرفق. العادل يعضدك منه ثلاث، وتصبر نفسه لك على ثلاث: فاللواتي يعضدنك: تسليط العدل وإنفاذ الحكومة - وفي ذلك صلاح الرعية - وإثابة المحسنين الذين إثابتهم تحصين البيضة والسبل، والعفو ما بلغ به الاستصلاح، واكتفى به من البسط. واللواتي تصبر نفسه لك عليهن: الهوى إلى ما وافق الرأي، وأمضى الرأي إلا بعد التثبت حتى تعاونه عليه النصحاء.
ولكني أوصيك برياضة نفسك حتى تذللها على الأمور المحمودة؛ فإن كل أمر ممدوح هو مما تستثقل النفوس.ومما تسر به وتنقلب إليه الأخلاق المذمومة. فإن أهملتها وإياها غلبت عليك، لأنها فيها طبيعة مركبة، وجبلة مفطورة.
فلتكن المساهلة في أخلاقك أغلب عليك من المعاسرة، والحلم أولى بك من العجلة، والصبر الحاكم عليك دون الجزع، والعفو أسبق إليك من المجازاة بالذنوب، والمكافأة بالسوء .
وكذلك سائر الأخلاق المحمودة والمذمومة، فلتكن محموداتها غالبة على أفعالك، محكمة في أمورك فإنك إن ضبطت ذلك، وقومت عليه نفسك، عشت رخي البال، قليل الهموم، كثير الصديق قليل العدو، سليم الدين، نقي العرض، محمود الفعال، جميل الأحدوثة في حياتك وبعد وفاتك، وكنت بموضع الرجاء أن يصل الله لك السلامة الآجلة بالنعمة العاجلة، إن شاء الله عز وجل.
أسأل الله المبتدئ بكل نعمة، والمتولى لكل إحسان، أن يصلي على محمد خيرته من خلقه، وصفوته من بريته، وأن يتم عليك نعمته، ويشفع لك ما خوَّلك من نعمته بالنعمة التي يؤمن معها الزوال، في جواره ومرافقة أنبيائه. والسلام عليك ورحمة الله.
ثم تلاف بعد انكشاف ذلك عنك ما فاتك، واجهد الجهد كله أن تكون مخارج الحقوق اللازمة لك من عندك سهلةً، موصولةً لأصحابها ببشرك وطلاقة وجهك؛ فقد زعمت الحكماء أن القليل مع طلاقة الوجه أوقع بقلوب ذوى المروءات من الكثير مع العبوس والانقباض.
وقد قال بعض الحكماء: " غاية الأحرار أن يلقوا ما يحبون ويحرموا، أحب إليهم من أن يلقوا ما يكرهون ويعطوا " .
وما أبعدوا عن الحق.
ولا يدعونك كفر كافرٍ لبعض نعمك ممن آثر هواه على دينه ومروءته، أو غدرة غادرٍ تصنع لك وختلك عن مالك، أن تزهد في الإنعام، وتسيء بثقاتك الظنون؛ فإن هذا موضع يجد الشيطان في مثله الذريعة إلى استفساد الصنائع، وتعطيل المكارم.
واعلم أن استصغارك نعمك يكبرها عند ذوى العقول، وسترك لها نشرٌ لها عندهم؛ فانشرها بسترها، وكبرها باستصغارها.
واعلم أن من الفعل أفاعيل وإن عظمت منافعها، ومنافع أضدادها فلإيثارها فضيلة على كل حال. فاجعل صمتك أكثر من كلامك؛ فإنه أدل على حكمتك. واجعل عفوك أكثر من عقوبتك؛ فإن ذلك أدل على كرمك. ولا تفرطن فيه كل الإفراط حتى تطرح الكلام في موضعه، والتأديب في أوانه.
واعلم أن لكل امرئ سيداً من عمله، قد ساهلته فيه نفسه وسلس له فيه هواه، فتحفظ ذلك من نفسك، وتقاضها الزيادة فيه ، ورضها على تثميره والمواظبة عليه .
واحذر الحذر كله الاغترار بأمور ثلاثة؛ فإن من عطب بها كثير، وتلافيها صعب شديد: أحدها: ألا تولى جسائم تصرفك وتقلدمهم أمورك ووثائق تدبيرك إلا امرأً صلاحه موصول بصلاحك، وباء النعمة عليك هو بقاء النعمة عليه.
أو أن تأنس أو تغتر بمن تعلم أن بصلاحك فساده، وبارتفاعك انحطاطه، وبسلامتك عطبه؛ فإن من كان هكذا فأنت ملك موته. فبحسب ذلك فليكن عندك.
أو أن تجعل مالك كله في عقدة واحدة، أو حيز واحد، أو وجه منفرد، إن اجتاحته جائحةٌ أو نابته نائبة بقيت حسيراً. وقد قال بعض الحكماء: " فرقوا المنية " ، و " اطلبوا الأرباح بكل شعب " .
واعلم أنه ليس من الأخلاق التي ذمتها الحكماء خلق إلا وقد ينفع في بعض الحالات، ويرد به شكله، ويقام بإزاء مثله، ويدافع به نظيره.
إنك ستمنى بصحبة السلطان الحازم العادل، وبصحبة السلطان الأخرق الجهول الغشوم. فالحازم العادل يسوسه لك الأدب والنصح، والأخرق تسوسه لك الحلة والرفق. العادل يعضدك منه ثلاث، وتصبر نفسه لك على ثلاث: فاللواتي يعضدنك: تسليط العدل وإنفاذ الحكومة - وفي ذلك صلاح الرعية - وإثابة المحسنين الذين إثابتهم تحصين البيضة والسبل، والعفو ما بلغ به الاستصلاح، واكتفى به من البسط. واللواتي تصبر نفسه لك عليهن: الهوى إلى ما وافق الرأي، وأمضى الرأي إلا بعد التثبت حتى تعاونه عليه النصحاء.
ولكني أوصيك برياضة نفسك حتى تذللها على الأمور المحمودة؛ فإن كل أمر ممدوح هو مما تستثقل النفوس.ومما تسر به وتنقلب إليه الأخلاق المذمومة. فإن أهملتها وإياها غلبت عليك، لأنها فيها طبيعة مركبة، وجبلة مفطورة.
فلتكن المساهلة في أخلاقك أغلب عليك من المعاسرة، والحلم أولى بك من العجلة، والصبر الحاكم عليك دون الجزع، والعفو أسبق إليك من المجازاة بالذنوب، والمكافأة بالسوء .
وكذلك سائر الأخلاق المحمودة والمذمومة، فلتكن محموداتها غالبة على أفعالك، محكمة في أمورك فإنك إن ضبطت ذلك، وقومت عليه نفسك، عشت رخي البال، قليل الهموم، كثير الصديق قليل العدو، سليم الدين، نقي العرض، محمود الفعال، جميل الأحدوثة في حياتك وبعد وفاتك، وكنت بموضع الرجاء أن يصل الله لك السلامة الآجلة بالنعمة العاجلة، إن شاء الله عز وجل.
أسأل الله المبتدئ بكل نعمة، والمتولى لكل إحسان، أن يصلي على محمد خيرته من خلقه، وصفوته من بريته، وأن يتم عليك نعمته، ويشفع لك ما خوَّلك من نعمته بالنعمة التي يؤمن معها الزوال، في جواره ومرافقة أنبيائه. والسلام عليك ورحمة الله.
كتاب كتمان السر وحفظ اللسان
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد فإني قد تصفحت أخلاقك، وتدبرت أعراقك، وتأملت شيمك، ووزنتك فعرفت مقدارك، وقومتك فعلمت قيمتك، فوجدتك قد ناهزت الكمال، وأوفيت على التمام، وتوقلت في درج الفضائل، وكدت تكون منقطع القرين، وقاربت أن تلفى عديم النظير، لا يطمع فاضلٌ أن يفوتك، ولا يأنف شريفٌ أن يقصر دونك، ولا يخشع عالمٌ أن يأخذ عنك.
ووجدتك في خلال ذلك على سبيل تضييعٍ وإهمال لأمرين هما القطب الذي عليه مدار الفضائل، فكنت أحق بالعذل، وأقمن بالتأنيب ممن لم يسبق شأوك، ولم يتسنم رتبتك؛ لأنه ليس ملوماً على تضييع القليل من قد أضاع الكثير، ولا يسام إصلاح يومه وتقويم ساعته من قد استحوذ الفساد على دهره، ولا يحاسب على الزلة الواحدة من لا يعدم منه الزلل والعثار، ولا ينكر المنكر على من ليس من أهل المعروف؛ لأن المنكر إذا كثر صار معروفاً، وإذا صار معروفاً صار المنكر المعروف منكرا.
وكيف يعجب ممن أمره كله عجب، وإنما الإنكار والتعجب ممن خرج عن مجرى العادة، وفارق السنة والسجية، كما قال الأول: " خالف تُذكر " . وقيل: " الكامل من عدت سقطاته " ، وقيل: " من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان يومه خيراً من غده فهو مفتون، ومن كان غده خيراً من يومه فذلك السعيد المغبوط " . وفي هذا المعنى قال الشاعر:
رأيتك أمس خير بني معدٍّ ... وأنت اليوم خيرٌ منك أمس
وأنت غداً تزيد الضعف خيراً ... كذاك تزيد سادة عبد شمس
وقال آخر في معن:
أنت امرؤٌ همك المعالي ... ودلو معروفك الربيع
وأنت من وائلٍ صميمٌ ... كالقلب تُحنى له الضلوع
في كل عام تزيد خيراً ... يشيعه عنك من يشيع
والأمران اللذان نقمتهما عليك: وضع القول في غير موضعه، وإضاعة السر بإذاعته.
وليس الخطر فيما أسومك وأحاول حملك عليه بسهلٍ ولا يسير. وكيف وأنا لا أعرف في دهري - على كثير عدد أهله - رجلاً واحداً ممن ينتحل الخاصة، وينسب إلى العلية، ويطلب الرياسة ويخطب السيادة، ويتحلى بالأدب ويديم الثخانة والزماتة، والحلم والفخامة، أرضى ضبطه للسانه، وأحمد حياطته لسره. وذلك أنه لا شيء أصعب من مكابدة الطبائع، ومغالبة الأهواء؛ فإن الدولة لم تزل للهوى على الرأي طول الدهر. والهوى هو الداعية إلى إذاعة السر، وإطلاق اللسان بفضل القول.
وإنما سُمِّي العقل عقلاً وحجراً، قال تعالى - " هل في ذلك قسمٌ لذي حجر " - لأنه يزم اللسان ويخطمه، ويشكله ويربثه، ويقيد الفضل ويعقله عن أن يمضي فُرطاً في سبيل الجهل والخطأ والمضرة، كما يُعقل البعير، ويحجر على اليتيم.
وإنما اللسان ترجمان القلب، والقلب خزانة مستحفظة للخواطر والأسرار، وكل ما يعيه من ذلك عن الحواس من خير وشر، وما تولده الشهوات والأهواء، وتنتجه الحكمة والعلم.
ومن شأن الصدر - على أنه ليس وعاء للأجرام، وإنما يعي بقدرةٍ من الله لا يعرف العباد كيف هي - أن يضيق بما فيه، ويستثقل ما حمل منه، فيستريح إلى نبذه، ويلذ إلقاءه على اللسان. ثم لا يكاد أن يشفيه أن يخاطب به نفسه في خلواته حتى يفضي به إلى غيره ممن لا يرعاه ولا يحوطه. كل ذلك ما دام الهوى مستولياً على اللسان، واستعمل فضول النظر فدعت إلى فضول القول.
فإذا قهر الرأي الهوى فاستولى على اللسان، منعه من تلك العادة، ورده عن تلك الدربة، وجشمه مؤونة الصبر على ستر الحلم والحكمة.
ولا شيء أعجب من أن المنطق أحد مواهب الله العظام، ونعمه الجسام، وأن صاحبها مسؤولٌ عنها، ومحاسب على ما خوِّل منها، أوجب الله عليه استعمالها في ذكره وطاعته، والقيام بقسطه وحجته، ووضعها مواضع النفع في الدين والدنيا، والإنفاق منها بالمعروف لفظةً ولفظة، وصرفها عن أضدادها.
فلم يرض الإنسان أن عطلها عما خُلقت له مما ينفعه حتى استعملها في ضد ذلك مما يضرُّه، فاجتمع عليه الإثمان اللذان اجتمعا على صاحب المال الذي كنزه ومنعه من حقه، فوجب عليه إثم المنع وإن كان لم يصرفه في معصية، ثم صرفه في أبواب الباطل والفسق فوجب عليه إثم الإنفاق فيها. وهذه غاية الغبن والخسران. نعوذ بالله منها.
ووجدتك في خلال ذلك على سبيل تضييعٍ وإهمال لأمرين هما القطب الذي عليه مدار الفضائل، فكنت أحق بالعذل، وأقمن بالتأنيب ممن لم يسبق شأوك، ولم يتسنم رتبتك؛ لأنه ليس ملوماً على تضييع القليل من قد أضاع الكثير، ولا يسام إصلاح يومه وتقويم ساعته من قد استحوذ الفساد على دهره، ولا يحاسب على الزلة الواحدة من لا يعدم منه الزلل والعثار، ولا ينكر المنكر على من ليس من أهل المعروف؛ لأن المنكر إذا كثر صار معروفاً، وإذا صار معروفاً صار المنكر المعروف منكرا.
وكيف يعجب ممن أمره كله عجب، وإنما الإنكار والتعجب ممن خرج عن مجرى العادة، وفارق السنة والسجية، كما قال الأول: " خالف تُذكر " . وقيل: " الكامل من عدت سقطاته " ، وقيل: " من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان يومه خيراً من غده فهو مفتون، ومن كان غده خيراً من يومه فذلك السعيد المغبوط " . وفي هذا المعنى قال الشاعر:
رأيتك أمس خير بني معدٍّ ... وأنت اليوم خيرٌ منك أمس
وأنت غداً تزيد الضعف خيراً ... كذاك تزيد سادة عبد شمس
وقال آخر في معن:
أنت امرؤٌ همك المعالي ... ودلو معروفك الربيع
وأنت من وائلٍ صميمٌ ... كالقلب تُحنى له الضلوع
في كل عام تزيد خيراً ... يشيعه عنك من يشيع
والأمران اللذان نقمتهما عليك: وضع القول في غير موضعه، وإضاعة السر بإذاعته.
وليس الخطر فيما أسومك وأحاول حملك عليه بسهلٍ ولا يسير. وكيف وأنا لا أعرف في دهري - على كثير عدد أهله - رجلاً واحداً ممن ينتحل الخاصة، وينسب إلى العلية، ويطلب الرياسة ويخطب السيادة، ويتحلى بالأدب ويديم الثخانة والزماتة، والحلم والفخامة، أرضى ضبطه للسانه، وأحمد حياطته لسره. وذلك أنه لا شيء أصعب من مكابدة الطبائع، ومغالبة الأهواء؛ فإن الدولة لم تزل للهوى على الرأي طول الدهر. والهوى هو الداعية إلى إذاعة السر، وإطلاق اللسان بفضل القول.
وإنما سُمِّي العقل عقلاً وحجراً، قال تعالى - " هل في ذلك قسمٌ لذي حجر " - لأنه يزم اللسان ويخطمه، ويشكله ويربثه، ويقيد الفضل ويعقله عن أن يمضي فُرطاً في سبيل الجهل والخطأ والمضرة، كما يُعقل البعير، ويحجر على اليتيم.
وإنما اللسان ترجمان القلب، والقلب خزانة مستحفظة للخواطر والأسرار، وكل ما يعيه من ذلك عن الحواس من خير وشر، وما تولده الشهوات والأهواء، وتنتجه الحكمة والعلم.
ومن شأن الصدر - على أنه ليس وعاء للأجرام، وإنما يعي بقدرةٍ من الله لا يعرف العباد كيف هي - أن يضيق بما فيه، ويستثقل ما حمل منه، فيستريح إلى نبذه، ويلذ إلقاءه على اللسان. ثم لا يكاد أن يشفيه أن يخاطب به نفسه في خلواته حتى يفضي به إلى غيره ممن لا يرعاه ولا يحوطه. كل ذلك ما دام الهوى مستولياً على اللسان، واستعمل فضول النظر فدعت إلى فضول القول.
فإذا قهر الرأي الهوى فاستولى على اللسان، منعه من تلك العادة، ورده عن تلك الدربة، وجشمه مؤونة الصبر على ستر الحلم والحكمة.
ولا شيء أعجب من أن المنطق أحد مواهب الله العظام، ونعمه الجسام، وأن صاحبها مسؤولٌ عنها، ومحاسب على ما خوِّل منها، أوجب الله عليه استعمالها في ذكره وطاعته، والقيام بقسطه وحجته، ووضعها مواضع النفع في الدين والدنيا، والإنفاق منها بالمعروف لفظةً ولفظة، وصرفها عن أضدادها.
فلم يرض الإنسان أن عطلها عما خُلقت له مما ينفعه حتى استعملها في ضد ذلك مما يضرُّه، فاجتمع عليه الإثمان اللذان اجتمعا على صاحب المال الذي كنزه ومنعه من حقه، فوجب عليه إثم المنع وإن كان لم يصرفه في معصية، ثم صرفه في أبواب الباطل والفسق فوجب عليه إثم الإنفاق فيها. وهذه غاية الغبن والخسران. نعوذ بالله منها.
فاللسان أداةٌ مستعملة، لا حمد له ولا ذمَّ عليه، وإنما الحمد للحلم واللوم على الجهل. فالحلم هو الاسم الجامع لكل فضل، وهو سلطان العقل القامع للهوى. فليس قمع الغضب وتسكين قوة الشَّرَّة، وإسقاط طائر الخرق بأحق بهذا الاسم، ولا أولى بهذا الرسم، من قمع فرط الرضا وغلبة الشهوات، والمنع من سوء الفرح والبطر، ومن سوء الجزع والهلع، وسرعة الحمد والذم، وسوء الطبع والجشع، وسوء مناهزة الفرصة، وفرط الحرص على الطلبة، وشدة الحنين والرقة، وكثرة الشكوى والأسف، وقرب وقت الرضا من وقت السخط، ووقت السخط من وقت الرضا؛ ومن اتفاق حركات اللسان والبدن على غير وزن معلوم ولا تقدير موصوف، وفي غير نفع ولا جدىً.
واعلم يقينأً أن الصمت سرمداً أبداً، أسهل مراراً - على ما فيه من المشقة - من إطلاق اللسان بالقول على جهة التحصيل والتمييز، والقصد للصواب، لما قدمنا ذكره من علة مجاذبة الطباع؛ ولأن من طبع الإنسان محبة الإخبار والاستخبار. وبهذه الجبلة التي جبل عليها الناس نُقلت الأخبار عن الماضين إلى الباقين، عن الغائب إلى الشاهد، وأحب الناس أن ينقل عنهم، ونقشوا خواطرهم في الصخور، واحتالوا لنشر كلامهم بصنوف الحيل. وبذلك ثبتت حجة الله على من لم يشاهد مخارج الأنبياء، ولم يحضر آيات الرسل، وقام مجيء الأخبار عن غير تشاعر ولا تواطؤ مقام العيان؛ وعرفت البلدان والأقطار والأمم والتجارات والتدبيرات والعلامات؛ وصار ما ينقله الناس بعضهم عن بعض ذريعة إلى قبول الإخبار عن الرسل، وسلماً إلى التصديق، وعوناً على الرضا بالتقليد.
ولولا حلاوة الإخبار والاستخبار عند الناس لما انتقلت الأخبار وحلت هذا المحل. ولكن الله عز وجل حببها إليهم لهذا السبب، كما جعل عشق النساء داعيةً للجماع، ولذة الجماع سبيلاً للنسل، والرقة على الولد عوناً على التربية والحضانة - وبهما كان النشوّ والنماء - وحب الطعام والشراب سبباً للغذاء، والغذاء سبباً للبقاء وعمارة الدنيا.
فعسر على الإنسان الكتمان لإيثار هذه الشهوة، والانقياد لهذه الطبيعة؛ وكانت مزاولة الجبال الراسيات عن قواعدها أسهل من مجاذبة الطباع. فاعتراه الكرب لكتمان السر، وغشيه لذلك سقم وكمد يحسُّ به في سويداء قلبه بمثل دبيب النمل، وحكة الجرب، ومثل لسع الدبر ووخز الأشافي، على قدر اختلاف مقادير الحلوم والرزانة والخفة. فإذا باح بسره فكأنه أنشط من عقال. ولذلك قيل: " الصدر إذا نفث برأ " مثلاً مضروباً لهذه الحال. وقيل: " ولا بدَّ من شكوى إذا لم يكن صبرُ " .
وليس قولنا " طبع الإنسان على حب الإخبار والاستخبار " حجةً له على الله، لأنه طبع على حب النساء ومُنع الزنى، وحبب إليه الطعام ومُنع من الحرام. وكذلك حُبِّب إليه أن يخبر بالحق النافع ويستخبر عنه، وجعلت فيه استطاعة هذا وذاك، فاختار الهوى على الرأْي.
ومما يؤكد هذا المعنى في كرب الكتمان وصعوبته على العقلاء فضلاً عن غيرهم، ما رووه عن بعض فقهائهم أنه كان يحمل أخباراً مستورة لا يحتملها العوامّ، فضاق صدره بها، فكان يبرز إلى العراء فيحتفر بها حفيرةً يودعها دنّاً، ثم ينكب على ذلك الدّنّ فيحدثه بما سمع، فيروح عن قلبه، ويرى أن قد نقل سره من وعاء إلى وعاء.
وكان الأعمش سيئ الخلق غلقاً، وكان أصحاب الحديث يضجرونه ويسومونه نشر ما يحب طيَّه عنهم، وتكرار ما يحدثهم به، ويتعنتونه، فيحلف لا يحدثهم الشهر والأكثر والأقلَّ، فإذا فعل ذلك ضاق صدره بما فيه، وتطلعت الأخبار إلى الخروج منه، فيقبل على شاةٍ كانت له فيحدثها بالأخبار والفقه، حتى كان بعض أصحاب الحديث يقول: " ليت أني كنت شاة الأعمش " .
وشكا هشام بن عبد الملك ما يجد من فقد الأنيس المأمون على سره فقال: أكلت الحامض والحلو حتى ما أجد لهما طعماً، وأتيت النساء حتى ما أبالي أمرأةً لقيت أم حائطاً، فما بقيت لي لذة إلا وجود أخٍ أضع بيني وبينه مؤونة التحفظ.
وقال معاوية لعمرو بن العاص: ما اللذة؟ قال: تأمر شباب قريش أن يخرجوا عنا. ففعل، فقال: اللذة طرح المروءة.
وقد صدق عمرو، ما تكون الزماتة والوقار إلا بحملٍ على النفس شديد، ورياضةٍ متعبة.
وقال بعض الشعراء:
ألم تر أن وشاة الرجا ... ل لا يتركون أديماً صحيحا
فلا تفش سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيحٍ نصيحا
واعلم يقينأً أن الصمت سرمداً أبداً، أسهل مراراً - على ما فيه من المشقة - من إطلاق اللسان بالقول على جهة التحصيل والتمييز، والقصد للصواب، لما قدمنا ذكره من علة مجاذبة الطباع؛ ولأن من طبع الإنسان محبة الإخبار والاستخبار. وبهذه الجبلة التي جبل عليها الناس نُقلت الأخبار عن الماضين إلى الباقين، عن الغائب إلى الشاهد، وأحب الناس أن ينقل عنهم، ونقشوا خواطرهم في الصخور، واحتالوا لنشر كلامهم بصنوف الحيل. وبذلك ثبتت حجة الله على من لم يشاهد مخارج الأنبياء، ولم يحضر آيات الرسل، وقام مجيء الأخبار عن غير تشاعر ولا تواطؤ مقام العيان؛ وعرفت البلدان والأقطار والأمم والتجارات والتدبيرات والعلامات؛ وصار ما ينقله الناس بعضهم عن بعض ذريعة إلى قبول الإخبار عن الرسل، وسلماً إلى التصديق، وعوناً على الرضا بالتقليد.
ولولا حلاوة الإخبار والاستخبار عند الناس لما انتقلت الأخبار وحلت هذا المحل. ولكن الله عز وجل حببها إليهم لهذا السبب، كما جعل عشق النساء داعيةً للجماع، ولذة الجماع سبيلاً للنسل، والرقة على الولد عوناً على التربية والحضانة - وبهما كان النشوّ والنماء - وحب الطعام والشراب سبباً للغذاء، والغذاء سبباً للبقاء وعمارة الدنيا.
فعسر على الإنسان الكتمان لإيثار هذه الشهوة، والانقياد لهذه الطبيعة؛ وكانت مزاولة الجبال الراسيات عن قواعدها أسهل من مجاذبة الطباع. فاعتراه الكرب لكتمان السر، وغشيه لذلك سقم وكمد يحسُّ به في سويداء قلبه بمثل دبيب النمل، وحكة الجرب، ومثل لسع الدبر ووخز الأشافي، على قدر اختلاف مقادير الحلوم والرزانة والخفة. فإذا باح بسره فكأنه أنشط من عقال. ولذلك قيل: " الصدر إذا نفث برأ " مثلاً مضروباً لهذه الحال. وقيل: " ولا بدَّ من شكوى إذا لم يكن صبرُ " .
وليس قولنا " طبع الإنسان على حب الإخبار والاستخبار " حجةً له على الله، لأنه طبع على حب النساء ومُنع الزنى، وحبب إليه الطعام ومُنع من الحرام. وكذلك حُبِّب إليه أن يخبر بالحق النافع ويستخبر عنه، وجعلت فيه استطاعة هذا وذاك، فاختار الهوى على الرأْي.
ومما يؤكد هذا المعنى في كرب الكتمان وصعوبته على العقلاء فضلاً عن غيرهم، ما رووه عن بعض فقهائهم أنه كان يحمل أخباراً مستورة لا يحتملها العوامّ، فضاق صدره بها، فكان يبرز إلى العراء فيحتفر بها حفيرةً يودعها دنّاً، ثم ينكب على ذلك الدّنّ فيحدثه بما سمع، فيروح عن قلبه، ويرى أن قد نقل سره من وعاء إلى وعاء.
وكان الأعمش سيئ الخلق غلقاً، وكان أصحاب الحديث يضجرونه ويسومونه نشر ما يحب طيَّه عنهم، وتكرار ما يحدثهم به، ويتعنتونه، فيحلف لا يحدثهم الشهر والأكثر والأقلَّ، فإذا فعل ذلك ضاق صدره بما فيه، وتطلعت الأخبار إلى الخروج منه، فيقبل على شاةٍ كانت له فيحدثها بالأخبار والفقه، حتى كان بعض أصحاب الحديث يقول: " ليت أني كنت شاة الأعمش " .
وشكا هشام بن عبد الملك ما يجد من فقد الأنيس المأمون على سره فقال: أكلت الحامض والحلو حتى ما أجد لهما طعماً، وأتيت النساء حتى ما أبالي أمرأةً لقيت أم حائطاً، فما بقيت لي لذة إلا وجود أخٍ أضع بيني وبينه مؤونة التحفظ.
وقال معاوية لعمرو بن العاص: ما اللذة؟ قال: تأمر شباب قريش أن يخرجوا عنا. ففعل، فقال: اللذة طرح المروءة.
وقد صدق عمرو، ما تكون الزماتة والوقار إلا بحملٍ على النفس شديد، ورياضةٍ متعبة.
وقال بعض الشعراء:
ألم تر أن وشاة الرجا ... ل لا يتركون أديماً صحيحا
فلا تفش سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيحٍ نصيحا
والسر - أبقاك الله - إذا تجاوز صدر صاحبه وأفلت من لسانه إلى أذنٍ واحدةٍ فليس حينئذ بسرٍّ، بل ذاك أولى بالإذاعة، ومفتاح النشر والشهرة. وإنما بينه وبين أن يشيع ويستطير أن يدفع إلى أذنٍ ثانية. وهو مع قلة المأمونين عليه، وكرب الكتمان، حريٌّ بالانتقال إليها في طرفة عين.
وصدر صاحب الأذن الثانية أضيق، وهو إلى إفشائه أسرع، وبه أسخى وفي الحديث به أعذر، والحجة عنه أدحض.
ثم هكذا منزلة الثالث من الثاني، والرابع من الثالث أبداً إلى حيث انتهى.
هذا أيضاً إذا استعهد المحدَّث واستكتم، وكان عاقلاً حليماً، وناصحاً وإذاً، فكيف إذا أخبر ولم يؤمر بالكتمان، وكان ممن يمشي بالنمائم ويحبُّ إفشاء المعايب، وكان ممن ينطوي على غشٍّ أو شحناء، أو كان له في إظهاره اجتلاب نفعٍ أو دفع ضرر.
فاللوم إذ ذاك على صاحب السر أوجب، وعمن أفضى به إليه أنزل؛ لأنه كان مالكاً لسره فأطلق عقاله، وفتح أقفاله، وسرحه فأفلت من قيده ووثاقه، وصار هو العبد القنَّ المملوك لمن ائتمنه على سرِّه، وملَّكه رقّ رقبته؛ فإن شاء أحسن ملكته لحفظ ذلك السر فجزّ ناصيته، وجعله رهينةً ليوم عتبه عليه. وقل من يحسن الملكة، ويحرس الحرِّيَّة أو يضبط نفسه؛ فإنه ربما لم يخرجه غِشّاً فأخرجه سخفاً وضعفا. وإن أساء الملكة وختر الأمانة فأطلق السر واسترعاه من هو أشد له إضاعة، فسفك الدم وأنال النعم وكشف العورة وفرق بين الجميع، وإن كان المضيع لسره ألوم. قال الشاعر:
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... فصدر الذي يستودع السر أضيق
فمن أسوء حالً، وأخسر مكاناً، وأبعد من الحزم، ممن كان حرّاً مالكاً لنفسه فصيَّر نفسه عبداً مملوكاً لغيره، مختاراً للرق، من غير أسرٍ ولا قسر! والعبيد لم يصبروا على الرق إلا بذلّ الأسر والسِّباء.
ومن كان سره مصونأً في قلبه يطلب إليه في الحديث به فأخرجه عن يده، صار هو الطالب الراغب إلى من لا يوجب له طاعة، ولا يفكر له في عاقبة، ولا يتحرز له من مصيبة. وكلما كانت إذاعته لأسراره أكثر كان عدد مواليه أكثر، وشقاؤه بخدمتهم أدوم. فإذا كان أصل السر معلوماً عند عدةٍ أو أقل من العدّة، فما أعسر استتاره. غير أنه لا لوم على صاحب الخيانة فيه إذا كان ليس هو الذي أفشاه، ولا من قبله علم.
ولو أن أوزن الناس حلماً ملك لسانه وحصَّن سره وقلَّل لفظه، ما قدر على أن يملك لحظ عينيه، وسحنة وجهه، وتغير لونه، وتبسُّمه أو قطوبه، عند ما يجري بلبه من ذكر ذلك السر، أو يخطر بباله منه، فيبدو في وجهه ومخالبه إذا عرّض بذكره، أو سنح له نظيرٌ أو مثيل، أو حضر من له فيه سببٌ إلا بعد التصنُّع الشديد، والتحفظ المفرط.
فإذا كان يعرف من هذه الجهات وماأشبهها، ويطلع عليها بتظنُّن المرجِّمين، والمتعقِّبين للأفعال والأقوال، والنظر في مصادر التدبير ومخايل الأمور، فيفشو من هذه الجهات أكثر مما تفشيه ألسن المذاييع البذر. فكيف إذا أطلق به اللسان، وعوِّد إذاعته القلب، والعادة أملك بالأدب.
وربما أدركه الحدس، وقيضه الظنّ، فنالت صاحبه فيه خدعة، بأن يذكر له طرفٌ منه، ويوهم أنه قد فشا وشاع، فيصدِّق الظنَّ فيجعله يقيناً، ويفسِّر الجملة فيصيِّرها تفصيلا، فيهلك نفسه ويوبقها.
وربَّ كلامٍ قد ملأ بطون الطوامير قد عُرف جملته وما فيه الضَّرر منه،بسحاءة أو طابع، أو لحظة مطلعٍ في الكتاب، أو حرفٍ تبيَّن من ظهره.
فاستيقظ عند هذه الأحوال، واستعمل سوء الظَّنّ بجميع الأنام؛ فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الحزم سوء الظَّنّ " . وقيل لثقيف: بم بلغتم من الشَّرف والسؤدد؟ قالوا: بسوء الظَّنّ.
فلا تعتمد على رجل في سرِّك تحمد عقله دون أن تحمد ودَّه ونصحه؛ فإنَّ الأمر في ذلك كما قال الشاعر:
وما كلُّ ذي لبٍّ بمؤتيك نُصحَه ... ولا كلُّ مؤتٍ نصحه بلبيبِ
ولقد استحسن الناس من بعض رجال العراق أنه دخل على عبد الملك بن مروان فأوقع بالحجَّاج عنده وسبَّه، فلما خرج من عنده خبَّر بما كان منه لبعض أصحابه، فلامه وأنَّبه وقال: ما يؤمنك أن يخبر أمير المؤمنين عبد الملك الحجاج بما قلت فيه - ومرجعك إلى العراق - فيضغنه عليك؟ قال: كلا، والله إني ما رطلت يدي قط أحداً أرزن منه.
وصدر صاحب الأذن الثانية أضيق، وهو إلى إفشائه أسرع، وبه أسخى وفي الحديث به أعذر، والحجة عنه أدحض.
ثم هكذا منزلة الثالث من الثاني، والرابع من الثالث أبداً إلى حيث انتهى.
هذا أيضاً إذا استعهد المحدَّث واستكتم، وكان عاقلاً حليماً، وناصحاً وإذاً، فكيف إذا أخبر ولم يؤمر بالكتمان، وكان ممن يمشي بالنمائم ويحبُّ إفشاء المعايب، وكان ممن ينطوي على غشٍّ أو شحناء، أو كان له في إظهاره اجتلاب نفعٍ أو دفع ضرر.
فاللوم إذ ذاك على صاحب السر أوجب، وعمن أفضى به إليه أنزل؛ لأنه كان مالكاً لسره فأطلق عقاله، وفتح أقفاله، وسرحه فأفلت من قيده ووثاقه، وصار هو العبد القنَّ المملوك لمن ائتمنه على سرِّه، وملَّكه رقّ رقبته؛ فإن شاء أحسن ملكته لحفظ ذلك السر فجزّ ناصيته، وجعله رهينةً ليوم عتبه عليه. وقل من يحسن الملكة، ويحرس الحرِّيَّة أو يضبط نفسه؛ فإنه ربما لم يخرجه غِشّاً فأخرجه سخفاً وضعفا. وإن أساء الملكة وختر الأمانة فأطلق السر واسترعاه من هو أشد له إضاعة، فسفك الدم وأنال النعم وكشف العورة وفرق بين الجميع، وإن كان المضيع لسره ألوم. قال الشاعر:
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... فصدر الذي يستودع السر أضيق
فمن أسوء حالً، وأخسر مكاناً، وأبعد من الحزم، ممن كان حرّاً مالكاً لنفسه فصيَّر نفسه عبداً مملوكاً لغيره، مختاراً للرق، من غير أسرٍ ولا قسر! والعبيد لم يصبروا على الرق إلا بذلّ الأسر والسِّباء.
ومن كان سره مصونأً في قلبه يطلب إليه في الحديث به فأخرجه عن يده، صار هو الطالب الراغب إلى من لا يوجب له طاعة، ولا يفكر له في عاقبة، ولا يتحرز له من مصيبة. وكلما كانت إذاعته لأسراره أكثر كان عدد مواليه أكثر، وشقاؤه بخدمتهم أدوم. فإذا كان أصل السر معلوماً عند عدةٍ أو أقل من العدّة، فما أعسر استتاره. غير أنه لا لوم على صاحب الخيانة فيه إذا كان ليس هو الذي أفشاه، ولا من قبله علم.
ولو أن أوزن الناس حلماً ملك لسانه وحصَّن سره وقلَّل لفظه، ما قدر على أن يملك لحظ عينيه، وسحنة وجهه، وتغير لونه، وتبسُّمه أو قطوبه، عند ما يجري بلبه من ذكر ذلك السر، أو يخطر بباله منه، فيبدو في وجهه ومخالبه إذا عرّض بذكره، أو سنح له نظيرٌ أو مثيل، أو حضر من له فيه سببٌ إلا بعد التصنُّع الشديد، والتحفظ المفرط.
فإذا كان يعرف من هذه الجهات وماأشبهها، ويطلع عليها بتظنُّن المرجِّمين، والمتعقِّبين للأفعال والأقوال، والنظر في مصادر التدبير ومخايل الأمور، فيفشو من هذه الجهات أكثر مما تفشيه ألسن المذاييع البذر. فكيف إذا أطلق به اللسان، وعوِّد إذاعته القلب، والعادة أملك بالأدب.
وربما أدركه الحدس، وقيضه الظنّ، فنالت صاحبه فيه خدعة، بأن يذكر له طرفٌ منه، ويوهم أنه قد فشا وشاع، فيصدِّق الظنَّ فيجعله يقيناً، ويفسِّر الجملة فيصيِّرها تفصيلا، فيهلك نفسه ويوبقها.
وربَّ كلامٍ قد ملأ بطون الطوامير قد عُرف جملته وما فيه الضَّرر منه،بسحاءة أو طابع، أو لحظة مطلعٍ في الكتاب، أو حرفٍ تبيَّن من ظهره.
فاستيقظ عند هذه الأحوال، واستعمل سوء الظَّنّ بجميع الأنام؛ فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الحزم سوء الظَّنّ " . وقيل لثقيف: بم بلغتم من الشَّرف والسؤدد؟ قالوا: بسوء الظَّنّ.
فلا تعتمد على رجل في سرِّك تحمد عقله دون أن تحمد ودَّه ونصحه؛ فإنَّ الأمر في ذلك كما قال الشاعر:
وما كلُّ ذي لبٍّ بمؤتيك نُصحَه ... ولا كلُّ مؤتٍ نصحه بلبيبِ
ولقد استحسن الناس من بعض رجال العراق أنه دخل على عبد الملك بن مروان فأوقع بالحجَّاج عنده وسبَّه، فلما خرج من عنده خبَّر بما كان منه لبعض أصحابه، فلامه وأنَّبه وقال: ما يؤمنك أن يخبر أمير المؤمنين عبد الملك الحجاج بما قلت فيه - ومرجعك إلى العراق - فيضغنه عليك؟ قال: كلا، والله إني ما رطلت يدي قط أحداً أرزن منه.
هذا والله - أبقاك الله - الغلط البين، والعذر الملفق، وتحسين فارط الخطأ؛ لأنه ليس كل راجحٍ وعاقلٍ بناصحٍ لصاحب السر، ولو كان أخوه كذلك كان أمره إليه أهمّ، وشأنه أولى. والأعلى من الناس لا يكلف الأدنى هذه المؤونة، وإنما يفعلها الأدنون بالأعلين رغبةً ورهباً، وتحسناً عندهم بحاجتهم إليهم.
وأكثر ما يذيع أسرار الناس أهلوهم وعبيدهم، وحاشيتهم وصبيانهم، ومن لهم عليهم اليد والسلطان. فالسر الذي يودعه خليفةٌ في عاملٍ له يلحقه زينه وشينه، أخرى ألا يكتمه. وهذا سبيل كل سرٍ يستودعه الجلة والعظماء، ومن لا تبلغه العقوبة ولا تلحقه اللائمة.
وقال سليمان بن داود في حكمته: ليكن أصدقاؤك كثيراً، وصاحب سرك واحداً من ألف.
وليس معنى الحديث أن تعد ممن تعرف ألفاً وتقضي إلى واحد بسرك إنْ لم يكن ذلك الواحد موضعاً للأمانة في السر. لكنه قيل: رجلٌ يساوي ألف رجل، ورجلٌ لا يساوي رجلاً. وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الناس كإبلٍ مائةٍ لا يوجد فيها راحلةٌ " .
فكل ذلك يراد به أنَّ الفضل قليل والنقص قليل لا على نسب ما يتلقاه الاجتماع من هذه الأعداد؛ لأنَّا قد نجد الرجل يوزن بالأمة، ونجد الأمة لا تساوي قلامة ظفر الرجل.
فإذا كان من تقع عليه الشَّريطة معدوماً - سيما من يوثق بحلمه وعقله، وأمانته ونصحه، ومن لا ضرر عليه ولا نفع له في السر الذي يضمر ولا يحرَّم عليه كتمانه، ومن قد وأى على نفسه بالسِّرِّ والحفظ؛ فإنه ليس كلُّ من ضمِّن فلم يضمن ضامناً، ولا من استودع فلم يقبل مستحفظاً، ولا من استخلف فلم يخلف خائناً، وإنما يلحقه الحمد والذم؛ والأجر والإثم إذا ضمن الأمانة ثم خترها - فكأن القوم قالوا: لا تودعن سرك أحداً. وإلا فمتى تجد رجلاً فيه الصفة التي وصف بها مسكينٌ الدارمى نفسه حيث يقول:
إني امرؤ منِّي الحياء الذي ترى ... أنوء بأخلاقٍ قليل خداعها
أواخى رجالاً لست أُطلِع بعضهم ... على سرِّ بعضٍ غير أنِّي جماعها
يظلون شتى في البلاد وسرهم ... إلى صخرةٍ أعيا الرجال انصداعها
وقيل لرجلٍ: كيف كتمانك للسر؟ قال: أجعل قلبي له قبراً أدفنه فيه إلى يوم النشور.
وقال الآخر: وأكتم السِّرَّ فيه ضربة العنق.
وهذه صفاتٌ موجودةٌ بالأقوال، معدومة بالأفعال. والمغرور من اغتر بما يعده الواعد منها دون أن يبلو الخبر.
والذي جربناه ووجدناه: أن من يفضى إليه بالشيء، يبلغ من إذاعته ونشره ما لا يبلغه الرسول المستحفظ المعنيّ بتبليغ الرسالة، المحمود المجازى على أدائها؛ حتى ربما كان يبلغ في الإذاعة لمن أرادها أن يقصد للبلاغة من الرجال، المعروف بالنميمة والتقتيت، فيوهمه أنه قد استحفظه السرَّ،فيشيع على لسانه كما يشيع الضوء في الظلمة.
وهذا فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أحبَّ أن يشيع إسلامه فقال: من أنمُّ أهل مكة؟ قيل له: جميل بن النحيت. فأتاه فأخبره بإسلامه وسأله أن يكتمه عليه، فلم يُمسِ وبمكة أحدٌ لم يعلم بإسلام عمر، رضي الله عنه.
ثم يكون من أكثر الأعوان على إظهار السرِّ الاستعهاد له، والتحذير من نشره؛ فإن النهي أغرى؛ لأنه تكليف مشقة، والصبر على التكليف شديد، وهو حظرٌ، والنفس طيَّارة متقلِّبة، تعشق الإباحة وتغرم بالإطلاق.
ولعل رجلاً لو قيل له: لا تمسح يدك بهذا الجدار - وهو لم يمسحها به قطُّ - غرى بأن يفعل.
وكذلك ما حُدَّث به من السر فلم يؤمر بستره، لعله ألا يخطر بباله؛ لأنه موجود في طبائع الناس الولوع بكلِّ ممنوع، والضجر بكل محصول.
فنريد أن نعلم: لم صار الإنسان على ما منع - وإن كان لا ينفعه - أحرص منه على ما أبيح من غير علة ولا سبب إلا امتهان ما كثر عليه، واستطراف ما قلَّ عنده؟ ولم أقبل على من ولّى عنه وولَّى عمن أقبل عليه؟ ولم. قالوا: إذا جدَّت المسألة جدَّ المنع؟ وقال الشاعر:
الحر يُلحى والعصا للعبد ... وليس للمُلْحِف مثل الرَّدِّ
ولم صار يتمنَّى الشيء وينذر فيه النذور، ويتقطع إليه شوقاً، فإذا ظفر به صد عنه وأخلق عنه؟ ولم زهد الملوك فيما في أيديهم ورغبوا فيما في أيدي الناس؟
وأكثر ما يذيع أسرار الناس أهلوهم وعبيدهم، وحاشيتهم وصبيانهم، ومن لهم عليهم اليد والسلطان. فالسر الذي يودعه خليفةٌ في عاملٍ له يلحقه زينه وشينه، أخرى ألا يكتمه. وهذا سبيل كل سرٍ يستودعه الجلة والعظماء، ومن لا تبلغه العقوبة ولا تلحقه اللائمة.
وقال سليمان بن داود في حكمته: ليكن أصدقاؤك كثيراً، وصاحب سرك واحداً من ألف.
وليس معنى الحديث أن تعد ممن تعرف ألفاً وتقضي إلى واحد بسرك إنْ لم يكن ذلك الواحد موضعاً للأمانة في السر. لكنه قيل: رجلٌ يساوي ألف رجل، ورجلٌ لا يساوي رجلاً. وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الناس كإبلٍ مائةٍ لا يوجد فيها راحلةٌ " .
فكل ذلك يراد به أنَّ الفضل قليل والنقص قليل لا على نسب ما يتلقاه الاجتماع من هذه الأعداد؛ لأنَّا قد نجد الرجل يوزن بالأمة، ونجد الأمة لا تساوي قلامة ظفر الرجل.
فإذا كان من تقع عليه الشَّريطة معدوماً - سيما من يوثق بحلمه وعقله، وأمانته ونصحه، ومن لا ضرر عليه ولا نفع له في السر الذي يضمر ولا يحرَّم عليه كتمانه، ومن قد وأى على نفسه بالسِّرِّ والحفظ؛ فإنه ليس كلُّ من ضمِّن فلم يضمن ضامناً، ولا من استودع فلم يقبل مستحفظاً، ولا من استخلف فلم يخلف خائناً، وإنما يلحقه الحمد والذم؛ والأجر والإثم إذا ضمن الأمانة ثم خترها - فكأن القوم قالوا: لا تودعن سرك أحداً. وإلا فمتى تجد رجلاً فيه الصفة التي وصف بها مسكينٌ الدارمى نفسه حيث يقول:
إني امرؤ منِّي الحياء الذي ترى ... أنوء بأخلاقٍ قليل خداعها
أواخى رجالاً لست أُطلِع بعضهم ... على سرِّ بعضٍ غير أنِّي جماعها
يظلون شتى في البلاد وسرهم ... إلى صخرةٍ أعيا الرجال انصداعها
وقيل لرجلٍ: كيف كتمانك للسر؟ قال: أجعل قلبي له قبراً أدفنه فيه إلى يوم النشور.
وقال الآخر: وأكتم السِّرَّ فيه ضربة العنق.
وهذه صفاتٌ موجودةٌ بالأقوال، معدومة بالأفعال. والمغرور من اغتر بما يعده الواعد منها دون أن يبلو الخبر.
والذي جربناه ووجدناه: أن من يفضى إليه بالشيء، يبلغ من إذاعته ونشره ما لا يبلغه الرسول المستحفظ المعنيّ بتبليغ الرسالة، المحمود المجازى على أدائها؛ حتى ربما كان يبلغ في الإذاعة لمن أرادها أن يقصد للبلاغة من الرجال، المعروف بالنميمة والتقتيت، فيوهمه أنه قد استحفظه السرَّ،فيشيع على لسانه كما يشيع الضوء في الظلمة.
وهذا فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أحبَّ أن يشيع إسلامه فقال: من أنمُّ أهل مكة؟ قيل له: جميل بن النحيت. فأتاه فأخبره بإسلامه وسأله أن يكتمه عليه، فلم يُمسِ وبمكة أحدٌ لم يعلم بإسلام عمر، رضي الله عنه.
ثم يكون من أكثر الأعوان على إظهار السرِّ الاستعهاد له، والتحذير من نشره؛ فإن النهي أغرى؛ لأنه تكليف مشقة، والصبر على التكليف شديد، وهو حظرٌ، والنفس طيَّارة متقلِّبة، تعشق الإباحة وتغرم بالإطلاق.
ولعل رجلاً لو قيل له: لا تمسح يدك بهذا الجدار - وهو لم يمسحها به قطُّ - غرى بأن يفعل.
وكذلك ما حُدَّث به من السر فلم يؤمر بستره، لعله ألا يخطر بباله؛ لأنه موجود في طبائع الناس الولوع بكلِّ ممنوع، والضجر بكل محصول.
فنريد أن نعلم: لم صار الإنسان على ما منع - وإن كان لا ينفعه - أحرص منه على ما أبيح من غير علة ولا سبب إلا امتهان ما كثر عليه، واستطراف ما قلَّ عنده؟ ولم أقبل على من ولّى عنه وولَّى عمن أقبل عليه؟ ولم. قالوا: إذا جدَّت المسألة جدَّ المنع؟ وقال الشاعر:
الحر يُلحى والعصا للعبد ... وليس للمُلْحِف مثل الرَّدِّ
ولم صار يتمنَّى الشيء وينذر فيه النذور، ويتقطع إليه شوقاً، فإذا ظفر به صد عنه وأخلق عنه؟ ولم زهد الملوك فيما في أيديهم ورغبوا فيما في أيدي الناس؟
فنقول: إن الله تبارك وتعالى جعل لكل نفسٍ مبلغاً من الوسع لا يمكنها تجاوزه، ولا تتسع لأكثر منه. فكان معها فيما دون الوسع الفقر وخوف الإخوان، وفيما تجاوزه عز الغنى وأمن العدم. وبهذا وبمثله من ومن البخل والحرص استخفت من احتاج إليها، وأعظمت من استغنى عنها. وجعلها تواقة مشتاقة، متطرفة ملالة، كثيرة النزاع والتقلب، تستحكم عليها الفتنة، ويبلى خيرها من شرها وصبرها من جزعها. ولولا هذه الخلال سقطت المحن، فهي تعظم القليل بالضرورة إليه إن كان من أقواتها، أو لشدة النزاع والشوق إن كان من طرف شهواتها؛ فإن صنوف الشهوات كثيرة، ولكل صنفٍ منها أهل لا يحلفون بما سواه. وتتعجب من الغريب النادر، ويضحكها البديع الطارئ. إلا أنه إذا كثر الغريب صار قريباً، وإذا تجاوز المطلوب مقدار وسعها وحاجاتها فصار ظهرياً وفضلاً استخفت به وقل في أعينها كثيره. وأعظم الأشياء عندها قدراً ما اشتد إليه الفقر والحاجة وإن قل قدره، وأهونها عليها ما استغنى عنه وإن عظم خطره. وجعل لما تتوق إليه وتشتاقه مكاناً من قواها، له. فإذا امتلأ ذلك المكان سروراً، وقضى ذلك الأرب وطراً مما كان طمح إليه، وروى مما كان ظامئاً إليه، انصرف عنه وقلاه، وحال عشقه بغضاً، وشوقه ملالاً.
والعلة في ذلك أن الدنيا دار زوالٍ وملال، ليس في كيانها أن تثبت هي ولا شيءٌ مما فيها على حالٍ واحدة، وإنما الثبوت الدائم لدار القرار. فالسآمة تلحقها في محبوبها، كما يصيب المنتهي من الطعام والشراب والباه، فإنه ليس شيء أبغض إلى من يتناهى فيه إلى غايته، من النظر إلى ناحيته، فضلاً عن ملابسته، إلى وقت عودة السبب الأول.
فإذا كانت الطبائع تتشابه، ولكل حاسة قوة، فإذا امتلأت تلك القوة من محسوسها لم تجد لها وراءه طعماً ولا ريحاً، وعاد عليها الضرر. فبعض النظر يعمى، والصوت الشديد يصمّ، والرائحة المنتنة تبطل المشم، والأطعمة الحارة المحرقة تبطل حاسة اللسان.
وتتطرف كل واحدةٍ منها؛ فبين الطيب عند من بعد عهده به، والجماع والسماع، وبين من هو مغموسٌ فيه بونٌ بعيدٌ جدا،ً في الحلاوة وحسن الموقع. كل ذلك ما لم يأت المال والعلم؛ فإنه كلما كثر كان أشهى وأعجب؛ لأن قصد الناس له ليس لطلب مقدار الحاجة وسد الخلية كما يريده أهل القناعة والزهادة، وإنما يراد لقمع الحرص، والحرص لا حد له ولا نهاية؛ لأنه سعى لا لحاجة، وإيضاعٌ لا لبغية.
وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أن لابن آدم واديين من ذهبٍ لابتغى إليهما ثالثاً. ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب " .
وقال بعض الحكماء:
من كان لا يغنى بما يغنيه ... فكل ما في الأرض لا يغنيه
قال الله عز وجل: " وتحبون المال حباً جماً " . وقال: " وإنه لحب الخير لشديد " . وقال الشاعر:
والناس إن شبعت بطونهم ... فعيونهم في ذاك لا تشبع
فأما الحديث الذي جاء: " لا يشبع أربعٌ من أربعة: أرضٌ من مطر، وعين من نظر، وأنثى من ذكر، وعالمٌ من علم " . فإن العين لا تشبع في الجملة كما لا يشبع الخيشوم من الاستنشاق. فأما من صنفٍ مما يراه دون صنفٍ، فإنه يشبع ويروى، ويصدف إلى غيره.
وأما العلم فإنه أوسع من أن يحاط به، فمن طلبه لشرفه وفخره فإنه لا حد له ولا نهاية، ولم يزدد له طلناٍ إلا ازداد فيه رغبة. ومن طلب منه مقدار كفايته وحاجته كفاه منه اليسير. على أنه لا يملك من كثر علمه أن يرى فيه الغنى والكبرياء أيضاً. وقد يمل كما يمل كل شيء. وتمل العين أيضاً منه ومن المال.
وقيل: اثنان منهومان: طالب علم وطالب دنيا. وهذه القضية تدل على الخروج عن العقل؛ لأن النهم تجاوز القدر.
وأما الحرص على الممنوع الذي لا ينتفع به، والعجب مما يتعجب من مثله، فليس من أخلاق العقلاء. وما لم يكن في أخلاقهم فلا نظر فيه ولا قياس عليه، وإنما ذلك فعل من استوحش من الحجة، وشرد عن علم العلل والأسباب.
والعلة في ذلك أن الدنيا دار زوالٍ وملال، ليس في كيانها أن تثبت هي ولا شيءٌ مما فيها على حالٍ واحدة، وإنما الثبوت الدائم لدار القرار. فالسآمة تلحقها في محبوبها، كما يصيب المنتهي من الطعام والشراب والباه، فإنه ليس شيء أبغض إلى من يتناهى فيه إلى غايته، من النظر إلى ناحيته، فضلاً عن ملابسته، إلى وقت عودة السبب الأول.
فإذا كانت الطبائع تتشابه، ولكل حاسة قوة، فإذا امتلأت تلك القوة من محسوسها لم تجد لها وراءه طعماً ولا ريحاً، وعاد عليها الضرر. فبعض النظر يعمى، والصوت الشديد يصمّ، والرائحة المنتنة تبطل المشم، والأطعمة الحارة المحرقة تبطل حاسة اللسان.
وتتطرف كل واحدةٍ منها؛ فبين الطيب عند من بعد عهده به، والجماع والسماع، وبين من هو مغموسٌ فيه بونٌ بعيدٌ جدا،ً في الحلاوة وحسن الموقع. كل ذلك ما لم يأت المال والعلم؛ فإنه كلما كثر كان أشهى وأعجب؛ لأن قصد الناس له ليس لطلب مقدار الحاجة وسد الخلية كما يريده أهل القناعة والزهادة، وإنما يراد لقمع الحرص، والحرص لا حد له ولا نهاية؛ لأنه سعى لا لحاجة، وإيضاعٌ لا لبغية.
وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أن لابن آدم واديين من ذهبٍ لابتغى إليهما ثالثاً. ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب " .
وقال بعض الحكماء:
من كان لا يغنى بما يغنيه ... فكل ما في الأرض لا يغنيه
قال الله عز وجل: " وتحبون المال حباً جماً " . وقال: " وإنه لحب الخير لشديد " . وقال الشاعر:
والناس إن شبعت بطونهم ... فعيونهم في ذاك لا تشبع
فأما الحديث الذي جاء: " لا يشبع أربعٌ من أربعة: أرضٌ من مطر، وعين من نظر، وأنثى من ذكر، وعالمٌ من علم " . فإن العين لا تشبع في الجملة كما لا يشبع الخيشوم من الاستنشاق. فأما من صنفٍ مما يراه دون صنفٍ، فإنه يشبع ويروى، ويصدف إلى غيره.
وأما العلم فإنه أوسع من أن يحاط به، فمن طلبه لشرفه وفخره فإنه لا حد له ولا نهاية، ولم يزدد له طلناٍ إلا ازداد فيه رغبة. ومن طلب منه مقدار كفايته وحاجته كفاه منه اليسير. على أنه لا يملك من كثر علمه أن يرى فيه الغنى والكبرياء أيضاً. وقد يمل كما يمل كل شيء. وتمل العين أيضاً منه ومن المال.
وقيل: اثنان منهومان: طالب علم وطالب دنيا. وهذه القضية تدل على الخروج عن العقل؛ لأن النهم تجاوز القدر.
وأما الحرص على الممنوع الذي لا ينتفع به، والعجب مما يتعجب من مثله، فليس من أخلاق العقلاء. وما لم يكن في أخلاقهم فلا نظر فيه ولا قياس عليه، وإنما ذلك فعل من استوحش من الحجة، وشرد عن علم العلل والأسباب.
وإفشاء السر إنما يوكل بالخبر الرائع، والخطب الجليل، والدفين المغمور، والأشنع الأبلق، مثل سر الأديان لغلبة الهوى عليها، وتضاغن أهلها بالاختلاف والتضاد، والولاية والعداوة. ومثل سر الملوك في كيد أعدائهم ومكنون شهواتهم ومستور تدبيراتهم، ثم من يليهم من العظماء والجلة؛ لنفاسة العوام على الملوك، وأنهم سماءٌ مظلة عليهم، أعينهم إليها سامية، وقلوبهم بها معلقة، ورغباتهم ورهباتهم إليها مصروفة. ثم عداوات الإخوان؛ فإنما صارت العداوة بعد المودة أشد لاطلاع الصديق على سر صديقه، وإحصائه معايبه، وربما كان في حال الصداقة يجمع عليه السقطات ويحصي العيوب، ويحتفظ بالرقاع؛ إرصاداً ليوم النبوة، وإعاداً لحال الصريمة.
وقد شكا بعض الملوك تنقيب العوام عن أسرار الملوك فقال:
ما يريد الناس منا ... ما ينام الناس عنا
لو سكنَّا باطن الأر ... ض لكانوا حيث كنا
إنما همهم أن ... ينشروا ما قد دفنا
ولم نرى حب الطعن على الملوك، والتجسس على أخبارهم، وعشق نشر المعايب، واستحلال الغيبة، ظاهراً في طباع الناس لا يكاد ينجو منه أحدٌ منهم إلا من رجح حلمه وعظمت مروءته، وظهر سودده، واشتد ورعه، حتى قال بعضهم: " الغيبة فاكهةُ النساك " .
ورووا عن بعضهم أنه قال: " الفاسق لا غيبة له " .
وقال آخر: " أترعون من ذكر الفاسق؟ اذكروه يعرفه الناس " .
ولم نر الله جل ثناؤه رخص في اغتياب مؤمن، بل ضرب المثل فيالغيبةبأكره ما تكرهه النفوس، وما تختار منه الموت على الحياة، فقال: " ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه " .
واغتياب الناس جميعاً خطة جورٍ في الحكم، وسقوطٌ في الهمة، وسخافة في الرأي، ودناءةٌ في القيمة، وكلفة عريضة، وحسد ونفاسة، قد استحوذت على هذا العالم وغلبت على طبائعهم، وتوكدت لسوء العادة عندهم، ولعلو الشر على الخير، وكثرة الدغل والنغل والحسد في القلوب. فلست ترى منها ناجياً. إما ناظرٌ بعين عدلٍ وإنصاف، فهو يرى ما ينكر فيبدو في وجهه ولسانه. وإما ناظرٌ بعين البغضاء والعداوة فهو كثيراً ما يجد من العيوب في عدوه ما يعينه على التخرُّص عليه فيقويها ويزيد فيها. وإن عدم الحق تقول وقبح الحسن، وزاد في قبح القبيح.
والحديث كله - إلا ما بال به - ذكر الناس، ولغوٌ وخطل، وهجر وهذاع، وغيبةٌ وهمزٌ ولمزٌ.
وقال بعض الحكماء لابنه: يا بنى، إنما الإنسان حديث، فإن استطعت أن تكون حديثاً حسناً فافعل.
وكل سرٍّ في الأرض إنما هو خبرٌ عن إنسان، أو طى عن إنسان، فله في الغيبة أكثر الحظ، وجُلُّها كلفةٌ لا ضرورة، يرى صاحبها أنه قد أهمل محاسبة نفسه، وغفر ذنوبها وألغى عيوبها، وقصد قصد غيره، فتشاغل عما يعنيه بما لا يعنيه، فأنكر أقواله وأفعاله، وهجر تدبيره، وتعجب من مقابحه، وجهد نفسه في تفقد أموره. ليس ذلك عن عنايةٍ بصلاحه، ولا محبة لتقويمه وتهذيبه، ولا أنه مسيطرٌ عليه ولا محمودٌ عنده على ما عنى به من شأنه، بل هو عنده عين المذموم.
وهذا جُلّ حديث البشر وشغلهم في الليل والنهار.
قال بعض الحكماء: فضول النظر تدعو إلى فضل القول، وفضول الخواطر تبعث على اللهو والخطل.
ولو كان الرجل لا يتكلم إلا بما يعنيه، ولا يتكلف ما قد كُفيه، قل كلامه. ولو حكَّم العدل في أموره، وفيما بينه وبين خالقه، وبينه وبين إخوانه ومعامليه، لطاب عيشه وخفت مؤونته والمؤونة عليه؛ فإن الله تبارك وتعالى لم يخلق مذاقاً أحلى من العدل، ولا أروح على القلوب من الإنصاف، ولا أمرَّ من الظلم، ولا أبشع من الجور.
وقال بعض المتقدمين: " إنما يعرف الظُّلم من حُكم به عليه " . ومن استعمل العدل دله على أن الناس يجدون من طعمه وطعم الظلم إذا فعله بهم مثل الذي يجد إذا ظُلم، فكره لهم ما لنفسه، فأنصف ولم يظلم.
ويتظالم الناس فيما بينهم بالشَّره والحرص المركَّب في أخلاقهم، فذلك احتاجوا إلى الحكَّام - وقد أطلق لهم تصريف أخلاقهم وأماناتهم - التي ردت إليهم بالأحكام فيها، ما جنايته عليهم أكثر مما يطالبهم به الخصوم.
وقد شكا بعض الملوك تنقيب العوام عن أسرار الملوك فقال:
ما يريد الناس منا ... ما ينام الناس عنا
لو سكنَّا باطن الأر ... ض لكانوا حيث كنا
إنما همهم أن ... ينشروا ما قد دفنا
ولم نرى حب الطعن على الملوك، والتجسس على أخبارهم، وعشق نشر المعايب، واستحلال الغيبة، ظاهراً في طباع الناس لا يكاد ينجو منه أحدٌ منهم إلا من رجح حلمه وعظمت مروءته، وظهر سودده، واشتد ورعه، حتى قال بعضهم: " الغيبة فاكهةُ النساك " .
ورووا عن بعضهم أنه قال: " الفاسق لا غيبة له " .
وقال آخر: " أترعون من ذكر الفاسق؟ اذكروه يعرفه الناس " .
ولم نر الله جل ثناؤه رخص في اغتياب مؤمن، بل ضرب المثل فيالغيبةبأكره ما تكرهه النفوس، وما تختار منه الموت على الحياة، فقال: " ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه " .
واغتياب الناس جميعاً خطة جورٍ في الحكم، وسقوطٌ في الهمة، وسخافة في الرأي، ودناءةٌ في القيمة، وكلفة عريضة، وحسد ونفاسة، قد استحوذت على هذا العالم وغلبت على طبائعهم، وتوكدت لسوء العادة عندهم، ولعلو الشر على الخير، وكثرة الدغل والنغل والحسد في القلوب. فلست ترى منها ناجياً. إما ناظرٌ بعين عدلٍ وإنصاف، فهو يرى ما ينكر فيبدو في وجهه ولسانه. وإما ناظرٌ بعين البغضاء والعداوة فهو كثيراً ما يجد من العيوب في عدوه ما يعينه على التخرُّص عليه فيقويها ويزيد فيها. وإن عدم الحق تقول وقبح الحسن، وزاد في قبح القبيح.
والحديث كله - إلا ما بال به - ذكر الناس، ولغوٌ وخطل، وهجر وهذاع، وغيبةٌ وهمزٌ ولمزٌ.
وقال بعض الحكماء لابنه: يا بنى، إنما الإنسان حديث، فإن استطعت أن تكون حديثاً حسناً فافعل.
وكل سرٍّ في الأرض إنما هو خبرٌ عن إنسان، أو طى عن إنسان، فله في الغيبة أكثر الحظ، وجُلُّها كلفةٌ لا ضرورة، يرى صاحبها أنه قد أهمل محاسبة نفسه، وغفر ذنوبها وألغى عيوبها، وقصد قصد غيره، فتشاغل عما يعنيه بما لا يعنيه، فأنكر أقواله وأفعاله، وهجر تدبيره، وتعجب من مقابحه، وجهد نفسه في تفقد أموره. ليس ذلك عن عنايةٍ بصلاحه، ولا محبة لتقويمه وتهذيبه، ولا أنه مسيطرٌ عليه ولا محمودٌ عنده على ما عنى به من شأنه، بل هو عنده عين المذموم.
وهذا جُلّ حديث البشر وشغلهم في الليل والنهار.
قال بعض الحكماء: فضول النظر تدعو إلى فضل القول، وفضول الخواطر تبعث على اللهو والخطل.
ولو كان الرجل لا يتكلم إلا بما يعنيه، ولا يتكلف ما قد كُفيه، قل كلامه. ولو حكَّم العدل في أموره، وفيما بينه وبين خالقه، وبينه وبين إخوانه ومعامليه، لطاب عيشه وخفت مؤونته والمؤونة عليه؛ فإن الله تبارك وتعالى لم يخلق مذاقاً أحلى من العدل، ولا أروح على القلوب من الإنصاف، ولا أمرَّ من الظلم، ولا أبشع من الجور.
وقال بعض المتقدمين: " إنما يعرف الظُّلم من حُكم به عليه " . ومن استعمل العدل دله على أن الناس يجدون من طعمه وطعم الظلم إذا فعله بهم مثل الذي يجد إذا ظُلم، فكره لهم ما لنفسه، فأنصف ولم يظلم.
ويتظالم الناس فيما بينهم بالشَّره والحرص المركَّب في أخلاقهم، فذلك احتاجوا إلى الحكَّام - وقد أطلق لهم تصريف أخلاقهم وأماناتهم - التي ردت إليهم بالأحكام فيها، ما جنايته عليهم أكثر مما يطالبهم به الخصوم.
وقال بعض الحكماء: إن من أصعب الأعمال إنصافك في نفسك، ومواساتك أخاك في مالك، وذكر الله. أما إني لا أعنى قول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله - وإن ذلك لم ذكر الله - ولكن ذكره عند ما يعرض من الأمور، فإن كان طاعةً لله فعلته، وإن كان معصيةً لله اجتنبته.
وروي عن بعضهم أنه قال: " ثلاثة في ظل عرش الله يوم لا ظِّل إلا ظله: رجلٌ لم يعب أخاه بعيبٍ فيه مثله حتى يصلح ذلك العيب من نفسه؛ فإنه لا يصلحه حتى يهجم عاى آخر، فتشغله عيوبه عن عيوب الناس. ورجلٌ لم يقدِّم يداً ولا رِجْلاً حتى يعلم: أفي طاعة الله هو أم في معصيته؟ ورجلٌ لم يلتمس من الناس إلا مثل ما يعطيهم من نفسه. أما تحبُّون أن تُنصِفوا " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رحم الله عبداً أنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله، وشغله عيبه عن عيوب الناس " .
وقال عيسى بن مريم: " يا بني إسرائيل أيرى أحدكم القذاة في عين أخيه ويغبى عن الجذع المعترض في عينه " .
وقيل لعيسى بن مريم: ما أفضل أعمالك؟ قال: تركي ما لا يعنينى.
وقال عمرو بن عبيد: أعيتنى ثلاث خلال: تركي ما لا يعنينى، ودرهمٌ من حِلِّه، وأخ إذا احتجت إلى ما في يديه بذله لي.
وما أحق من أحصيت ألفاظه وليس من قولٍ يبدر منه إلا لديه رقيبٌ عتيدٌ، ومن أحصيت عليه مثاقيل الذَّرّ واستشهد عليه جلده وجوارحه أن يضبط لسانه.
وقد جاء في بعض الآثار: من عدَّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلا فيما لا يعنيه.
وكل امرئٍ فحسيب نفسه، غير مأخوذ بغيره، وهو الوحيد دون الأهل والولد والقرابة. وقال الله جّل ثناؤه - وقوله الحق - " كل امرئٍ بما كسب رهينٌ " . وقال: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرُّكم من ضل إذا اهتديتم " .
وليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا مع السيف والسوط.
وقال بعض الحكماء: شيئان لا صلاح لأحدهما إلا بالآخر: اللسان والسيف.
وأنت إذا تأملت أكثر ما يتناجى به المتحدثون وجدت أكثر السائلين يسأل عما لا يعنيه، ويكترث لما لا يكرثه، ويعنى بما لا ينفعه ولا يضره؛ وأكثر المجيبين يجيب ولم يُسأل، ويتكلَّف ما لا يعلم، ولو قال له قائل: من سألك لافتضح، ولو حاجَّه فيما ادعى ووقفه لانقطع. قال الله عز وجلّ: " قلْ ما أسألكم عليه من أجرٍ وما أنا من المتكلفين " .
ومر هشام بن عبد الملك ببعض أهل الكُلفة والفضول، وعليه حُلَّة ذيالة يسحبها في التُّراب، فقال له المتكلف: يا هذا، إنك قد أفسدت ثوبك. قال: وما يضرُّك من ذلك؟ قال: ليتك ألقيته في النار. قال: وما ينفعك من ذلك؟ فأفحمه غاية الإفحام.
ولو تهيأ للمتكلِّفين في كل وقتٍ مثل صرامة هشام لازدجر من به حياءٌ منهم، ولقلت الفضول والكُلف والغيبة.
قالوا: وليس من أحد أذلَّ من مغتاب؛ لأنه يخفي شخصه، ويطامن حسَّه، ويغّض من صوته؛ ولا يزيد بما يناله من ذلك إلا بأن يرفع من قدر خصمه ويعظم من شأنه.
قال معاوية: أتدرى من النبيل؟ هو الذي إذا رأيته هبته، وإذا غاب عنك اغتبته.
وهي لعمري سبيل العظماء عند العوام، والملوك عند الرعية، والسادة عند العبيد.
فلم يأخذ المغتاب ممن اغتابه شيئاً بعضيهته إياه إلا والذي أعطى من الهيبة عند حضوره أكثر منه.
ولو كان المغتاب لا يستتر من الغيبة إلا ممن يخاف سطوته، كان أعذر. ولكن اللؤم المتمكن منه يحمله على اغتياب عبده وأمته، فضلاً عن كفئه ونظيره.
ويغتاب الرجل عند عدوّه والمشاحن له، مساعدةً له بالسخف، وتقرباً إليه بالمهانة والضعف، من غير أن يكون له عليه طول، أو يلتمس منه ما تقرَّب به إليه جزاءً أو شكورا.
ثم لعله ينكفي إلى الذي اغتابه وقصبه من ساعته ويومه، فيعطيه في عدوه الذي اغتابه عنده أيضاً مثل ذلك وأكثر منه ، لا لعلةٍ أيضاً ولا مرفق ولا ربحٍ أكثر من الذِّلَّة التي يجدها في نفسه، والضعف في منَّته، كما يعظِّم الغنيَّ بغير ثمن، ويحتقر الفقير بغير سبب، فمتى كوشف أو عوتب لبسته ذلّةٌ أُخرى من الكظَّة بالمعاذر الكاذبة، والاعتصام بالأيمان الفاجرة. ومن كانت هذه دربته فهو حرى أن يُطَّلع على دخلة أمره، فلا يُقبَل منه عذر، ولا يُصَّق في قولٍ ولا حلف، وقد تسربل الذِّلّة، وتدرع الخضوع.
وروي عن بعضهم أنه قال: " ثلاثة في ظل عرش الله يوم لا ظِّل إلا ظله: رجلٌ لم يعب أخاه بعيبٍ فيه مثله حتى يصلح ذلك العيب من نفسه؛ فإنه لا يصلحه حتى يهجم عاى آخر، فتشغله عيوبه عن عيوب الناس. ورجلٌ لم يقدِّم يداً ولا رِجْلاً حتى يعلم: أفي طاعة الله هو أم في معصيته؟ ورجلٌ لم يلتمس من الناس إلا مثل ما يعطيهم من نفسه. أما تحبُّون أن تُنصِفوا " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رحم الله عبداً أنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله، وشغله عيبه عن عيوب الناس " .
وقال عيسى بن مريم: " يا بني إسرائيل أيرى أحدكم القذاة في عين أخيه ويغبى عن الجذع المعترض في عينه " .
وقيل لعيسى بن مريم: ما أفضل أعمالك؟ قال: تركي ما لا يعنينى.
وقال عمرو بن عبيد: أعيتنى ثلاث خلال: تركي ما لا يعنينى، ودرهمٌ من حِلِّه، وأخ إذا احتجت إلى ما في يديه بذله لي.
وما أحق من أحصيت ألفاظه وليس من قولٍ يبدر منه إلا لديه رقيبٌ عتيدٌ، ومن أحصيت عليه مثاقيل الذَّرّ واستشهد عليه جلده وجوارحه أن يضبط لسانه.
وقد جاء في بعض الآثار: من عدَّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلا فيما لا يعنيه.
وكل امرئٍ فحسيب نفسه، غير مأخوذ بغيره، وهو الوحيد دون الأهل والولد والقرابة. وقال الله جّل ثناؤه - وقوله الحق - " كل امرئٍ بما كسب رهينٌ " . وقال: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرُّكم من ضل إذا اهتديتم " .
وليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا مع السيف والسوط.
وقال بعض الحكماء: شيئان لا صلاح لأحدهما إلا بالآخر: اللسان والسيف.
وأنت إذا تأملت أكثر ما يتناجى به المتحدثون وجدت أكثر السائلين يسأل عما لا يعنيه، ويكترث لما لا يكرثه، ويعنى بما لا ينفعه ولا يضره؛ وأكثر المجيبين يجيب ولم يُسأل، ويتكلَّف ما لا يعلم، ولو قال له قائل: من سألك لافتضح، ولو حاجَّه فيما ادعى ووقفه لانقطع. قال الله عز وجلّ: " قلْ ما أسألكم عليه من أجرٍ وما أنا من المتكلفين " .
ومر هشام بن عبد الملك ببعض أهل الكُلفة والفضول، وعليه حُلَّة ذيالة يسحبها في التُّراب، فقال له المتكلف: يا هذا، إنك قد أفسدت ثوبك. قال: وما يضرُّك من ذلك؟ قال: ليتك ألقيته في النار. قال: وما ينفعك من ذلك؟ فأفحمه غاية الإفحام.
ولو تهيأ للمتكلِّفين في كل وقتٍ مثل صرامة هشام لازدجر من به حياءٌ منهم، ولقلت الفضول والكُلف والغيبة.
قالوا: وليس من أحد أذلَّ من مغتاب؛ لأنه يخفي شخصه، ويطامن حسَّه، ويغّض من صوته؛ ولا يزيد بما يناله من ذلك إلا بأن يرفع من قدر خصمه ويعظم من شأنه.
قال معاوية: أتدرى من النبيل؟ هو الذي إذا رأيته هبته، وإذا غاب عنك اغتبته.
وهي لعمري سبيل العظماء عند العوام، والملوك عند الرعية، والسادة عند العبيد.
فلم يأخذ المغتاب ممن اغتابه شيئاً بعضيهته إياه إلا والذي أعطى من الهيبة عند حضوره أكثر منه.
ولو كان المغتاب لا يستتر من الغيبة إلا ممن يخاف سطوته، كان أعذر. ولكن اللؤم المتمكن منه يحمله على اغتياب عبده وأمته، فضلاً عن كفئه ونظيره.
ويغتاب الرجل عند عدوّه والمشاحن له، مساعدةً له بالسخف، وتقرباً إليه بالمهانة والضعف، من غير أن يكون له عليه طول، أو يلتمس منه ما تقرَّب به إليه جزاءً أو شكورا.
ثم لعله ينكفي إلى الذي اغتابه وقصبه من ساعته ويومه، فيعطيه في عدوه الذي اغتابه عنده أيضاً مثل ذلك وأكثر منه ، لا لعلةٍ أيضاً ولا مرفق ولا ربحٍ أكثر من الذِّلَّة التي يجدها في نفسه، والضعف في منَّته، كما يعظِّم الغنيَّ بغير ثمن، ويحتقر الفقير بغير سبب، فمتى كوشف أو عوتب لبسته ذلّةٌ أُخرى من الكظَّة بالمعاذر الكاذبة، والاعتصام بالأيمان الفاجرة. ومن كانت هذه دربته فهو حرى أن يُطَّلع على دخلة أمره، فلا يُقبَل منه عذر، ولا يُصَّق في قولٍ ولا حلف، وقد تسربل الذِّلّة، وتدرع الخضوع.
وليس من سوس النفس الكريمة الشهمة، أن تلقى الناس بخلاف ما يتخلَّقون به مل لم تأت ضرورة يحتاج فيها إلى كيد وغيلة، أو مكر وحيلة، ويثار بالغيبة فيها الرأي الأصيل من مكانه، فيفعل ذلك العاقل فيما يحل له ويحسن به، بعد أن تعييه الحيلة في استصلاح ذلك العدو بالرفق والملاينة.
وإنما قيل: " قل من اعتذر إلا كذب " ، لكثرة النَّطف في الناس، وضعف أنفسهم على الإقرار بالذنب، فلا ذلَّة الضعف الثاني في الاعتذار نهت عن كلفة الضعف الأول في الاغتياب، ولا كلفة الضعف الأول صانت عن ذلَّة الضعف الثاني.
وعلى أن أكثر من يُعتذر إليه ليس بقابلٍ للعذر على حقيقةٍ وإن أظهر القبول، لما جرَّب من سخاء الناس بالأيمان، وبعدهم من الإقرار بالذنب ما لم تأت حجة واضحة، ودليلٌ شاهد عدل.
وإذا كانت هذه سبيل المعتذَر إليه فيحق على المعتذِر - إن كانت في نفسه قيمة - أن لا يعتذر إلا إلى من يحبُّ أن يجد له عذراً، ولا يعجل إلى المَيْن وهو لا يجد للحجة مكانا.
وأكثر من يُعتذر إليه إنما يُفعل ذلك به خوفاً من سقطته، وإبقاءً لسلطانه.
والمتفقِّهون يتأولون في الأيمان السلطانية ما يُلحق بها عند السلطان التهمة، ويلزمهم الظّنّة، سيما في الأمور التي في الإقرار بها إباحة الدم والمال، وهتك الستر.
ولا حسم لهذا الداء إلا باطراح الفضول، وسلامة اللسان من أن يلغ في الأعراض، ويستسر بالعضيهة والبهت.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " . ومن لم يسلم الناس منه فليس سالماً من نفسه.
وقال القائل: احرس أخاك إلا من نفسه.
وقالوا: مقتل المرء بين فكَّيه.
وكتب على بعض أبواب المدن بالسند: احفظ رأسك.
وقال الأول: قد تصل النِّصال إلى الإخوان فتُستخرج، وأمثال النِّصال من القول إذا وصلت إلى القلب لم تُستخرج أبداً.
وقال بهرام، وسمع في الليل صوت طائر فتحدَّاه بسهم وهو لا يراه، إلا أنه تتبع الصوت فصرعه، فلما صار بين يديه قال : والطير أيضاً لو سكت كان خيراً له! وقيل: ما شيء أحق بطول سجنٍ من لسان.
وقيل: يسأل اللسان الأعضاء في كل يوم فيقول: كيف أنتن؟ فيقلن: بخيرٍ إن تركتنا! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: " وهل يكبُّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم " .
وقال عيسى عليه السلام: " أعمال البر ثلاثة: المنطق، والنظر، والصمت. فمن كان منطقه في غير ذكر الله فقد لغا، ومن كان نظره في غير اعتبارٍ فقدسها، ومن كان صمته في غير تفكّر فقد لها " .
فانظر بأي الأمرين قطعت عمرك؟ أبالحكمة أم باللغو؟ وانظر كيف وصف الله تعالى من أثنى عليه بخير من عباده فقال: " والذين هم عن اللَّغو مُعْرِضون " ، وقال: " وإذا سمعوا اللَّغو أعرضوا عنه " ، وقال: " وإذا مرُّوا باللغو مَرُّوا كراماً " . وصان عنه أسماع أهل الجَّنة وألسنتهم فقال: " لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً. إلا قيلاً سلاماً سلاما " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " العبادة عشرة أجزاء، تسعةٌ منها في الصمت " .
وقال علي بن أبي طالب: " أفضل العبادة الصبر وانتظار الفرج " .
وقال بعض الحكماء: لو لم يكن للصامت في صمته إلا الكفاية لأن يتكلَّم بكلام ويُحكى عنه محرَّفا فيُضطرَّ إلى أن يقول: ليس هكذا قلت، إنما قلتُ كذا وكذا. فيكون إنكاره إقراراً، واعترافه بما حُكى عنه شاهداً لمن وشى به، وادعاءً لتحريفٍ غير مقبول منه إلا أن يأتي ببينة له لكان ذلك من أكثر فضائل الصَّمت.
وربما ذكر رجلٌ الله تبارك وتعالى، فكان ذلك الذكر إثماً له، لأنه قد يُدخله في باب تفخيم الذنب الحقير والإغراء والتحريض، فيسفك الدم الحرام، أو يعظِّم الجرح الصغير. بل ربما ضحك وتبسَّم، فأغْرَى وحرَّض، وأثم وأوبق. قال بعض الشعراء:
فإن شئت أدلى فيكما غير واحدٍ ... مجاهرةً أو قال عندي في سرِّ
فإنْ أنا لم آمُرْ ولم أنه عنكما ... ضحكت له حتى يلجَّ ويستشرى
وقالت العرب: " من كُفِيَ شرَّ لقلقه وذبذبه وقبقبه فقد كُفِيَ الشرّ " .
وإنما قيل: " قل من اعتذر إلا كذب " ، لكثرة النَّطف في الناس، وضعف أنفسهم على الإقرار بالذنب، فلا ذلَّة الضعف الثاني في الاعتذار نهت عن كلفة الضعف الأول في الاغتياب، ولا كلفة الضعف الأول صانت عن ذلَّة الضعف الثاني.
وعلى أن أكثر من يُعتذر إليه ليس بقابلٍ للعذر على حقيقةٍ وإن أظهر القبول، لما جرَّب من سخاء الناس بالأيمان، وبعدهم من الإقرار بالذنب ما لم تأت حجة واضحة، ودليلٌ شاهد عدل.
وإذا كانت هذه سبيل المعتذَر إليه فيحق على المعتذِر - إن كانت في نفسه قيمة - أن لا يعتذر إلا إلى من يحبُّ أن يجد له عذراً، ولا يعجل إلى المَيْن وهو لا يجد للحجة مكانا.
وأكثر من يُعتذر إليه إنما يُفعل ذلك به خوفاً من سقطته، وإبقاءً لسلطانه.
والمتفقِّهون يتأولون في الأيمان السلطانية ما يُلحق بها عند السلطان التهمة، ويلزمهم الظّنّة، سيما في الأمور التي في الإقرار بها إباحة الدم والمال، وهتك الستر.
ولا حسم لهذا الداء إلا باطراح الفضول، وسلامة اللسان من أن يلغ في الأعراض، ويستسر بالعضيهة والبهت.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " . ومن لم يسلم الناس منه فليس سالماً من نفسه.
وقال القائل: احرس أخاك إلا من نفسه.
وقالوا: مقتل المرء بين فكَّيه.
وكتب على بعض أبواب المدن بالسند: احفظ رأسك.
وقال الأول: قد تصل النِّصال إلى الإخوان فتُستخرج، وأمثال النِّصال من القول إذا وصلت إلى القلب لم تُستخرج أبداً.
وقال بهرام، وسمع في الليل صوت طائر فتحدَّاه بسهم وهو لا يراه، إلا أنه تتبع الصوت فصرعه، فلما صار بين يديه قال : والطير أيضاً لو سكت كان خيراً له! وقيل: ما شيء أحق بطول سجنٍ من لسان.
وقيل: يسأل اللسان الأعضاء في كل يوم فيقول: كيف أنتن؟ فيقلن: بخيرٍ إن تركتنا! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: " وهل يكبُّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم " .
وقال عيسى عليه السلام: " أعمال البر ثلاثة: المنطق، والنظر، والصمت. فمن كان منطقه في غير ذكر الله فقد لغا، ومن كان نظره في غير اعتبارٍ فقدسها، ومن كان صمته في غير تفكّر فقد لها " .
فانظر بأي الأمرين قطعت عمرك؟ أبالحكمة أم باللغو؟ وانظر كيف وصف الله تعالى من أثنى عليه بخير من عباده فقال: " والذين هم عن اللَّغو مُعْرِضون " ، وقال: " وإذا سمعوا اللَّغو أعرضوا عنه " ، وقال: " وإذا مرُّوا باللغو مَرُّوا كراماً " . وصان عنه أسماع أهل الجَّنة وألسنتهم فقال: " لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً. إلا قيلاً سلاماً سلاما " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " العبادة عشرة أجزاء، تسعةٌ منها في الصمت " .
وقال علي بن أبي طالب: " أفضل العبادة الصبر وانتظار الفرج " .
وقال بعض الحكماء: لو لم يكن للصامت في صمته إلا الكفاية لأن يتكلَّم بكلام ويُحكى عنه محرَّفا فيُضطرَّ إلى أن يقول: ليس هكذا قلت، إنما قلتُ كذا وكذا. فيكون إنكاره إقراراً، واعترافه بما حُكى عنه شاهداً لمن وشى به، وادعاءً لتحريفٍ غير مقبول منه إلا أن يأتي ببينة له لكان ذلك من أكثر فضائل الصَّمت.
وربما ذكر رجلٌ الله تبارك وتعالى، فكان ذلك الذكر إثماً له، لأنه قد يُدخله في باب تفخيم الذنب الحقير والإغراء والتحريض، فيسفك الدم الحرام، أو يعظِّم الجرح الصغير. بل ربما ضحك وتبسَّم، فأغْرَى وحرَّض، وأثم وأوبق. قال بعض الشعراء:
فإن شئت أدلى فيكما غير واحدٍ ... مجاهرةً أو قال عندي في سرِّ
فإنْ أنا لم آمُرْ ولم أنه عنكما ... ضحكت له حتى يلجَّ ويستشرى
وقالت العرب: " من كُفِيَ شرَّ لقلقه وذبذبه وقبقبه فقد كُفِيَ الشرّ " .
وهذا بابٌ لولا أن نشغل القارئ لهذا الكتاب بغير ما قصدنا إليه وعزمنا عليه لأتينا عليه. وهو كثير موجودٌ لمن طلبه، وجملةٌ واحدة فيها كفاية؛ فإنما تختلف الألفاظ التي تُجعل كسوةً لتلك المعاني. وإلا فإنّك إذا نظرت إلى جميع شرور الدنيا وجدت أولها كلمة عارت فجنت حرباً عوناً. كحرب بكر وتغلب ابنى وائل، وعبسٍ وذبيان ابنى بغيض، والأوس والخزرج ابنى قَيْلة، والفِجار الأول والثاني، وعامة حروب العرب والعجم.
وإذا تأملت أخبار الماضين لم تُحص عدد من قتله لسانه وكان هلاكه في كلمةٍ بدرت منه.
وليس العجب ممن أفضى بسرِّه إلى من ليس له بموضعٍ، ممَّن تقدَّمت معرفته وزالت الشكوك عنه في أمره؛ ولكنَّ العجب عين العجب ممن استنام بسرِّه إلى من لم تقدم معرفته ومن أنس إليه عن اللِّقاءة واللِّقاءتين، دون معرفة العين والاسم، والسبب والنسب، فانخدع في أوّل وهلة وغُبِن عقله قبل أن يُغبَن دينه وماله، وتضاعفت عليه البليّة بطول الحسرة؛ فإنَّ البلاء عارضٌ ومكتسب، فكان العارض السَّماوى وما خوَّلته الأقدار سرّاً بعد اجتهاد صاحبه رأيه، وحيلته في طلب الخير. وصواب تدبيره فيه أسهل وأيسر على العاقل المعتاد للصواب، وإن كان كل مكروه مرّاً بشعاً. وإنما الكرب اللازم والداء العياء ما اجتمع على صاحبه مع الفجيعة والحاجة، والنَّقص والذِّلّة، غمُّ النَّدامة والأسف على ما فرط منه؛ إذ كان الجانى على نفسه بيده.
ولهذا الكلام نظرُ نكره التطويل به، والمعنى واحدُ، وإنما نحتاج من هذا ومثله - مما قدمنا ذكره في الكتاب - إلى حفظ السرّ ووزن القول. وإلى هذا أجرينا، وله قصدنا.
ولو اقتصرنا في هذا الكتاب على حرفٍ مما فيه، لكان بإذن الله كافياً لمن له لُبٌ وعقل، لكن الاحتجاج أوكد، والإيضاح أبلغ، والحظَّ في هذا القول كله لمن عقله والآخذ به، أوفر منه لمن قاله ولم يعمل بقوله؛ لأنه إنما يجتنى ثمرة الصواب، ويختلف برفقه من صدَّق قوله بفعله؛ فإن الحكمة قول وعمل، وإنما حظُّ القائل ما لم يستعمل علمه وقوله حظُّ الواصفين؛ وحسن الصِّفة يزول بزوالها، وينقطع بانقطاعها؛ ومدتها - إلى أن يملها القائل والسامع - يسيرة.
والأفعال المحمودة متصلة النفع والشرف والفضيلة في الحياة وبعد الوفاة، ومذخورٌ للأعقاب، وحديثٌ جميلٌ، ونشرٌ باقٍ على مرِّ الجديدين. وأكثر من ذلك كله توفيق الله وتسديده؛ فإن القلوب في يده، والخيرات مقسوماتٌ من عنده. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
تم كتاب كتمان السر من كلام أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، بعون الله وتأييده، ومشيئته وتوفيقه. والله الموفق للصواب برحمته.
والحمد لله أولاً وآخراً، وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله الطيبين الطاهرين وسلامه.
وإذا تأملت أخبار الماضين لم تُحص عدد من قتله لسانه وكان هلاكه في كلمةٍ بدرت منه.
وليس العجب ممن أفضى بسرِّه إلى من ليس له بموضعٍ، ممَّن تقدَّمت معرفته وزالت الشكوك عنه في أمره؛ ولكنَّ العجب عين العجب ممن استنام بسرِّه إلى من لم تقدم معرفته ومن أنس إليه عن اللِّقاءة واللِّقاءتين، دون معرفة العين والاسم، والسبب والنسب، فانخدع في أوّل وهلة وغُبِن عقله قبل أن يُغبَن دينه وماله، وتضاعفت عليه البليّة بطول الحسرة؛ فإنَّ البلاء عارضٌ ومكتسب، فكان العارض السَّماوى وما خوَّلته الأقدار سرّاً بعد اجتهاد صاحبه رأيه، وحيلته في طلب الخير. وصواب تدبيره فيه أسهل وأيسر على العاقل المعتاد للصواب، وإن كان كل مكروه مرّاً بشعاً. وإنما الكرب اللازم والداء العياء ما اجتمع على صاحبه مع الفجيعة والحاجة، والنَّقص والذِّلّة، غمُّ النَّدامة والأسف على ما فرط منه؛ إذ كان الجانى على نفسه بيده.
ولهذا الكلام نظرُ نكره التطويل به، والمعنى واحدُ، وإنما نحتاج من هذا ومثله - مما قدمنا ذكره في الكتاب - إلى حفظ السرّ ووزن القول. وإلى هذا أجرينا، وله قصدنا.
ولو اقتصرنا في هذا الكتاب على حرفٍ مما فيه، لكان بإذن الله كافياً لمن له لُبٌ وعقل، لكن الاحتجاج أوكد، والإيضاح أبلغ، والحظَّ في هذا القول كله لمن عقله والآخذ به، أوفر منه لمن قاله ولم يعمل بقوله؛ لأنه إنما يجتنى ثمرة الصواب، ويختلف برفقه من صدَّق قوله بفعله؛ فإن الحكمة قول وعمل، وإنما حظُّ القائل ما لم يستعمل علمه وقوله حظُّ الواصفين؛ وحسن الصِّفة يزول بزوالها، وينقطع بانقطاعها؛ ومدتها - إلى أن يملها القائل والسامع - يسيرة.
والأفعال المحمودة متصلة النفع والشرف والفضيلة في الحياة وبعد الوفاة، ومذخورٌ للأعقاب، وحديثٌ جميلٌ، ونشرٌ باقٍ على مرِّ الجديدين. وأكثر من ذلك كله توفيق الله وتسديده؛ فإن القلوب في يده، والخيرات مقسوماتٌ من عنده. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
تم كتاب كتمان السر من كلام أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، بعون الله وتأييده، ومشيئته وتوفيقه. والله الموفق للصواب برحمته.
والحمد لله أولاً وآخراً، وصلواته على سيدنا محمد نبيه وآله الطيبين الطاهرين وسلامه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق