الأحد، 24 أبريل 2016

اليأس طوق نجاة


اليأس طوق نجاة


اليأس سلاح فتّاك، ولكن لا أحد يعرف بالضبط حركته. فلليأس قدرة على التحوّل من النقيض الى النقيض! قد يقضي على اليائس نفسه عبر الاستسلام، ولكنه قد يقضي، أيضاً، على مولّد اليأس. فاليأس كالموت ليس له قاعدة يسير عليها، أو قل إنّ قواعد اليأس كقواعد الموت أكثر من أن يحصرها حاصر، وهذا ما يضمره بيت شعر يقول:

كم من عليل قد تخطّاه الردى    فنجا! ومات الطبيب والعوّد

وبما ان اليأس سلاح مسنون الشفرة، فهو يدخل ضمن الأسلحة التي تخاض بها الحروب الدامية. فمن الجرح قد تنبثق قوّة مدمّرة لا يمكن صدّها. وحول هذه النقطة قصص وروايات كثيرة، فلا تخلو معركة من استخدام هذا السلاح رغم أنّ مفعوله، أحياناً، يكون في مستوى مفعول اسلحة الدمار الشامل. وهذا السلاح، سلاح اليأس، قد يستعين به من يحبّك لينصرك به على نفسك، يستعين به من يحبّك ليخرجك من الرمال المتحركة للروح الانهزامية التي تبتلعك، ويوطّد اركانك المتداعية بعزيمة مستولدة من طينة اليأس. قد يتطلب شعورك بالهزيمة الى جرعة زائدة من اليأس لتخرج من شعورك المهزوم!

كنت قد قرأت حكاية من التراث الصينيّ القديم، عن جنرال كان التيئيس أحد أمضى أسلحته، ليس تيئيس من يحاصره وانما تيئيس شعبه المحاصر! كيف تنقذ شعباً محاصراً في مدينة، يعضّه الجوع، ومعنوياته في الحضيض، من الاستسلام للفاتح؟ الفاتح لعوب، يمدّ  لك حبل الرجاء ليوهمك أنّه طوق النجاة ولكن هذا الحبل لا تعرف في أيّ لحظة يلتفّ حول رقبتك. يغري أعصابك بالاستسلام، يمنّي نفسك بالخلاص من عبء الحصار العظيم. والفاتح، أيضا، جائع ولا تعرف كيف، ولا متى يلتهمك‍!

ماذا يفعل جنرال عسكريّ في مدينة محاصرة، وجنوده يتعتعهم الشعور بالانهزام، والمدنيّون يجأرون بالشكوى؟ الحرب خدعة، والحرب حرباء! حين تنعدم فرص النصر تتعزّز، أحياناً، فرص النصر! أشدّ اللحظات حلكة قد تفرج عن ضوء باهر. كلّ العوامل السلبية قد تتحوّل إذا ما أحسن استخدامها وتوظيفها إلى فرص إيجابية وذهبيّة لا تعوّض، فرص قد لا تسنح الأيام العادية بشبيه لها.

قرّر الجنرال الذي تهدده الهزيمة من الداخل والخارج أن يقاوم لينتصر، وأن يقاوم رغبة شعبه في الاستسلام. ولكن قد يتحوّل من هو معك في لحظات كهذه الى حجر عثرة، وقد ينقلب عليك ليريح نفسه من عنادك القاتل. هنا قرّر الجنرال أن يقلب أصول اللعبة، أن يقوم بتغيير مشاعر شعبه، وذلك بزرع اليأس لا الصبر في نفوس أهل مدينته، للصبر حدود بخلاف اليأس! فاستعان على ذلك بجواسيس تساعد جيش العدوّ الذي يسيل لعابه إلى أن يمارس الشدّة أكثر مع شعبه، اللين مخادع. لقد قرّر استخدام الأسرى الذين وقعوا في يد العدوّ كما لو أنهم حصان طروادة أو كبش محرقة. وراح يلعب بسلوك شعبه وسلوك خصمه على السواء. كان ذهنه بارعاً في اللعب كبهلوان. كانت أعصاب خصومه وحلفائه كالأُكَر بين يدي لاعب خفّة! في كلّ حرب ضحايا وشهداء وجبناء وأشدّاء، ولكن الجنرال قرّر أن يتحالف مع الجبناء للتمويه وتوصيل رسائل مفخّخة. كان يسمح للجبناء بالهروب. الجبان ثرثار، لا يفكّر الاّ بنفسه. تعامل القائد المحاصر مع الذين يفرّون بحنكة ودهاء، فليفرّ الجبان، ولكن فراره قد يكون ضعفاً لي وقد يكون أحد عناصر قوّتي هكذا قال الجنرال. الجبن ضعف، ولكن الضعف، في نفس الوقت، قوة مرهوبة الجانب كاليأس. اليأس ضعف، ولكن هل هو ضعف دائماً؟ كلّ المشاعر كالماء، يمكن أن تلعب بها كما تلعب بالماء، الماء وديع كحمل ولكنّه جبّار في لحظة مجنونة. الشعور الواحد يتشعّب إلى مسالك كما النهر الواحد يتفرّع ألى أذرع تشبه أذرع الأخطبوط في مسيره المديد.

المعلومة أحبولة، واللعب بالمعلومة لعب بأشياء أخرى تتعدّاها. كان الجنرال يبثّ عبر الفارّين من جنده وشعبه ما مفاده ان شعبه يخاف أن يقوم الجيش المحاصر بجدع أنوف الأسرى صَلْمِ آذانهم. كان الجنرال يغري الخصم بأن يقوم بأعمال تثير الرعب في نفوس المحاصرين. وسرعان ما قام العدوّ بتنفيذ ما سمع من الفارّين، ثمّ قام بعرض الأسرى المشوهّين ليكونوا عبرة لمن يعتبر. هل كان الجنرال يحثّ المحاصِرين على القيام بهذه الأمور المحبطة؟ ماذا يفعل شخص يرى من يحبّ وقد جدع أنفه وصلمت أذناه؟ سوف يخاف المآل نفسه، قد يتضعضع اكثر، قد يثور على الجنرال الذي لا يستسلم لإنقاذ شعبه. ولكن الجنرال كان يتوخى أمرا آخر. كان يريد رفع منسوب الغضب، في نفس اليائسين. لليأس أعداء كثيرون، وحلفاء كثيرون، والغضب النابت من تضاعيف اليأس بطّاش. بين شخص لا يحبّ أن يموت وشخص يركض إلى الموت ركضاً فرق كبير. أحيانا تخاف ممّن لا يخاف ولكن، في بعض الأحيان، تخاف ممّن يخاف أكثر. من لا يخاف يتصرّف، إلى حد بعيد، بعقلانية، أمّا من يخاف فإنه أحياناً يتصرّف بلاعقلانيّة أو طيش يربك خططك! واللاعقلانية لا يمكن لك ان تتنبأ بسلوكها، تزول الحدود بين المتوقّع واللامتوقّع ويختلطان في كتلة واحدة لا يأمن  سلوكها.

بين الحياة والموت علاقة رهيبة. والموت جبّار، وللموتى قدرات هائلة، أغلب كتب التاريخ تحكي عن الأحياء وبطولاتهم، ولكنها نادرا ما تكلمت كتب التاريخ على بطولات الموتى، وقدرتهم على اللعب بمشاعر الاحياء. كان الجنرال الصينيّ يعرف تماماً تلك العلاقة الحميمة التي يقيمها الصينيّ مع موتاه. هل ننسى ما يسمى " عبادة الأسلاف" في المعتقد الصيني، أو بتعبير آخر عبادة الموتى؟ وكلّ الشعوب لها صلة ما مع الموتى صلة غريبة المكنون. ومن الطريف في الحضارة الفرعونية ، مثلاً، ان يكون كتابهم الذي يرقى الى مستوى القداسة بعنوان "كتاب الموتى". كما اننا نعرف حتى في أيامنا العربية الحالكة هذه سلطان أضرحة الأولياء ومقامات أهل الكرامات على توليد مشاعر لا يمكن بالهيّن ضبط مسارها الدامي.

أشاع الجنرال معلومة مغلوطة مفادها ان شعبه ينهار في حال تمّ تدنيس أضرحة اسلافه. وما ان تناهت هذه المعلومة الى مسامع الجيش المحاصر حتى قام بنش القبور وهتك أعراض العظام المبجّلة. بدأ الجنرال يحصد ما زرع، ما رآه شعبه لا يحتمل، بلغ الغضب من الجيش المحاصر ذراه. انهم لبرابرة لا يحترمون حتى عظام الموتى. راح الجنرال ينمّي هذا الشعور، غيّر طبيعة شعبه، فلم يعد يريد ان يحارب أو يستسلم لقضاياه الشخصية، صار الخطب أجلّ، صار الشعور الجديد، والمبادىء هي المحرّك. هنا، قرّر الملك استثمار غضب شعبه الحاشد فقام بفتح أبواب مدينته لشعبه ليقاتل مدنس الاسلاف، فتدفّقوا كالسيل العرم من الأبواب ومن فوق الأسوار ، وقاتلوا بكلّ ما بثّه الجنرال من مشاعر خلقها هو بنفسه. لقد تحكم بسلوك العدوّ ليتحكّم بسلوك شعبه وجيشه، وتحقّق له ما أراد من انتصار كان يعتبر لأيّام قليلة خلت من سابع المستحيلات في نظر الغالبية من شعبه وجيشه.

ولكن من قال إنّ المستحيل لا يروّض كأيّ وحش من الوحوش الضارية؟

بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق