لا تخلو بداياتُ الشِّعْرِ العربيّ (كَكُلِّ
البدايات) من إشْكالٍ لم يُحْسَمْ، إلى اليوم، أمرُه، وهو ما يعرف بـ"قضيّة
الانتحال" أيْ نسبة الشِّعْر إلى غير قائله، وليس ذلك من باب الجهل والغفلة وإنّما عن قصد مبيّت خبيث ومعرفة مسبقة بكون الانتحال قد يكون مصدر رزق. فالإنسان
العربيّ القديم كان يعتمد في نقل معارفه من حِكَمٍ وأَمثالٍ وأشْعارٍ على المُشافَهَةِ
والذاكرة وألسنة الرواة لانعدام الكتابة في ذلك الزمن، أوْ لأنّ الكتابة كانت لا
تزال غريبةَ الاستعمال في خيام العرب، إذْ إنّها لم تدخلْ في طقوس حياتِهم ومعارفِهم
بشكلٍ فاعل إلاّ بعد مجيء الإسلام. والذين كانوا يعرفونَ استخدام الكتابة أقلّ منْ
أنْ يقدروا على تغيير تقاليد العرب مع ذاكرتهم أو أفواههم. والكتابةُ نفْسُها خَؤُوْنٌ
فما بالُكَ بالذاكرة؟ ومن يتفحّص دلالةَ مفردتَيْ "التصحيف" و"التحريف"
وعلاقتهما بجذْريهما يدرك الأضاليلَ والأغاليط
المُمْكِنَ إدراجُها في الصُّحُفِ عن طريق نَزَقِ الحروف وترهّل الذاكرة.
ومن خيانات
الذاكرة أنّها تنسى وتقاوم الاعتراف بالنسيان فتقوم، أحياناً، بسدّ فجوات الذاكرة باختراعاتٍ
من "بنات" أفكارها دون أن تدري(الحدود بين الذكريات الأصلية والذكريات
المُخْتلَقة، كما يرى علم النفس، ليست دائماً واضحة لدى من يقوم بفعل التذكّر!).
وما مكّن، في أي حال، من احتمال الانتحال، قديماً، خبثُ الذاكرة ومكْرُ المكتوب.
وكان من بين
المَهَرَةِ في الانتحال الراوية الشهير خَلَفٌ الأحمرُ (أحدُ
أساتذةِ الشاعرِ الماجنِ أبي نواس) وهو، بحسب ما تقول الروايات، شديدُ الذَّكاء
والخبث في آن. وكان ينكبّ على تأليف القصائد ومن ثمّ ينسبها إلى الآخرين، وتحديداً
شعراء العصْر الجاهليّ أيْ إلى الشعراء المتوفّيْن، وهم عاجزون، بحُكْمِ مَوْتِهم،
عن فضحه وكشفِ مُفْتَرَياتِهِ ووَقْفِ أَلاعيبِه بأسمائهم وأشعارِهم. وهو، لتمرير
الانتحال، لم يكنْ يعترفُ بأنّه شاعر. عاش وهو يُخَبِّىءُ أوْ يقمعُ مقدرتَه
الشعريّة الفذّة، إذْ من شروطِ بعضِ المهنِ ادّعاءُ العجزِ كما يفعل بعض
المُتَسَوِّلين.
لقد قام خلفٌ الأحمرُ بوأْد مَلَكَتِهِ الشِّعْريّة حتّى
يتيسَّرَ له أمرُ ممارسةِ الغشّ، والتَّدْليس، والتَّمْويه. وكان يُضْرَب به المثل
في تزييف الشِّعْر، "وكان يعملُ على ألسنةِ الناس فيشبِّه كلَّ شِعْرٍ يقوله
بشعرِ الذي يضعه عليه" بحسب ما ورد في عبارة لأبي الطيّب اللغويّ. ولا رَيْبَ
في أنّ التقليد الذي يُضاهي الأصْل ليس في مُتَناوَل كلِّ لسان، إذْ ليس من السَّهْل
أنْ يتشرّبَ إنسانٌ ما أسلوبَ شخصٍ آخَرَ، أو أن
يندسّ في لسانه إلاّ أنّ خَلَف الأحمر كان يملك تلك المقدرةَ
الحَرْبائيّةَ في محاكاة التراكيب والأساليب فلا يتميّز ما يخترعه من شعرٍ لأنّه كان
يُشاكِلُ الأصْلَ مُشاكَلَةً تامَّةً تَخْفى حتّى على جَهابِذَةِ النَّقْد
ورجالاتِه، ثمّ يقوم بإدراج قصائده في دواوين الشعراء الراحلين. وكثيرة هي القصائد
التي يقال إنّه قطع أواصرَه معها رغم كونها
من " صُلْبِه" وبنات أفكاره و" نَسَبَها " لغيرِه،
منها قصيدةٌ طائرةُ الشُّهْرةِ للشَّنْفَرَى يقول فيها:
أَقيموا بَني أُمّي صُدورَ مَطِيِّكم فإِنِّي،
إلى أَهْلٍ سِواكُم، لأَمْيَلُ
وأُخرى للنابغةِ منها هذا البيت:
خَيْلٌ صِيامٌ، وخَيْلٌ
غيرُ صائِمَةٍ تَحْتَ القَتامِ، وأُخْرى تَعْلِكُ اللُجُما
إلاّ أنّه خاف، حين أوشكت شمسُ عمرِه على المغيب،
عاقبةَ الانتحال، وفضّل فضيحة الدنيا على فضيحة محكمة الآخرة، فتاب توبةً نصوحاً
بحسب ما يقال. وأراد أنْ يصحِّح الأخْطاء التي سَوَّدَ بها وَجْهَهُ وصفحاتِ ماضيه
ودواوين الشعراء، وإنْ كانت التوبةُ مَحْواً فهو قرّر أنْ يمحوَ وِزْرَ الشِّعْرِ الذي
نَسَبَهُ، زَيْفاً، إلى الآخرين، غَيْرَ أنّ الشِّعْرَ لا يبقى حَبيسَ الأوراق
والأمكنة وإلاّ كانَ سَهْلاً عليه أنْ يحرُقَه وكأنّه شيءٌ لم يكنْ. ولكنْ أنّى له
أنْ يمحوَ ما ألِفَتْهُ الأسْماع، وتناقلته الأفْواه، وصار جزءاً حميماً من ذاكرة
الناس الشعريّة، وتصوّراتهم الذاتيّة حول هذا الشاعر أو ذاك؟ وعليه فإنّ معركته
صارتْ مع محفوظاتِ ذاكرة الآخرين، وهي معركةٌ قاسيةٌ لأنّ النسيان، عند التجرِبة، أشقُّ
بكثيرٍ من الحفظ، وخَلَفٌ الأحمرُ يعرف أكثرَ من غيره أنّ آلامَ الذاكرة، وأنتَ تستأصلُ
منها محفوظاتِها، أشبهُ بآلام النَّزْعِ أو نَزْعِ السِّهام.
قرّر خلفٌ الأحمرُ أنْ يعلنَ على أهل الكوفة أنّه
كان، فيما مضى، كذّاباً، خدّاعاً، لاعباً بأسماعهم، يؤلِّف القصائد ويَنْسِبُها
إلى غيره وأنْ يعترفَ لهم بما اقترفه لسانُه المَوّارُ بالكذب من مُوْبِقاتِ
الانتحال. وراح يسرد عليهم الأشعار التي دَسَّها في دواوين الشعراء، لكنّه أصيب،
في نهاية اعترافاته، بالخيبة والذهول حين رفض أهل الكوفة كلامَه واعترافاتِه
قائلينَ له:" أنتَ كنتَ عندنا، في ذلك الوقت، أوثقَ منْكَ السَّاعةَ".
فهم يكذّبون صدقه ويصدّقون بل يستعذبون كذبه.
ومن حقِّ خَلَفٍ الأحمرِ أنْ يستغربَ ردَّ فعلِ أهلِ
الكوفةِ على اعترافاته باللعب في أشعار الآخرين لأنّه ردُّ فعلٍ رَفَضَ أنْ يتقبّلَ
الحقيقة الصادمة لذاكرتهم، وأَبى أنْ يميِّزَ بين الصِّدْق والكذب، فهو حين كان كَذّاباً
كان، في نظرهم، صادقاً، وحين قرّر ان يكون صادقاً مع نفسه ومعهم عُدَّ كذّاباً
لأنّه بهذا يزعزع مألوفهم مع المسموع. ولا تزال كلماتُ خَلَفٍ الأحمرِ إلى اليوم تُقيم،
قَلِقَةً، على تُخوم الصّدْق والكذب، وهي تخومٌ ، في أيِّ حال، مَطّاطةٌ ومُضَلِّلَةٌ،
وليس بقدرة أيِّ مَسّاحٍ لجغرافية الشِّعْر ترسيمُها خصوصاً أنّ تُخومَ الكلامِ
غيرُ تُخومِ الأقاليم، وأنّ التخوم
الهشّة الفاصلة بين
الحقيقة والكذب ليست دائماً واضحة المعالم.
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق