استمر هطول المطر لعدة أيام متواصلة حتى انتشرت رائحة العفن في كل من الملابس واللحاف القطنى وأصبحت رائحتها لاتطاق.تقلب لين تشيو على السرير وتنهد فى حزن قائلا "الشيخوخة هى النهاية"،مشيعا روح من اليأس والأحباط فى مثل هذه البيئة ومثل هذا الطقس كان لكل شخص مايشغله ويلهيه، فمن يبالى بكلامه الجالب لسوء الحظ هذا!
حتى الأشخاص الذين ينامون بجواره انفضوا من حوله .كنت أستلقى بجواره اقرا كتابا وشعرت ان صوته حاد جدا وازدت تأففا حتى لم استطيع مواصلة القراءة .قال له تساى العجوز مقطبا جبينه
-"هاأنت قد تجاوزت الأربعين بقليل وتتفوه طوال اليوم بتلك العبارة "الشيخوخة هى النهاية" .فانظر الى يانج العجوز فهاهو يكبرك بعشرين عاما وسرعان ماسيكمل عامه الستين ومازال ينبض بالحيوية والنشاط،بل مازال يعمل ويدرس معا بلا يأس ولا استسلام"
انصرف تساى العجوز بعد هذه الجملة،وبالطبع لم استطيع التحمل أكثر من ذلك فاستقمت قائما فى الفراش ونحيت الكتاب جانبا وتناولت نظارتى واخذت أنظر اليها ثم نظرت فجأة فرأيت الدموع تنساب من عينيه مكونة خطوطا على كلا وجنتيه ونزلت قطرات منها على الفراش ،انها حالة من الضيق والحزن وعدم الشعور بالرضا .ومن ثم فقد تعاطفت معه وبادرته سائلا
-"هل تشعر بالمرض؟" فقد اعتقدت انه ربما يكون مريضا
- قال"منذ عدة أيام وخصرى يؤلمنى مع الم فى عظام الظهر ولا أشتهى الطعام"
فى الواقع كان لون وجهه شاحبا بدرجة مرعبة فهو يتمدد طوال اليوم على الفراش ويتقلب يمنه ويسره، ولم يكن لديه حتى القليل من الطاقة.أسرعت الى الخارج على الفور مستدعيا الطبيب ليراه .أخذ الطبيب يفحصة لمدة طويلة ولكنه لم يجد به اى عله ومن ثم فقد اخذ يوجه اليه العديد من الأسئلة
-"هل تؤلمك معدتك ؟هل اصبت بالأسهال ؟هل يؤلمك حلقك ؟هل تشعر بالسعال؟"
-"لا، اننى اشعر فقط بألم فى الخصر وفى فقرات الظهر"
أخذ الطبيب يسأل عن هذا وعن ذاك حتى فحصه من رأسه الى أخمض قدميه،ولم يعرف سببا لمرضه.لم يجب لين تشيو سوى ب"أحرك أطرافى الأربعة بصعوبة،يؤلمنى رأسى مع ألم فى فقرات الظهر"وفى النهاية تنهد قائلا"الشيخوخة هى النهاية"
نفذت الحيل من الطبيب ،وعندما هم بالمغادرة ضحك قائلا لى "اعطيه بعض الفيتامين وسنرى بعد ذلك
صحبت الطبيب إلى الخارج وأخذت أطرح الأسئلة حول مرض لين تشيو،فقال لى
-"هو مرض فقر الدم ولكن يجب علينا اولا ان نعرف مصدر هذا المرض ،يمكننا أن نجرى فحصا كاملا على الجسم من فحص للجهاز التنفسى وأمراضه ،والجهاز الهضمى وأمراضه .....الخ.فهناك العديد من الأمراض التى تسبب مرض فقر الدم ولكن فى هذه المنطقه تعتبر الديدان الطفيلية اهم مسبباته كدودة الأنسيلوستوما والدودة المدورة والدودة السوطية.....الخ كلها تسبب نفس المرض
أخذت بنصيحة الطبيب، وأسرعت على الفور باحضار علبة فارغة من الكبريت واعطيتها للين تشيو وأخبرته انه عندما يذهب الى الحمام عليه ان يضع القليل من البراز فيها وان يأخذها بعد ذلك للشؤون الصحية لأجراء الفحص .كان موظفو الشؤون الصحية كلهم زملاء وكانوا كلهم جادين وحللو العينة ثلاث مرات متواصلة ولم يجدوا اى اثر للديدان الطفيلية
-"غريب جدا" قال الطبيب مائلا برأسه مفكرا،ولم يستطيع الخروج بأى نتيجة وقال فى النهاية
-"عودوا مرة أخرى عندما يكون لدى متسع من الوقت عندها يمكننا اجراء الفحوص مرة ثانية.
استعرت كتابا يتحدث عن حياة الحشرات وكان مشوقا جدا ولكن لم يكن أمامى سوى يومين للأنتهاء من قراءته .فهذا الكتاب ذو الثلاثمائة صفحة بغض النظر عن اننى مشغول طوال الصباح أو اننى أعمل لساعة متأخرة من الليل فاننى لن أستطيع الأنتهاء من قراءته فى تلك المدة المحددة .ولكن لحسن الحظ فان سريرى يقع تحت المصباح الزيتى مباشرة ومن ثم فيمكننى ان استلقى ليلا اثناء نوبة عملى وهذا بالطبع لن يؤثر على نوم الأخرين فى الغرفة ،وبدأت فى القراءة.
واصلت القراءة حتى الساعة الثانية عشرة ولم اذهب للحمام سوى مرة واحدة ورأيت ان الجميع مستغرق فى النوم وبعض منهم علا صوت شخيره .واصلت القراءة ساعة بعد ساعة ولكن تأوهات لين تشيو شتتت انتباهى وجعلتنى أشعر بالملل ،اننى حقا أرثى لحال هذا الرجل وعندما قاربت الشمس على الشروق بادرته قائلا
-"يبدوا انك لم تنم طوال الليل"
-"نعم لم اتمكن من النوم" وتنهد تنهدة أخرى
-"لماذا؟"
-"ولدى الأكبر ليس بالبيت ،وأخشى على من فى البيت من أن يصيبهم الجوع "
-"لا تقلق"
لم يكن أمامي سوى ان أستخدم مثل هذه العبارات العديمة الفائدة لأهدئ من روعه بل ولأهدى من روعى أنا أيضا ، فيبدو ان أحوال البيت لدينا لاتختلف كثيرا .فقد غادرنا البيت منذ فترة طويله وكان علينا الأعتماد على الأبن الأكبر للقيام بالعمل والقيام ببعض التجارة الصغيرة موفرا بذلك سبل العيش ،ففى مثل هذه الأيام غادر ولدى الأكبر ليبحث عن عمل. فكيف بحقك ستكون مكتفيا وراضيا فى حياة مليئة بتلك الفترات العصيبة.
قال لي فجأة :
-"أنت لايمكنك ان تمر بهذه الظروف فقد درست فى الجامعة وقمت بالعديد من الأعمال .فلابد انه لديك ملكية ما ،بل يبدوا ان لديك ثروة كبيرة."
عندما سمعت طريقة كلامه هذه تنهدت تنهيدة غير مباليه. فليس هناك مايستدعى أن أنكر أنه ليس لدى عائلتى اى ممتلكات فماهى إلا حديقة صغيرة جفت أشجارها وأزهارها عندما غادرنا البيت فأين الفائدة من هذا بل أين هى الثروة التى كونتها؟
ولم أكن اريد ان اظهر هذا القدر من التواضع ،فقطبت جبينى قائلا
-"لدى حديقة صغيرة بها فقط بضعة حشائش صغيرة ظاهره، سيتكيف كل شئ مع البيئة المحيطة به وسيتابع حياته."
بالطبع فان الكتاب الذي اقرأه يتناول العديد من هذه الأمثله مستشهدا على تلك الفكرة،ولكن الأمثلة على عدم التكيف والأنقراض كثيرة أيضا.
كانت هناك بالفعل زوجات شابات لبعض الزملاء هربوا مع بعض الرجال الأخرين .كان هذا الخبر بالتأكيد صدمة لهم ،ومن لم يتقبل منهم الأمر سيصاب بالهلوسة ولكن من يتقبلون الأمر يعتقدون انها اذا هربت فعليك ان تنسى الأمر وتتخلى عن تلك الفكرة الى الأبد .
ولكن زوجاتنا نحن على العكس من ذلك ،فهم اما فى الخمسين أو فوق الخمسين بقليل ،وربما سيفكرن بالهروب مع أحدهم ولكن لن يجدن احدا ،لذلك فمن الأفضل أن يجلسن هكذا منتظرات الموت . هذا هو السؤال الصعب الذى لم نستطيع حله وتلك هى المعادلة التى عجزنا عن حلها ،انه حقا لأمر ميؤس منه .
ولكن ما فائدة القلق بلا جدوى ؟ ،لذلك فعلينا ان يشجع بعضنا بعضا وأن نحمس ونرفع معنويات عائلاتنا أملا فى ان يصبح كل شخص قادرا على الأعتماد على نفسه ،بغض النظرعما اذا كان صغيرا أم كبيرا .عليهم ان يجتهدوا فى البحث عن الرزق بلا كلل أو ملل كمثل اجتهاد النمل والنحل فى البحث عن الطعام فالأعتماد على الحظ فى مواجهة الحياة لا يجدى نفعا ،وستصبح تنهيدة اليأس أكثر قوة .
بعد مرور أسبوعين جاء خطاب من منزل لين تشيو ،وأعتقد انه بعد أن قرأ هذا الخطاب ارتفعت معنوياته قليلا ،وتوقف المطر فى تلك اليلة ايضا .
عادة ما كنت اصطحبه بعد العشاء الى الملعب ونتزه قليلا ونجلس على الأرض المعشوشبة ونتحدث ،وكان الهواء بعد توقف المطر منعشا .فسألته:
-"ماذا جاء فى الخطاب ؟هل هناك أخبار جيدة ؟"
-"أصبت، فالناس دائما ماتجد طريقة للتغلب على الصعوبات " كان يتحدث بجدية تامة .
-"صحيح" ،وكان هذا التغير البادى عليه جعلنى سعيدا ،فبادرته سائلا
-"هل تشعر بتحسن اليوم ؟"
-"نعم أشعر ببعض الراحة "
-"هل عاد الأبن الأكبر الى البيت؟"
-"لا، لكن الأحوال فى البيت تغيرت كثيرا "
أخذ يتحدث وهو يتناول الخطاب من جيبه ويعطيه لى لأقرأه .
كان زوجة لين تشيو هى من كتبت الخطاب ،تلك السيدة التى انقطعت علاقتها بالقلم بعد ان أنهت تعليمها الأبتدائى ،ومع ذلك تناولت القلم وكتبت الخطاب ، ورغم انه كتب بخط معوج وانتشرت الأخطاء الأملائية فى الخطاب كله الا انه ادى الغرض المراد منه وأوصل المنى فى سلاسة ووضوح .
وكان المعنى العام للخطاب كالأتى :
لم أتسلم بعد أي نقود مقابل عملي فى غسيل الملابس ،وأصبح وعاء الأرز فارغاً مجددا ،ولم ادرى ما الذى يتعين علي فعله فكرت فى الذهاب الى بعض الجيران وأقترض بعض الأرز ،ولكننى اعتقدت ان الأمر مخجل جدا .فما ان اقترض حتى أذهب وأقترض مرة اخرى ، فمتى سأرد للناس ماأقترضته منهم؟ ،عندما يصل التفكير بى الى تلك النقطة أعجز عن الكلام .
في الصباح التالي أفرغت أخر حبات الأرز ,اعددت طبقين او ثلاثة من العصيدة.وعندما أعطيت طفلي الصغيرين العصيدة بدأت أشعر بالقلق .فمنذ فترة طويلة وأنا لم أوفر لهم حياة مريحة ،فكيف سيصمد هذا الطبق من العصيدة فى بطونهم طوال اليوم ؟
فقررت انه عندما أعيد الملابس المغسوله الى ربة البيت أن اقترض منها بعض النقود لأشترى الأرز ثم اعود وأخبر الأولاد بأن يعودا مبكرا بعد الأنتهاء من المدرسة وأعد لهم الطعام ليأكلوا .ولكن لسوء الحظ فقد اعدت الملابس المغسوله كلها ولم تكن ربة المنزل موجودة ، ولم اقترض اية نقود.عدت فقط بسله كبيرة من الملابس المتسخه ،وأخذت اغسل الملابس تارة وتارة اخرى أخطط لما سأفعله عندما يحل المساء وليس لدى أرز .
انتهيت من غسل الملابس وجففتها فى الشمس ،وذهبت الى المطبخ لأبحث عن شئ يؤكل ،أملت أن اجد بعضا من البطاطا ولكننى لم اجد شيئا على الأطلاق ،وحتى فى حظيرة البط لن تجد بها إلا الديدان !
قطعت المنزل جيئة وذهابا وأصبحت فى قلق بالغ فما الذى سأفعله عندما يعود الأولاد الى المنزل ولا يجدون شيئا للأكل ؟!.لكن الأنتظار هكذا بدون عمل شئ ليس هو الحل.ذهبت ثانية على مضض الى ربة المنزل التى غسلت لها الملابس وأردت أن اقترض منها بعض المال .كانت تلقى صحنا من بقايا الطعام وقشور الفاكهة فى صندوق القمامة عندما التفتت الى قائلة:
-"ماذا هناك؟"
قلت إنني أريد أن اقترض بعض المال لشراء الأرز، فرفعت حاجبيها فجأة ولوحت بيدها قائله:
-"لا يمكن لايمكن انظرى كم هو اليوم من الشهر ،لقد اقترضت منى النقود شهرين على التوالى وتريدين أن تقترضى ثانية فتصبح ثلاثة أشهر ،انظرى الى شكلك البائس فاذا مرضت ولم تستطيعى غسل الملابس فكيف ستردين الى المال الذى اقترضته ؟"
عدت إلى المنزل حزينة ،ولم يكن لدى الشجاعة الكافية لأذهب لمنازل أخرى وأقترض المال ،عدت الى البيت ولم أستطيع التمدد على السرير او حتى الجلوس على الأرض .أخذت انتظر وأنتظر ،وانتظرت هكذا بلا فائدة. انتظرت حتى الغسق ولم يعد الأولاد ،وجلست أمام الباب أراقب الطريق . لم ار اى اثر للأولاد ،لم أرى سوى بعض مداخن المنازل يخرج منها الدخان .فمن ناحية أتسائل ما الذى أخر الأولاد ولم يعودوا حتى الأن ،ومن ناحية اخره أخشى ان يعود الأولاد ولا يجدوا شيئا للأكل .انتظرت حتى هبط المساء وبدأت أشعر بالقلق وفكرت فى الذهاب الى المدرسة لأستطلع الأمر ،سرت فقط خطوتين فاذا بى أشعر بدوار وسقطت أمام الباب وفقدت الوعى ،فى اللحظة التى كنت أسقط فيها أمام الباب وقبل أن تغمض عينى نهائيا كنت مازلت قلقة من أنه ربما فقد الأولاد الوعى فى طريق عودتهم من المدرسة كما فقدت أنا الوعى .
انتظرت حتى استفقت غير اننى كنت ممددة على الفراش بعناية وكان كل من الطفلين منتظرا بجانبى وبدا وكأن ضوء المصباح يطغى فوق طبقة من الضباب ،مددت يدى أتحسس الطفلين فاذا بولدى الصغير يصيح قائلا :
-"لقد أفاقت امى ،أسرعى وأحضرى العصيدة "
هرعت ابنتي الصغيرة على الفور وأحضرت طبقا من العصيدة بل وكان أيضا مغطى بالقرع المتبل .استجمعت قواى ونهضت مستندة الى ذراعى وسألت بدهشة بالغة :
-"من أين اتيتم بهذا الأرز ؟"
لقد مرت عدة أيام كنا نأكل خلالها العصيدة ،وضعنا فقط القليل من الملح ، لذلك فقد خشيت أن يتضور الأطفال جوعا أو أن تبنى لديهم أفكار خاطئة فيذهبوا ليسرقوا بيوت الناس.قال ولدى :
-"لقد ذهبنا الى الى الجبل بحثا عن بعض الورود لبيعها وكان لدى صديق لنا حديقة مليئة بالورود أخذنا اليها وساعدناه فى البيع فبعنا ببضعة يوانات ......." أكملت ابنتى قائلة:
-"ثم اشترينا حوالى كيلوجرام من الأرز وبعضا من القرع وبالمناسبة ،فقد جمعنا أيضا حزمة من الحطب للنار .
-"ياللأولاد المساكين .....لم تذهبوا الى المدرسة اليوم أليس كذلك ؟" هززت رأسى وانهمرت الدموع من عينى.
-"لا،لقد ذهبنا الى المدرسة ولكن اليوم هو السبت ولا توجد دروس بعد الظهر وغدا........"
توقف ابنى عندما قاطعته ابنتى قائله :
-"وغدا يمكننا الأنطلاق فى الصباح الباكر ،لقد قال ذلك الصديق انه عندما لانكون مشغولين يمكننا ان نأتى ونساعده فى حديقة الورود الخاصه به لريها بالماء أوجز الحشائش ،يمكننا أيضا ان نكسب القليل من النقود"
أما الآن فالأولاد يعملون كل يوم، وعثرت أنا أيضا على بعض المنازل لديها ملابس للغسيل، وأصبح لدينا حطب للوقود وأرز و زيت و ملح ولم تعد هناك أدنى مشكله.ساعدنى الجيران كثيرا فقد اشتروا اثنين من الخنازير وجعلونى أطعمهما على شرط انه إذا أنجبت الخنازير فسنحصل على خمسة خنازير مقابل واحد يأخذه الجيران وهذا أفضل بكثير ممانتلقاه من العمل فى أماكن أخرى. يمكن لهذا الدخل أن يصمد أمام نفقات تعليم هذين الطفلين المتعددة ومن الان وصاعدا سأكون أفضل .
في البداية خشيت أن يؤثر انشغال الأولاد بالعمل غى دراستهم ولكن فى الواقع منذ أن أكتشفوا قدرة أيديهم على العمل وبسبب قدرتهم على كسب عيشهم بأنفسهم ازدادت ثقتهم بأنفسهم وازدادت ثقتهم بالحياة وبالدراسة وامتلأوا نشاطا وحيوية .
هذا الخطاب وعلى الرغم مابه من مشاكل عديدة من الناحية الأملائية الا اننى كنت أقرأه باستمتاع وتلذذ بل واننى كنت متأثرا جدا.
فهو أفضل بكثير من تلك المقالات التى تتبنى القضايا الوجدانية عابثة بالكلمات خاوية المعانى.وهو أفضل بكثير من المقالات ذات الهدف الدعائى العبثية العشوائية ،بل هو أفضل بكثير من تلك المقالات الفاسقة المتخصصة فى اثارة الحواس .لأن هذا الخطاب ببساطة كان مليئا بنكهة من المشاعر والعواطف الأنسانية بل انه يكفى لأثارة روح الكفاح عند القارئ .
ربت بيدي على كتف لين تشيو فى استحسان ،ويبدو اننى ربت عليه بقوة وبصورة مفاجئة مما جعله يقفز خائفا ، وتوتر قليلا وحدق فى بعينين مرتبكتين .
-"اه ،جيد جيد جدا " أطلق زفرة ارتياح عندما سمع قولى هذا وأشرق وجهه بابتسامة .
منذ ذلك الحين ارتفعت معنويات لين تشيو كثيرا ،ولم يعد يتناول الدواء بل وازداد مقدار مايأكله من الطعام يوما بعد يوم وعندما يحل الليل كان ينام بهدوء .
كنت منذ فترة طويلة وأنا أداوم صباحا ومساء على أداء التمارين الرياضية الخفيفة.ولأن البنية الجسدية المرنة والقوية مفيدة لكل من الجسم والعقل على السواء لذلك فقد كنا نتدرب سوية.وتغير لون وجهه الى الأفضل وأخذ يضحك وهو يتحدث واختفى صوت تنهيدته الحزينة وتلك العبارة "الشيخوخه هى النهاية" وانتهى كل ذلك النوع من الكلام المثبط للعزائم .وبالتأكيد لم يعد أحد ينظر اليه بوجه عابس ومن الجلى انه أحرز تقدما فى كل من عمله ودراسته .
بعد عدة أيام ذهب مع الجميع الى الجبل ليجمعوا بعض الحطب للوقود وعندما عاد جاء ليبحث عنى ويبدو انه قد زلت قدمه وسقط عدة مرات فقد غطى الطين والأوساخ ملابسه كلها .سألته قائلا:
-"هل تحملت الصعود الى هناك ؟هل شعرت بالتعب ام لا؟"
-"لا،لن أقول ذلك الكلام المثبط للهمم مرة ثانية"
-"لماذا؟أنت لم تصعد الجبل منذ مدة طويلة من الصعب تفادى عدم الشعور ببعض التعب "
-"لقد كنت أشعر بالأثارة اليوم ولم أشعر باى شيئ من التعب "
-"لماذا كنت تشعر بكل تلك بالأثارة؟"
-"لقد قابلت امرأة بالصدفه أثناء تسلقى الجبل "
-"هاى! هل مقابلة امرأة بالصدفة تجعلك تشعر بالأثارة الى تلك الدرجة ؟"
ضحك بملء فمه قائلا :
-"لاداعى لأن تفسر الأمر على نحو خاطئ "
-" اين هو الخطأ فى ذلك ؟ يمكن للرجل عندما يرى المرأة أن تستثار غرائزه الداخلية مما يظهر قوة الشباب وعنفوانه ،فما الخطأ فى هذا ؟ هكذا لن تتنهد تلك التنهيدة اليائسة أو تقول " الشيخوخة هى النهاية"،هذا ليس أفضل لك فحسب بل أفضل للناس من حولك أيضا "
-" لا لا ليس هذا ماعنيته اصغ الى ، انطلقنا اليوم لنتسلق الجبل ووصلنا الى جبل جالوتشى وأنت تعرف أن منحدر هذا الجبل صعب التسلق حتى اننى انزلقت عدة مرات أثناء التسلق ،وسرعان ما وصلنا الى نهاية ذلك المنحدر وعندما وقفت على قمته غطى جسدى العرق الغزير وتلاحقت أنفاسى ،وبينما أنا واقف هكذا اذا بى ألتفت الى الوراء .واحزر ماذا رأيت ؟"
-"ألم تقل هذا منذ قليل ؟لقد رأيت فتاة جميلة "
هاه ضحك قائلا :
-"انها امرأة عجوز ذات شعر أشيب "
-"هاه " أصابتنى بعض الحيرة ،قلت أمازحه عن قصد:
-" لم أتخيل أن رؤية امرأة عجوز ستمنحك كل هذا الشعور بالأثارة "
-" أصبت ،انها كمثل إكسير للحياة أثارت نشاطى وقوت معنوياتى وتضاعفت مئات المرات ...."
-"هه"
-" لا تقاطعنى واصغ الى بتمعن . لقد سارت خطوة خطوة نحو الأعلى،سارت بخطى ثابتة كأنما تسير على طريق مستو أو معبد بل وكانت تدندن ببعض الأغانى الشعبية وهكذا حتى وصلت الى قمة المنحدر ووقفت بجانبى ،كانت تتنفس بهدوء وبطريقة طبيعية كأنها لم تبذل اى مجهود . سألتها ما الذى تفعله فوق الجبل قالت انها جاءت لتجمع بعض الحطب للوقود وبعد مضى ساعتين كنا قد جمعنا كفايتنا من الحطب . عندما هممنا بأخذ قسط من الراحة كانت المرأة العجوز تحمل حزمتين من الحطب عائدة أدراجها ، دعوناها لتحتسى بعض الماء الدافئ وتستريح قليلا قالت أن حفيدها الأكبر ذهب الى مدينة جين مين وهو ليس بالمنزل كما أن زوجة ابنها ذهبت الى العمل وحفيدها الأصغر مازال يذهب الى المدرسة وسوف يعود عند الظهيرة ليتناول الغذاء لذا يجب عليها أن تسرع بالعودة والا لن تستطيع أن تعد الطعام فى الوقت المناسب . سألتها كم تبلغ من العمر بينما كان بعض الشباب يهمون بمساعدتها فى حمل الحطب الى أسفل المنحدر. قالت فجأة
-" فقط خمس وثمانون عاما نيا نيا" ولم ترغب بأن بساعدها أحد فى حمل الحطب الى أسفل المنحدر ، " فقط خمس وثمانون عاما نيا نيا " فها أنا لم أكمل الستين من عمرى وكنت أعد واحدا من المعمرين فى تلك المنطقة ،على الرغم من أننى مازلت أعتقد أن الشيخوخه هى النهاية . على ايه حال لم أدر ما الذى تعنيه "نيا نيا " تلك الكلمة الأخيرة فى الجمله .نعم لقد قالت " فقط خمس وثمانون عاما نيا نيا " ،هذه الجملة أقوى من ابرة تخترق القلب .فكيف لا تثير هذه الجمله نشاطى وهمتى "
-"نعم ، يجب أن تكتب لزوجتك وأولادك وتنقل اليهم هذه الأخبار السعيدة وأيضا كمكافأة على مساهمتهم فى تغيير حال المنزل الى الأفضل "
-" ولكنه لن يكون كذلك ، سأبدا فى الكتابة على الفور "
وأخذ الأصدقاء الذين يستمعون الينا فى الضحك بملء فيهم ،ضحكوا بقوة ،ضحكوا وكأنهم عادوا بسنوات عمرهم الى الوراء .
-----------------------
هوامش :
#كاتب المقال هو الكاتب التايوانى يانج كوى كتبه سنة 1962 أثناء الثورة الثقافية الكبرى. للمزيد من المعلومات :
http://zh.wikipedia.org/zh-hans/%E6%A5%8A%E9%80%B5
# (وحتى فى حظيرة البط لن تجد بها إلا الديدان !) هذا التعبير يدل على السخرية والتهكم بمعنى انه لايوجد اى شيئ صالح للأكل.
#(نيا نيا ) ربما يكون هو اسم تلك المرأة العجوز وربما كانت كلمة لاحقة تعنى التقدم فى العمر أو ربما كانت تعنى الجدة باللغة العامية ...ويبدوا أن الكاتب لم يعرف معنى هذه الكلمة لذلك فضلت أن أأتى بها كما جاءت فى النص الأصلى (Nia Nia)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق