بحلول الثلاثين من مايو 2016، يكون قد مر على بداية العلاقات الدبلوماسية بين جمهورية الصين الشعبية والدول العربية ستون عاما. مصر هي أول دولة عربية أنشأت العلاقات الدبلوماسية مع الصين الجديدة (مايو 1956)، والسعودية هي آخر دولة عربية أقامت علاقات دبلوماسية مع الصين (يوليو 1990). وما بين مصر والسعودية، جاء ترتيب إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين والدول العربية، على النحو التالي: سوريا والعراق (أغسطس 1956)، اليمن (سبتمبر 1956)، المغرب (نوفمبر 1958)، الجزائر (ديسمبر 1958)، السودان (فبراير 1959)، الصومال (ديسمبر 1960)، تونس (يناير 1964)، موريتانيا (يوليو 1965)، جيبوتي (يناير 1971)، الكويت (مارس 1971)، لبنان (نوفمبر 1971)، الأردن (إبريل1977)، ليبيا (إبريل 1978)، عُمان (مايو 1978)، الإمارات (نوفمبر1984)، قطر (يوليو 1988)، البحرين (إبريل 1989)، فلسطين (نوفمبر 1988)، وجدير بالذكر هنا أن الصين هي أول دولة غير عربية اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني وفتحت مكتبا للمنظمة في بكين ومنحته الحصانة الدبلوماسية الممنوحة للسفارات الأجنبية، وأول دولة غير عربية وجهت دعوة لرئيس المنظمة الأسبق أحمد الشقيري، الذي قام بزيارة رسمية إلى الصين في مارس 1965، بعد أن زارها القائد العام لحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" آنذاك، ياسر عرفات بدعوة من الحزب الشيوعي الصيني في مارس عام 1964.
قد يكون من المهم أن ننوه إلى أن ما ذكرناه أعلاه هو تواريخ تبادل التمثيل الدبلوماسي على مستوى السفراء بين جمهورية الصين الشعبية، التي تأسست سنة 1949، وبين الدول العربية التي نال معظمها الاستقلال السياسي في النصف الثاني من القرن العشرين، وليس عن العلاقات بمعناها الشامل والتاريخي. ذلك أن علاقة الصينيين مع العرب ممتدة منذ آلاف السنين.
وبشكل عام، يمكن رصد عدد من العوامل المحددة للعلاقات الصينية- العربية، وهي:
أولا: أن الصين في الذاكرة العربية منذ زمن بعيد مثال للخير والمحبة والفكر، ومقولة "اطلبوا العلم ولو في الصين"، تعبر عن حضور الصين في الذاكرة العربية، وهو حضور مقرون بصورة لبلد فيه علم وصناعة وثقافة وله تاريخ عريق. وقد استمر هذا الحضور عبر العصور مدعوما بما كان يربط الجانبين الصيني والعربي من طرق تجارية برية وبحرية قديما، وما ربط بينهما من دعم ومساندة متبادلة في فترة التحرر الوطني في العصر الحديث بعد أن عانى كل منهما من الاستعمار والإمبريالية.
ثانيا: أن حقيقة عدم وجود تاريخ من الصراع بين الجانبين جعلت وجدان الصيني والعربي لا يحمل للآخر ذكريات مريرة، بل على العكس، ظلت الصورة النمطية للعربي في الصين مجسدة بشخصية "العم العربي" وفقا لمحتويات الكتب المدرسية الصينية حتى وقت قريب. وظلت صورة الصيني في ذهن العربي ترمز للجد والاجتهاد والمهارة.
ثالثا، أنه على الرغم من الاختلاف الكبير بين الثقافتين العربية والصينية، هناك قواسم مشتركة بين منظومة الأخلاق والقيم في الثقافتين، فقيم أخلاقية مثل بر الوالدين واحترام وتوقير الكبير، والتكافل الاجتماعي وحسن الجوار الخ، قيم أصيلة في الثقافتين.
رابعا، أن حقيقة تعرض الجانبين العربي والصيني لمعاناة متشابهة من طرف ثالث مشترك هو الغرب، جعل التقارب بينهما له أسباب عاطفية وتاريخية، وقد انعكس ذلك في الدعم العربي للصين في المحافل الدولية في مواجهة الغرب، مثل دعم العرب للصين لاستعادة مقعدها الشرعي في الأمم المتحدة، ودعم الصين للدول العربية في قضاياها العادلة وخاصة في القضية الفلسطينية.
خامسا، أن سياسات القوى الكبرى الأخرى المعادية للعرب، والتوجهات المعادية للإسلام في الغرب تجعل العرب يبحثون- على المستوى النفسي- عن حليف دولي خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ويأملون أن تصعد قوة دولية تواجه الغرب، أو على الأقل توازنه. وهنا تبرز الصين كقوة دولية يمكن أن حقق هذا التوازن في العلاقات الدولية.
خلال مسيرة الستين عاما الماضية، شهدت العلاقات الصينية- العربية تطورات ملحوظة وفترات من المد والجزر، ولكنه مد لم يصل إلى التحالف الشامل وجزر لم يصل في أي وقت إلى حد الأزمة على المستويين الرسمي والشعبي. وإذا كانت تلك العلاقات بدأت في معظمها لأغراض سياسية، في ظل منظومة العلاقات الدولية التي سادت النصف الثاني من القرن العشرين، وانقسام العالم إلى معسكرين شرقي وغربي بينهما صراع إيديولوجي خيمت عليه أجواء الحرب الباردة، فإنها اكتسبت خلال السنوات الأخيرة وجوها أخرى، أبرزها الوجه الاقتصادي، تماشيا مع التطور الاقتصادي الذي شهدته الصين خلال الأربعين عاما الماضية وارتفاع القوة الشاملة لها وصعود مكانتها في السياسة الدولية خلال السنوات الأخيرة.
وقد تجسد الخط العام للعلاقات الصينية- العربية خلال العقود الستة الماضية في التوافق العام حول قضايا العلاقات الدولية، بما في ذلك قضايا حقوق الإنسان والتنمية وإصلاح الأمم المتحدة والنظام الاقتصادي العالمي، من دون انخراط أي من الطرفين بشكل مباشر ومؤثر في قضايا تدخل في دائرة الاهتمام الاستراتيجي لأي منهما. وعلى سبيل المثال، فإن مواقف الصين من القضايا التي تدخل في دائرة الاهتمام الاستراتيجي العربي مثل القضية الفلسطينية وقضايا سوريا واليمن وليبيا والعراق ولبنان، الخ، هي مواقف مبدئية تنسجم مع الاتجاه العام لسياستها الخارجية، من دون الانخراط المباشر في تلك القضايا، مع مراعاة الصين لما يقتضيه وضعها كدولة دائمة العضوية في مجلس الأمن للأمم المتحدة. وبالمقابل، فإن مواقف الدول العربية من القضايا التي تدخل في نطاق الاهتمام الاستراتيجي الصيني الوثيق، مثل قضايا تايوان وبحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي وشبه الجزيرة الكورية، الخ، تكاد تكون غير موجودة أو غير واضحة، باستثناء تأكيد الدول العربية دائما على أن هناك دولة واحدة للصين، هي جمهورية الصين الشعبية (فيما يتعلق بقضية تايوان).
غير أن هذا النمط التقليدي في العلاقات الصينية- العربية، شهد في السنوات الأخيرة بعض التطورات التي قد تكون توطئة لعلاقات أكثر تعمقا وتشعبا بين الجانبين؛ ففي عام 2004، تأسس منتدى التعاون الصيني- العربي كإطار للتعاون الجماعي والمتعدد المجالات بين الجانبين، وأقامت الصين علاقات شراكة استراتيجية مع ثماني دول عربية، وآلية للحوار الاستراتيجي مع مجلس التعاون لدول الخليج العربية ودول عربية أخرى. وحاليا، الدول العربية هي أكبر مصدر للنفط الخام إلى الصين وسابع أكبر شريك تجاري لها.
وخلال زيارة الرئيس شي جين بينغ لمقر جامعة الدول العربية بالقاهرة في يناير 2016، أعلن عن أول وثيقة خاصة بسياسة الصين تجاه الدول العربية، والتي تناولت مختلف جوانب العلاقات بين الجانبين وأكدت على التزام الصين بتطوير علاقاتها مع الدول العربية على أساس خمسة مبادئ، هي: الاحترام المتبادل للسيادة ووحدة الأراضي، عدم الاعتداء، عدم التدخل في الشؤون الداخلية، المساواة والمنفعة المتبادلة، والتعايش السلمي. فضلا عن إعادة التأكيد على موقف الصين الداعم لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة الكاملة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
من خلال القراءة التحليلية لمحتوى الوثيقة، والأوضاع التي تشهدها الدول العربية في الفترة الراهنة وواقع السياسة الدولية ومؤشرات الاقتصاد العالمي، يمكن القول إن العلاقات الصينية- العربية ستواصل تطورها في المستقبل المنظور، وخاصة في الجانب الاقتصادي والثقافي والتعليمي، ولكنه تطور قد لا يصل إلى حد الاختراق في ظل وجود فجوة معرفية بين الجانبين. لقد ظل ارتفاع حجم التبادل التجاري بين الصين والدول العربية الملمح الأبرز لتلك العلاقات في السنوات الأخيرة، ولكن لم تتطور معرفة العرب بالصينيين ومعرفة الصينيين بالعرب بالقدر الذي يتناسب مع نمو تبادلاتهما الاقتصادية والتجارية وتطور وسائط الاتصال والتواصل الحديثة، برغم الارتفاع الكبير في عدد المواطنين العرب الذين يسافرون إلى الصين لأغراض مختلفة، وزيادة عدد الصينيين الزائرين للدول العربية. وجسر هذه الفجوة المعرفية يحتاج إلى مثابرة وجهود جبارة، من خلال توظيف آليات متنوعة أهمها العمل الثقافي بمختلف أشكاله، والتواصل الجماهيري المباشر، واقتراب كل طرف بشكل مباشر من قضايا الطرف الآخر والتأثير فيها بما يتاح له من أدوات، لتصبح الشراكة الاستراتيجية الشاملة الصينية- العربية واقعاً يشعر به المواطن العادي من الجانبين. لابد أن تتبنى مؤسسات رسمية وبحثية وإعلامية صينية وعربية مشروعاً يحدد آليات من شأنها جسر هذه الهوة المعرفية بين الجانبين؛ ولابد من تعزيز حركة الترجمة بين اللغتين الصينية والعربية، والأهم من ذلك هو خلق حالة من الزخم الشعبي الصيني والعربي لدفع الجانبين لمعرفة بعضهما البعض. هذه الجهود ليست مسؤولية طرف واحد وإنما مسؤولية الجانبين لأنها في النهاية تحقق مصالح الشعبين الصيني والعربي.
إن الرصيد الكبير الذي تراكم للعلاقات الصينية- العربية خلال الستين عاماً الماضية يمكن أن يكون قاعدة انطلاق لعلاقات صينية- عربية أكثرة قوة وتنوعا في المستقبل، خاصة وأن الجانبين يؤمنان بأن "السلام والتنمية" هما تيار العصر، وأن حجم المصالح المشتركة بينهما يتنامى بشكل كبير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق