بقلم د.شوي تشينغ قوه، عميد كلية الدراسات العربية في جامعة الدراسات الأجنبية - بكين
تربط بين المفكر العربي الراحل هادي العلوي وبين الصين علاقة فريدة معروفة لدى من يتابع أطوار حياته وتطور أفكاره، وهي علاقة يعتز بها العلوي إعتزازا كبيرا إلى حد أنه قسم مراحل حياته إلى المرحلة ما قبل الصينية والمرحلة الصينية. فالصين بحضارتها العريقة الباهرة وتجاربها الحديثة الشاقة لتحقيق النهضة والتقدم كانت هاجسه الكبير طوال مرحلته الصينية، وقد ذكرت زوجته الفاضلة السيدة نبيهة أن آخر أقواله في حياته كانت حول مستقبل الحضارتين الإسلامية والصينية، رددها في حوار ثقافي مع بعض الصحفيين وهو راقد على سرير المشفى إثر إصابته بالجلطة الدموية.
قدم العلوي إلى الصين لأول مرة عام 1976 بترشيح الشيخ جلال الحنفي البغدادي ليحل محله كخبير لتدريس اللغة العربية في جامعات بكين، فاشتغل في دار النشر باللغات الأجنبية التي تنشر كتبا ومجلات عن الصين باللغات العالمية الكبرى بما فيها العربية، حيث قام بتنقيح لغوي لترجمات زملائه الصينيين كما باشر الترجمة بنفسه من الإنجليزية إلى العربية، ترجم خلال الفترة "موجز تاريخ الصين" وغيره من الأعمال الأدبية والعلمية، ثم درّس العربية في معهد اللغات الأجنبية ببكين (يسمى الآن جامعة الدراسات الأجنبية) حيث أشرف على طلاب الدراسة العليا وساعد الأساتذة الصينيين في التأليف والبحوث، وكان من الأعمال التي ساهم في إنجازها "قواعد تطبيقية للغة العربية" بأجزائها الأربعة التي صارت فيما بعد مرجعا أساسيا لدارسي العربية في الصين. وبعد خمس سنوات من الإقامة في بكين، سافر إلى الوطن العربي ليعود إليها مرة ثانية في 1990. يدرس في جامعة الاقتصاد والتجارة الخارجية لسنتين، وشارك في تأليف "معجم الحكم والأمثال" باللغتين العربية والصينية. وكان العلوي في وظائفه المختلفة مثالا رائعا في الإخلاص والنزاهة والجدية والتفاني للعمل. وظل زملاؤه وطلابه الصينيون يتناقلون أحاديث طيبة عنه ويعتزون بصداقتهم معه، ويزورونه بعد أن غادر الصين مقيما في دمشق كلما سنحت لهم الفرصة.
في بكين حصل اللقاء الهام بين العلوي وبين المناضل الأممي أبشتاين الذي كان يشتغل أيضا في دار النشر، فنشأت بينهما صداقة لم تنقطع حتى وفاة الأول. وجد أبشتاين في العلوي ولعا شديدا بالتفلسف والاستكشاف، فاقترح عليه دراسة الحضارة الصينية مهيئا له المصادر والمراجع فيها. وما أن طرق العلوي باب هذا الكنز الغني حتى أعجب به أيما إعجاب، وأقبل على دراسته "بشغف العاشق الذي يكتشف حبيبا غائبا". واستفاد خاصة من مؤلفات العالم البريطاني جوزيف نيدهم عن تاريخ الحضارة والعلوم الصينية وأعمال الفيلسوف الصيني المعاصر فونغ يولان عن الفلسفة الصينية الكلاسيكية حتى كسب قدرة لا بأس بها على مطالعة المصادر الصينية مستعينا بالقواميس. وكانت إقامته في بكين لسنوات ومعاشرته لأهاليها ومثقفيها ساعدته كثيرا على فهم روح الفلسفة الصينية المتمثلة في شخصيات أبنائها. وتوثقت بينه وبين كثير من الباحثين الصينيين صداقة حميمة، وحافظ على المراسلة مع بعضهم بعد مغادرته الصين مناقشا إياهم القضايا العلمية.
يسهل لمن قرأ كتاب العلوي "المستطرف الصيني" وترجمته "كتاب التاو" وغيرهما من المقالات والفقرات المتناثرة في مؤلفاته أن يلاحظ إعجابه الشديد بالحضارة الصينية وتقديره العالي لها. إذ يذكر دوما أن الحضارة الصينية حضارة مثقفة، لأنها لم تنتج علوما وصناعات كالمخترعات الأربعة الشهيرة فقط، بل أنتجت أيضا فلاسفة عظاما ومدارس فلسفية كبرى، بذلك يمكن تصنيفها في منزلة أعلى من تلك الحضارات العمرانية التي اقتصرت منجزاتها على العلوم التطبيقية. ومن بين المدارس الفلسفية العديدة كانت فلسفة التاو هي التي تسحر لبه وتثير ولعه بشكل خاص، إذ وجد فيها ما يلائم نزعته الصوفية وما يقارب ميله إلى الميتافيزيقية والديالكتيكية. فاعتبر أن فلسفة التاو المفعمة بالجنوح الفكري أعمق من فلسفة كونفوشيوس ذات الصبغة التعليمية والوعظية الغالبة، وإن كانت الأخيرة هي الأكثر شيوعا وشهرة، بل رأى أن التاوية – فلسفة الشعب على حد قوله – لأعظم من الكونفشوسية فلسفة الحكام. فلا عجب أنه حين صدرت ترجمته لكتاب التاو عن دار الكنوز الأدبية ببيروت أخذ لنفسه اسما صينيا "لاوهاي" تقليدا اسم لاوتسه المؤسس الأول للتاوية. ومن التوافق الطريف أن العالم البريطاني جوزيف نيدهام الشديد الولع بالتاوية هو الآخر قد لقب نفسه بالصينية "لي يوه سه"، ناسبا نفسه إلى أسرة لي التي ينتمي إليها لاوتسه.
دراسة العلوي للفلسفة الصينية كانت شاملة، عميقة وموضوعية. بالإضافة إلى الكونفشوسية والتاوية نجده يتطرق إلى غيرهما من الفروع والمدارس في كثير من مقالاته، إذ قدم للقراء العرب أسماء غير معروفة لديهم لكنها لامعة وذات تأثيرات باللغة في حضارة الصين، مثل منشيوس وتشوانغ تسه وموتسه وشون تسه وغيرهم. كما أنه طرح عديدا من وجهات النظر القيمة أثناء دراسته للتراث الصيني مقارنا بالتراث العربي والغربي، ونذكر هنا على سبيل المثال: أنه اعتبر لاوتسه أبا الديالكتيك في تاريخ الفكر الإنساني لأنه ظهر قبل هيراقليطس اليوناني، وأشار إلى خصوصية الفلسفة الصينية كخط تطور مستقل إذ لم يحصل تماس يذكر بين التفلسف الصيني وبين ما هو اليوناني أو الهندي، واكتشف تلاقي الصينيين ومتصوفة الإسلام في نزوعهم المشاعي والديمقراطي المناوئ لسلطة الدولة والدين والمال، والتفت إلى ميل الفلاسفة الصينيين إلى طرق استقرائية لا برهانية في تحديد الماهيات مما أدى إلى عدم قدرتهم على تطوير علم المنطق إلى المستوى الذي بلغه اليونان على يد أرسطو، ولاحظ تأثير منطق التاوية على الشيوعيين الصينيين الذين أظهروا إتقانا للقضايا المتعلقة بالتناقضات بمستوى يفوق ما كان عليه السوفييت... ويجدر بالإشارة إلى موقفه المناوئ لبعض المستشرقين الغربيين الذين أظهروا تحاملا شديدا على الحضارة الصينية بل كل الحضارات الشرقية، رغم إجلاله الكبير لجوزيف نيدهام الذي اعتبره من نوادر المستشرقين في الموضوعية والمنهج العلمي. ومع اهتمامه البالغ بدراسة الصينيين لتراث أجدادهم كتلك التي قام بها فونغ يولان وأمثاله، لم يشأ – استقامة منه – إخفاء انتقاده للفهم الميكانيكي المسطح للتاريخ الذي كان سائدا في مؤلفات بعض الصينيين.
هكذا، اجتمعت في العلوي ميزات نادرا ما تجتمع في أجنبي يدرس التراث الصيني: نزاهة الأخلاق، البعد عن التعصب، حب العلم والتفاني للبحث والاستقصاء، معرفة شاملة ومتعمقة للفلسفة الصينية في خلفية إسلامية موسوعية، إلمام باللغة الصينية ومعاشرة بأبنائها وكبار علمائها... وهي الميزات التي تبوئ صاحبه في منزلة المعلم المرشد في الحضارة الصينية في العالم العربي. ولولا كثرة اهتماماته وانشغاله بقضية قومه وتراث أمته الإسلامية وطموحاته في تأليف قواميس عربية ضخمة لكان يمكن أن يستأهل لبلوغ المستوى العالمي في دراسة الصينيات.
أخيرا فلن تكتمل أية دراسة لعلاقة العلوي بالصين إلا بتناول جانب هام من تلك العلاقة الفريدة، وهو موقفه من الصين المعاصرة. إنه موقف ممزوج بين الاستحسان والإعجاب وبين الذم والانتقاد. كان العلوي يقدر الشيوعيين الصينيين قبل مأساة الثورة الثقافية أعظم التقدير حيث قال إنهم خير من يمثلون العدالة الاجتماعية والإنسانية الحقيقية. ولما قدم إلى الصين لأول مرة في أواخر السبعينات هروبا من الظروف السياسية في بلاده، كان قد نزل ببلد أفاق حديثا من أضغاث الثورة الثقافية، وشعب بسيط مضياف يعلق على المستقبل آمالا كبيرة. أحب العلوي هذا البلد وهذا الشعب لتوه، فبيئة دار النشر التي اشتغل فيها وفندق الصداقة الذي نزل به كثبير أجنبي تشعره بكرامة وطمأنينة، مختلفة تماما عن البيئة التي هرب منها، وحي المثقفين بجوار الفندق في شمال غربي بكين يطالعه كل يوم بهدوء ومساواة نسبية بين أهاليه. لم تكن في بكين في ذلك الوقت سوبرماكتات ضخام ولا ناطحات السحاب ولا سيول لاتنقطع من السيارات وغيرها من مظاهر الترف والفخامة، ولكن فيها الكفاية من الطعام والكساء والسكن البسيط لكل أبنائها، لم يكن هذا الواقع بعيدا كثيرا عن تصوراته للاشتراكية في مرحلتها البدائية. وعندما عاد إلى بكين في بداية التسعينات يدرّس العربية في جامعة الاقتصاد والتجارة الخارجية، فوجئ بتغيرات هائلة لم يكن يتوقعها. كانت الصين في مرحلة انتقال كبيرة نحو العصرنة وصار تطوير الاقتصاد الوطني همها الأكبر. كان حديث الإعلام والناس يدور حول النتافس السوقي والانفتاح على الخارج وجذب الاستثمارات وغيرها مما لم يتعود عليه العلوي ولا يسكن إليه باله. والحي الشعبي بجوار مسكنه في الجامعة بضاحية بكين الشمالية يطالعه هذه المرة بالتفاوت الاجتماعي والاقتصادي والسعي الصاخب إلى الغني والربح. تحسر لما شاهد وسمع شعر بخيبة أمل كبيرة، فأظهر استياءه من سياسة الصين الحالية في كتاباته وأقواله.
كان هذا الموقف المنتقد لحاضر الصين موضع خلاف بين العلوي وبين كثير ممن يعايش التطورات الصينية في داخلها أو من يتابعها من خارجها. فمع كل مظاهر التفاوت والقبح والفساد التي قد تصادف أي زائر للصين اليوم، فمن باب العدل والموضوعية أن يصرح الصيني – وهو الذي ذاق مرارة الفقر والتخلف لأكثر من قرن، واختبر بما فيه الكفاية من الصراعات والاضطرابات قبل تأسيس الصين الجديدة وبعده – بأن الصين تقدمت إلى الأمام خطوات كبيرة منذ خاضت مسيرة الإصلاح والانفتاح قبل عشرين سنة. وإذا كان التطور الهائل في الاقتضاد والتحسن الكبير في معيشة أغلبية سكانها قد باتا من الحقائق التاريخية، فكان حقا أيضا أن الشعب الصيني اليوم يتمتع بحقوق وحريات أكثر من أي زمن مضي، والمجتمع الصيني اليوم يمتاز بأوفر حظ من التسامح والإنسانية منذ قرون. وفي رأيي أن سبب اتخاذ العلوي موقفه من حاضر الصين هو كونه عالما أكثر منه سياسيا، مثاليا أكثر منه واقعيا، ثوريا أكثر منه مصلحا.
قبل اختتام هذه المقالة وأنا أسترجع خواطري، لا يسعني إلى أن أشعر بامتنان لجهود هذا المفكر العظيم في نشر العلوم العربية في الصين والحضارة الصينية في العالم العربي، وأحس بحزن وأسف لا يقلان عن أي مثقف عربي لفقدان سليل الحضارتين هذا، بل لا يسعني إلا أن أجدني أمام سؤال كبير: هل – وكيف – يمكن للصين أن تبني مجتمعا غنيا مزدهرا متقدما، دون أن تضحي بالمقومات الروحية الراقية، المستمدة من التراث الباهر العريق، ولا على حساب المبادئ السامية، مبادئ الحق والعدالة ونصرة الشعوب المظلومة...؟
فهل من يوم يتحقق فيه الحلم فيغتبط الراحل؟
(نشرت هذه المقالة في مجلة المدى، العدد الأول 1998)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق