جئت للمرة الرابعة من بكين، من الصين الى بيروت، الى لبنان، فقد زرت لبنان ثلاث مرات وتركت هذه الزيارات انطباعات لا تمحى في ذهني، وكانت تلك الذكريات العاطرة دائما تعاودني مما يثير في نفسي الشوق اليه والحنين، فكنت أتطلع دائما بأنظاري عند السور العظيم في بكين، في بلاد التنّين، إلى النهر الكبير وسهول البقاع وجبل صنّين. فظل لبنان في قلبي وأصبحت اليوم مرة أخرى في قلب لبنان.
بصفتي أحد المستعربين الصينيين الذي ظل يشتغل بدراسة وتدريس اللغة العربية وأدبها منذ أكثر من نصف قرن، أحب لبنان وأحب الأدب اللبناني،لا أدري أأحب الثاني بسبب الأول، أم أحب الأول بسبب الثاني.
ظللت في الصين أتابع كل ما حدث في لبنان، وكنت أقرأ كل ما تناولت يدي عنه من كتب التاريخ والأسفار، من الخرافات والأساطير، من القصص والأشعار، مطّلعا لغابره وحاضره، مهتمّا بأدبـه وحربـه، فخيّل اليّ أني شممت النسيم العاطر الريحاني من رياض لبنان وأرى بخيالي أرز لبنان ربّة الأشجار وسيدة الجبل الجبار يصمد للثلج والنار، فما تمالكت إلاّ أن أردّد فرحان وسكران بعض أبيات حافظ إبراهيم شاعر النيل :
نسيم لبنان كم جادّتك عاطرةٌ من الرياض وكم حياك منسكب
في الشرق والغرب أنفاسٌ مسْعرة تهفو إليك، وأكباد بها لهبُ
أحب الأدب اللبناني حقّاً وصدقاً، إذ وجدته أفضل جليس وأجمل أنيس، فبجماله وجلاله يأخذ لبّي ويجلب قلبي، تبهر عيوني وتسحر جناني.
أحب الأدب اللبناني لأنه ولد ونشأ في أسرة من الأسر ذات الحسب والنسب ترجع إلى العرق العريق والأصل الأصيل، ألم يكن هذا الأدب يعتبر أجمل درّة تتلألأ من درر تاج إلاهة عشتروت؟ ألم يكن أقدم هذا الأدب أبدع على أيدي الفينيقيين الذين كانوا يشتهرون بمهارتهم وشطارتهم في بحّارتهم وتجارتهم ، فكانوا أول من اخترعوا الأبجدية في العالم، فنشروها وعلّموها إخوانهم في أنحاء الدنيا، وانتقلوا بالحضارات الكنعانية والساميّة السامية الى أوربا وأفريقيا وسائر بلدان آسيا، فتركوا آثارهم في قرطاجة ومالطة واسبانيا وغيرها، كما نرى تأثيراتهم في الأدب الأغريقي والأدب الرومي وغيرهما، فكان الأدب اللبناني كجزء لا يتجزأ من الأدب الفينيقي والأدب العربي كان مثله مثل الأدب الصيني أدبا مؤثّرا أولا وقبل كل شيء فكانت الحضارات والآداب الغربية مدينة بما جاد به أجدادنا وآباؤنا من الحضارات والآداب الشرقية بما فيها الأدب اللبناني فنستحقّ أن نباهي بمفاخرهم ومآثرهم .
قد ذهب السلف السابقون وجاء الخلف اللاحقون ، فما زال الأدب اللبناني يبقى على جماله وكماله، يحافظ على سنائه وبهائه، رغم تعاقب غزو البغاة وتتابع ظلم الطغاة.
فكان الأدب اللبناني في عصرنا الحديث، يلعب دور الريادة والقيادة في نهضة الأدب العربي، وكان الأدباء من أبناء لبنان في عهد الظلم العثماني يشاركون إخوانهم في مصر عامة والأزهر خاصة في المحافظة على لغة الضاد، فأدخلوا سنة 1610 أول مطبعة في العالم العربي، ألا وهي مطبعة دير قزحيّا، وسافر بعضهم طوعا أو كرها الى مصر ليشاركوا إخوانهم الأدباء هناك في إثارة العرب على الجهل والخمول وإنارتهم في العلم والعقول. حيث رأيناهم أسسوا “الأهرام ” بيد سليم وبشارة تقلا وأصدروا “الهلال ” بيد جرجي زيدان، وكان عمالقة الأدب في مصر يتشرفون بحضور صالون مي زيادة التي قال عنها الشاعر شفيق المعلوف :
بنت الجبال، ربيبة الهرم هيهات يجهل اسمها حيُّ
لم نلقَ سِحْراً سال من قلمٍ إلاّ هتفنا : هذه ميُّ
أحب رواد نهضة الأدب العربي في لبنان:
أحبّ المعلّم بطرس البستاني وسليمان البستاني وسليم البستاني، فكم زهرة وشجرة غرسها هؤلاء البستانيون في “الجنّة ” و”الجنينة ” و”الجنان “.
أحبّ فارس الشدياق ،حينما كان يحكي لنا واضعَ “الساق على الساق فيما هو الفارياق “.
أحبّ ناصيف اليازجي إذ علّمنا كيف نسبح في “البحرين” الشعر والنثر .كما أحب نجله الشاعر إبراهيم اليازجي إذ قال:
فأسْمِعُونِي صليلَ البيض بارقةً في النقْع، إنِّي إلى رَنَّاتها طَرِبُ
لم يبقَ عندكم شيئٌ يُضَنُّ به غيرُ النفوس عليها الذُّلُ ينْسَحِبُ
فبادِروا الموتَ واستغْنُوا براحتِه عن عَيْش مَنْ مات موتًا مِلْؤُه تَعَبُ
وأحب رفيقه في السلاح الشاعر نجيب الحداد يصرخ:
آنَ الأوان لأن أخاطِر بالدمِِ مَن لم يخاطرْ بالدما لم يَسْلَمِ
أ جزيرةَِ العرب التي أحبيتُها كم مِن أكُفٍّ قد رَمَتْكِ بأسْهمِ
لَعِبَتْ أَكُفُّ التُرك فيكِ، فغادرُوا في كلّ قطرٍ فيكِ نَهْرًا من دمِ
أحبّ الأدب اللبناني، وأحبّ خصوصا أولئك الأدباء والشعراء المهاجرين من لبنان إلى أمريكا الشمالية والجنوبية، حيث نظموا الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية، وأنشأوا المدرسة المهجرية التي تمتاز بالابتكار والثورة على الجمود والتقليد مبنىً ومعنىً، مما كوّن أدبا مولّدا جديدا كلَّ الجدّة يتغذّى ويتمثّل بكلتا الحضارتين الشرقية والغربية حيث تتمازجان وتتجاوزان، تتواصلان وتتبادلان، تتفاعلان وتتكاملان، شأن دوره في تاريخ الأدب العربي الحديث شأن دور الأدب الأندلسي في تاريخ الأدب العربي القديم، ووجدت أولئك الأدباء المهجريين برغم أن الظروف أبعدتهم عن وطنهم، فإنهم لم ينسوا مواطنيهم ولو يوما واحدا، بل كانوا يشاطرونهم السرّاء والضرّاء، ويقاسمونهم النعماء والبؤساء، ويشاركونهم في غنائهم وبكائهم، في آمالهم وآلامهم، في حنينهم وأنينهم، ألم يقل إيليا أبو ماضي يخاطب وطنه العربي لبنان:
لبنانُ لا تعْذُلْ بنيكَ إذا هم ركبوا إلى العلياء كلَّ سفينِ
لم يهْجُروكَ مَلامةً لكنهم خُلِقُوا لصيْد اللؤلؤ المكنونِ
لمّا ولدْتَهم نُسوراً حَلَّقُوا لا يَقْنَعون من العُلا بالدونِ
والنسرُ لا يرضى السُجون وإنْ تكنْ ذهبًا، فكيف محابِسُ من طينِ
الأرض للحشرات تزحف فوقها والجوُّ للبازي والشاهينِ
إني أحبّ هذه النسور والبازي والشواهين:
أحبّ جبران خليل جبران ، فكلَّما قرأت ما سطره خيّل إليّ إني أطوف في “حديقة النبيّ” بصحبة هذا “السابق” “المجنون” “التائه “، ينفخ “الأرواح المتمرّدة” في “عرائس المروج ” ذوات “الأجنحة المتكسرة “، أسير معه في “المواكب ” و”العواصف “، فما أنسَ لا أنس كلَّ ما ترك لنا من “دمعة وابتسامة ” و”رَمل وزَبَد “، كأن تلك “البدائع والطرائف” من “النبيّ “، من “آلهة الأرض “، ألم يقل: “جئتُ لأقول كلمة وسأقولها ، وإذا أرجعني الموت قبل ان ألفظها، يقولها الغد، فالغد لايترك سرّاً مكنوناً في كتاب اللانهاية… جئت لأكون للكلّ وبالكلّ، والذي أفعله اليوم في وحدتي يعلنه المستقبل أمام الناس، والذي أقوله الآن بلسان واحد يقوله الآتي بألسنة عديدة ”
ألم يقل الرئيس الأمريكي الأسبق تيودور روزفلت لجبران: “أنت أول عاصفة انطلقت من الشرق واكتسحت الغرب، ولكنها لم تحمل الى شواطئنا غير الزهور”.
أحبّ ميخائيل نعيمة فيلسوف الشُخْروب، أحبّ أن أسايره في “دروب ” أو في “البيادر” في “مهبّ الريح” أو في “النور والديجور” وأستمع الى ما يحكي أو يناجي من “همس الجفون ” وقصص “كان ما كان” عن “أكابر” و”أبو بطة” وأتذوّق معه من “كرم على درب” و”زاد المعاد ”
أحب أمين الريحاني إذ كان يعرّفني ب “ملوك العرب” و”تاريخ نجد الحديث ” ويدلّني الى “قلب لبنان” و”قلب العراق” حتى “المغرب الأقصى”
أحب إيليا أبو ماضي شاعر الجمال والتفاول والتساؤل، يحكي لنا “الحكاية ألأزلية” و”الطلاسم” عند “الجداول ” و”الخمائل “.
أحبّ أن أطاير فوزي المعلوف “على بساط الريح” حتّى نصل “عبقر” شفيق معلوف.
أحبّ رشيد سليم الخوري الشاعر القروي، أصاحبه لاقتطاف “البواكر” و”الأزاهير” في “الأعاصير”، في “الربيع الأخير” ونجني “العناقيد” لعقل الجرّ .
أحبّ أن أشارك إلياس فرحات في “أحلام الراعي ” ونتلو “معلقة الأرز” لنعمة قازان.
أحبّ رشيد أيوب ذلك الشاعر الباكي الشاكي فيُسْمعنا “أغاني الدرويش”.
أحب الشعر والشعراء من لبنان
أحب خليل مطران ذلك الأسد الباكي، شاعر القطرين، إذ قال:
داعٍ إلى العَهْد الجديدِ دعاكِ فاسْتأنِفِي في الخافقَيْنِ عُلاكِ
يا أمّةَ العرب التي هي أمّنا أيَّ الفخار ِ نَمَيْتِه ونماكِ
يَمْضِي الزمانُ وتنْقَضِي أحداثه وهَوَاكِ منّا في القلوب هَوَاكِ
أحبّ إلياس أبو شبكة يعزف ب “القيثارة” “الألحان” و”نداء القلب” يشكو الظلم:
والفقير الضعيف يمسي ذليلا وتصير الأحكام للأغنياء
كم بريء في السجن أمسى شقيًّا من ضحايا الشرائع العمياء
وكم مجرم يعيث فسادا هو في شرعكم من الأبرياء
أحبّ بشارة الخوري الأخطل الصغير شاعر الهوى والشباب. ويعجبني نداؤه:
واخْلُقِ الانسانَ خلقًا راقيًا واقتل البغض به والكبرياءْ
واجعلِ الحبَّ إلهًا ثابتًا واسجن المالَ ولا تُبْقِ الرياء
ولْيكنْ كلُّ امتيازٍ لاغيا يخرج الناس على السواء
أحبّ يوسف غصوب كما أحبّ صلاح لَبْكي شاعر البَوْح والفَوْح .
أحبّ سعيد عقل وجوزيف حرب وأحب خليل الخاوي ويوسف الخال
وتعجبني جرأة أندونيس إذ قال:
سيدي أعرف أن المقصلةْ
بانتظاري
غير أني شاعر أعبد ناري
وأحبّ الجُـلْجُلةْ
أحب القصاصين والروائيين من لبنان:
أحبّ كرم ملحم كرم وما كان يقصّ علينا من ألف قصّة وقصّتين .
أحبّ مارون عبود ، يرينا ويقصّ علينا “وجوه وحكايات” عن “أقزام وجبابرة”
أحبّ يوسف توفيق العواد مفضّلا ذلك “الرغيف ” من “طواحين بيروت “.
وأحبّ سهيل إدريس يعلّمنا كيف نكتب ب”أصابعنا التي تحترق ” عن “الخندق الغميق ” في “الحيّ اللاتيني”.
أحب أن أدخل” باب الشمس”مع إلياس الخوري، بعد ما خرجنا من “أجنحة التيه” لجواد الصيداوي، حيث وجدنا “الظلّ والصدى” ليوسف حبشي الأشقر ورأينا ذلك “الفارس القتيل يترجل ” مع إلياس الديري.
أحبّ الأديبات اللبنانيات
أحب سلمى صائغ فقالت لي إن تلك “النسمات” هي” آهة بلادي”!
أحبّ أملي نصر الله كما أحبّ “طيور أيلول” و”شجرة الدِفْلَى “.
أحبّ ليلى البعلبكية تقول لي “أنا أحيى” مع “الآلهة الممسوخة”
أحب ليلى عسيران تشير الى “عصافير الفجر”قائلة :”لن نموت غدا”
أحب أن أستمع الى حنان الشيخ تقصّ علينا “حكاية زهرة”
أحبّ الأدب اللبناني ، أحب أن أتمشّى أسرّح بأبصارى وأمتّع أنظاري في حدائقه وبساتينه الغنّاء بألوان الأزهار وشتّى الأنوار ومختلف الثمار.وأستمع إلى غناء الطيور وأصغي تغريد البلابل والشحرور.
أحب الأدب اللبناني، أحبّ أن أسبح في سمائه وفضائه لأناجي ما لا يُعدّ ولا يحصى من نجومه اللامعة وكواكبه الساطعة، أحبّ أن أغوص في بحاره الواسعة الشاسعة لأصيد بعض لآلئه المتلألئة ودرره المتشعشعة.
وأخيرا أود أن أكرر: أحبّ لبنان وأحبّ الأدب اللبناني، لا أدري أأحب الثاني بسبب الأول، أم أحب الأول بسبب الثاني. فجئنا اليوم لبنان لنحجّ كعبة الأدب العرب.!
نسيم لبنان كم جادّتك عاطرةٌ من الرياض وكم حياك منسكب
في الشرق والغرب أنفاسٌ مسْعرة تهفو إليك، وأكباد بها لهبُ
لم نلقَ سِحْراً سال من قلمٍ إلاّ هتفنا : هذه ميُّ
لم يبقَ عندكم شيئٌ يُضَنُّ به غيرُ النفوس عليها الذُّلُ ينْسَحِبُ
فبادِروا الموتَ واستغْنُوا براحتِه عن عَيْش مَنْ مات موتًا مِلْؤُه تَعَبُ
أ جزيرةَِ العرب التي أحبيتُها كم مِن أكُفٍّ قد رَمَتْكِ بأسْهمِ
لَعِبَتْ أَكُفُّ التُرك فيكِ، فغادرُوا في كلّ قطرٍ فيكِ نَهْرًا من دمِ
لم يهْجُروكَ مَلامةً لكنهم خُلِقُوا لصيْد اللؤلؤ المكنونِ
لمّا ولدْتَهم نُسوراً حَلَّقُوا لا يَقْنَعون من العُلا بالدونِ
والنسرُ لا يرضى السُجون وإنْ تكنْ ذهبًا، فكيف محابِسُ من طينِ
الأرض للحشرات تزحف فوقها والجوُّ للبازي والشاهينِ
إني أحبّ هذه النسور والبازي والشواهين:
أحبّ رشيد أيوب ذلك الشاعر الباكي الشاكي فيُسْمعنا “أغاني الدرويش”.
داعٍ إلى العَهْد الجديدِ دعاكِ فاسْتأنِفِي في الخافقَيْنِ عُلاكِ
يا أمّةَ العرب التي هي أمّنا أيَّ الفخار ِ نَمَيْتِه ونماكِ
يَمْضِي الزمانُ وتنْقَضِي أحداثه وهَوَاكِ منّا في القلوب هَوَاكِ
والفقير الضعيف يمسي ذليلا وتصير الأحكام للأغنياء
كم بريء في السجن أمسى شقيًّا من ضحايا الشرائع العمياء
وكم مجرم يعيث فسادا هو في شرعكم من الأبرياء
واخْلُقِ الانسانَ خلقًا راقيًا واقتل البغض به والكبرياءْ
واجعلِ الحبَّ إلهًا ثابتًا واسجن المالَ ولا تُبْقِ الرياء
ولْيكنْ كلُّ امتيازٍ لاغيا يخرج الناس على السواء
وتعجبني جرأة أندونيس إذ قال:
سيدي أعرف أن المقصلةْ
بانتظاري
غير أني شاعر أعبد ناري
وأحبّ الجُـلْجُلةْ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق