مقالة سوسن الأبطح في جريدة "الشرق الأوسط"
«ويكيبيديا» في خطر
مدهش جيمي ويلز، الذي يستقبل بحفاوة الفاتحين حيث حلّ، لا لنبوغ له في ذاته، بل لأنه عرف كيف يستفيد من ابتكار تقني بحت، لينشئ أشهر موسوعة جامعة مفتوحة للإنسانية بالمجان. قد لا يدرك البعض أن مؤسس «ويكيبيديا» الخيرية هذا هو أحد التجار الحقيقيين؛ ففي البداية حاول مراكمة الأرباح من خلال موقع إباحي، لكن سرعان ما وجد فكرة أكثر وهجا وسموا، وبات مرتبطا بواحد من أكثر المشاريع تقديرا واحتراما، يجمع له ما يحتاجه من التبرعات ويفيض.
محاولات مستمرة يخوضها ويلز، ليبقي مشروعه نابضا، بالحياة، من تحديث لتطبيق «ويكيبيديا» على أندرويد مع مطلع السنة، إلى مضاعفة لسرعة الموقع باستخدام تقنيات أتاحها «فيسبوك»، إضافة إلى خدمات تجديدية مستمرة تجذب القراء والكتاب معا، لكن يبدو أن المشروع يحمل بذور موته في ذاته، وفي نظامه الخاص.
من المؤسف حقا أن ثمة من بدأ ينعى «ويكيبيديا»، وهي في أوج نجاحها؛ المساهمون باللغة الإنجليزية انخفض عددهم إلى 31 ألف مساهم، أي نصف ما كان عليه عام 2007. العالمون بخفايا ما يحدث داخل «ويكيبيديا»، وهيئتها التحريرية، يتحدثون عن صراعات هائلة، سواء لجهة ذكورية الأجواء واستبعاد للنساء بات فاضحا، أو لجهة حرب الأفكار والمعتقدات التي تشعل توترات متزايدة.
مثير ما تخفيه موسوعة معرفية، يبدو للوهلة الأولى أنها تقطر براءة. لا شيء يبقى عفيفا لحظة تخترقه الآيديولوجيات، ومحاولة سطوة فكر مجموعة على أخرى. الديمقراطية الإنترنتية المفترضة تتلوث باللعبة البشرية الاستبدادية، كما في الواقع المسموم بتجاذباته الحادة.
لا تزال «ويكيبيديا»، بقيادة ويلز، تحاول أن تطهر نفسها من الانحياز الشائن، لجهة أو فكرة، لكن إغراء المال يبدو أنه بدأ يلعب دوره أيضا. هناك كلام عن محاولة لفئات تتبرع بسخاء، تفاوض مع ويلز لتؤمن نشر أو حجب معلومات تخدم مصالحها. لا تزال الأخبار محدودة في هذا المجال، لكن المخاوف تصبح أكبر حين تأتي معلومات مؤكدة عن أن بعض المساهمين، أو المحررين، يتكتلون ليشكلوا ما يشبه عصبة بمقدورها أن تفرض رأيها بفعل قوة المساهمة العددية في موضوع واحد يتم التركيز عليه، وبالتالي تغليب وجهة في الرواية تنتصر على وجهة أخرى معادية، عند تحرير أي موضوع.
ومعلوم أن الموسوعة التي يمكن أن يدخل إليها أي قارئ ويسطر موضوعا، أو يعدل آخر، تخضع لنظام ديمقراطي، لكن التحايل عليه يبقى ممكنا، وبمرور الوقت تصبح شراسة هذا الالتفاف سامة.
ثمة مواضيع ذات قيمة تختفي، وأخرى ذات طبيعة غير موضوعية تفرض نفسها، وهناك مجموعات تحريرية تتعاضد لتنسف معلومة لا تناسب الجهة التي تعمل من أجلها، وغيرها تحاول أخذ المكتوب إلى غير ما تم تسجيله.
الصراع نفسه يمكن رصده داخل الهيئة التحريرية المكلفة تحقيق التوازن الموضوعي، وهو ما يصيب المثابرين المخلصين الذين آمنوا بفكرة ديمقراطية المعرفة، بالامتعاض الشديد واللاجدوى واليأس من إصلاح حال موسوعة باتت تتجاذبها قوى تحاول أن تفرضها توجهاتها، على قراء المعمورة.
النظام الهرمي للموسوعة الشهيرة لا يعني أنها محكومة من الرأس، بقوة مسيطرة، بقدر ما يشي بهشاشة الاحتكام إلى الكثرة العددية.
الإحصاءات الأخيرة للموسوعة التي نشرت منذ أيام فقط، تتحدث عن أكثر من مليوني مشارك فعلي في الكتابة، بينهم 15 ألف مثابر بنهم، أي أن الحركة على التعديل والتحرير هائلة، لكنها تتفاوت بين لغة وأخرى.
100 مليون زائر شهريا ليس بالعدد القليل. ربما أن الحكومات وأصحاب النفوذ بدأوا يدركون بعد ما يقارب العقد ونصف العقد من انطلاق «ويكيبيديا»، أنها ذات تأثير هائل.
قد يكون هذا الفهم المتأخر خدم الموسوعة، وأمد بعمرها، لعل هذا أيضا ما يدفع الروس إلى الإعلان عن تأسيس موسوعة موازية باللغة الروسية، رغبة منهم في تخفيض عدد الزائرين الروس لموضوعات ليست على قياس الجهات الرسمية. أمر لن يحد من سطوة مشروع ويلز الذي لا يزال تجربة فريدة في تاريخ الموسوعات المعرفية إن لجهة شعبيتها، أو سهولة مراجعتها، أو حتى بساطتها، ومجانيتها.
هناك عشرات الموسوعات المنتشرة على الشبكة، بعضها متخصص أو عام، لكن أيا منها لم تبلغ ما جنته «ويكيبيديا» من شعبية.
في بولندا وتقديرا لدور محرري هذا العمل التطوعي الهائل، أقيم نصب تذكاري تحية لمحرري موسوعة وضعت نفسها في خدمة البشرية.
ولدت «ويكيبيديا»، وبلغت وهجها، وها هو الكلام يتزايد عن هبوط خطها البياني، فيما لا يزال العرب فيها زائرين، أكثر منهم محررين ومشاركين فعليين. تجربة «ويكيبيديا» ديمقراطية بامتياز، نموذج يدرس ويحلل لفهم عبقرية إدارة المشاريع الرقمية، وفهم روح التعاون الجماعي بخصوماته وتكتلاته ومصادر قوته.
عاشت «ويكيبيديا»، وتموت «ويكيبيديا»، ونحن خارج المعرفة بمعناها العصري.
من المؤسف حقا أن ثمة من بدأ ينعى «ويكيبيديا»، وهي في أوج نجاحها؛ المساهمون باللغة الإنجليزية انخفض عددهم إلى 31 ألف مساهم، أي نصف ما كان عليه عام 2007. العالمون بخفايا ما يحدث داخل «ويكيبيديا»، وهيئتها التحريرية، يتحدثون عن صراعات هائلة، سواء لجهة ذكورية الأجواء واستبعاد للنساء بات فاضحا، أو لجهة حرب الأفكار والمعتقدات التي تشعل توترات متزايدة.
مثير ما تخفيه موسوعة معرفية، يبدو للوهلة الأولى أنها تقطر براءة. لا شيء يبقى عفيفا لحظة تخترقه الآيديولوجيات، ومحاولة سطوة فكر مجموعة على أخرى. الديمقراطية الإنترنتية المفترضة تتلوث باللعبة البشرية الاستبدادية، كما في الواقع المسموم بتجاذباته الحادة.
لا تزال «ويكيبيديا»، بقيادة ويلز، تحاول أن تطهر نفسها من الانحياز الشائن، لجهة أو فكرة، لكن إغراء المال يبدو أنه بدأ يلعب دوره أيضا. هناك كلام عن محاولة لفئات تتبرع بسخاء، تفاوض مع ويلز لتؤمن نشر أو حجب معلومات تخدم مصالحها. لا تزال الأخبار محدودة في هذا المجال، لكن المخاوف تصبح أكبر حين تأتي معلومات مؤكدة عن أن بعض المساهمين، أو المحررين، يتكتلون ليشكلوا ما يشبه عصبة بمقدورها أن تفرض رأيها بفعل قوة المساهمة العددية في موضوع واحد يتم التركيز عليه، وبالتالي تغليب وجهة في الرواية تنتصر على وجهة أخرى معادية، عند تحرير أي موضوع.
ومعلوم أن الموسوعة التي يمكن أن يدخل إليها أي قارئ ويسطر موضوعا، أو يعدل آخر، تخضع لنظام ديمقراطي، لكن التحايل عليه يبقى ممكنا، وبمرور الوقت تصبح شراسة هذا الالتفاف سامة.
ثمة مواضيع ذات قيمة تختفي، وأخرى ذات طبيعة غير موضوعية تفرض نفسها، وهناك مجموعات تحريرية تتعاضد لتنسف معلومة لا تناسب الجهة التي تعمل من أجلها، وغيرها تحاول أخذ المكتوب إلى غير ما تم تسجيله.
الصراع نفسه يمكن رصده داخل الهيئة التحريرية المكلفة تحقيق التوازن الموضوعي، وهو ما يصيب المثابرين المخلصين الذين آمنوا بفكرة ديمقراطية المعرفة، بالامتعاض الشديد واللاجدوى واليأس من إصلاح حال موسوعة باتت تتجاذبها قوى تحاول أن تفرضها توجهاتها، على قراء المعمورة.
النظام الهرمي للموسوعة الشهيرة لا يعني أنها محكومة من الرأس، بقوة مسيطرة، بقدر ما يشي بهشاشة الاحتكام إلى الكثرة العددية.
الإحصاءات الأخيرة للموسوعة التي نشرت منذ أيام فقط، تتحدث عن أكثر من مليوني مشارك فعلي في الكتابة، بينهم 15 ألف مثابر بنهم، أي أن الحركة على التعديل والتحرير هائلة، لكنها تتفاوت بين لغة وأخرى.
100 مليون زائر شهريا ليس بالعدد القليل. ربما أن الحكومات وأصحاب النفوذ بدأوا يدركون بعد ما يقارب العقد ونصف العقد من انطلاق «ويكيبيديا»، أنها ذات تأثير هائل.
قد يكون هذا الفهم المتأخر خدم الموسوعة، وأمد بعمرها، لعل هذا أيضا ما يدفع الروس إلى الإعلان عن تأسيس موسوعة موازية باللغة الروسية، رغبة منهم في تخفيض عدد الزائرين الروس لموضوعات ليست على قياس الجهات الرسمية. أمر لن يحد من سطوة مشروع ويلز الذي لا يزال تجربة فريدة في تاريخ الموسوعات المعرفية إن لجهة شعبيتها، أو سهولة مراجعتها، أو حتى بساطتها، ومجانيتها.
هناك عشرات الموسوعات المنتشرة على الشبكة، بعضها متخصص أو عام، لكن أيا منها لم تبلغ ما جنته «ويكيبيديا» من شعبية.
في بولندا وتقديرا لدور محرري هذا العمل التطوعي الهائل، أقيم نصب تذكاري تحية لمحرري موسوعة وضعت نفسها في خدمة البشرية.
ولدت «ويكيبيديا»، وبلغت وهجها، وها هو الكلام يتزايد عن هبوط خطها البياني، فيما لا يزال العرب فيها زائرين، أكثر منهم محررين ومشاركين فعليين. تجربة «ويكيبيديا» ديمقراطية بامتياز، نموذج يدرس ويحلل لفهم عبقرية إدارة المشاريع الرقمية، وفهم روح التعاون الجماعي بخصوماته وتكتلاته ومصادر قوته.
عاشت «ويكيبيديا»، وتموت «ويكيبيديا»، ونحن خارج المعرفة بمعناها العصري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق