الأحد، 10 يناير 2016

ألفباء المشاعر الإنسانية



كتبها بلال عبد الهادي



الإنسان ليْس مجرّد كائن بيولوجيّ، هذا ما يقوله الكتاب الممتع لعالم الاجتماع الفرنسيّ دافيد لو بريتون الموسوم:" المشاعر العادية، أنتروبولوجيا الانفعالات". فثمة كثيرون يفترضون أنّ عواطف الإنسان نتاج البيولوجيا وليس نتاج الثقافة، يظهر الكاتب أنّ هذا القول قد ينطوي على خبث دفين وماكر لأنه قد يؤدي إلى اعتبار الإنسان محكوماً بالبيولوجيا مع الاحتمالات التي يفتحها هكذا اعتبار على مفاهيم عنصرية يمكن أن تجلب المآسي على العالم كما حصل عبر فترات تاريخية سابقة.
ألم تصنف المجتمات، في أزمنة غابرة، تصنيفات أخذت هذا المنحى وجعلت من يتبناها يقع أسير الأفكار المسبقة العمياء؟ طبعاً لا ينكر الكاتب دور البيولوجيا إذ من العبث إنكار دورها ولكنه يردف بأنها وحدها تعجز عن تفسير المشاعر الإنسانية والعواطف، لأنّ العواطف أكثر من مجرد تجلّيات بيولوجية.
فالكاتب يشير في كتابه إلى العامل النسبيّ والمتغيّر في ما يخصّ المشاعر، فهي قابلة للنموّ والذبول والتحوّل فليس هناك شعور إنسانيّ جامد وثابت غير قابل للتطور. ويرى الكاتب ان معرفة ذلك لا تتمّ إلا من خلال الاطّلاع على الكيفية والخلفية الكامنة وراء تجلّيات المشاعر لدى البشر وإلاّ فإنّ كلّ تفسير يظلّ رهين الخطأ والعشوائية. ولعلّ هذا ما ذهب إليه أيضا الأنتروبولوجي الأمريكي إدوارد هول الذي يستشهد المؤلف بمجموعة شيّقة من كتبه مثل: البعد الخفي " و " ما وراء الثقافة".وتنتمي العواطف إلى ذلك "البعد الخفي" الذي لا يمكن درسه ضمن إطار "الكليّات الشعورية". لأنّ وجهة النظر القائلة بعالمية المشاعر أي باعتبارها ظاهرة واحدة ذات تجليات متشابهة لدى كل الثقافات ليست أكثر من عقبة كأداء أمام الكشف عن هذه المشاعر التي تتلوّن بألوان الجغرافيا وألوان الثقافة.
يحاول الكاتب عبر الاستناد إلى دراسات علميّة ونفسيّة واجتماعيّة وانتروبولوجيّة أن يظهر تهافت القول بعالمية المشاعر وبخضوعها الكلّيّ للعامل البيولوجيّ.هذه النظرة،برأيه، لا تبيح فهم الآخر، بل على العكس تطمس دلالات التباينات، وتؤدي إلى توليد التباسات عاتية على صعيد العلاقات بين الثقافات، إذ أكثر ما يدور تحت تسمية "صراع الحضارات " ليس أكثر من نتيجة سوء تفسير وتدبّر لمحركات المشاعر والعواطف.
يعترف الكاتب، بدءاً، بالصعاب التي تعترض من يريد سبر أغوار العواطف والكشف عن دلالاتها. ويقول أنّ المشاعر أشبه باللغة فكما أنّ الإنسان يولد وهو مهيأ لاكتساب أي لغة من اللغات كذلك الأمر فيما يخصّ المشاعر فهو مهيّأ لأن يكتسب أيّ نوع من المشاعر، ولا تنغرز فيه وتتعزز في الأخير إلا المشاعر التي تحكم البيئة التي يوجد فيها، وكما ان الإنسان قادر أيضاً على اكتساب لغة ثانية وثالثة كذلك الأمر بالنسبة للمشاعر فهو بامكانه اكتساب مشاعر جديدة أو إضافية تبعاً لتجاربه الجديدة أو مكان عيشه الجديد.وهذا ما يتبيّن للكاتب من خلال قراءة لغة الإشارات عند المهاجرين الجدد إلى أميركا مقارنة بلغة الإشارات في بلادهم الأصلية.
ولا يجوز للدارس، كما يقول المؤلف، ان ينخدع بالشكل، أو أن يعطيه معنى واحدا لدى الجميع، لأنّه ينطوي على دلالات مختلفة بل وأحيانا متعارضة تبعاً لهويّة هذا الشكل. وكثيراً ما يتوقف الكاتب عند حالات أو مواقف أو إشارات متعددة الدلالات بناء للمكان الثقافيّ الذي تتجلى فيه هذه المشاعر. وليس أطرف من أن تدرس ردود الأفعال مثلاً على الطرائف والتعليقات على المضحك وغير المضحك منها حيث يتبين للدارس ان الطرفة الواحدة تتغيّر ردود مستقبليها، بمعنى انه لا يمكن اعتبار التأثر بالضحك واحداً، ونجاح وفشل بعض الطرائف يعود إلى هذا السبب الثقافي الشعوري إزاء الأشياء. وكثيرا ما يسمع المرء استهزاء بطرائف لا تثير لديه أي شعور في حين أنها تمثل أمرا في غاية الطرافة لدى الشعب الذي افرزها. ومن هنا، فإنّ الاكتفاء بدراسة المشاعر بيولوجيّاً بمثابة اقتلاع لهذه المشاعر من تربتها، وتجريدها من سياقها الطبيعي مما يؤثر سلباً على فهم دلالاتها.
ومن الأمور الطريفة التي يدرسها الكتاب، تجليات الاختلافات بين الناس على مستوى لغة الجسد، فالكاتب يرى ان طريقة تعاملنا مع أجسادنا، تحدده الثقافة التي ننتمي إليها، فمن خلال دراسات ميدانية قام بها العالم "أفرون" على مجموعات مهاجرة أيطالية ويهودية في الولايات المتحدة، بين كيف ان الهجرة غيرت من طريقة تعامل هؤلاء المهاجرين مع أجسادهم. وهذا ما يمكن ان يلحظ أيضا على صعيد التعامل مع اللهجة, فالريفي النازل إلى المدينة يكتسب لهجة أهل المدن أو في الأقل تخف لديه حدّة لهجته ولكن مع عودته إلى الريف يعود ويستخدم لا شعورياً لهجته الأولى, وهذا ما يحدث تماماً على صعيد لغة الإشارات. ويتوقّف الكاتب عند تعابير الجسد باعتبارها أغلب الأحيان أقدر على إظهار المشاعر من الكلام نفسه، لأنّ المرء يسيطر على طريقته في الكلام أكثر مما يسيطر على تعابيره الجسمانية.
ويتناول علاقة الثقافات بالصمت، واستبداله، أحياناً، بلغة الإشارات فيروي فصولاً ممتعة عن قبائل يفرض فيها على الأرملة التعبير عن حزنها بالانقطاع التام عن الكلام لمدّة عام أو أكثر، ولا يعني الانقطاع عن الكلام عدم التواصل، إذ لا مفرّ منه فيكون الكلام بواسطة تعابير الجسد هو البديل، وهذا ما يحصل في قبيلة "ورامونغا" في استراليا، وقد تطول مدّة الصمت لأكثر من عام، ويقول الكاتب إنّ عدداً من النساء يستمررن في استخدام لغة الإشارات حتى بعد فكّ الحزن لاعتيادهن على هذه اللغة.
ويحاول الكاتب على امتداد الكتاب بسط الفوارق الشعورية التي تفرزها الثقافات من دون أنْ يعطي أحكاماً قيميّة أو تفاضلية لهذه الثقافة أو تلك. ويقول أن ليس ثمّة دليل أبسط على اختلاف المشاعر من الارتباك الذي يشعر به البعض أمام مشاعر الحزن وما يستتبع ذلك من طقوس وشعائر تختلف بحسب الأديان والمجتمعات، فالكنّة الصينية يفترض بها أن تظهر حزناً على حماتها أكثر مما تظهره على أمّها، وقد يشعر شخص من خارج الثقافة الصينية باعتباطيّة هذا الحزن أو، في أقلّ تقدير، بغرائبيته وتفسير ذلك إلا يحكم على هذه المشاعر من خارج شبكة القيم التي تقوم عليها المشاعر في الصين على سبيل المثال. وفي اليابان ليس من المرغوب أنْ يظهر أثر الحزن على تعابير الوجه، وهذا ما ينقله "مرسيا إلياد" المتخصّص في علم الأديان حيث يقول الأخير إنّه يذكر حادثة معبرة حصلت له مع طالبة يابانية حضرت إليه مبتسمة طالبة منه تأجيل الموعد معه بسبب وفاة والدها. وسبب البسمة اليابانية هو أنّ الأحزان الشخصية مسألة ذاتية جدا ومن اللياقة الاجتماعية عدم إرغام الآخرين على مشاركتنا أحزاننا الذاتية. أي ان مفهوم المواساة لديهم مختلف عمّا عليه الحال في ثقافات أخرى. وليس مستغرباً في اليابان نقل الأخبار الحزينة والبسمة ترتسم على الشفاه، وهذا ما لا يمكن تصوره لدى شعوب أخرى، وما أكثر ما ينتقد مذيع أو مذيعة تلفزيونية إذا ما نقل خبرا محزنا وهو مبتسم، لأن ذلك يفسر في الثقافة الغربية على أنّه صفاقة في الحسّ. وهذه الأمور لا يمكن تفسيرها الصحيح إلا على خلفية الثقافة والمعتقدات والأعراف الاجتماعية، مما يعنى هنا أنّ الابتسامة لا يمكن ربطها فقط بأحاسيس الفرح أو المتعة. وفي الصِّيْن يعبر عن الغضب ببسمة، في حين يُلحظ في بعض اللغات كلغة قبيلة "أوتكا" في الاسكيمو عدم وجود مفردة تعني مشاعر الغضب، لأنهم كما يقول الأنتروبولوجي "جان بْريغْزْ" لا يظهرون أي نوع من الغضب، وهو شعور غير موجود في حياتهم.
وتجلّيات الخوف ليست واحدة أيضا فممّا يقوله الكاتب إنّ النوم مثلاً في "بالي" يقرن بالخوف وثمّة تعبير خاصّ له يسمى "الخوف المنوّم"، وهو وسيلة يعبر بها الخائف عن خوفه، بل وسيلة يقاوم بها ما يمتلكه من مشاعر الخوف.
ويشير الكاتب إلى ناحية شديدة الأهمية، وهي صعوبة ترجمة مفردات المشاعر من لغة إلى أخرى، بل انه يقترح الحفاظ على مفردات المشاعر في عملية النقل مع شرح مدلول كل لفظة شعورية، لان إعطاء مرادف لمفردة ما إنّما هو بمثابة تشويه أو بتر لدلالة هذه المفردة أو تلك إذ نادراً ما تتطابق دلالات مفردات المشاعر، لأنها تحمل في حناياها مفاهيم ليس بالضرورة ان تحملها مفردات اللغة المنقولة إليها. وهنا يتوقّف الكاتب عند مفردات كثيرة من لغات مختلفة ليظهر مدى انتقاص الترجمة لمفاهيم هذه المشاعر.ويشير الكاتب إلى أنّ اختلاف عدد مفردات الكلمات والتعابير الحقيقية والمجازية من لغة إلى أخرى يشف عن اختلاف في المفاهيم التي تتضمنها هذه الثقافات في ما يخص المشاعر. ولا ريب في أنّ الكاتب هنا يفتح باباً جديراً بالدراسة لبناء أطلس علمي وانتروبولوجي ضروري للمشاعر.
وينهي الكاتب في فصل شيّق عن التمثيل وكيف تتجلى فيه العواطف والمشاعر التي تساعد الإنسان على اكتشاف نسبيّة المشاعر من جهة واختلافاتها تبعاً لجنسيّات الأفلام من جهة أخرى، كما يتكلّم عن مفهوم "المحاكاة " التي تعتبر أهمّ ما يميّز مهنة التمثيل.ويقول لو أنّ جوهر المشاعر بيولوجيّ محض لتعذّر أمّرُ التمثيل حيث يتّخذ الكاتب من التمثيل حجّة على أولئك الذين يعتبرون المشاعر تخضع لسلطان البيولوجيا.

عنوان الكتاب بالفرنسي:les passions ordinaires
نشر المقال في جريدة "الشرق الأوسط ".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق