الليلة السادسة
ثم حضرته ليلة أخرى فأول ما فاتح به المجلس أن قال: أتفضّل العرب على العجم أم العجم على العرب؟
قلت: الأمم عند العلماء أربع: الروم، والعرب، وفارس، والهند، وثلاث من هؤلاء عجم، وصعب أن يقال: العرب وحدها أفضل من هؤلاء الثلاثة، مع جوامع ما لها، وتفاريق ما عندها.
قال: إنّما أريد بهذا الفرس.
فقلت: قبل أن أحكم بشيء من تلقاء نفسي، أروي كلاما لابن المقفّع، وهو أصيل في الفرس عريق في العجم، مفضّل بين أهل الفضل، وهو صاحب (اليتيمة) القائل: تركت أصحاب الرسائل بعد هذا الكتاب في ضحضاح من الكلام.
قال: هات على بركة الله وعونه.
قلت: قال شبيب بن شبّة: إنّا لوقوف في عرصة المربد- وهو موقف الأشراف ومجتمع الناس وقد حضر أعيان المصر- إذ طلع ابن المقفّع، فما فينا أحد إلّا هشّ له، وارتاح إلى مساءلته، وسررنا بطلعته، فقال: ما يقفكم على متون دوابّكم في هذا الموضع؟ فو الله لو بعث الخليفة إلى أهل الأرض يبتغي مثلكم ما أصاب أحدا سواكم، فهل لكم في دار ابن برثن في ظلّ ممدود، وواقية من الشمس، واستقبال من الشّمال، وترويح للدّوابّ والغلمان، ونتمهّد الأرض فإنّها خير بساط وأوطؤه، ويسمع بعضنا من بعض فهو أمدّ للمجلس، وأدرّ للحديث. فسارعنا إلى ذلك، ونزلنا عن دوابنا في دار ابن برثن نتنسّم الشّمال، إذ أقبل علينا ابن المقفّع، فقال: أيّ الأمم أعقل؟ فظننا أنه يريد الفرس، فقلنا: فارس أعقل الأمم، نقصد مقاربته، ونتوخّى مصانعته. فقال: كلّا، ليس ذلك لها ولا فيها، هم قوم علّموا فتعلّموا، ومثّل لهم فامتثلوا واقتدوا وبدئوا بأمر فصاروا إلى اتّباعه، ليس لهم استنباط ولا استخراج. فقلنا له: الرّوم. فقال: ليس ذلك عندها، بل لهم أبدان وثيقة وهم أصحاب بناء وهندسة، لا يعرفون سواهما، ولا يحسنون غيرهما. قلنا: فالصّين. قال: أصحاب أثاث وصنعة، لا فكر لها ولا رويّة.
قلنا: فالتّرك. قال: سباع للهراش. قلنا: فالهند. قال: أصحاب وهم ومخرقة وشعبذة وحيلة. قلنا: فالزّنج. قال: بهائم هاملة. فرددنا الأمر إليه. قال: العرب. فتلاحظنا وهمس بعضنا إلى بعض، فغاظه ذلك منّا، وامتقع لونه، ثم قال: كأنّكم تظنّون فيّ مقاربتكم، فو الله لوددت أنّ الأمر ليس لكم ولا فيكم ولكن كرهت إن فاتني الأمر أن يفوتني الصواب، ولكن لا أدعكم حتى أبيّن لكم لم قلت ذلك، لأخرج من ظنّة المداراة، وتوهّم المصانعة، إن العرب ليس لها أول تؤمّه ولا كتاب يدلّها، أهل بلد قفر، ووحشة من الإنس، احتاج كلّ واحد منهم في وحدته إلى فكره ونظره وعقله، وعلموا أنّ معاشهم من نبات الأرض فوسموا كلّ شيء بسمته، ونسبوه إلى جنسه وعرفوا مصلحة ذلك في رطبه ويابسه، وأوقاته وأزمنته، وما يصلح منه في الشاة والبعير، ثم نظروا إلى الزمان واختلافه فجعلوه ربيعيا وصيفيا، وقيظيا وشتويا، ثم علموا أنّ شربهم من السماء، فوضعوا لذلك الأنواء، وعرفوا تغيّر الزمان فجعلوا له منازله من السنة، واحتاجوا إلى الانتشار في الأرض، فجعلوا نجوم السماء أدلّة على أطراف الأرض وأقطارها، فسلكوا بها البلاد، وجعلوا بينهم شيئا ينتهون به عن المنكر، ويرغّبهم في الجميل، ويتجنّبون به الدناءة ويحضّهم على المكارم، حتى إنّ الرجل منهم وهو في فجّ من الأرض يصف المكارم فما يبقي من نعتها شيئا، ويسرف في ذمّ المساوئ فلا يقصّر، ليس لهم كلام إلّا وهم يتحاضّون به على اصطناع المعروف ثم حفظ الجار وبذل المال وابتناء المحامد، كلّ واحد منهم يصيب ذلك بعقله، ويستخرجه بفطنته وفكرته فلا يتعلّمون ولا يتأدّبون، بل نحائز «1» مؤدّبة، وعقول عارفة، فلذلك قلت لكم: إنهم أعقل الأمم، لصحّة الفطرة واعتدال البنية وصواب الفكر وذكاء الفهم. هذا آخر الحديث، قال: ما أحسن ما قال ابن المقفّع! وما أحسن ما قصصته وما أتيت به! هات الآن ما عندك من مسموع ومستنبط.
فقلت: إن كان ما قال هذا الرجل البارع في أدبه المقدّم بعقله كافيا فالزيادة عليه فضل مستغنى عنه، وإعقابه بما هو مثله لا فائدة فيه.
فقال: حدّ الوصف في التزيين والتقبيح مختلف الدلائل على ما يعتقد صوابه وخطؤه، متباين، وهذه مسألة- أعني تفضيل أمّة على أمّة- من أمّهات ما تدارأ الناس عليه وتدافعو فيه، ولم يرجعوا منذ تناقلوا الكلام في هذا الباب إلى صلح متين واتفاق ظاهر.
فقلت: بالواجب ما وقع هذا، فإن الفارسيّ ليس في فطرته ولا عادته ولا منشئه أن يعترف بفضل العربيّ، ولا في جبلّة العربي وديدنه أن يقرّ بفضل الفارسيّ. وكذلك الهنديّ والروميّ والتركيّ والديلميّ، وبعد، فاعتبار الفضل والشرف موقوف على شيئين: أحدهما ما خص به قوم دون قوم في أيام النشأة بالاختيار للجيّد والرديء، والرأي الصائب والفائل، والنظر في الأوّل والآخر. وإذا وقف الأمر على هذا فلكلّ أمّة فضائل ورذائل ولكلّ قوم محاسن ومساو، ولكلّ طائفة من الناس في صناعتها وحلّها وعقدها كمال وتقصير، وهذا يقضي بأنّ الخيرات والفضائل والشرور والنقائص مفاضة على جميع الخلق، مفضوضة بين كلّهم.
فللفرس السياسة والآداب والحدود والرسوم، وللرّوم العلم والحكمة، وللهند الفكر والرويّة والخفّة والسّحر والأناة، وللتّرك الشجاعة والإقدام، وللزّنج الصبر والكدّ والفرح، وللعرب النّجدة والقرى والوفاء والبلاء والجود والذّمام والخطابة والبيان.
ثم إنّ هذه الفضائل المذكورة، في هذه الأمم المشهورة، ليست لكلّ واحد من أفرادها، بل هي الشائعة بينها، ثم في جملتها من هو عار من جميعها، وموسوم بأضدادها، يعني أنه لا تخلو الفرس من جاهل بالسياسة، خال من الأدب، داخل في الرّعاع والهمج، وكذلك العرب لا تخلو من جبان جاهل طيّاش بخيل عييّ وكذلك الهند والرّوم وغيرهم، فعلى هذا إذا قوبل أهل الفضل والكمال من الرّوم بأهل الفضل والكمال من الفرس، تلاقوا على صراط مستقيم، ولم يكن بينهم تفاوت إلّا في مقادير الفضل وحدود الكمال، وتلك لا تخصّ بل تلمّ. وكذلك إذا قوبل أهل النقص والرذيلة من أمّة بأهل النقص والخساسة من أمّة أخرى، تلاقوا على نهج واحد، ولم يقع بينهم تفاوت إلّا في الأقدار والحدود، وتلك لا يلتفت إليها، ولا يعار «1» عليها، فقد بان بهذا الكشف أنّ الأمم كلّها تقاسمت الفضائل والنقائص باضطرار الفطرة، واختيار الفكرة. ولم يكن بعد ذلك إلّا ما يتنازعه الناس بينهم بالنسبة الترابيّة، والعادة المنشئيّة والهوى الغالب من النّفس الغضبيّة، والنّزاع الهائج من القوّة الشهويّة.
وها هنا شيء آخر، وهو أصل كبير لا يجوز أن يخلو كلامنا من الدلالة عليه والإيماء إليه، وهو أنّ كلّ أمّة لها زمان على ضدها، وهذا بيّن مكشوف إذا أرسلت وهمك في دولة يونان والإسكندر، لمّا غلب وساس وملك ورأس وفتق ورتق ورسم ودبّر وأمر، وحثّ وزجر، ومحا وسطّر، وفعل وأخبر، وكذلك إذا عطفت إلى حديث كسرى أنو شروان وجدت هذه الأحوال بأعيانها، وإن كانت في غلف غير غلف الأوّل، ومعارض غير معارض المتقدّم، ولهذا قال أبو مسلم صاحب الدولة حين قيل له: أي الناس وجدتهم أشجع؟ فقال: كل قوم في إقبال دولتهم شجعان. وقد صدق، وعلى هذا كلّ أمّة في مبدأ سعادتها أفضل وأنجد وأشجع وأمجد وأسخى وأجود وأخطب وأنطق وأرأى وأصدق، وهذا الاعتبار ينساق من شيء عامّ لجميع الأمم، إلى شيء شامل لأمّة أمة إلى شيء حاو لطائفة، إلى شيء غالب على قبيلة قبيلة، إلى شيء معتاد في بيت بيت، إلى شيء خاصّ بشخص شخص وإنسان إنسان، وهذا التحوّل من أمّة إلى أمّة، يشير إلى فيض جود الله تعالى على جميع بريّته وخليقته بحسب استجابتهم لقبوله، واستعدادهم على تطاول الدهر في نيل ذلك من فضله ومن رقي إلى هذه الرّبوة بعين لا قذىّ بها، أبصر الحقّ عيانا بلا مرية، وأخبر عنه بلا فرية، ومتى صدق نظرك في مبادئ الأحوال وأوائل الأمور وضح لك هذا كلّه كالنهار إذا متع «1» ، واستنار كالقمر إذا طلع، ولم يبق حينئذ ريب في عرفان الحقّ وحصول الصواب، إلّا ما يلتاث بالهوى، ويسمج بالتعصّب، ويجلب اللّجاج، ويخرج إلى المحك «2» ، فهناك يطيح المعنى ويضلّ المراد.
فإذا آثرت أن تعرف صحة هذا الحكم وصواب هذا الرأي، فاسمع ما أرويه، قال إسحاق بن إبراهيم الموصليّ: انصرف العبّاس بن مرداس السّلميّ من مكّة فقال:
«يا بني سليم، إني رأيت أمرا، وسيكون خيرا، رأيت بني عبد المطلب كأنّ قدودهم الرّماح الرّدينيّة، وكأن وجوههم بدور الدّجنّة وكأن عمائمهم فوق الرجال ألوية، وكأنّ منطقهم مطر الوبل على المحل، وإن الله إذا أراد ثمرا غرس له غرسا، وإنّ أولئك غرس الله، فترقّبوا ثمرته وتوكّفوا غيثه، وتفيّئوا ظلاله، واستبشروا بنعمة الله عليكم به» . ولقد قرع العبّاس بهذا الكلام باب الغيب، وشعر بالمستور، وأحسّ بالخافي، واطّلع عقله على المستتر، واهتدى بلطف هاجسه إلى الأمر المزمع، والحادث المتوقّع، وهذا شيء فاش في العرب، لطول وحدتها، وصفاء فكرتها، وجودة بنيتها واعتدال هيئتها، وصحّة فطرتها، وخلاء ذرعها، واتّقاد طبعها، وسعة لغتها وتصاريف كلامها في أسمائها وأفعالها وحروفها، وجولانها في اشتقاقاتها، ومآخذها البديعة في استعاراتها، وغرائب تصرّفها في اختصاراتها، ولطف كناياتها في مقابلة تصريحاتها، وفنون تبحبها في أكناف مقاصدها، وعجيب مقاربتها في حركات لفظها، وهذا وأضعافه مسلّم لهم، وموفّر عليهم، ومعروف فيهم ومنسوب إليهم، مع الشجاعة والنّجدة والذّمام والضّيافة والفطنة والخطابة والحميّة والأنفة والحفاظ والوفاء، والبذل والسّخاء، والتّهالك في حبّ الثناء والنّكل الشديد عن الذم والهجاء، إلى غير ذلك ممّا خصّت به في جاهليّتها قبل الإسلام، ممّا لا سبيل إلى دفعه وجحوده، والبهت فيه، والمكابرة عليه، وقد سمعنا لغات كثيرة- وإن لم نستوعبها- من جميع الأمم، كلغة أصحابنا العجم والروم والهند والترك وخوارزم وصقلاب وأندلس والزّنج، فما وجدنا لشيء من هذه اللغات نصوع العربيّة، أعني الفرج التي في كلماتها، والفضاء الذي نجده بين حروفها، والمسافة الّتي بين مخارجها، والمعادلة التي نذوقها في أمثلتها، والمساواة التي لا تجحد في أبنيتها، وإذا شئت أن تعرف حقيقة هذا القول، وصحّة هذا الحكم، فالحظ عرض اللّغات الّذي هو بين أشدّها تلابسا وتداخلا، وترادفا وتعاظلا وتعسّرا وتعوّصا، وإلى ما بعدها ممّا هو أسلس حروفا، وأرقّ لفظا، وأخفّ اسما، وألطف أوزانا، وأحضر عيانا، وأحلى مخرجا وأجلى منهجا وأعلى مدرجا، وأعدل عدلا، وأوضح فضلا، وأصحّ وصلا إلى أن تنزل إلى لغة بعد لغة، ثم تنتهي إلى العربية، فإنّك تحكم بأن المبدأ الذي أشرنا إليه في العوائص والأغماض، سرى قليلا قليلا حتى وقف على العربية في الإفصاح والإيماض.
وهذا شيء يجده كلّ من كان صحيح البنية، بريئا من الآفة، متنزّها عن الهوى والعصبيّة، محبا للإنصاف في الخصومة، متحرّيا للحقّ في الحكومة، غير مسترقّ بالتقليد، ولا مخدوع بالإلف، ولا مسخّر بالعادة. وإنّي لأعجب كثيرا ممّن يرجع إلى فضل واسع، وعلم جامع، وعقل سديد، وأدب كثير، إذا أبى هذا الذي وصفته، وأنكر ما ذكرته، وأعجب أيضا فضل عجب من الجيهانيّ في كتابه وهو يسبّ العرب، ويتناول أعراضها ويحطّ من أقدارها، ويقول: يأكلون اليرابيع والضّباب والجرذان والحيّات ويتغاورون ويتساورون، ويتهاجون ويتفاحشون، وكأنّهم قد سلخوا من فضائل البشر، ولبسوا أهب الخنازير.
قال: ولهذا كان كسرى يسمّي ملك العرب: «سكان شاه» ، أي ملك الكلاب. قال:
وهذا لشدّة شبههم بالكلاب وجرائها، والذئاب وأطلائها «1» ، وكلاما كثيرا من هذا الصّوب أرفع قدره عن مثله، وإن كان يضع من نفسه بفضل قوله. أتراه لا يعلم لو نزل ذلك القفر وتلك الجزيرة وذلك المكان الخاوي وتلك الفيافي والموامي، كلّ كسرى كان في الفرس، وكلّ قيصر كان في الروم، وكلّ بلهور كان بالهند، وكلّ بغفور كان بخراسان، وكلّ خاقان كان بالتّرك وكلّ أخشاد كان بفرغانة وكلّ صبهبذ كان من أسكنان وأردوان، ما كانوا يعدون هذه الأحوال، لأنّ من جاع أكل ما وجد، وطعم ما لحق، وشرب ما قدر عليه، حبّا للحياة، وطلبا للبقاء، وجزعا من الموت، وهربا من الفناء. أترى أنوشروان إذا وقع إلى فيافي بني أسد وبرّ (وبار) وسفوح طيبة، ورمل يبرين وساحة هبير، وجاع وعطش وعري، أما كان يأكل اليربوع والجرذان، وما كان يشرب بول الجمل وماء البئر، وما أسن في تلك الوهدات؟ أو ما كان يلبس البرجد والخميصة والسّمل من الثياب وما هو دونه وأخشن؟ بلى والله، ويأكل حشرات الأرض ونبات الجبال، وكلّ ما حمض ومرّ، وخبث وضرّ، هذا جهل من قائله، وحيف من منتحله، على أن العرب- رحمك الله- أحسن الناس حالا وعيشا إذا جادتهم السماء، وصدقتهم الأنواء «1» ، وازدانت الأرض، فهدّلت الثمار، واطّردت الأودية، وكثر اللّبن والأقط والجبن واللّحم والرّطب والتّمر والقمح، وقامت لهم الأسواق، وطابت المرابع وفشا الخصب، وتوالى النّتاج، واتّصلت الميرة، وصدق المصاب وأرفغ «2» المنتجع، وتلاقت القبائل على المحاضر، وتقاولوا وتضايفوا، وتعاقدوا وتعاهدوا، وتزاوروا وتناشدوا، وعقدوا الذّمم، ونطقوا بالحكم، وقروا الطّرّاق، ووصلوا العفاة، وزوّدوا السابلة، وأرشدوا الضّلّال، وقاموا بالحمالات «3» وفكّوا الأسرى، وتداعوا الجفلى «4» ، وتعافوا النّقرى «5» ، وتنافسوا في أفعال المعروف، هذا وهم في مساقط رؤوسهم، بين جبالهم ورمالهم، ومناشئ آبائهم وأجدادهم، وموالد أهلهم وأولادهم، على جاهليّتهم الأولى والثانية، وقد رأيت حين هبّت ريحهم وأشرقت دولتهم بالدعوة، وانتشرت دعوتهم بالملّة، وعزّت ملّتهم بالنبوّة، وغلبت نبوّتهم بالشّريعة، ورسخت شريعتهم بالخلافة، ونضّرت خلافتهم بالسياسة الدينيّة والدّنيويّة، كيف تحوّلت جميع محاسن الأمم إليهم وكيف وقعت فضائل الأجيال عليهم من غير أن طلبوها وكدحوا في حيازتها أو تعبوا في نيلها، بل جاءتهم هذه المناقب والمفاخر، وهذه النوادر من المآثر عفوا، وقطنت بين أطناب بيوتهم سهوا رهوا، وهكذا يكون كلّ شيء تولّاه الله بتوفيقه، وساقه إلى أهله بتأييده، وحلّى مستحقّيه باختياره، ولا غالب لأمر الله، ولا مبدّل لحكم الله، ولذلك قال الله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
[آل عمران: 26] . ولله في خلقه أسرار، تتصرّف بها دوائر الليل والنهار، وتذلّلها مجاري الأقدار، حتى ينتهى بمحبوبها ومكروهها إلى القرار.
عزّ إلها معبودا، وجلّ ربّا محمودا مقصودا. وبعد، فالّذي لا شكّ فيه من وصف العرب، ولا جاحد له من حالها، أنه ليس على وجه الأرض جيل من الناس ينزلون القفر، وينتجعون السحاب والقطر، ويعالجون الإبل والخيل والغنم وغيرها، ويستبدّون في مصالحهم بكلّ ما عزّ وهان، وبكلّ ما قلّ وكثر، وبكل ما سهل وعسر، ويرجون الخير من السماء في صوبها، ومن الأرض في نباتها، مع مراعاة الأوان بعد الأوان، وثقة بالحال بعد الحال وتبصرة فيما يفعل ويجتنب، ما للعرب فيما قدّمنا وصفه، وكرّرنا شرحه من علمهم بالخصب والجدب، واللّين والقسوة، والحرّ والبرد، والرياح المختلفة والسحائب الكاذبة، والمخايل الصادقة، والأنواء المحمودة والمذمومة، والأسباب الغريبة العجيبة.
وهذا لأنّهم مع توحّشهم مستأنسون، وفي بواديهم حاضرون، فقد اجتمع لهم من عادات الحاضرة أحسن العادات، ومن أخلاق البادية أطهر الأخلاق.
وهذا المعنى على هذا النّظم قد عدمه أصحاب المدن وأرباب الحضر، لأن الدناءة والرّقّة والكيس والهين والخلابة والخداع والحيلة والمكر والخبّ تغلب على هؤلاء وتملكهم، لأن مدار أمرهم على المعاملات السيّئة، والكذب في الحسّ، والخلف في الوعد.
والعرب قد قدّسها الله عن هذا الباب بأسره، وجبلها على أشرف الأخلاق بقدرته، ولهذا تجد أحدهم وهو في بتّ «1» حافيا حاسرا يذكر الكرم، ويفتخر بالمحمدة، وينتحل النّجدة، ويحتمل الكلّ «2» ، ويضحك في وجه الضيف ويستقبله بالبشر، ويقول: أحدّثه إن الحديث من القرى. ثمّ لا يقنع ببثّ العرف وفعل الخير والصبر على النوائب حتى يحضّ الصغير والكبير على ذلك ويدعو إليه، ويستنهضه نحوه، ويكلّفه مجهوده وعفوه.
وقد قيل لرجل منهم في يوم شات وهو يمشي في سمل «3» : أما تجد البرد يا أخا العرب؟ فقال: أمشي الخيزلي ويدفئني حسبي. والفارسيّ لا يحسن هذا النّمط، ولا يذوق هذا المعنى ولا يحلم بهذه اللّطيفة، وكذلك الروميّ والهنديّ وغيرهما من جميع العجم.
وممّا يدلّ على تحضّرهم في باديتهم، وتبدّيهم في تحضّرهم، وتحلّيهم بأشرف أحوال الأمرين، أسواقهم التي لهم في الجاهليّة، مثل دومة الجندل بقرى كلب وهي النصف بين العراق والشأم، كان ينزلها الناس أوّل يوم من شهر ربيع الأول، فيقيمون أسواقهم بالبيع والشراء، والأخذ والعطاء، وكان يعشّرهم أكيدر دومة، وربما غلبت على السوق كلب فيعشّرهم «4» بعض رؤساء كلب، فيقوم سوقهم إلى آخر الشهر، ثم ينتقلون إلى سوق هجر، وهو المشقّر في شهر ربيع الآخر، فتقوم أسواقهم، وكان يعشّرهم المنذر بن ساوى أحد بني عبد الله بن دارم، ثم يرتحلون نحو عمان، فتقوم سوقهم بديار دبا، ثم بصحار، ثمّ يرتحلون فينزلون إرم، وقرى الشّحر فتقوم أسواقهم أيّاما، ثم يرتحلون فينزلون عدن أبين، ومن سوق عدن تشترى اللطائم وأنواع الطّيب، ولم يكن في الأرض أكثر طيبا، ولا أحذق صنّاعا للطّيب من عدن، ثم يرتحلون فينزلون الرابية من حضرموت، ومنهم من يجوزها ويرد صنعاء، فتقوم أسواقهم بها، ومنها كانت تجلب آلة الخرز والأدم والبرود، وكانت تجلب إليها من معافر، وهي معدن البرود والحبر ثم يرتحلون إلى عكاظ وذي المجاز في الأشهر الحرم، فتقوم أسواقهم بها، فيتناشدون ويتحاجّون ويتحادّون، ومن له أسير يسعى في فدائه، ومن له حكومة ارتفع إلى الذي يقوم بأمر الحكومة من بني تميم، وكان آخرهم الأقرع بن حابس، ثم يقفون بعرفة، ويقضون ما عليهم من مناسكهم، ثم يتوجهون إلى أوطانهم.
وهذه الأسواق كانت تقوم طول السنة، فيحضرها من قرب من العرب ومن بعد. هذا حديثهم، وهم همل لا عزّ لهم إلا بالسّؤدد، ولا معقل لهم إلّا السّيف، ولا حصون إلّا الخيل، ولا فخر إلّا بالبلاغة.
ثم لمّا ملكوا الدّور والقصور والجنان والأدوية والأنهار والمعادن والقلاع والمدن والبلدان والسهل والجبل والبرّ والبحر، لم يقعدوا عن شأو من تقدّم بآلاف سنين، ولم يعجزوا عن شيء كان لهم، بل أبرّوا عليهم وزادوا، وأغربوا وأفادوا، وهذا الحكم ظاهر معروف، وحاضر مكشوف، ليس إلى مردّه سبيل ولا لجاحده ومنكره دليل.
فليستحي الجيهاني بعد هذا البيان والكشف والإيضاح، بالإنصاف من القذع والسّفه اللّذين حشا بهما كتابه، وليرفع نفسه عما يشين العقل، ولا تقبله حكّام العدل، وصاحب العلم الرصين، والأدب المكين، لا يسلّط خصمه على عرضه بلسانه، ولا يستدعي مرّ الجواب بتعرضه ويرضى بالميسور في غالب أمره، فإنّ العصبيّة في الحق ربّما خذلت صاحبها وأسلمته، وأبدت عورته، واجتلبت مساءته، فكيف إذا كانت في الباطل ونعوذ بالله أن نكون لفضل أمّة من الأمم جاحدين، كما نعوذ به أن نكون بنقص أمّة من الأمم جاهلين. فإنّ جاحد الحقّ يدلّ من نفسه على مهانة، وجاهل النقص يدل من نفسه على قصور، فهذا هذا، وفي الجملة المسلّمة، والدعوة المرسلة، أنّ أهل البرّ وأصحاب الصّحارى الذين وطاؤهم الأرض، وغطاؤهم السماء، هم في العدد أكثر وعلى بسيط الأرض أجول، ومن الترفّه والرفاهية أبعد، وبالحول والقوّة أعلق وإلى الفكرة والفطنة أفزع، وعلى المصالح والمنافع أوقع، ومن المخازي آنف وللقبائح أعيف، وهذا للدّواعي الظاهرة، والحاجات الضروريّة، والعلائق الحاضّة على الألفة والمودّة، والشدائد المؤدبة، والعوارض اللّازبة «1» ، ولهذا يقال: عيب الغنى أنّه يورث البلادة، وفضيلة الفقر أنّه يبعث الحيلة، وهذا معنىّ كريم، لا يقرّ به إلّا كلّ نقّاب عليم. وقال الجيهانيّ أيضا: ممّا يدل على شرفنا وتقدّمنا وعزّنا وعلوّ مكاننا، أنّ الله أفاض علينا النّعم، ووسّع لدينا القسم وبوّأنا الجنان والأرياف، ونعّمنا وأترفنا. ولم يفعل هذا بالعرب، بل أشقاهم وعذّبهم، وضيّق عليهم وحرمهم، وجمعهم في جزيرة حرجة، ورقعة صغيرة، وسقاهم بأرنق ضاح، وبهذا يعلم أنّ المخصوص بالنعمة والمقصود بالكرامة فوق المقصود بالإهانة.
فأطال هذا الباب بما ظنّ أنّه قد ظفر بشيء لا جواب عنه، ولا مقابل له، ولو كان الأمر كما قال لما خفي على غيره وتجلّى له، بل قد خصت العرب بعد هذا بأشياء تطول حسرة من فاتته عليها، ولا يفيد التفاته بالغيظ إليها، وقد دلّ كلامه على أنّه جاهل بالنعمة، غافل عمّا هو سرّ الحكمة.
وعنده أنّ الجاهل إذا لبس الثوب الناعم، وأكل الخبز الحوّارى وركب الجواد، وتقلّب على الحشيّة، وشرب الرحيق، وباشر الحسناء، هو أشرف من العالم إذا لبس الأطمار، وطعم العشب، وشرب الماء القراح، وتوسّد الأرض، وقنع باليسير من رخى العيش، وسلا عن الفضول، هذا خطأ من الرأي، ومردود من الحكم، عند الله تعالى أوّلا، ثم عند جميع أهل الفضل والحجا، وأصحاب التّقى والنّهى، وعلى طريقته أيضا أن البصير أشرف من الأعمى، والغنّي أفضل من الفقير.
ألا يعلم أنّ المدار على العقل الّذي من حرمه فهو أنقص من كلّ فقير، وعلى الدّين الذي من عري منه فهو أسوأ حالا من كلّ موسر، ونعمة الله على ضربين: أحد الضربين عمّ به عباده، وغمر بفضله خليقته، بدءا بلا استحقاق وذلك أنّه خلق ورزق وكفل وحفظ ونعش وكلأ وحرس وأمهل وأفضل ورهب وأجزل، وهذا هو العدل المخلوط بالإحسان، والتسوية والمعمومة بالتفضّل والقدرة المشتملة على الحكمة، والضرب الثّاني هو الذي يستحقّ بالعمل والاجتهاد والسعي والارتياد، والاختيار والاعتقاد، ليكون جزاء وثوابا، ولهذا حرم العاصي المخالف، وأنال الطائع الموافق، فقد بان الآن أنّ المدار ليس بالجنان والترفّه، ولا بالذهب والفضّة، ولا الوبر والمدر.
وقد مرّ هذا الكلام كلّه فليسكن من الجيهانيّ جأشه، وليفارقه طيشه، وليعلم أنّ من أنصف أعطى بيده، وسلّم الفضل لأهله، فإنّ التواضع للحقّ رفعة، والترفع بالباطل ضعة.
وههنا بقيّة ينبغي أن يتبصّر فيها، من عرف النقص البحت، والنقص المشوب بالزيادة، والفضل الصّرف، والفضل الممزوج بالنقيصة لم يجحد بالهوى المغوي فضلا، ولم يدّع للعصبيّة المردية شرفا، ولم ينكر بالحسد مزيّة، والخلق كلّهم في نعم الله تعالى مشتركون، وفي أياديه مغموسون وبمواهبه متفاضلون، وعلى قدرته متصرّفون، وإلى مشيئته صائرون، وعن حكمته مخبرون، ولآلائه ذاكرون، ولنعمائه شاكرون، ولأياديه ناشرون، وعلى اختلاف قضائه صابرون، ولثوابه بالحسنات مستحقّون، ولعقابه بالسيّئات مستوجبون، ولعفوه برحمته منتظرون، والله خبير بما يعملون، وبصير بما يسرّون وما يعلنون، وأبو سليمان يقول من الجماعة: العرب أذهب مع صفو العقل، ولذلك هم بذكر المحاسن أبده، وعن أضدادها أنزه. ولو كانت روّيتهم في وزن بديهتهم، كان الكمال، ولكن لمّا عزّ الكمال فيهم، عزّ أيضا في غيرهم من الأمم، فالأمم كلّها شرع واحد في عدم الكمال إلّا أنّهم متفاضلون بعد هذا فيما نالوه بالخلقة الأولى، وبالاختيار الثاني، واختلفت أبصارهم في هذا الموضع، فأمّا ما منعه الإنسان في الأوّل فلا عتب عليه فيه، لأنّه لا يقال للأعمى: لم لا تكون بصيرا، ولا يقال للطويل: لم لا تكون قصيرا وقد يقال للقصير: سدّد طرفك، واكحل عينك، ومدّ ناظرك، كما يقال للطويل، تطامن، في هذا الزّقاق حتى تدخل، وتقاصر حتى تصل، وأما ما لم يمنعه الإنسان في الأوّل، بل أعطيه ووهب له، فهو فيه مطّلب بما عليه وله كما أنّه مطالب بما له وعليه.
وقال الجيهانيّ أيضا: ليس للعرب كتاب إقليدس ولا المجسطيّ ولا الموسيقي ولا كتاب الفلاحة، ولا الطّبّ ولا العلاج، ولا ما يجري في مصالح الأبدان، ويدخل في خواصّ الأنفس.
فليعلم الجيهانيّ أنّ هذا كلّه لهم بنوع إلهيّ لا بنوع بشريّ، كما أنّ هذا كلّه لغيرهم بنوع بشريّ لا بنوع إلهيّ، وأعنى بالإلهيّ والبشريّ الطّباعيّ والصناعيّ، على أن إلهيّ هؤلاء قد مازجه بشريّ هؤلاء، وبشريّ هؤلاء قد شابه إلهيّ هؤلاء، ولو علم هذا الزاري لعلم أن المجسطي وما ذكره ليس للفرس أيضا، وما عندي أنّه مكابر فيدّعي هذا لهم. فإن قال: هو لليونان، ويونان من العجم، والفرس من العجم، فأنا أخرج هذه الفضيلة من العجم إلى العجم فهذا منه حيف على نفسه، وشهادة على نقصه، لأنّه لو فاخر يونان لم يستطع أن يدّعي هذا للفرس، ولا يمكنه أن يقول: نحن أيضا عجم، وفضيلتكم في هذه الكتب والصناعة متّصلة بنا، وراجعة إلينا. ومتى قال جبه بالمكروه وقوبل بالقذع «1» ، وقيل له: صه، كما يقال للجاهل- إن لم تقل له: «اخسأ» كما يقال- في كل الأحاديث، وإن أغفلته ظلمت نفسي، ومن حابى خصمه غلب.
قال القاضي أبو حامد المرورّوذيّ: لو كانت الفضائل كلّها بعقدها وسمطها، ونظمها ونثرها، مجموعة للفرس، ومصبوبة على أرؤسهم، ومعلّقة بآذانهم، وطالعة من جباههم، لكان لا ينبغي أن يذكروا شأنها، وأن يخرسوا عن دقّها وجلّها، مع نيكهم الأمهات والأخوات والبنات فإن هذا شيء كريه بالطباع، وضعيف بالسّماع، ومردود عند كل ذي فطرة سليمة، ومستبشع في نفس كل من له جبلّة معتدلة. قال:
ومن تمام طغيانهم، وشدّة بهتانهم، أنّهم زعموا أن هذا بإذن من الله تعالى، وبشريعة أتت من عند الله، والله تعالى حرّم الخبائث من المطعومات فكيف حلّل الخبائث من المنكوحات؟ قال: وكذب القوم، لم يكن زرادشت نبيّا، ولو كان نبيّا لذكره الله تعالى في عرض الأنبياء الّذين نوّه بأسمائهم وردّد ذكرهم في كتابه، ولذلك قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب» لأنّه لا كتاب لهم من عند الله منزّل على مبلّغ عنه. وإنّما هو خرافة خدعهم بها زرادشت بقوّة الملك الّذي قبل ذلك منه وحمل الناس عليه طوعا وكرها، وترغيبا وترهيبا، وكيف يبعث الله نبيا يدعو إلى إلهين اثنين؟ وهذا مستحيل بالعقل، وما خلق الله العقل إلّا ليشهد بالحق للمحقّ والباطل للمبطل، ولو كان شرعا لكان ذلك شائعا عند أهل الكتابين، أعني اليهود والنصارى، وكذلك عند الصابئين، وهم كانوا أكثر الناس عناية بالأديان والبحث عنها، والتوصّل إلى معرفة حقائقها، ليكونوا من دينهم على ثقة، فكيف صارت النصارى تعرف عيسى، واليهود تعرف موسى، ومحمّد- صلّى الله عليه وسلّم- يذكرهما ويذكر غيرهما، كداود وسليمان ويحيى وزكريّا، وغير هؤلاء، ولا يذكر زرادشت بالنبوّة وأنّه جاء من عند الله تعالى بالصدق والحق كما جاء موسى وعيسى ... «1» لكنّي بعثت ناسخا لكلّ شريعة، ومجدّدا لشريعة خصّني الله بها من بين العرب.
قال: وهذا بيان نافع في كذبهم، وإنما جاءوا إلى وهي فرقعوه، وإلى حرام بالعقل فأباحوه، وإلى خبيث بالطبع فارتكبوه وإلى قبيح في العادة فاستحسنوه.
وقد وجدنا في البهائم ما إذا أنزي الفحل منها على أمّه لم يطاوع، وإذا أكره وخدع وعرف غضب على أهله وندّ عنهم، وشرر عليهم، فما تقول في خلق لا ترضاه البهيمة، ولا تطاوعه فيه الطبيعة، بل يأباه حسّه مع كلوله وتبرد شهوته مع اشتعالها، ويرضاه هؤلاء القوم مع عجبهم بعقولهم، وكبرهم في أنفسهم.
ولو كان زرادشت أقام لهم على هذه الخصلة اللّئيمة والفعلة الذميمة كلّ آية وكلّ برهان، ونثر عليهم نجوم السماء، وأطلع لهم الشمس من المغرب، وفتّت لهم الجبال، وغيّض لهم البحار، وأراهم الثريّا تمشي على الأرض تخترق السّكك وتشهد له بالصدق، لكان من الواجب بالعقل وبالغيرة وبالحميّة وبالأنفة وبالتقزّز وبالتعزّز ألّا يجيبوه إلى ذلك، ويشكّوا في كل آية يرون منه، ويقتلوه، وينكّلوا به.
ولكن بمثل هذا العقل قبلوا من مزدك ما قبلوه مرّة، ولو عاملوا زرادشت بما عاملوا به مزدك ما كان الأمر إلا واحدا، ولا كان الحقّ إلا منصورا، ولا كان الباطل إلا مقهورا، ولكن اتّفق على مزدك ملك عاقل فوضع باطله، واتفق لزرادشت ملك ركيك فرفع باطله، وما نزع الله عنهم الملك إلّا بالحق، كما قال تعالى: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ
[الزخرف: 55] .
ثم قال: وبعد، فكلّ شيء خارج من الحكمة الإلهيّة والعقليّة والطبيعيّة فهو ساقط بهرج، ومردود مرذول، إذا فعله جاهل عذر بالجهل، وإذا أتاه عالم عذل للعلم.
قال: وكانت العرب بهذا الخلق الذميم، وهذا الفعل اللئيم، لو فعلته أعذر، لأنّهم أشدّ غلمة من غيرهم وأكثر تهيّجا، وأقوى على البضاع، وأوثب على النساء يدلّك على هذا غزلهم وعشقهم ونظمهم ونثرهم وفراغهم وشهوتهم، وتراهم مع هذه الدواعي والبواعث لم يستحسنوا هذا ولم يفعلوه، ولو أكرههم على هذا مكره ودعاهم إليه داع لما أطاعوه، ولذلك لم ينجم منهم ناجم بالحيلة فدعا إلى هذا، ولو كان لكان أوّل من دقّ رأسه بالعمد، وبعج بطنه بالخنجر، وما منعهم من هذا إلّا الأنفس الكريمة، والطباع المعتدلة، والشكائم الشديدة، والأرواح العيّفة، والعادات الرضيّة، والضرائب الطيّبة، وكان وأد البنات عندهم أنفى للمعاير، وأطرد للقبائح من هذا الّذي استحسنه زرادشت وقبل منه الفرس، وهم يدّعون الحكم والعلم والحزم والعزم، ولفرط جهلهم وغلبة شهوتهم غفلوا عمّا يجوز أن يكون الله سبحانه مبيحا له أو حاظرا، أو مطلقا أو مانعا، أو محلّلا أو محرّما، هيهات ما كلّف الله أهل العقل القيام بالدّين والتّصفّح للحقّ من الباطل إلّا لما شرّفهم به في العاجل، وعرّضهم له في الآجل، والعاقبة للمتّقين.
قال أبو الحسن الأنصاريّ- وكان حاضرا-: الهند أوضح عذرا في هذا الحديث لأنّهم جعلوه من باب القربة في بيوت الأصنام، وبلغوا مرادهم بهذه الخديعة، ولم ينسبوا إلى الله شيئا منه، ولا استجازوا الكذب عليه، ولا علّقوه أيضا على نبيّ من عند الله، بل رأوه صوابا بالوضع ثم طابت أنفسهم من هذا الفعل بالمران والعادة.
وبعد، فعقولهم مدخولة، والبارع منهم قليل، وهم إلى الإفك والوهم والسّحر أميل، وفي أبوابها أدخل.
ثم قال أبو الحسن: انظر إلى جهل زرادشت في هذا الحكم وإلى ضعف عقول الفرس في قبولهم منه هذا الفعل، وخيّر بينها وبين عقول العرب، فإنّهم قالوا:
«اغتربوا لا تضووا» «1» . واستفاض هذا منهم حتى سمع من صاحب الشريعة صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أنّ الضّوى مكروه، والعرب قالت هذا بالإلهام، لقرائحهم الصافية، وأذهانهم الواقدة، وطينتهم الحرّة، وأعراقهم الكريمة، وعاداتهم السليمة: وإنّما شعروا بهذا لأن الضوى الواصل إلى الأبدان هو سار في العقول، ولكن الفرس عن هذا السرّ غافلون، ولا يفطن لهذا وأمثاله إلّا الألمعيّون الأحوذيّون، ثم قال: أنشد الأصمعيّ عن العرب قول قائلهم في مدح صاحب له:
فتى لم تلده بنت عمّ قريبة ... فيضوى وقد يضوى رديد الأقارب
قال: وقالت العرب: «أضواه حقّه» : إذا نقصه. قال: وقال آخر لولده: والله لقد كفيتك الضّؤولة، واخترت لك الخؤولة.
وقال أيضا: العرب تقول: «ليس أضوى من القرائب، ولا أنجب من الغرائب» وقال الشاعر:
أنذرت من كان بعيد الهمّ ... تزويج أولاد بنات العمّ
ليس بناج من ضوى أو سقم ... وأنت إن أطعمته لا ينمي
وقال الأسديّ يفتخر:
ولست بضاويّ تموج عظامه ... ولادته في خالد بعد خالد
تردّد حتى عمّه خال أمه ... إلى نسب أدنى من السر واحد
ثم قال: والعرب لم ترد بهذا إلا نقص الذهن والعقل، لأنّها لو أرادت نقصان الجسم لكانت مخطئة، لأنّهم يريدون سمانة الجسم مع السلامة والصلابة. ثم قال: وعلى هذا طباع الأرض، ولذلك يقال: إذا كثرت المؤتفكات زكت الأرض، لأنّ الرياح إذا اختلفت حوّلت تراب أرض إلى أرض، وإذا كان الاغتراب يؤثّر من التراب إلى التراب، فبالحريّ أن يؤثّر الإنسان في الإنسان بالاغتراب، لأن الإنسان أيضا من التراب.
قال أبو حامد: فما ظنّك بقوم يجهلون آثار الطبيعة، وأسرار الشريعة؟ ما أذلّهم الله باطلا، ولا سلبهم ملكهم ظالما، ولا ضربهم بالخزي والمهانة إلّا جزاء على سيرتهم القبيحة، وكذبهم على الله بالجرأة والمكابرة، وما الله بظلام للعبيد.
فلما بلغ القول مداه قال: لله درّ هذا النّفس الطويل والنّفث الغزير! لقد كنت قرما إلى هذا النوع من الكلام، ففرّغ نفسك لرسمه في جزء لأنظر فيه، وأشرب النفس حلاوته، وأستنتج العقيم منه، فإنّ الكلام إذا مرّ بالسمع حلّق، وإذا شارفه البصر بالقراءة من كتاب أسفّ، والمحلّق بعيد المنال، والمسفّ حاضر العين، والمسموع إذا لم يملكه الحفظ تذكّر منه الشيء بعد الشيء بالوهم الذي لا انعقاد له، والخيال الّذي لا معرّج عليه. فقلت: أفعل سامعا مطيعا- إن شاء الله-.
ثم حضرته ليلة أخرى فأول ما فاتح به المجلس أن قال: أتفضّل العرب على العجم أم العجم على العرب؟
قلت: الأمم عند العلماء أربع: الروم، والعرب، وفارس، والهند، وثلاث من هؤلاء عجم، وصعب أن يقال: العرب وحدها أفضل من هؤلاء الثلاثة، مع جوامع ما لها، وتفاريق ما عندها.
قال: إنّما أريد بهذا الفرس.
فقلت: قبل أن أحكم بشيء من تلقاء نفسي، أروي كلاما لابن المقفّع، وهو أصيل في الفرس عريق في العجم، مفضّل بين أهل الفضل، وهو صاحب (اليتيمة) القائل: تركت أصحاب الرسائل بعد هذا الكتاب في ضحضاح من الكلام.
قال: هات على بركة الله وعونه.
قلت: قال شبيب بن شبّة: إنّا لوقوف في عرصة المربد- وهو موقف الأشراف ومجتمع الناس وقد حضر أعيان المصر- إذ طلع ابن المقفّع، فما فينا أحد إلّا هشّ له، وارتاح إلى مساءلته، وسررنا بطلعته، فقال: ما يقفكم على متون دوابّكم في هذا الموضع؟ فو الله لو بعث الخليفة إلى أهل الأرض يبتغي مثلكم ما أصاب أحدا سواكم، فهل لكم في دار ابن برثن في ظلّ ممدود، وواقية من الشمس، واستقبال من الشّمال، وترويح للدّوابّ والغلمان، ونتمهّد الأرض فإنّها خير بساط وأوطؤه، ويسمع بعضنا من بعض فهو أمدّ للمجلس، وأدرّ للحديث. فسارعنا إلى ذلك، ونزلنا عن دوابنا في دار ابن برثن نتنسّم الشّمال، إذ أقبل علينا ابن المقفّع، فقال: أيّ الأمم أعقل؟ فظننا أنه يريد الفرس، فقلنا: فارس أعقل الأمم، نقصد مقاربته، ونتوخّى مصانعته. فقال: كلّا، ليس ذلك لها ولا فيها، هم قوم علّموا فتعلّموا، ومثّل لهم فامتثلوا واقتدوا وبدئوا بأمر فصاروا إلى اتّباعه، ليس لهم استنباط ولا استخراج. فقلنا له: الرّوم. فقال: ليس ذلك عندها، بل لهم أبدان وثيقة وهم أصحاب بناء وهندسة، لا يعرفون سواهما، ولا يحسنون غيرهما. قلنا: فالصّين. قال: أصحاب أثاث وصنعة، لا فكر لها ولا رويّة.
قلنا: فالتّرك. قال: سباع للهراش. قلنا: فالهند. قال: أصحاب وهم ومخرقة وشعبذة وحيلة. قلنا: فالزّنج. قال: بهائم هاملة. فرددنا الأمر إليه. قال: العرب. فتلاحظنا وهمس بعضنا إلى بعض، فغاظه ذلك منّا، وامتقع لونه، ثم قال: كأنّكم تظنّون فيّ مقاربتكم، فو الله لوددت أنّ الأمر ليس لكم ولا فيكم ولكن كرهت إن فاتني الأمر أن يفوتني الصواب، ولكن لا أدعكم حتى أبيّن لكم لم قلت ذلك، لأخرج من ظنّة المداراة، وتوهّم المصانعة، إن العرب ليس لها أول تؤمّه ولا كتاب يدلّها، أهل بلد قفر، ووحشة من الإنس، احتاج كلّ واحد منهم في وحدته إلى فكره ونظره وعقله، وعلموا أنّ معاشهم من نبات الأرض فوسموا كلّ شيء بسمته، ونسبوه إلى جنسه وعرفوا مصلحة ذلك في رطبه ويابسه، وأوقاته وأزمنته، وما يصلح منه في الشاة والبعير، ثم نظروا إلى الزمان واختلافه فجعلوه ربيعيا وصيفيا، وقيظيا وشتويا، ثم علموا أنّ شربهم من السماء، فوضعوا لذلك الأنواء، وعرفوا تغيّر الزمان فجعلوا له منازله من السنة، واحتاجوا إلى الانتشار في الأرض، فجعلوا نجوم السماء أدلّة على أطراف الأرض وأقطارها، فسلكوا بها البلاد، وجعلوا بينهم شيئا ينتهون به عن المنكر، ويرغّبهم في الجميل، ويتجنّبون به الدناءة ويحضّهم على المكارم، حتى إنّ الرجل منهم وهو في فجّ من الأرض يصف المكارم فما يبقي من نعتها شيئا، ويسرف في ذمّ المساوئ فلا يقصّر، ليس لهم كلام إلّا وهم يتحاضّون به على اصطناع المعروف ثم حفظ الجار وبذل المال وابتناء المحامد، كلّ واحد منهم يصيب ذلك بعقله، ويستخرجه بفطنته وفكرته فلا يتعلّمون ولا يتأدّبون، بل نحائز «1» مؤدّبة، وعقول عارفة، فلذلك قلت لكم: إنهم أعقل الأمم، لصحّة الفطرة واعتدال البنية وصواب الفكر وذكاء الفهم. هذا آخر الحديث، قال: ما أحسن ما قال ابن المقفّع! وما أحسن ما قصصته وما أتيت به! هات الآن ما عندك من مسموع ومستنبط.
فقلت: إن كان ما قال هذا الرجل البارع في أدبه المقدّم بعقله كافيا فالزيادة عليه فضل مستغنى عنه، وإعقابه بما هو مثله لا فائدة فيه.
فقال: حدّ الوصف في التزيين والتقبيح مختلف الدلائل على ما يعتقد صوابه وخطؤه، متباين، وهذه مسألة- أعني تفضيل أمّة على أمّة- من أمّهات ما تدارأ الناس عليه وتدافعو فيه، ولم يرجعوا منذ تناقلوا الكلام في هذا الباب إلى صلح متين واتفاق ظاهر.
فقلت: بالواجب ما وقع هذا، فإن الفارسيّ ليس في فطرته ولا عادته ولا منشئه أن يعترف بفضل العربيّ، ولا في جبلّة العربي وديدنه أن يقرّ بفضل الفارسيّ. وكذلك الهنديّ والروميّ والتركيّ والديلميّ، وبعد، فاعتبار الفضل والشرف موقوف على شيئين: أحدهما ما خص به قوم دون قوم في أيام النشأة بالاختيار للجيّد والرديء، والرأي الصائب والفائل، والنظر في الأوّل والآخر. وإذا وقف الأمر على هذا فلكلّ أمّة فضائل ورذائل ولكلّ قوم محاسن ومساو، ولكلّ طائفة من الناس في صناعتها وحلّها وعقدها كمال وتقصير، وهذا يقضي بأنّ الخيرات والفضائل والشرور والنقائص مفاضة على جميع الخلق، مفضوضة بين كلّهم.
فللفرس السياسة والآداب والحدود والرسوم، وللرّوم العلم والحكمة، وللهند الفكر والرويّة والخفّة والسّحر والأناة، وللتّرك الشجاعة والإقدام، وللزّنج الصبر والكدّ والفرح، وللعرب النّجدة والقرى والوفاء والبلاء والجود والذّمام والخطابة والبيان.
ثم إنّ هذه الفضائل المذكورة، في هذه الأمم المشهورة، ليست لكلّ واحد من أفرادها، بل هي الشائعة بينها، ثم في جملتها من هو عار من جميعها، وموسوم بأضدادها، يعني أنه لا تخلو الفرس من جاهل بالسياسة، خال من الأدب، داخل في الرّعاع والهمج، وكذلك العرب لا تخلو من جبان جاهل طيّاش بخيل عييّ وكذلك الهند والرّوم وغيرهم، فعلى هذا إذا قوبل أهل الفضل والكمال من الرّوم بأهل الفضل والكمال من الفرس، تلاقوا على صراط مستقيم، ولم يكن بينهم تفاوت إلّا في مقادير الفضل وحدود الكمال، وتلك لا تخصّ بل تلمّ. وكذلك إذا قوبل أهل النقص والرذيلة من أمّة بأهل النقص والخساسة من أمّة أخرى، تلاقوا على نهج واحد، ولم يقع بينهم تفاوت إلّا في الأقدار والحدود، وتلك لا يلتفت إليها، ولا يعار «1» عليها، فقد بان بهذا الكشف أنّ الأمم كلّها تقاسمت الفضائل والنقائص باضطرار الفطرة، واختيار الفكرة. ولم يكن بعد ذلك إلّا ما يتنازعه الناس بينهم بالنسبة الترابيّة، والعادة المنشئيّة والهوى الغالب من النّفس الغضبيّة، والنّزاع الهائج من القوّة الشهويّة.
وها هنا شيء آخر، وهو أصل كبير لا يجوز أن يخلو كلامنا من الدلالة عليه والإيماء إليه، وهو أنّ كلّ أمّة لها زمان على ضدها، وهذا بيّن مكشوف إذا أرسلت وهمك في دولة يونان والإسكندر، لمّا غلب وساس وملك ورأس وفتق ورتق ورسم ودبّر وأمر، وحثّ وزجر، ومحا وسطّر، وفعل وأخبر، وكذلك إذا عطفت إلى حديث كسرى أنو شروان وجدت هذه الأحوال بأعيانها، وإن كانت في غلف غير غلف الأوّل، ومعارض غير معارض المتقدّم، ولهذا قال أبو مسلم صاحب الدولة حين قيل له: أي الناس وجدتهم أشجع؟ فقال: كل قوم في إقبال دولتهم شجعان. وقد صدق، وعلى هذا كلّ أمّة في مبدأ سعادتها أفضل وأنجد وأشجع وأمجد وأسخى وأجود وأخطب وأنطق وأرأى وأصدق، وهذا الاعتبار ينساق من شيء عامّ لجميع الأمم، إلى شيء شامل لأمّة أمة إلى شيء حاو لطائفة، إلى شيء غالب على قبيلة قبيلة، إلى شيء معتاد في بيت بيت، إلى شيء خاصّ بشخص شخص وإنسان إنسان، وهذا التحوّل من أمّة إلى أمّة، يشير إلى فيض جود الله تعالى على جميع بريّته وخليقته بحسب استجابتهم لقبوله، واستعدادهم على تطاول الدهر في نيل ذلك من فضله ومن رقي إلى هذه الرّبوة بعين لا قذىّ بها، أبصر الحقّ عيانا بلا مرية، وأخبر عنه بلا فرية، ومتى صدق نظرك في مبادئ الأحوال وأوائل الأمور وضح لك هذا كلّه كالنهار إذا متع «1» ، واستنار كالقمر إذا طلع، ولم يبق حينئذ ريب في عرفان الحقّ وحصول الصواب، إلّا ما يلتاث بالهوى، ويسمج بالتعصّب، ويجلب اللّجاج، ويخرج إلى المحك «2» ، فهناك يطيح المعنى ويضلّ المراد.
فإذا آثرت أن تعرف صحة هذا الحكم وصواب هذا الرأي، فاسمع ما أرويه، قال إسحاق بن إبراهيم الموصليّ: انصرف العبّاس بن مرداس السّلميّ من مكّة فقال:
«يا بني سليم، إني رأيت أمرا، وسيكون خيرا، رأيت بني عبد المطلب كأنّ قدودهم الرّماح الرّدينيّة، وكأن وجوههم بدور الدّجنّة وكأن عمائمهم فوق الرجال ألوية، وكأنّ منطقهم مطر الوبل على المحل، وإن الله إذا أراد ثمرا غرس له غرسا، وإنّ أولئك غرس الله، فترقّبوا ثمرته وتوكّفوا غيثه، وتفيّئوا ظلاله، واستبشروا بنعمة الله عليكم به» . ولقد قرع العبّاس بهذا الكلام باب الغيب، وشعر بالمستور، وأحسّ بالخافي، واطّلع عقله على المستتر، واهتدى بلطف هاجسه إلى الأمر المزمع، والحادث المتوقّع، وهذا شيء فاش في العرب، لطول وحدتها، وصفاء فكرتها، وجودة بنيتها واعتدال هيئتها، وصحّة فطرتها، وخلاء ذرعها، واتّقاد طبعها، وسعة لغتها وتصاريف كلامها في أسمائها وأفعالها وحروفها، وجولانها في اشتقاقاتها، ومآخذها البديعة في استعاراتها، وغرائب تصرّفها في اختصاراتها، ولطف كناياتها في مقابلة تصريحاتها، وفنون تبحبها في أكناف مقاصدها، وعجيب مقاربتها في حركات لفظها، وهذا وأضعافه مسلّم لهم، وموفّر عليهم، ومعروف فيهم ومنسوب إليهم، مع الشجاعة والنّجدة والذّمام والضّيافة والفطنة والخطابة والحميّة والأنفة والحفاظ والوفاء، والبذل والسّخاء، والتّهالك في حبّ الثناء والنّكل الشديد عن الذم والهجاء، إلى غير ذلك ممّا خصّت به في جاهليّتها قبل الإسلام، ممّا لا سبيل إلى دفعه وجحوده، والبهت فيه، والمكابرة عليه، وقد سمعنا لغات كثيرة- وإن لم نستوعبها- من جميع الأمم، كلغة أصحابنا العجم والروم والهند والترك وخوارزم وصقلاب وأندلس والزّنج، فما وجدنا لشيء من هذه اللغات نصوع العربيّة، أعني الفرج التي في كلماتها، والفضاء الذي نجده بين حروفها، والمسافة الّتي بين مخارجها، والمعادلة التي نذوقها في أمثلتها، والمساواة التي لا تجحد في أبنيتها، وإذا شئت أن تعرف حقيقة هذا القول، وصحّة هذا الحكم، فالحظ عرض اللّغات الّذي هو بين أشدّها تلابسا وتداخلا، وترادفا وتعاظلا وتعسّرا وتعوّصا، وإلى ما بعدها ممّا هو أسلس حروفا، وأرقّ لفظا، وأخفّ اسما، وألطف أوزانا، وأحضر عيانا، وأحلى مخرجا وأجلى منهجا وأعلى مدرجا، وأعدل عدلا، وأوضح فضلا، وأصحّ وصلا إلى أن تنزل إلى لغة بعد لغة، ثم تنتهي إلى العربية، فإنّك تحكم بأن المبدأ الذي أشرنا إليه في العوائص والأغماض، سرى قليلا قليلا حتى وقف على العربية في الإفصاح والإيماض.
وهذا شيء يجده كلّ من كان صحيح البنية، بريئا من الآفة، متنزّها عن الهوى والعصبيّة، محبا للإنصاف في الخصومة، متحرّيا للحقّ في الحكومة، غير مسترقّ بالتقليد، ولا مخدوع بالإلف، ولا مسخّر بالعادة. وإنّي لأعجب كثيرا ممّن يرجع إلى فضل واسع، وعلم جامع، وعقل سديد، وأدب كثير، إذا أبى هذا الذي وصفته، وأنكر ما ذكرته، وأعجب أيضا فضل عجب من الجيهانيّ في كتابه وهو يسبّ العرب، ويتناول أعراضها ويحطّ من أقدارها، ويقول: يأكلون اليرابيع والضّباب والجرذان والحيّات ويتغاورون ويتساورون، ويتهاجون ويتفاحشون، وكأنّهم قد سلخوا من فضائل البشر، ولبسوا أهب الخنازير.
قال: ولهذا كان كسرى يسمّي ملك العرب: «سكان شاه» ، أي ملك الكلاب. قال:
وهذا لشدّة شبههم بالكلاب وجرائها، والذئاب وأطلائها «1» ، وكلاما كثيرا من هذا الصّوب أرفع قدره عن مثله، وإن كان يضع من نفسه بفضل قوله. أتراه لا يعلم لو نزل ذلك القفر وتلك الجزيرة وذلك المكان الخاوي وتلك الفيافي والموامي، كلّ كسرى كان في الفرس، وكلّ قيصر كان في الروم، وكلّ بلهور كان بالهند، وكلّ بغفور كان بخراسان، وكلّ خاقان كان بالتّرك وكلّ أخشاد كان بفرغانة وكلّ صبهبذ كان من أسكنان وأردوان، ما كانوا يعدون هذه الأحوال، لأنّ من جاع أكل ما وجد، وطعم ما لحق، وشرب ما قدر عليه، حبّا للحياة، وطلبا للبقاء، وجزعا من الموت، وهربا من الفناء. أترى أنوشروان إذا وقع إلى فيافي بني أسد وبرّ (وبار) وسفوح طيبة، ورمل يبرين وساحة هبير، وجاع وعطش وعري، أما كان يأكل اليربوع والجرذان، وما كان يشرب بول الجمل وماء البئر، وما أسن في تلك الوهدات؟ أو ما كان يلبس البرجد والخميصة والسّمل من الثياب وما هو دونه وأخشن؟ بلى والله، ويأكل حشرات الأرض ونبات الجبال، وكلّ ما حمض ومرّ، وخبث وضرّ، هذا جهل من قائله، وحيف من منتحله، على أن العرب- رحمك الله- أحسن الناس حالا وعيشا إذا جادتهم السماء، وصدقتهم الأنواء «1» ، وازدانت الأرض، فهدّلت الثمار، واطّردت الأودية، وكثر اللّبن والأقط والجبن واللّحم والرّطب والتّمر والقمح، وقامت لهم الأسواق، وطابت المرابع وفشا الخصب، وتوالى النّتاج، واتّصلت الميرة، وصدق المصاب وأرفغ «2» المنتجع، وتلاقت القبائل على المحاضر، وتقاولوا وتضايفوا، وتعاقدوا وتعاهدوا، وتزاوروا وتناشدوا، وعقدوا الذّمم، ونطقوا بالحكم، وقروا الطّرّاق، ووصلوا العفاة، وزوّدوا السابلة، وأرشدوا الضّلّال، وقاموا بالحمالات «3» وفكّوا الأسرى، وتداعوا الجفلى «4» ، وتعافوا النّقرى «5» ، وتنافسوا في أفعال المعروف، هذا وهم في مساقط رؤوسهم، بين جبالهم ورمالهم، ومناشئ آبائهم وأجدادهم، وموالد أهلهم وأولادهم، على جاهليّتهم الأولى والثانية، وقد رأيت حين هبّت ريحهم وأشرقت دولتهم بالدعوة، وانتشرت دعوتهم بالملّة، وعزّت ملّتهم بالنبوّة، وغلبت نبوّتهم بالشّريعة، ورسخت شريعتهم بالخلافة، ونضّرت خلافتهم بالسياسة الدينيّة والدّنيويّة، كيف تحوّلت جميع محاسن الأمم إليهم وكيف وقعت فضائل الأجيال عليهم من غير أن طلبوها وكدحوا في حيازتها أو تعبوا في نيلها، بل جاءتهم هذه المناقب والمفاخر، وهذه النوادر من المآثر عفوا، وقطنت بين أطناب بيوتهم سهوا رهوا، وهكذا يكون كلّ شيء تولّاه الله بتوفيقه، وساقه إلى أهله بتأييده، وحلّى مستحقّيه باختياره، ولا غالب لأمر الله، ولا مبدّل لحكم الله، ولذلك قال الله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
[آل عمران: 26] . ولله في خلقه أسرار، تتصرّف بها دوائر الليل والنهار، وتذلّلها مجاري الأقدار، حتى ينتهى بمحبوبها ومكروهها إلى القرار.
عزّ إلها معبودا، وجلّ ربّا محمودا مقصودا. وبعد، فالّذي لا شكّ فيه من وصف العرب، ولا جاحد له من حالها، أنه ليس على وجه الأرض جيل من الناس ينزلون القفر، وينتجعون السحاب والقطر، ويعالجون الإبل والخيل والغنم وغيرها، ويستبدّون في مصالحهم بكلّ ما عزّ وهان، وبكلّ ما قلّ وكثر، وبكل ما سهل وعسر، ويرجون الخير من السماء في صوبها، ومن الأرض في نباتها، مع مراعاة الأوان بعد الأوان، وثقة بالحال بعد الحال وتبصرة فيما يفعل ويجتنب، ما للعرب فيما قدّمنا وصفه، وكرّرنا شرحه من علمهم بالخصب والجدب، واللّين والقسوة، والحرّ والبرد، والرياح المختلفة والسحائب الكاذبة، والمخايل الصادقة، والأنواء المحمودة والمذمومة، والأسباب الغريبة العجيبة.
وهذا لأنّهم مع توحّشهم مستأنسون، وفي بواديهم حاضرون، فقد اجتمع لهم من عادات الحاضرة أحسن العادات، ومن أخلاق البادية أطهر الأخلاق.
وهذا المعنى على هذا النّظم قد عدمه أصحاب المدن وأرباب الحضر، لأن الدناءة والرّقّة والكيس والهين والخلابة والخداع والحيلة والمكر والخبّ تغلب على هؤلاء وتملكهم، لأن مدار أمرهم على المعاملات السيّئة، والكذب في الحسّ، والخلف في الوعد.
والعرب قد قدّسها الله عن هذا الباب بأسره، وجبلها على أشرف الأخلاق بقدرته، ولهذا تجد أحدهم وهو في بتّ «1» حافيا حاسرا يذكر الكرم، ويفتخر بالمحمدة، وينتحل النّجدة، ويحتمل الكلّ «2» ، ويضحك في وجه الضيف ويستقبله بالبشر، ويقول: أحدّثه إن الحديث من القرى. ثمّ لا يقنع ببثّ العرف وفعل الخير والصبر على النوائب حتى يحضّ الصغير والكبير على ذلك ويدعو إليه، ويستنهضه نحوه، ويكلّفه مجهوده وعفوه.
وقد قيل لرجل منهم في يوم شات وهو يمشي في سمل «3» : أما تجد البرد يا أخا العرب؟ فقال: أمشي الخيزلي ويدفئني حسبي. والفارسيّ لا يحسن هذا النّمط، ولا يذوق هذا المعنى ولا يحلم بهذه اللّطيفة، وكذلك الروميّ والهنديّ وغيرهما من جميع العجم.
وممّا يدلّ على تحضّرهم في باديتهم، وتبدّيهم في تحضّرهم، وتحلّيهم بأشرف أحوال الأمرين، أسواقهم التي لهم في الجاهليّة، مثل دومة الجندل بقرى كلب وهي النصف بين العراق والشأم، كان ينزلها الناس أوّل يوم من شهر ربيع الأول، فيقيمون أسواقهم بالبيع والشراء، والأخذ والعطاء، وكان يعشّرهم أكيدر دومة، وربما غلبت على السوق كلب فيعشّرهم «4» بعض رؤساء كلب، فيقوم سوقهم إلى آخر الشهر، ثم ينتقلون إلى سوق هجر، وهو المشقّر في شهر ربيع الآخر، فتقوم أسواقهم، وكان يعشّرهم المنذر بن ساوى أحد بني عبد الله بن دارم، ثم يرتحلون نحو عمان، فتقوم سوقهم بديار دبا، ثم بصحار، ثمّ يرتحلون فينزلون إرم، وقرى الشّحر فتقوم أسواقهم أيّاما، ثم يرتحلون فينزلون عدن أبين، ومن سوق عدن تشترى اللطائم وأنواع الطّيب، ولم يكن في الأرض أكثر طيبا، ولا أحذق صنّاعا للطّيب من عدن، ثم يرتحلون فينزلون الرابية من حضرموت، ومنهم من يجوزها ويرد صنعاء، فتقوم أسواقهم بها، ومنها كانت تجلب آلة الخرز والأدم والبرود، وكانت تجلب إليها من معافر، وهي معدن البرود والحبر ثم يرتحلون إلى عكاظ وذي المجاز في الأشهر الحرم، فتقوم أسواقهم بها، فيتناشدون ويتحاجّون ويتحادّون، ومن له أسير يسعى في فدائه، ومن له حكومة ارتفع إلى الذي يقوم بأمر الحكومة من بني تميم، وكان آخرهم الأقرع بن حابس، ثم يقفون بعرفة، ويقضون ما عليهم من مناسكهم، ثم يتوجهون إلى أوطانهم.
وهذه الأسواق كانت تقوم طول السنة، فيحضرها من قرب من العرب ومن بعد. هذا حديثهم، وهم همل لا عزّ لهم إلا بالسّؤدد، ولا معقل لهم إلّا السّيف، ولا حصون إلّا الخيل، ولا فخر إلّا بالبلاغة.
ثم لمّا ملكوا الدّور والقصور والجنان والأدوية والأنهار والمعادن والقلاع والمدن والبلدان والسهل والجبل والبرّ والبحر، لم يقعدوا عن شأو من تقدّم بآلاف سنين، ولم يعجزوا عن شيء كان لهم، بل أبرّوا عليهم وزادوا، وأغربوا وأفادوا، وهذا الحكم ظاهر معروف، وحاضر مكشوف، ليس إلى مردّه سبيل ولا لجاحده ومنكره دليل.
فليستحي الجيهاني بعد هذا البيان والكشف والإيضاح، بالإنصاف من القذع والسّفه اللّذين حشا بهما كتابه، وليرفع نفسه عما يشين العقل، ولا تقبله حكّام العدل، وصاحب العلم الرصين، والأدب المكين، لا يسلّط خصمه على عرضه بلسانه، ولا يستدعي مرّ الجواب بتعرضه ويرضى بالميسور في غالب أمره، فإنّ العصبيّة في الحق ربّما خذلت صاحبها وأسلمته، وأبدت عورته، واجتلبت مساءته، فكيف إذا كانت في الباطل ونعوذ بالله أن نكون لفضل أمّة من الأمم جاحدين، كما نعوذ به أن نكون بنقص أمّة من الأمم جاهلين. فإنّ جاحد الحقّ يدلّ من نفسه على مهانة، وجاهل النقص يدل من نفسه على قصور، فهذا هذا، وفي الجملة المسلّمة، والدعوة المرسلة، أنّ أهل البرّ وأصحاب الصّحارى الذين وطاؤهم الأرض، وغطاؤهم السماء، هم في العدد أكثر وعلى بسيط الأرض أجول، ومن الترفّه والرفاهية أبعد، وبالحول والقوّة أعلق وإلى الفكرة والفطنة أفزع، وعلى المصالح والمنافع أوقع، ومن المخازي آنف وللقبائح أعيف، وهذا للدّواعي الظاهرة، والحاجات الضروريّة، والعلائق الحاضّة على الألفة والمودّة، والشدائد المؤدبة، والعوارض اللّازبة «1» ، ولهذا يقال: عيب الغنى أنّه يورث البلادة، وفضيلة الفقر أنّه يبعث الحيلة، وهذا معنىّ كريم، لا يقرّ به إلّا كلّ نقّاب عليم. وقال الجيهانيّ أيضا: ممّا يدل على شرفنا وتقدّمنا وعزّنا وعلوّ مكاننا، أنّ الله أفاض علينا النّعم، ووسّع لدينا القسم وبوّأنا الجنان والأرياف، ونعّمنا وأترفنا. ولم يفعل هذا بالعرب، بل أشقاهم وعذّبهم، وضيّق عليهم وحرمهم، وجمعهم في جزيرة حرجة، ورقعة صغيرة، وسقاهم بأرنق ضاح، وبهذا يعلم أنّ المخصوص بالنعمة والمقصود بالكرامة فوق المقصود بالإهانة.
فأطال هذا الباب بما ظنّ أنّه قد ظفر بشيء لا جواب عنه، ولا مقابل له، ولو كان الأمر كما قال لما خفي على غيره وتجلّى له، بل قد خصت العرب بعد هذا بأشياء تطول حسرة من فاتته عليها، ولا يفيد التفاته بالغيظ إليها، وقد دلّ كلامه على أنّه جاهل بالنعمة، غافل عمّا هو سرّ الحكمة.
وعنده أنّ الجاهل إذا لبس الثوب الناعم، وأكل الخبز الحوّارى وركب الجواد، وتقلّب على الحشيّة، وشرب الرحيق، وباشر الحسناء، هو أشرف من العالم إذا لبس الأطمار، وطعم العشب، وشرب الماء القراح، وتوسّد الأرض، وقنع باليسير من رخى العيش، وسلا عن الفضول، هذا خطأ من الرأي، ومردود من الحكم، عند الله تعالى أوّلا، ثم عند جميع أهل الفضل والحجا، وأصحاب التّقى والنّهى، وعلى طريقته أيضا أن البصير أشرف من الأعمى، والغنّي أفضل من الفقير.
ألا يعلم أنّ المدار على العقل الّذي من حرمه فهو أنقص من كلّ فقير، وعلى الدّين الذي من عري منه فهو أسوأ حالا من كلّ موسر، ونعمة الله على ضربين: أحد الضربين عمّ به عباده، وغمر بفضله خليقته، بدءا بلا استحقاق وذلك أنّه خلق ورزق وكفل وحفظ ونعش وكلأ وحرس وأمهل وأفضل ورهب وأجزل، وهذا هو العدل المخلوط بالإحسان، والتسوية والمعمومة بالتفضّل والقدرة المشتملة على الحكمة، والضرب الثّاني هو الذي يستحقّ بالعمل والاجتهاد والسعي والارتياد، والاختيار والاعتقاد، ليكون جزاء وثوابا، ولهذا حرم العاصي المخالف، وأنال الطائع الموافق، فقد بان الآن أنّ المدار ليس بالجنان والترفّه، ولا بالذهب والفضّة، ولا الوبر والمدر.
وقد مرّ هذا الكلام كلّه فليسكن من الجيهانيّ جأشه، وليفارقه طيشه، وليعلم أنّ من أنصف أعطى بيده، وسلّم الفضل لأهله، فإنّ التواضع للحقّ رفعة، والترفع بالباطل ضعة.
وههنا بقيّة ينبغي أن يتبصّر فيها، من عرف النقص البحت، والنقص المشوب بالزيادة، والفضل الصّرف، والفضل الممزوج بالنقيصة لم يجحد بالهوى المغوي فضلا، ولم يدّع للعصبيّة المردية شرفا، ولم ينكر بالحسد مزيّة، والخلق كلّهم في نعم الله تعالى مشتركون، وفي أياديه مغموسون وبمواهبه متفاضلون، وعلى قدرته متصرّفون، وإلى مشيئته صائرون، وعن حكمته مخبرون، ولآلائه ذاكرون، ولنعمائه شاكرون، ولأياديه ناشرون، وعلى اختلاف قضائه صابرون، ولثوابه بالحسنات مستحقّون، ولعقابه بالسيّئات مستوجبون، ولعفوه برحمته منتظرون، والله خبير بما يعملون، وبصير بما يسرّون وما يعلنون، وأبو سليمان يقول من الجماعة: العرب أذهب مع صفو العقل، ولذلك هم بذكر المحاسن أبده، وعن أضدادها أنزه. ولو كانت روّيتهم في وزن بديهتهم، كان الكمال، ولكن لمّا عزّ الكمال فيهم، عزّ أيضا في غيرهم من الأمم، فالأمم كلّها شرع واحد في عدم الكمال إلّا أنّهم متفاضلون بعد هذا فيما نالوه بالخلقة الأولى، وبالاختيار الثاني، واختلفت أبصارهم في هذا الموضع، فأمّا ما منعه الإنسان في الأوّل فلا عتب عليه فيه، لأنّه لا يقال للأعمى: لم لا تكون بصيرا، ولا يقال للطويل: لم لا تكون قصيرا وقد يقال للقصير: سدّد طرفك، واكحل عينك، ومدّ ناظرك، كما يقال للطويل، تطامن، في هذا الزّقاق حتى تدخل، وتقاصر حتى تصل، وأما ما لم يمنعه الإنسان في الأوّل، بل أعطيه ووهب له، فهو فيه مطّلب بما عليه وله كما أنّه مطالب بما له وعليه.
وقال الجيهانيّ أيضا: ليس للعرب كتاب إقليدس ولا المجسطيّ ولا الموسيقي ولا كتاب الفلاحة، ولا الطّبّ ولا العلاج، ولا ما يجري في مصالح الأبدان، ويدخل في خواصّ الأنفس.
فليعلم الجيهانيّ أنّ هذا كلّه لهم بنوع إلهيّ لا بنوع بشريّ، كما أنّ هذا كلّه لغيرهم بنوع بشريّ لا بنوع إلهيّ، وأعنى بالإلهيّ والبشريّ الطّباعيّ والصناعيّ، على أن إلهيّ هؤلاء قد مازجه بشريّ هؤلاء، وبشريّ هؤلاء قد شابه إلهيّ هؤلاء، ولو علم هذا الزاري لعلم أن المجسطي وما ذكره ليس للفرس أيضا، وما عندي أنّه مكابر فيدّعي هذا لهم. فإن قال: هو لليونان، ويونان من العجم، والفرس من العجم، فأنا أخرج هذه الفضيلة من العجم إلى العجم فهذا منه حيف على نفسه، وشهادة على نقصه، لأنّه لو فاخر يونان لم يستطع أن يدّعي هذا للفرس، ولا يمكنه أن يقول: نحن أيضا عجم، وفضيلتكم في هذه الكتب والصناعة متّصلة بنا، وراجعة إلينا. ومتى قال جبه بالمكروه وقوبل بالقذع «1» ، وقيل له: صه، كما يقال للجاهل- إن لم تقل له: «اخسأ» كما يقال- في كل الأحاديث، وإن أغفلته ظلمت نفسي، ومن حابى خصمه غلب.
قال القاضي أبو حامد المرورّوذيّ: لو كانت الفضائل كلّها بعقدها وسمطها، ونظمها ونثرها، مجموعة للفرس، ومصبوبة على أرؤسهم، ومعلّقة بآذانهم، وطالعة من جباههم، لكان لا ينبغي أن يذكروا شأنها، وأن يخرسوا عن دقّها وجلّها، مع نيكهم الأمهات والأخوات والبنات فإن هذا شيء كريه بالطباع، وضعيف بالسّماع، ومردود عند كل ذي فطرة سليمة، ومستبشع في نفس كل من له جبلّة معتدلة. قال:
ومن تمام طغيانهم، وشدّة بهتانهم، أنّهم زعموا أن هذا بإذن من الله تعالى، وبشريعة أتت من عند الله، والله تعالى حرّم الخبائث من المطعومات فكيف حلّل الخبائث من المنكوحات؟ قال: وكذب القوم، لم يكن زرادشت نبيّا، ولو كان نبيّا لذكره الله تعالى في عرض الأنبياء الّذين نوّه بأسمائهم وردّد ذكرهم في كتابه، ولذلك قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب» لأنّه لا كتاب لهم من عند الله منزّل على مبلّغ عنه. وإنّما هو خرافة خدعهم بها زرادشت بقوّة الملك الّذي قبل ذلك منه وحمل الناس عليه طوعا وكرها، وترغيبا وترهيبا، وكيف يبعث الله نبيا يدعو إلى إلهين اثنين؟ وهذا مستحيل بالعقل، وما خلق الله العقل إلّا ليشهد بالحق للمحقّ والباطل للمبطل، ولو كان شرعا لكان ذلك شائعا عند أهل الكتابين، أعني اليهود والنصارى، وكذلك عند الصابئين، وهم كانوا أكثر الناس عناية بالأديان والبحث عنها، والتوصّل إلى معرفة حقائقها، ليكونوا من دينهم على ثقة، فكيف صارت النصارى تعرف عيسى، واليهود تعرف موسى، ومحمّد- صلّى الله عليه وسلّم- يذكرهما ويذكر غيرهما، كداود وسليمان ويحيى وزكريّا، وغير هؤلاء، ولا يذكر زرادشت بالنبوّة وأنّه جاء من عند الله تعالى بالصدق والحق كما جاء موسى وعيسى ... «1» لكنّي بعثت ناسخا لكلّ شريعة، ومجدّدا لشريعة خصّني الله بها من بين العرب.
قال: وهذا بيان نافع في كذبهم، وإنما جاءوا إلى وهي فرقعوه، وإلى حرام بالعقل فأباحوه، وإلى خبيث بالطبع فارتكبوه وإلى قبيح في العادة فاستحسنوه.
وقد وجدنا في البهائم ما إذا أنزي الفحل منها على أمّه لم يطاوع، وإذا أكره وخدع وعرف غضب على أهله وندّ عنهم، وشرر عليهم، فما تقول في خلق لا ترضاه البهيمة، ولا تطاوعه فيه الطبيعة، بل يأباه حسّه مع كلوله وتبرد شهوته مع اشتعالها، ويرضاه هؤلاء القوم مع عجبهم بعقولهم، وكبرهم في أنفسهم.
ولو كان زرادشت أقام لهم على هذه الخصلة اللّئيمة والفعلة الذميمة كلّ آية وكلّ برهان، ونثر عليهم نجوم السماء، وأطلع لهم الشمس من المغرب، وفتّت لهم الجبال، وغيّض لهم البحار، وأراهم الثريّا تمشي على الأرض تخترق السّكك وتشهد له بالصدق، لكان من الواجب بالعقل وبالغيرة وبالحميّة وبالأنفة وبالتقزّز وبالتعزّز ألّا يجيبوه إلى ذلك، ويشكّوا في كل آية يرون منه، ويقتلوه، وينكّلوا به.
ولكن بمثل هذا العقل قبلوا من مزدك ما قبلوه مرّة، ولو عاملوا زرادشت بما عاملوا به مزدك ما كان الأمر إلا واحدا، ولا كان الحقّ إلا منصورا، ولا كان الباطل إلا مقهورا، ولكن اتّفق على مزدك ملك عاقل فوضع باطله، واتفق لزرادشت ملك ركيك فرفع باطله، وما نزع الله عنهم الملك إلّا بالحق، كما قال تعالى: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ
[الزخرف: 55] .
ثم قال: وبعد، فكلّ شيء خارج من الحكمة الإلهيّة والعقليّة والطبيعيّة فهو ساقط بهرج، ومردود مرذول، إذا فعله جاهل عذر بالجهل، وإذا أتاه عالم عذل للعلم.
قال: وكانت العرب بهذا الخلق الذميم، وهذا الفعل اللئيم، لو فعلته أعذر، لأنّهم أشدّ غلمة من غيرهم وأكثر تهيّجا، وأقوى على البضاع، وأوثب على النساء يدلّك على هذا غزلهم وعشقهم ونظمهم ونثرهم وفراغهم وشهوتهم، وتراهم مع هذه الدواعي والبواعث لم يستحسنوا هذا ولم يفعلوه، ولو أكرههم على هذا مكره ودعاهم إليه داع لما أطاعوه، ولذلك لم ينجم منهم ناجم بالحيلة فدعا إلى هذا، ولو كان لكان أوّل من دقّ رأسه بالعمد، وبعج بطنه بالخنجر، وما منعهم من هذا إلّا الأنفس الكريمة، والطباع المعتدلة، والشكائم الشديدة، والأرواح العيّفة، والعادات الرضيّة، والضرائب الطيّبة، وكان وأد البنات عندهم أنفى للمعاير، وأطرد للقبائح من هذا الّذي استحسنه زرادشت وقبل منه الفرس، وهم يدّعون الحكم والعلم والحزم والعزم، ولفرط جهلهم وغلبة شهوتهم غفلوا عمّا يجوز أن يكون الله سبحانه مبيحا له أو حاظرا، أو مطلقا أو مانعا، أو محلّلا أو محرّما، هيهات ما كلّف الله أهل العقل القيام بالدّين والتّصفّح للحقّ من الباطل إلّا لما شرّفهم به في العاجل، وعرّضهم له في الآجل، والعاقبة للمتّقين.
قال أبو الحسن الأنصاريّ- وكان حاضرا-: الهند أوضح عذرا في هذا الحديث لأنّهم جعلوه من باب القربة في بيوت الأصنام، وبلغوا مرادهم بهذه الخديعة، ولم ينسبوا إلى الله شيئا منه، ولا استجازوا الكذب عليه، ولا علّقوه أيضا على نبيّ من عند الله، بل رأوه صوابا بالوضع ثم طابت أنفسهم من هذا الفعل بالمران والعادة.
وبعد، فعقولهم مدخولة، والبارع منهم قليل، وهم إلى الإفك والوهم والسّحر أميل، وفي أبوابها أدخل.
ثم قال أبو الحسن: انظر إلى جهل زرادشت في هذا الحكم وإلى ضعف عقول الفرس في قبولهم منه هذا الفعل، وخيّر بينها وبين عقول العرب، فإنّهم قالوا:
«اغتربوا لا تضووا» «1» . واستفاض هذا منهم حتى سمع من صاحب الشريعة صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أنّ الضّوى مكروه، والعرب قالت هذا بالإلهام، لقرائحهم الصافية، وأذهانهم الواقدة، وطينتهم الحرّة، وأعراقهم الكريمة، وعاداتهم السليمة: وإنّما شعروا بهذا لأن الضوى الواصل إلى الأبدان هو سار في العقول، ولكن الفرس عن هذا السرّ غافلون، ولا يفطن لهذا وأمثاله إلّا الألمعيّون الأحوذيّون، ثم قال: أنشد الأصمعيّ عن العرب قول قائلهم في مدح صاحب له:
فتى لم تلده بنت عمّ قريبة ... فيضوى وقد يضوى رديد الأقارب
قال: وقالت العرب: «أضواه حقّه» : إذا نقصه. قال: وقال آخر لولده: والله لقد كفيتك الضّؤولة، واخترت لك الخؤولة.
وقال أيضا: العرب تقول: «ليس أضوى من القرائب، ولا أنجب من الغرائب» وقال الشاعر:
أنذرت من كان بعيد الهمّ ... تزويج أولاد بنات العمّ
ليس بناج من ضوى أو سقم ... وأنت إن أطعمته لا ينمي
وقال الأسديّ يفتخر:
ولست بضاويّ تموج عظامه ... ولادته في خالد بعد خالد
تردّد حتى عمّه خال أمه ... إلى نسب أدنى من السر واحد
ثم قال: والعرب لم ترد بهذا إلا نقص الذهن والعقل، لأنّها لو أرادت نقصان الجسم لكانت مخطئة، لأنّهم يريدون سمانة الجسم مع السلامة والصلابة. ثم قال: وعلى هذا طباع الأرض، ولذلك يقال: إذا كثرت المؤتفكات زكت الأرض، لأنّ الرياح إذا اختلفت حوّلت تراب أرض إلى أرض، وإذا كان الاغتراب يؤثّر من التراب إلى التراب، فبالحريّ أن يؤثّر الإنسان في الإنسان بالاغتراب، لأن الإنسان أيضا من التراب.
قال أبو حامد: فما ظنّك بقوم يجهلون آثار الطبيعة، وأسرار الشريعة؟ ما أذلّهم الله باطلا، ولا سلبهم ملكهم ظالما، ولا ضربهم بالخزي والمهانة إلّا جزاء على سيرتهم القبيحة، وكذبهم على الله بالجرأة والمكابرة، وما الله بظلام للعبيد.
فلما بلغ القول مداه قال: لله درّ هذا النّفس الطويل والنّفث الغزير! لقد كنت قرما إلى هذا النوع من الكلام، ففرّغ نفسك لرسمه في جزء لأنظر فيه، وأشرب النفس حلاوته، وأستنتج العقيم منه، فإنّ الكلام إذا مرّ بالسمع حلّق، وإذا شارفه البصر بالقراءة من كتاب أسفّ، والمحلّق بعيد المنال، والمسفّ حاضر العين، والمسموع إذا لم يملكه الحفظ تذكّر منه الشيء بعد الشيء بالوهم الذي لا انعقاد له، والخيال الّذي لا معرّج عليه. فقلت: أفعل سامعا مطيعا- إن شاء الله-.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق