قال لي بعد ذلك في ليلة أخرى: كيف رضاك عن أبي الوفاء؟ قلت:
أرضى رضا بأتمّ شكر وأحمد ثناء، أخذ بيدي، ونظر في معاشي، ونشّطني وبشّرني، ورعى
عهدي، ثم ختم هذا كلّه بالنعمة الكبرى، وقلّدني بها القلادة الحسنى، وشملني بهذه
الخدمة، وأذاقني حلاوة هذه المزيّة، وأوجهني عند نظرائي.
قال: هات شيئا من الغزل. فأنشدته:
كلانا سواء في الهوى غير أنّها ... تجلّد أحيانا وما بي تجلّد
تخاف وعيد الكاشحين وإنما ... جنوني عليها حين أنهى وأبعد
ثمّ قال: غالب ظنّي أن نصرا غلام خواشاذه ما هرب من فنائي إلا برأيك وتجسيرك، فإنّ ذلك عبد، ولا جرأة له على مثل هذا النّدود والشّذوذ، فقد قال لي القائل: إنّك من خلصانه.
فقلت: والله الّذي لا إله إلّا هو ما كان بيني وبينه ما يقتضي هذا الأنس وهذا الاسترسال، إنما كنا نلتقي على زنبرية «1» باب الجسر بالعشايا وعند البيمارستان وعلى باب أبي الوفاء، وإنما ركنت إليه لمرقّعته وتاسومته عند ما كنت رأيته عند صاحبه بالرّيّ سنة تسع وستين وهو متوجه إلى قابوس بجرجان، في المذلّة الدائمة والحال المربوطة، ولو نبس لي بحرف من هذا، أو كنت أشعر بأقلّ شيء منه، لكنت أقوله لأبي الوفاء قضاء لحقّه، ووفاء بما له في عنقي من مننه وخوفا من هذا الظنّ بي، وقصورا عن اللائمة لي.
قال: أفما تعرف أحدا تسأله عنه ممن كان يخالطه ويباسطه؟
قلت: ما رأيته إلا وحده، وكم كان زمان التلاقي؟ كان أقلّ من شهر، أفي هذا القدر يتوكّد الأنس وترتفع الحشمة وتستحكم الثقة ويقع الاسترسال والتشاور؟ هذا بعيد.
قال: هذا المتخلّف كنت قد قرّبته ورتّبته، ووعدته ومنيّته، وتقدمت إلى أبي الوفاء بالإقبال عليه، والإحسان إليه، وإذكاري بأمره في الوقت بعد الوقت، حتى أزيده نباهة وتقديما، فترك هذا كلّه وطوى الأرض كأنّه هارب من حبس، أو خائف من عذاب. ويقال في الأثر: إن بعض الصّفيحيّين «1» قال: لله قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل، ما أكثر من يفرّ من هذه الكرامة، ويقوى- على ترف جمّ- على الهوان، ويصبر على البلاء، ويقلق في العافية! إنّ السجايا لمختلفة، وإنّ الطباع لمتعادية، قلّما يرى شخصان يتشاكلان في الظاهر إلّا يتباينان في الباطن.
قلت: كذلك هو.
قال: حدّثني لم امتنعت من النفوذ مع ابن موسى إلى الجبل فيما رسمنا له أن يتوجّه فيه؟ ولقد أطلت التعجّب من هذا وكرّرته على أبي الوفاء.
فقلت: منعني من ذلك ثلاثة أشياء: أحدها أن ابن موسى لم يكن من شكلي ولا أشدّ للضدّ هونا من مصاحبة الضّد، لأنّه سوداويّ وجعد. والآخر أنّه قيل: ينبغي أن تكون عينا عليه، وأنا لو قررت لك الحديث لما رأيته لائقا بحالي، فكيف إذا قرنت برجل باطليّ لو مرّ بوهمه أمري لدهدهني من أعلى جبل في الطريق. والآخر أنّي كنت أفد مع هذا كله على ابن عبّاد- وهو رجل أساء إليّ وأوحشني، وحاول على لسان صاحبه ابن شاهويه أن أنقلب إليه ثانيا، وكنت أكره ذلك، وما كنت آمن ما يكون منه ومنّي، والمجنون المطاع، مهروب منه بالطباع.
وبعد، فليس لي حاجة في مثل هذه الخدمة، لأن صدر العمر خلا منّي عاريا من هذه الأحوال، وكان وسطه أضعف حملا، وأبعد من القيام به والقيام عليه.
فقال: ما كان عندي هذا كلّه.
قال: إنّي أريد أن أسألك عن ابن عبّاد فقد انتجعته وخبرته وحضرت مجلسه، وعن أخلاقه ومذهبه وعادته، وعن علمه وبلاغته، وغالب ما هو عليه، ومغلوب ما لديه، فما أظنّ أنّي أجد مثلك في الخبر عنه، والوصف له، على أنّي قد شاهدته بهمذان لمّا وافى، ولكنّي لم أعجمه، لأن اللّبث كان قليلا، والشغل كان عظيما، والعائق كان واقعا.
فقلت: إنّي رجل مظلوم من جهته، وعاتب عليه في معاملتي، وشديد الغيظ لحرماني، وإن وصفته أربيت منتصفا، وانتصفت منه مسرفا، فلو كنت معتدل الحال بين الرضا والغضب، أو عاريا منهما جملة، كان الوصف أصدق، والصدق به أخلق، على أني عملت رسالة في أخلاقه وأخلاق ابن العميد أودعتها نفسي الغزير، ولفظي الطويل والقصير، وهي في المسوّدة ولا جسارة لي على تحريرها، فإنّ جانبه مهيب، ولمكره دبيب، وقد قال الشاعر:
إلى أن يغيب المرء يرجى ويتّقى ... ولا يعلم الإنسان ما في المغيّب
قال: هات شيئا من الغزل. فأنشدته:
كلانا سواء في الهوى غير أنّها ... تجلّد أحيانا وما بي تجلّد
تخاف وعيد الكاشحين وإنما ... جنوني عليها حين أنهى وأبعد
ثمّ قال: غالب ظنّي أن نصرا غلام خواشاذه ما هرب من فنائي إلا برأيك وتجسيرك، فإنّ ذلك عبد، ولا جرأة له على مثل هذا النّدود والشّذوذ، فقد قال لي القائل: إنّك من خلصانه.
فقلت: والله الّذي لا إله إلّا هو ما كان بيني وبينه ما يقتضي هذا الأنس وهذا الاسترسال، إنما كنا نلتقي على زنبرية «1» باب الجسر بالعشايا وعند البيمارستان وعلى باب أبي الوفاء، وإنما ركنت إليه لمرقّعته وتاسومته عند ما كنت رأيته عند صاحبه بالرّيّ سنة تسع وستين وهو متوجه إلى قابوس بجرجان، في المذلّة الدائمة والحال المربوطة، ولو نبس لي بحرف من هذا، أو كنت أشعر بأقلّ شيء منه، لكنت أقوله لأبي الوفاء قضاء لحقّه، ووفاء بما له في عنقي من مننه وخوفا من هذا الظنّ بي، وقصورا عن اللائمة لي.
قال: أفما تعرف أحدا تسأله عنه ممن كان يخالطه ويباسطه؟
قلت: ما رأيته إلا وحده، وكم كان زمان التلاقي؟ كان أقلّ من شهر، أفي هذا القدر يتوكّد الأنس وترتفع الحشمة وتستحكم الثقة ويقع الاسترسال والتشاور؟ هذا بعيد.
قال: هذا المتخلّف كنت قد قرّبته ورتّبته، ووعدته ومنيّته، وتقدمت إلى أبي الوفاء بالإقبال عليه، والإحسان إليه، وإذكاري بأمره في الوقت بعد الوقت، حتى أزيده نباهة وتقديما، فترك هذا كلّه وطوى الأرض كأنّه هارب من حبس، أو خائف من عذاب. ويقال في الأثر: إن بعض الصّفيحيّين «1» قال: لله قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل، ما أكثر من يفرّ من هذه الكرامة، ويقوى- على ترف جمّ- على الهوان، ويصبر على البلاء، ويقلق في العافية! إنّ السجايا لمختلفة، وإنّ الطباع لمتعادية، قلّما يرى شخصان يتشاكلان في الظاهر إلّا يتباينان في الباطن.
قلت: كذلك هو.
قال: حدّثني لم امتنعت من النفوذ مع ابن موسى إلى الجبل فيما رسمنا له أن يتوجّه فيه؟ ولقد أطلت التعجّب من هذا وكرّرته على أبي الوفاء.
فقلت: منعني من ذلك ثلاثة أشياء: أحدها أن ابن موسى لم يكن من شكلي ولا أشدّ للضدّ هونا من مصاحبة الضّد، لأنّه سوداويّ وجعد. والآخر أنّه قيل: ينبغي أن تكون عينا عليه، وأنا لو قررت لك الحديث لما رأيته لائقا بحالي، فكيف إذا قرنت برجل باطليّ لو مرّ بوهمه أمري لدهدهني من أعلى جبل في الطريق. والآخر أنّي كنت أفد مع هذا كله على ابن عبّاد- وهو رجل أساء إليّ وأوحشني، وحاول على لسان صاحبه ابن شاهويه أن أنقلب إليه ثانيا، وكنت أكره ذلك، وما كنت آمن ما يكون منه ومنّي، والمجنون المطاع، مهروب منه بالطباع.
وبعد، فليس لي حاجة في مثل هذه الخدمة، لأن صدر العمر خلا منّي عاريا من هذه الأحوال، وكان وسطه أضعف حملا، وأبعد من القيام به والقيام عليه.
فقال: ما كان عندي هذا كلّه.
قال: إنّي أريد أن أسألك عن ابن عبّاد فقد انتجعته وخبرته وحضرت مجلسه، وعن أخلاقه ومذهبه وعادته، وعن علمه وبلاغته، وغالب ما هو عليه، ومغلوب ما لديه، فما أظنّ أنّي أجد مثلك في الخبر عنه، والوصف له، على أنّي قد شاهدته بهمذان لمّا وافى، ولكنّي لم أعجمه، لأن اللّبث كان قليلا، والشغل كان عظيما، والعائق كان واقعا.
فقلت: إنّي رجل مظلوم من جهته، وعاتب عليه في معاملتي، وشديد الغيظ لحرماني، وإن وصفته أربيت منتصفا، وانتصفت منه مسرفا، فلو كنت معتدل الحال بين الرضا والغضب، أو عاريا منهما جملة، كان الوصف أصدق، والصدق به أخلق، على أني عملت رسالة في أخلاقه وأخلاق ابن العميد أودعتها نفسي الغزير، ولفظي الطويل والقصير، وهي في المسوّدة ولا جسارة لي على تحريرها، فإنّ جانبه مهيب، ولمكره دبيب، وقد قال الشاعر:
إلى أن يغيب المرء يرجى ويتّقى ... ولا يعلم الإنسان ما في المغيّب
قال: دع هذا كلّه، وانسخ لي الرسالة من المسوّدة،
ولا يمنعنّك ذاك فإنّ العين لا ترمقها والأذن لا تسمعها واليد لا تنسخها.
وبعد، فما سألتك إلا وصفه بما جبل عليه، أو بما كسب هو بيديه من خير وشرّ، وهذا غير منكر ولا مكروه، لأمر الله تعالى، فإنّه مع علمه الواسع، وكرمه السابغ، يصف المحسن والمسيء، ويثني على هذا وينثو «1» على ذاك، فاذكر لي من أمره ما خفّ اللفظ به وسبق الخاطر إليه وحضر السبب له.
قلت: إنّ الرجل كثير المحفوظ حاضر الجواب فصيح اللسان، قد نتف من كل أدب خفيف أشياء، وأخذ من كلّ فنّ أطرافا، والغالب عليه كلام المتكلّمين المعتزلة، وكتابته مهجّنة بطرائقهم، ومناظرته مشوبة بعبارة الكتّاب، وهو شديد التعصّب على أهل الحكمة والناظرين في أجزائها كالهندسة والطّبّ والتنجيم والموسيقى والمنطق والعدد، وليس عنده بالجزء الإلهي خبر، ولا له فيه عين ولا أثر، وهو حسن القيام بالعروض والقوافي، ويقول الشّعر، وليس بذاك، وفي بديهته غزارة. وأما رويّته فخوّارة، وطالعه الجوزاء، والشّعرى قريبة منه، ويتشيّع لمذهب أبي حنيفة ومقالة الزّيديّة، ولا يرجع إلى الرقّة والرأفة والرحمة، والناس كلّهم محجمون عنه، لجرأته وسلاطته واقتداره وبسطته، شديد العقاب طفيف الثواب، طويل العتاب، بذيء اللسان، يعطي كثيرا قليلا (أعني يعطي الكثير القليل) ، مغلوب بحرارة الرأس، سريع الغضب، بعيد الفيئة قريب الطّيرة، حسود حقود حديد، وحسده وقف على أهل الفضل، وحقده سار إلى أهل الكفاية، أمّا الكتّاب والمتصرّفون فيخافون سطوته، وأمّا المنتجعون فيخافون جفوته، وقد قتل خلقا، وأهلك ناسا، ونفى أمّة، نخوة وتعنّتا وتجبّرا وزهوا، وهو مع هذا يخدعه الصبيّ، ويخلبه الغبيّ، لأنّ المدخل عليه واسع، والمأتى إليه سهل، وذلك بأن يقال: مولانا يتقدّم بأن أعار شيئا من كلامه، ورسائل منثوره ومنظومه، فما جبت الأرض إليه من فرغانة ومصر وتفليس إلّا لأستفيد كلامه وأفصح به، وأتعلّم البلاغة منه، لكأنّما رسائل مولانا سور قرآن، وفقره فيها آيات فرقان، واحتجاجه من ابتدائها إلى انتهائها برهان فوق برهان، فسبحان من جمع العالم في واحد، وأبرز جميع قدرته في شخص. فيلين عند ذلك ويذوب، ويلهى عن كلّ مهمّ له، وينسى كلّ فريضة عليه ويتقدم إلى الخازن بأن يخرج إليه رسائله مع الورق والورق ويسهّل له الإذن عليه، والوصول إليه، والتمكّن من مجلسه، فهذا هذا.
ثم يعمل في أوقات كالعيد والفصل شعرا، ويدفعه إلى أبي عيسى بن المنجّم، ويقول: قد نحلتك هذه القصيدة، امدحني بها في جملة الشعراء، وكن الثالث من الهمج المنشدين. فيفعل أبو عيسى- وهو بغداديّ محكّك «1» قد شاخ على الخدائع وتحنّك- وينشد، فيقول له عند سماعه شعره في نفسه ووصفه بلسانه، ومدحه من تحبيره: أعد يا أبا عيسى، فإنّك- والله- مجيد زه يا أبا عيسى والله، قد صفا ذهنك، وزادت قريحتك، وتنقّحت قوافيك، ليس هذا من الطّراز الأوّل حين أنشدتنا في العيد الماضي، مجالسنا تخرّج الناس وتهب لهم الذكاء، وتزيد لهم الفطنة، وتحوّل الكودن «2» عتيقا، والمحمّر جوادا، ثم لا يصرفه عن مجلسه إلّا بجائزة سنيّة، وعطيّة هنيّة، ويغيظ الجماعة من الشعراء وغيرهم، لأنّهم يعلمون أن أبا عيسى لا يقرض مصراعا ولا يزن بيتا ولا يذوق عروضا.
قال يوما: من في الدار؟ فقيل له: أبو القاسم الكاتب وابن ثابت، فعمل في الحال بيتين، وقال لإنسان بين يديه: إذا أذنت لهذين فادخل بعدهما بساعة وقل: «قد قلت بيتين، فإن رسمت لي إنشادهما أنشدت» وازعم أنّك بدهت بهما، ولا تجزع من تأفّفي بك، ولا تفزع من نكري عليك، ودفع البيتين إليه، وأمره بالخروج إلى الصحن، وأذن للرّجلين حتى وصلا، فلما جلسا وأنسا دخل الآخر على تفيئتهما، ووقف للخدمة، وأخذ يتلمّظ يري أنّه يقرض شعرا، ثم قال: يا مولانا، قد حضرني بيتان، فإن أنت أذنت لي أنشدت. قال: أنت إنسان أخرق سخيف، لا تقول شيئا فيه خير، اكفني أمرك وشعرك. قال: يا مولانا، هي بديهتي، فإن نكرتني ظلمتني، وعلى كلّ حال فاسمع، فإن كانا بارعين وإلّا فعاملني بما تحبّ. قال: أنت لجوج، هات. فأنشد:
يأيّها الصاحب تاج العلا ... لا تجعلنّي نهزة الشامت
بملحد يكنى أبا قاسم ... ومجبر يعزى إلى ثابت
قال: قاتلك الله، لقد أحسنت وأنت مسيء. قال لي أبو القاسم: فكدت أتفقّأ غيظا، لأنّي علمت أنها من فعلاته المعروفة، وكان ذلك الجاهل لا يقرض بيتا. ثم حدّثني الخادم الحديث بنصّه.
والذي غلّطه في نفسه وحمله على الإعجاب بفضله والاستبداد برأيه، أنّه لم يجبه قطّ بتخطئة، ولا قوبل بتسوئة، ولا قيل له: أخطأت أو قصّرت أو لحنت أو غلطت أو أخللت، لأنّه نشأ على أن يقال له: أصاب سيّدنا، وصدق مولانا، ولله درّه، ولله بلاؤه، ما رأينا مثله، ولا سمعنا من يقاربه، من (ابن عبدكان) مضافا إليه؟
ومن (ابن ثوابة) مقيسا عليه؟ ومن (إبراهيم بن العباس) الصّوليّ [إذا جمع بينهما؟] من (صريع الغواني) من (أشجع السّلميّ) إذا سلك طريقهما، ومتح برشائهما، وقدح بزندهما؟ قد استدرك مولانا على (الخليل) في العروض، وعلى (أبي عمرو بن العلاء) في اللّغة وعلى (أبي يوسف) في القضاء، وعلى (الإسكافيّ) في الموازنة، وعلى (ابن نوبخت) في الآراء والدّيانات، وعلى (ابن مجاهد) في القراءات، وعلى (ابن جرير) في التفسير، وعلى (أرسطوطاليس) في المنطق، وعلى (الكنديّ) في الجزء «1» ، وعلى (ابن سيرين) في العبارة، وعلى (أبي العيناء) في البديهة، وعلى (ابن أبي خالد) في الخطّ، وعلى (الجاحظ) في الحيوان، وعلى (سهل بن هارون) في الفقر، وعلى (يوحنّا) في الطبّ، وعلى (ابن ربن) في الفردوس، وعلى (عيسى بن دأب) في الرواية، وعلى (الواقديّ) في الحفظ، وعلى (النّجار) في البدل، وعلى (ابن ثوابة) في التفقّه، وعلى (السّريّ السّقطيّ) في الخطرات والوساوس، وعلى (مزبّد) في النوادر، وعلى (أبي الحسن العروضيّ) في استخراج المعمّى، وعلى (بني برمك) في الجود، وعلى (ذي الرياستين) في التدبير، وعلى (سطيح) في الكهانة، وعلى (ابن المحيّا خالد بن سنان العبسيّ) في دعواه، هو والله أولى بقول (أبي شريح أوس بن حجر التميميّ) في (فضالة بن كلدة) :
الألمعيّ الّذي يظنّ بك الظنّ ... كأن قد رأى وقد سمعا
قد يسبق المدح إلى من لا يستحقّه، ويصير المال إلى من لا يليق به أن يكون ميّلا «2» حتى إذا وجد من كان لذلك مستحقا منحه ووفّر عليه.
فتراه عند هذا الهذر وأشباهه يتلوّى ويتبسّم، ويطير فرحا ويتقسّم ويقول: ولا كذا، ثمرة السّبق لهم، وقصّرنا أن نلحقهم، أو نقفو أثرهم ونشقّ غبارهم أو نرد غمارهم. وهو في كل ذلك يتشاكى ويتحايل، ويلوي شدقه، ويبتلع ريقه، ويردّ كالآخذ، ويأخذ كالمتمنّع، ويغضب في عرض الرضا، ويرضى في لبوس الغضب، ويتهالك ويتمالك، ويتقابل ويتمايل، ويحاكي المومسات، ويخرج في أصحاب السماجات، ومع هذا كلّه يظنّ أن هذا خاف على نقّاد الأخلاق وجهابذة الأحوال، والذين قد فرّغهم الله لتتبّع الأمور، واستخراج ما في الصدور، واعتبار الأسباب، وذلك أنه ليس بجيّد العقل، ولا خالص الحمق، وكلّ كدر بالتركيب فقلّما يصفو، وكل مركّب على الكدر فقلّما يعتدل، إلا أن الانحراف متى كان إلى جانب العقل كان أصلح من أن يكون إلى طرف الحمق، والكامل عزيز، والبريء من الآفات معدوم، إلّا أنّ العليل إذا قيّض الله له طبيبا حاذقا رفيقا ناصحا كان إلى العافية أقرب، وللشفاء أرجى، ومن العطب أبعد، وبالاحتياط أعلق، أعني أنّ العاقل إذا عرف من نفسه عيوبا معدودة، وأخلاقا مدخولة، استطبّ لها عقله، وتطبّب فيها بعقله، وتولّى تدبيرها برأيه ورأي خلصانه، فنفى ما أمكن نفيه، وأصلح ما قبل إصلاحه، وقلّل ما استطاع تقليله، فقد يجد الإنسان الرّمص في عينه فينحّيه، ويبتلى بالبرص في بدنه فيخفيه.
وقد أفسده أيضا ثقة صاحبه به، وتعويله عليه، وقلّة سماعه من الناصح فيه، فعذر بازدهاء المال والعلم والاقتدار والأمر والكفاية وطاعة الرجال وتصديق الجلساء والعادة الغالبة، وهو في الأصل مجدود «1» لا جرم ليس يقلّه مكان دلالا وترفا، وعجبا وتيها وصلفا، واندراء»
على الناس، وازدراء للصغار والكبار، وجبها للصادر والوارد، وفي الجملة، صغار آفاته كبيرة، وذنوبه جمّة.
ولكنّ الغنى ربّ غفور
قال: ما صدر هذا البيت؟ فأنشدته الأبيات، وهي لعروة بن الورد في الجاهليّة، وكان يقال له عروة الصعاليك، لأنّه كان يؤويهم ويحسن إليهم كثيرا:
ذريني للغني أسعى فإنّي ... رأيت الناس شرّهم الفقير
وأبعدهم وأهونهم عليهم ... وإن أمسى له حسب وخير
ويقصيه النّديّ وتزدريه ... حليلته وينهره الصغير
وتلقى ذا الغنى وله جلال ... يكاد فؤاد صاحبه يطير
قليل ذنبه والذنب جمّ ... ولكنّ الغنى ربّ غفور
فقال: لا شكّ أنّ المسوّدة جامعة لهذا كلّه. قلت: تلك تجزّع في دست كاغد فرعونيّ. فقال: أجد تحريرها، وعليّ بها، ولك الضّمان ألّا يراها إنسان، ولا يدور بذكرها لسان. قلت: السمع والطاعة.
قال: قد تركنا من حديثه ما هو أولى مما مرّ بنا، كيف بلاغته من بلاغة ابن العميد؟ وأين طريقته من طريقة ابن يوسف والصابي؟
قلت: قد سألت جماعة عن هذا، فأجابني كل واحد بجواب إذا حكيته عنه كان ما يقال فيه ألصق، وكنت من الحكم عليه وله أبعد.
قال: صف هذا.
قلت: سألت ابن عبيد الكاتب عن ابن عبّاد في كتابته فقال: يرتفع عن المتعلّمين فيها بدرجة أو بدرجتين. وقال عليّ بن القاسم: هو مجنون الكلام، تارة تبدو لك منه بلاغة قسّ، وتارة يلقاك بعيّ باقل، تحريف كثير في المعاني، وإحالة في الوضع، وغلط في السّجع، وشرود عن الطبع.
وقال ابن المرزبان: هو كثير السرقة، سيّئ الإنفاق، رديء القلب والعكس، فروقة «3»
وبعد، فما سألتك إلا وصفه بما جبل عليه، أو بما كسب هو بيديه من خير وشرّ، وهذا غير منكر ولا مكروه، لأمر الله تعالى، فإنّه مع علمه الواسع، وكرمه السابغ، يصف المحسن والمسيء، ويثني على هذا وينثو «1» على ذاك، فاذكر لي من أمره ما خفّ اللفظ به وسبق الخاطر إليه وحضر السبب له.
قلت: إنّ الرجل كثير المحفوظ حاضر الجواب فصيح اللسان، قد نتف من كل أدب خفيف أشياء، وأخذ من كلّ فنّ أطرافا، والغالب عليه كلام المتكلّمين المعتزلة، وكتابته مهجّنة بطرائقهم، ومناظرته مشوبة بعبارة الكتّاب، وهو شديد التعصّب على أهل الحكمة والناظرين في أجزائها كالهندسة والطّبّ والتنجيم والموسيقى والمنطق والعدد، وليس عنده بالجزء الإلهي خبر، ولا له فيه عين ولا أثر، وهو حسن القيام بالعروض والقوافي، ويقول الشّعر، وليس بذاك، وفي بديهته غزارة. وأما رويّته فخوّارة، وطالعه الجوزاء، والشّعرى قريبة منه، ويتشيّع لمذهب أبي حنيفة ومقالة الزّيديّة، ولا يرجع إلى الرقّة والرأفة والرحمة، والناس كلّهم محجمون عنه، لجرأته وسلاطته واقتداره وبسطته، شديد العقاب طفيف الثواب، طويل العتاب، بذيء اللسان، يعطي كثيرا قليلا (أعني يعطي الكثير القليل) ، مغلوب بحرارة الرأس، سريع الغضب، بعيد الفيئة قريب الطّيرة، حسود حقود حديد، وحسده وقف على أهل الفضل، وحقده سار إلى أهل الكفاية، أمّا الكتّاب والمتصرّفون فيخافون سطوته، وأمّا المنتجعون فيخافون جفوته، وقد قتل خلقا، وأهلك ناسا، ونفى أمّة، نخوة وتعنّتا وتجبّرا وزهوا، وهو مع هذا يخدعه الصبيّ، ويخلبه الغبيّ، لأنّ المدخل عليه واسع، والمأتى إليه سهل، وذلك بأن يقال: مولانا يتقدّم بأن أعار شيئا من كلامه، ورسائل منثوره ومنظومه، فما جبت الأرض إليه من فرغانة ومصر وتفليس إلّا لأستفيد كلامه وأفصح به، وأتعلّم البلاغة منه، لكأنّما رسائل مولانا سور قرآن، وفقره فيها آيات فرقان، واحتجاجه من ابتدائها إلى انتهائها برهان فوق برهان، فسبحان من جمع العالم في واحد، وأبرز جميع قدرته في شخص. فيلين عند ذلك ويذوب، ويلهى عن كلّ مهمّ له، وينسى كلّ فريضة عليه ويتقدم إلى الخازن بأن يخرج إليه رسائله مع الورق والورق ويسهّل له الإذن عليه، والوصول إليه، والتمكّن من مجلسه، فهذا هذا.
ثم يعمل في أوقات كالعيد والفصل شعرا، ويدفعه إلى أبي عيسى بن المنجّم، ويقول: قد نحلتك هذه القصيدة، امدحني بها في جملة الشعراء، وكن الثالث من الهمج المنشدين. فيفعل أبو عيسى- وهو بغداديّ محكّك «1» قد شاخ على الخدائع وتحنّك- وينشد، فيقول له عند سماعه شعره في نفسه ووصفه بلسانه، ومدحه من تحبيره: أعد يا أبا عيسى، فإنّك- والله- مجيد زه يا أبا عيسى والله، قد صفا ذهنك، وزادت قريحتك، وتنقّحت قوافيك، ليس هذا من الطّراز الأوّل حين أنشدتنا في العيد الماضي، مجالسنا تخرّج الناس وتهب لهم الذكاء، وتزيد لهم الفطنة، وتحوّل الكودن «2» عتيقا، والمحمّر جوادا، ثم لا يصرفه عن مجلسه إلّا بجائزة سنيّة، وعطيّة هنيّة، ويغيظ الجماعة من الشعراء وغيرهم، لأنّهم يعلمون أن أبا عيسى لا يقرض مصراعا ولا يزن بيتا ولا يذوق عروضا.
قال يوما: من في الدار؟ فقيل له: أبو القاسم الكاتب وابن ثابت، فعمل في الحال بيتين، وقال لإنسان بين يديه: إذا أذنت لهذين فادخل بعدهما بساعة وقل: «قد قلت بيتين، فإن رسمت لي إنشادهما أنشدت» وازعم أنّك بدهت بهما، ولا تجزع من تأفّفي بك، ولا تفزع من نكري عليك، ودفع البيتين إليه، وأمره بالخروج إلى الصحن، وأذن للرّجلين حتى وصلا، فلما جلسا وأنسا دخل الآخر على تفيئتهما، ووقف للخدمة، وأخذ يتلمّظ يري أنّه يقرض شعرا، ثم قال: يا مولانا، قد حضرني بيتان، فإن أنت أذنت لي أنشدت. قال: أنت إنسان أخرق سخيف، لا تقول شيئا فيه خير، اكفني أمرك وشعرك. قال: يا مولانا، هي بديهتي، فإن نكرتني ظلمتني، وعلى كلّ حال فاسمع، فإن كانا بارعين وإلّا فعاملني بما تحبّ. قال: أنت لجوج، هات. فأنشد:
يأيّها الصاحب تاج العلا ... لا تجعلنّي نهزة الشامت
بملحد يكنى أبا قاسم ... ومجبر يعزى إلى ثابت
قال: قاتلك الله، لقد أحسنت وأنت مسيء. قال لي أبو القاسم: فكدت أتفقّأ غيظا، لأنّي علمت أنها من فعلاته المعروفة، وكان ذلك الجاهل لا يقرض بيتا. ثم حدّثني الخادم الحديث بنصّه.
والذي غلّطه في نفسه وحمله على الإعجاب بفضله والاستبداد برأيه، أنّه لم يجبه قطّ بتخطئة، ولا قوبل بتسوئة، ولا قيل له: أخطأت أو قصّرت أو لحنت أو غلطت أو أخللت، لأنّه نشأ على أن يقال له: أصاب سيّدنا، وصدق مولانا، ولله درّه، ولله بلاؤه، ما رأينا مثله، ولا سمعنا من يقاربه، من (ابن عبدكان) مضافا إليه؟
ومن (ابن ثوابة) مقيسا عليه؟ ومن (إبراهيم بن العباس) الصّوليّ [إذا جمع بينهما؟] من (صريع الغواني) من (أشجع السّلميّ) إذا سلك طريقهما، ومتح برشائهما، وقدح بزندهما؟ قد استدرك مولانا على (الخليل) في العروض، وعلى (أبي عمرو بن العلاء) في اللّغة وعلى (أبي يوسف) في القضاء، وعلى (الإسكافيّ) في الموازنة، وعلى (ابن نوبخت) في الآراء والدّيانات، وعلى (ابن مجاهد) في القراءات، وعلى (ابن جرير) في التفسير، وعلى (أرسطوطاليس) في المنطق، وعلى (الكنديّ) في الجزء «1» ، وعلى (ابن سيرين) في العبارة، وعلى (أبي العيناء) في البديهة، وعلى (ابن أبي خالد) في الخطّ، وعلى (الجاحظ) في الحيوان، وعلى (سهل بن هارون) في الفقر، وعلى (يوحنّا) في الطبّ، وعلى (ابن ربن) في الفردوس، وعلى (عيسى بن دأب) في الرواية، وعلى (الواقديّ) في الحفظ، وعلى (النّجار) في البدل، وعلى (ابن ثوابة) في التفقّه، وعلى (السّريّ السّقطيّ) في الخطرات والوساوس، وعلى (مزبّد) في النوادر، وعلى (أبي الحسن العروضيّ) في استخراج المعمّى، وعلى (بني برمك) في الجود، وعلى (ذي الرياستين) في التدبير، وعلى (سطيح) في الكهانة، وعلى (ابن المحيّا خالد بن سنان العبسيّ) في دعواه، هو والله أولى بقول (أبي شريح أوس بن حجر التميميّ) في (فضالة بن كلدة) :
الألمعيّ الّذي يظنّ بك الظنّ ... كأن قد رأى وقد سمعا
قد يسبق المدح إلى من لا يستحقّه، ويصير المال إلى من لا يليق به أن يكون ميّلا «2» حتى إذا وجد من كان لذلك مستحقا منحه ووفّر عليه.
فتراه عند هذا الهذر وأشباهه يتلوّى ويتبسّم، ويطير فرحا ويتقسّم ويقول: ولا كذا، ثمرة السّبق لهم، وقصّرنا أن نلحقهم، أو نقفو أثرهم ونشقّ غبارهم أو نرد غمارهم. وهو في كل ذلك يتشاكى ويتحايل، ويلوي شدقه، ويبتلع ريقه، ويردّ كالآخذ، ويأخذ كالمتمنّع، ويغضب في عرض الرضا، ويرضى في لبوس الغضب، ويتهالك ويتمالك، ويتقابل ويتمايل، ويحاكي المومسات، ويخرج في أصحاب السماجات، ومع هذا كلّه يظنّ أن هذا خاف على نقّاد الأخلاق وجهابذة الأحوال، والذين قد فرّغهم الله لتتبّع الأمور، واستخراج ما في الصدور، واعتبار الأسباب، وذلك أنه ليس بجيّد العقل، ولا خالص الحمق، وكلّ كدر بالتركيب فقلّما يصفو، وكل مركّب على الكدر فقلّما يعتدل، إلا أن الانحراف متى كان إلى جانب العقل كان أصلح من أن يكون إلى طرف الحمق، والكامل عزيز، والبريء من الآفات معدوم، إلّا أنّ العليل إذا قيّض الله له طبيبا حاذقا رفيقا ناصحا كان إلى العافية أقرب، وللشفاء أرجى، ومن العطب أبعد، وبالاحتياط أعلق، أعني أنّ العاقل إذا عرف من نفسه عيوبا معدودة، وأخلاقا مدخولة، استطبّ لها عقله، وتطبّب فيها بعقله، وتولّى تدبيرها برأيه ورأي خلصانه، فنفى ما أمكن نفيه، وأصلح ما قبل إصلاحه، وقلّل ما استطاع تقليله، فقد يجد الإنسان الرّمص في عينه فينحّيه، ويبتلى بالبرص في بدنه فيخفيه.
وقد أفسده أيضا ثقة صاحبه به، وتعويله عليه، وقلّة سماعه من الناصح فيه، فعذر بازدهاء المال والعلم والاقتدار والأمر والكفاية وطاعة الرجال وتصديق الجلساء والعادة الغالبة، وهو في الأصل مجدود «1» لا جرم ليس يقلّه مكان دلالا وترفا، وعجبا وتيها وصلفا، واندراء»
على الناس، وازدراء للصغار والكبار، وجبها للصادر والوارد، وفي الجملة، صغار آفاته كبيرة، وذنوبه جمّة.
ولكنّ الغنى ربّ غفور
قال: ما صدر هذا البيت؟ فأنشدته الأبيات، وهي لعروة بن الورد في الجاهليّة، وكان يقال له عروة الصعاليك، لأنّه كان يؤويهم ويحسن إليهم كثيرا:
ذريني للغني أسعى فإنّي ... رأيت الناس شرّهم الفقير
وأبعدهم وأهونهم عليهم ... وإن أمسى له حسب وخير
ويقصيه النّديّ وتزدريه ... حليلته وينهره الصغير
وتلقى ذا الغنى وله جلال ... يكاد فؤاد صاحبه يطير
قليل ذنبه والذنب جمّ ... ولكنّ الغنى ربّ غفور
فقال: لا شكّ أنّ المسوّدة جامعة لهذا كلّه. قلت: تلك تجزّع في دست كاغد فرعونيّ. فقال: أجد تحريرها، وعليّ بها، ولك الضّمان ألّا يراها إنسان، ولا يدور بذكرها لسان. قلت: السمع والطاعة.
قال: قد تركنا من حديثه ما هو أولى مما مرّ بنا، كيف بلاغته من بلاغة ابن العميد؟ وأين طريقته من طريقة ابن يوسف والصابي؟
قلت: قد سألت جماعة عن هذا، فأجابني كل واحد بجواب إذا حكيته عنه كان ما يقال فيه ألصق، وكنت من الحكم عليه وله أبعد.
قال: صف هذا.
قلت: سألت ابن عبيد الكاتب عن ابن عبّاد في كتابته فقال: يرتفع عن المتعلّمين فيها بدرجة أو بدرجتين. وقال عليّ بن القاسم: هو مجنون الكلام، تارة تبدو لك منه بلاغة قسّ، وتارة يلقاك بعيّ باقل، تحريف كثير في المعاني، وإحالة في الوضع، وغلط في السّجع، وشرود عن الطبع.
وقال ابن المرزبان: هو كثير السرقة، سيّئ الإنفاق، رديء القلب والعكس، فروقة «3»
في إيراده، هزيمته قبل هجومه. وإحجامه أظهر من
إقدامه. وقال الصابي: هو مجتهد غير موفّق، وفاضل غير منطّق ولو خطا كان أسرع له،
كما أنّه لمّا عدا كان أبطأ عليه، وطباع الجبليّ مخالف لطباع العراقيّ، يثب مقاربا
فيقع بعيدا، ويتطاول صاعدا فيتقاعس قعيدا.
وقال عليّ بن جعفر: ممّ كانت الطبائع! هو يكذب نفسه بحسن الظنّ في البلاغة، وطباعه تصدق عنه بالتخلّف، فهو يشين اللفظ ويحيل المعنى، فأما شينه اللفظ فبالجفوة والغلظة والإخلال والفجاجة، وأمّا إحالته فبالإبعاد عن حومة القصد والإرادة، والعجب أنه يحفظ الطّمّ والرّمّ «1» من النثر والنظم، ثم إذا ادّعاهما يقع دونهما سقوطا، أو يتجاوزهما فروطا، هذا مع الكبر الممقوت والتشيّع الظاهر، والدعوى العارية من البيّنة العادلة.
وأما أحسن ما كتب به أحمد بن إسماعيل بن الخطيب إلى آخر: الكبر- أعزّك الله- معرض يستوي فيه النّبيه ذكرا، والخامل قدرا، ليس أمامه حاجب يمنعه، ولا دونه حاجز يحظره، والناس أشدّ تحفّظا على الرئيس المحظوظ، وأكثر اجتلاء لأفعاله، وتتبّعا لمعايبه، وتصفّحا لأخلاقه، وتنقيرا عن خصاله منهم عن خامل لا يعبأ به، وساقط لا يكترث له، فيسير عيب الجليل يقدح فيه، وصغير الذنب يكبر منه، وقليل الذمّ يسرع إليه، ولابن هند وفي هذا المعنى:
العيب في الرجل المذكور مذكور ... والعيب في الخامل المستور مستور
كفوفة الظّفر تخفى من مهانتها ... ومثلها في سواد العين مشهور
وقال الزّهيري: قد نجم بأصبهان ابن لعبّاد في غاية الرقاعة والوقاحة والخلاعة وإن كان له يوم، فسيشقى به قوم. سمعته يقول هذا سنة اثنتين وخمسين في مجلس من الفقهاء.
وقال ابن حبيب: قال بعض الحكماء: إن للنفس أمراضا كأمراض البدن إلا أن فضل أمراض النفس على أمراض البدن في الشرّ والضرر كفضل النفس على البدن في الخير، وصاحبنا- يعني ابن عبّاد- مريض عندنا، صحيح عند نفسه، زيف بنقدنا، جيّد بنقده، ولو قامت السّوق على ساقها، وتناصف المتعاملون فيها، ولم يقع إكراه في أخذ ولا إعطاء، عرف البهرج «2» الذي ضرب خارج الدار والجيّد الذي ضرب داخل الدار.
وقال أحمد بن محمد: إذا أنصفنا التزمنا مزيّة العراقيّين علينا بالطبع اللطيف والمأخذ القريب، والسّجع الملائم، واللفظ المونق، والتأليف الحلو، والسّبوطة الغالبة، والموالاة المقبولة في السّمع، الخالبة للقلب العابثة بالروح، الزائدة في العقل، المشعلة للقريحة، الموقوفة على فضل الأدب، الدالّة على غزارة المغترف، النائية عن عادة كثير من السلف والخلف، وابن عبّاد بلي في هذه الصناعة بأشياء كلّها عليه لا له، وخاذلته لا ناصرته، ومسلمته لا منقذته، فأوّل ما بلي به أنّه فقد الطبع، وهو العمود، والثاني العادة وهي المؤاتية، والثالث الشغف بالجاسي «1» من اللفظ وهو الاختيار الرديء، والرابع تتبّع الوحشيّ، وهو الضلال المبين، والخامس الذّهاب مع اللفظ دون المعنى، والسادس استكراه المقصود من المعنى، واللفظ على النّبوة، والسابع التعاظل المجهول بالاعتراض، والثامن إلف الرسوم الفاسدة من غير تصفّح ولا فحص، والتاسع قلة الاتعاظ بما كان- للثقة الواقعة في النفس- من الفائت، والعاشر تنفيق المتاع بالاقتدار في سوق العزّ، وهذه كلّها سبل الضلالة، وطرق الجهالة. قال: وليس شيء أنفع للمنشئ من سوء الظنّ بنفسه، والرجوع إلى غيره وإن كان دونه في الدرجة وليس في الدنيا محسوب إلا وهو محتاج إلى تثقيف، والمستعين أحزم من المستبدّ، ومن تفرّد لم يكمل، ومن شاور لم ينقص، وقد يستعجم المعنى كما يستعجم اللفظ، ويشرد اللفظ كما يندّ المعنى، وينتثر النظم كما ينتظم النثر وينحل المعقّد كما يعقّد المنحلّ.
والمدار على اجتلاب الحلاوة المذوقة بالطبع، واجتناب النّبوة الممجوجة بالسمع، والقريحة الصافية قد تكدر، والقريحة الكدرة قد تصفو، وشرّ آفات البلاغة الاستكراه، وأنصح نصائحها الرضا بالعفو. وقال: كان ابن المقفّع يقف قلمه كثيرا، فقيل له في ذلك، فقال: إنّ الكلام يزدحم في صدري فيقف قلمي لأتخيّره.
والكتاب يتصفّح أكثر من تصفّح الخطاب، لأن الكاتب مختار والمخاطب مضطرّ، ومن يرد عليه كتابك فليس يعلم أسرعت فيه أم أبطأت وإنّما ينظر أصبت فيه أم أخطأت، وأحسنت أم أسأت، فإبطاؤك غير إصابتك كما أنّ إسراعك غير معفّ على غلطك.
قال: هذا كله مفيد فأين هو من غيره من أصحابنا؟
قلت: في الجملة هو أبلغ من ابن يوسف، وأغزر وأحفظ وأروى وأجمّ ركيّة، وأعذب موردا، وأبعد من التفاوت، وليس ابن يوسف من ابن عبّاد في شيء.
فأما ابن العميد فإني سمعت ابن الجمل يقول: سمعت ابن ثوابة يقول: أوّل من أفسد الكلام أبو الفضل، لأنه تخيّل مذهب الجاحظ وظنّ أنّه إن تبعه لحقهّ، وإن تلاه أدركه، فوقع بعيدا من الجاحظ، قريبا من نفسه، ألا يعلم أبو الفضل أنّ مذهب الجاحظ مدبّر بأشياء لا تلتقي عند كلّ إنسان ولا تجتمع في صدر كلّ أحد: بالطبع والمنشأ والعلم والأصول والعادة والعمر والفراغ والعشق والمنافسة والبلوغ، وهذه مفاتح قلّما يملكها واحد، وسواها مغالق قلّما ينفكّ منها واحد.
وأمّا ابنه ذو الكفايتين، فلو عاش كان أبلغ من أبيه، كما كان أشعر منه، ولقد تشبّه بالجاحظ فافتضح في مكاتبته لإخوانه، ومجانته في كلامه ومسائله لمعلّمه التي دلّتنا على سرقته وغارته وسوء تأتّيه، في تستّره وتغطّيه، ومن شاء حمّق نفسه، وكان مع هذا أشدّ الناس ادّعاء لكل غريبة، وأبعد الناس من كلّ قريبة، وهو نزر المعاني، شديد الكلف باللّفظ، وكان أحسد الناس لمن خطّ بالقلم، أو بلغ باللّسان، أو فلج في المناظرة، أو فكه بالنادرة، أو أغرب في جواب، أو اتّسع في خطاب، ولقد لقي الناس منه الدواهي لهذه الأخلاق الخبيثة، وقد ذكرت ذلك في الرسالة، وإذا بيّضت وقفت عليها من أوّلها إلى آخرها إن شاء الله، وانصرفت.
وقال عليّ بن جعفر: ممّ كانت الطبائع! هو يكذب نفسه بحسن الظنّ في البلاغة، وطباعه تصدق عنه بالتخلّف، فهو يشين اللفظ ويحيل المعنى، فأما شينه اللفظ فبالجفوة والغلظة والإخلال والفجاجة، وأمّا إحالته فبالإبعاد عن حومة القصد والإرادة، والعجب أنه يحفظ الطّمّ والرّمّ «1» من النثر والنظم، ثم إذا ادّعاهما يقع دونهما سقوطا، أو يتجاوزهما فروطا، هذا مع الكبر الممقوت والتشيّع الظاهر، والدعوى العارية من البيّنة العادلة.
وأما أحسن ما كتب به أحمد بن إسماعيل بن الخطيب إلى آخر: الكبر- أعزّك الله- معرض يستوي فيه النّبيه ذكرا، والخامل قدرا، ليس أمامه حاجب يمنعه، ولا دونه حاجز يحظره، والناس أشدّ تحفّظا على الرئيس المحظوظ، وأكثر اجتلاء لأفعاله، وتتبّعا لمعايبه، وتصفّحا لأخلاقه، وتنقيرا عن خصاله منهم عن خامل لا يعبأ به، وساقط لا يكترث له، فيسير عيب الجليل يقدح فيه، وصغير الذنب يكبر منه، وقليل الذمّ يسرع إليه، ولابن هند وفي هذا المعنى:
العيب في الرجل المذكور مذكور ... والعيب في الخامل المستور مستور
كفوفة الظّفر تخفى من مهانتها ... ومثلها في سواد العين مشهور
وقال الزّهيري: قد نجم بأصبهان ابن لعبّاد في غاية الرقاعة والوقاحة والخلاعة وإن كان له يوم، فسيشقى به قوم. سمعته يقول هذا سنة اثنتين وخمسين في مجلس من الفقهاء.
وقال ابن حبيب: قال بعض الحكماء: إن للنفس أمراضا كأمراض البدن إلا أن فضل أمراض النفس على أمراض البدن في الشرّ والضرر كفضل النفس على البدن في الخير، وصاحبنا- يعني ابن عبّاد- مريض عندنا، صحيح عند نفسه، زيف بنقدنا، جيّد بنقده، ولو قامت السّوق على ساقها، وتناصف المتعاملون فيها، ولم يقع إكراه في أخذ ولا إعطاء، عرف البهرج «2» الذي ضرب خارج الدار والجيّد الذي ضرب داخل الدار.
وقال أحمد بن محمد: إذا أنصفنا التزمنا مزيّة العراقيّين علينا بالطبع اللطيف والمأخذ القريب، والسّجع الملائم، واللفظ المونق، والتأليف الحلو، والسّبوطة الغالبة، والموالاة المقبولة في السّمع، الخالبة للقلب العابثة بالروح، الزائدة في العقل، المشعلة للقريحة، الموقوفة على فضل الأدب، الدالّة على غزارة المغترف، النائية عن عادة كثير من السلف والخلف، وابن عبّاد بلي في هذه الصناعة بأشياء كلّها عليه لا له، وخاذلته لا ناصرته، ومسلمته لا منقذته، فأوّل ما بلي به أنّه فقد الطبع، وهو العمود، والثاني العادة وهي المؤاتية، والثالث الشغف بالجاسي «1» من اللفظ وهو الاختيار الرديء، والرابع تتبّع الوحشيّ، وهو الضلال المبين، والخامس الذّهاب مع اللفظ دون المعنى، والسادس استكراه المقصود من المعنى، واللفظ على النّبوة، والسابع التعاظل المجهول بالاعتراض، والثامن إلف الرسوم الفاسدة من غير تصفّح ولا فحص، والتاسع قلة الاتعاظ بما كان- للثقة الواقعة في النفس- من الفائت، والعاشر تنفيق المتاع بالاقتدار في سوق العزّ، وهذه كلّها سبل الضلالة، وطرق الجهالة. قال: وليس شيء أنفع للمنشئ من سوء الظنّ بنفسه، والرجوع إلى غيره وإن كان دونه في الدرجة وليس في الدنيا محسوب إلا وهو محتاج إلى تثقيف، والمستعين أحزم من المستبدّ، ومن تفرّد لم يكمل، ومن شاور لم ينقص، وقد يستعجم المعنى كما يستعجم اللفظ، ويشرد اللفظ كما يندّ المعنى، وينتثر النظم كما ينتظم النثر وينحل المعقّد كما يعقّد المنحلّ.
والمدار على اجتلاب الحلاوة المذوقة بالطبع، واجتناب النّبوة الممجوجة بالسمع، والقريحة الصافية قد تكدر، والقريحة الكدرة قد تصفو، وشرّ آفات البلاغة الاستكراه، وأنصح نصائحها الرضا بالعفو. وقال: كان ابن المقفّع يقف قلمه كثيرا، فقيل له في ذلك، فقال: إنّ الكلام يزدحم في صدري فيقف قلمي لأتخيّره.
والكتاب يتصفّح أكثر من تصفّح الخطاب، لأن الكاتب مختار والمخاطب مضطرّ، ومن يرد عليه كتابك فليس يعلم أسرعت فيه أم أبطأت وإنّما ينظر أصبت فيه أم أخطأت، وأحسنت أم أسأت، فإبطاؤك غير إصابتك كما أنّ إسراعك غير معفّ على غلطك.
قال: هذا كله مفيد فأين هو من غيره من أصحابنا؟
قلت: في الجملة هو أبلغ من ابن يوسف، وأغزر وأحفظ وأروى وأجمّ ركيّة، وأعذب موردا، وأبعد من التفاوت، وليس ابن يوسف من ابن عبّاد في شيء.
فأما ابن العميد فإني سمعت ابن الجمل يقول: سمعت ابن ثوابة يقول: أوّل من أفسد الكلام أبو الفضل، لأنه تخيّل مذهب الجاحظ وظنّ أنّه إن تبعه لحقهّ، وإن تلاه أدركه، فوقع بعيدا من الجاحظ، قريبا من نفسه، ألا يعلم أبو الفضل أنّ مذهب الجاحظ مدبّر بأشياء لا تلتقي عند كلّ إنسان ولا تجتمع في صدر كلّ أحد: بالطبع والمنشأ والعلم والأصول والعادة والعمر والفراغ والعشق والمنافسة والبلوغ، وهذه مفاتح قلّما يملكها واحد، وسواها مغالق قلّما ينفكّ منها واحد.
وأمّا ابنه ذو الكفايتين، فلو عاش كان أبلغ من أبيه، كما كان أشعر منه، ولقد تشبّه بالجاحظ فافتضح في مكاتبته لإخوانه، ومجانته في كلامه ومسائله لمعلّمه التي دلّتنا على سرقته وغارته وسوء تأتّيه، في تستّره وتغطّيه، ومن شاء حمّق نفسه، وكان مع هذا أشدّ الناس ادّعاء لكل غريبة، وأبعد الناس من كلّ قريبة، وهو نزر المعاني، شديد الكلف باللّفظ، وكان أحسد الناس لمن خطّ بالقلم، أو بلغ باللّسان، أو فلج في المناظرة، أو فكه بالنادرة، أو أغرب في جواب، أو اتّسع في خطاب، ولقد لقي الناس منه الدواهي لهذه الأخلاق الخبيثة، وقد ذكرت ذلك في الرسالة، وإذا بيّضت وقفت عليها من أوّلها إلى آخرها إن شاء الله، وانصرفت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق