بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال أبو حيّان التوحيديّ: نجا من آفات الدنيا من كان من العارفين ووصل إلى خيرات الآخرة من كان من الزاهدين، وظفر بالفوز والنعيم من قطع طمعه من الخلق أجمعين، والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على نبيّه وعلى آله الطاهرين.
أمّا بعد، فإنّي أقول منبّها لنفسي، ولمن كان من أبناء جنسي: من لم يطع ناصحه بقبول ما يسمع منه، ولم يملّك صديقه كلّه فيما يمثّله كلّه، ولم ينقد لبيانه فيما يريغه «1» إليه ويطلعه عليه، ولم ير أنّ عقل العالم الرشيد، فوق عقل المتعلّم البليد، وأنّ رأي المجرّب البصير، مقدّم على رأي الغمر «2» الغرير فقد خسر حظّه في العاجل، ولعلّه أيضا يخسر حظّه في الآجل، فإنّ مصالح الدنيا معقودة بمراشد الآخرة، وكلّيّات الحسّ في هذا العالم، في مقابلة موجودات العقل في ذلك العالم، وظاهر ما يرى بالعيان مفض إلى باطن ما يصدق عنه الخبر، وبالجملة، الدّاران متّفقتان في الخير المغتبط به، والشرّ المندوم عليه، وإنّما يختلفان بالعمل المتقدّم في إحداهما، والجزاء المتأخّر في الأخرى، وأنا أعوذ بالله الملك الحقّ الجبّار العزيز الكريم الماجد أن أجهل حظّي، وأعمى عن رشدي، وألقي بيدي إلى التّهلكة، وأتجانف إلى ما يسوءني أوّلا ولا يسرّني آخرا، هذا وأنا في ذيل الكهولة وبادئة الشيخوخة، وفي حال من إن لم تهده التجارب فيما سلف من أيّامه، في حالي سفره ومقامه، وفقره وغنائه، وشدّته ورخائه، وسرّائه وضرائه، وخيفته ورجائه، فقد انقطع الطمع من فلاحه ووقع اليأس من تداركه واستصلاحه، فإلى الله أفزع من كلّ ريث وعجل، وعليه أتوكّل في كل سؤل وأمل، وإيّاه أستعين في كلّ قول وعمل.
قد فهمت أيّها الشيخ «3» - حفظ الله روحك، ووكل السلامة بك، وأفرغ الكرامة عليك، وعصب كلّ خير بحالك، وحشد كلّ نعمة في رحابك ورحم هذه الجماعة الهائلة- من أبناء الرجاء والأمل- بعنايتك، ولا قطعك من عادة الإحسان إليهم، ولا
قال أبو حيّان التوحيديّ: نجا من آفات الدنيا من كان من العارفين ووصل إلى خيرات الآخرة من كان من الزاهدين، وظفر بالفوز والنعيم من قطع طمعه من الخلق أجمعين، والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على نبيّه وعلى آله الطاهرين.
أمّا بعد، فإنّي أقول منبّها لنفسي، ولمن كان من أبناء جنسي: من لم يطع ناصحه بقبول ما يسمع منه، ولم يملّك صديقه كلّه فيما يمثّله كلّه، ولم ينقد لبيانه فيما يريغه «1» إليه ويطلعه عليه، ولم ير أنّ عقل العالم الرشيد، فوق عقل المتعلّم البليد، وأنّ رأي المجرّب البصير، مقدّم على رأي الغمر «2» الغرير فقد خسر حظّه في العاجل، ولعلّه أيضا يخسر حظّه في الآجل، فإنّ مصالح الدنيا معقودة بمراشد الآخرة، وكلّيّات الحسّ في هذا العالم، في مقابلة موجودات العقل في ذلك العالم، وظاهر ما يرى بالعيان مفض إلى باطن ما يصدق عنه الخبر، وبالجملة، الدّاران متّفقتان في الخير المغتبط به، والشرّ المندوم عليه، وإنّما يختلفان بالعمل المتقدّم في إحداهما، والجزاء المتأخّر في الأخرى، وأنا أعوذ بالله الملك الحقّ الجبّار العزيز الكريم الماجد أن أجهل حظّي، وأعمى عن رشدي، وألقي بيدي إلى التّهلكة، وأتجانف إلى ما يسوءني أوّلا ولا يسرّني آخرا، هذا وأنا في ذيل الكهولة وبادئة الشيخوخة، وفي حال من إن لم تهده التجارب فيما سلف من أيّامه، في حالي سفره ومقامه، وفقره وغنائه، وشدّته ورخائه، وسرّائه وضرائه، وخيفته ورجائه، فقد انقطع الطمع من فلاحه ووقع اليأس من تداركه واستصلاحه، فإلى الله أفزع من كلّ ريث وعجل، وعليه أتوكّل في كل سؤل وأمل، وإيّاه أستعين في كلّ قول وعمل.
قد فهمت أيّها الشيخ «3» - حفظ الله روحك، ووكل السلامة بك، وأفرغ الكرامة عليك، وعصب كلّ خير بحالك، وحشد كلّ نعمة في رحابك ورحم هذه الجماعة الهائلة- من أبناء الرجاء والأمل- بعنايتك، ولا قطعك من عادة الإحسان إليهم، ولا
ثنى طرفك عن الرّقّة
لهم، ولا زهّدك في اصطناع حاليهم وعاطلهم، ولا رغب بك عن قبول حقّهم لبعض باطلهم،
ولا ثقّل عليك إدناء قريبهم وبعيدهم، وإنالة مستحقّهم وغير مستحقّهم أكثر مما في
نفوسهم وأقصى ما تقدر عليه من مواساتهم، من بشر تبديه، وجاه تبذله، ووعد تقدّمه، وضمان
تؤكّده، وهشاشة تمزجها ببشاشة، وتبسّم تخلطه بفكاهة فإنّ هذه كلّها زكاة المروءة،
ورباط النّعمة، وشهادة بالمحتد الزّكيّ والعرق الطّيّب والمنشأ المحمود، والعادة
المرضيّة، وهي مؤذنة بأنّ المنحة راهنة «1» ، والموهبة قاطنة، والشكر مكسوب،
والأجر مذخور، ورضوان الله واقع، وأسأل الله بعد هذا كلّه ألّا يسهم»
وجهي عندك، ولا يزلّ قدمي في خدمتك، ولا يزيغني «3» إلى ما يقطع مادّة إحسانك وعائدة رأيك ونافع نيّتك وجميل معتقدك، بمنّه ولطفه. والتفجّع، وضمنت لك تلافي ذلك كلّه بحاقّ «1» الشفقة وخالص الضمير، ووعدتك صلاح الحال عن ثبات النيّة، وصحّة العقيدة، وقلت: أنا أرعى حقك القديم حين التقينا (بأرّجان) ، وأنا على باب (ابن شاهويه) الفقيه، وعهدك الحديث حين اجتمعنا بمدينة السلام سنة ثمان وخمسين، وأوصلك إلى الأستاذ أبي عبد الله العارض- أدام الله تأييده- وأخطب لك قبولا منه، وتخفيف الإذن عليك، وامتلاء الطّرف بك، ونيل الحظوة بخدمتك وملازمتك، وفعلت ذلك كلّه حتى استكتبك (كتاب الحيوان) لأبي عثمان الجاحظ، لعنايتك به، وتوفّرك على تصحيحه، ثم حضنت «2» لك هذه الحال إلى يومنا هذا، وهو الوزير العظيم الذي افتقرت الدولة إلى نظره وأمره ونهيه، وإلى أن يكون هو المبرم والناقض، والرافع والواضع، والكافي والوافي، والمقرّب لخدمها ونصائحها، والمزحزح لحسدتها وأعدائها، والراعي لرعيّتها ودهمائها، والناهض بأثقالها وأعبائها، أعانه الله على ما تولّاه، وكفاه المهمّ في دنياه وأخراه، بمنّه وقدرته.
نعم، ورتّبت ذلك كلّه، ولم أقطع عنك عادتي معك في الاسترسال والانبساط، والبر والمواساة، والمساعدة والمواتاة، والتعصّب والمحاماة.
أفكان من حقّي عليك في هذه الأسباب التي ذكرتها، وفي أخواتها التي تركتها كراهة الإطالة بها، أنّك تخلو بالوزير- أدام الله أيّامه- ليالي متتابعة ومختلفة، فتحدّثه بما تحبّ وتريد، وتلقي إليه ما تشاء وتختار، وتكتب إليه الرّقعة بعد الرّقعة، ولعلّك في عرض ذلك تعدو طورك بالتّشدّق وتجوز حدّك بالاستحقار، وتتطاول إلى ما ليس لك، وتغلط في نفسك، وتنسى زلّة العالم، وسقطة المتحرّي، وخجلة الواثق، هذا وأنت غرّ لا هيئة لك في لقاء الكبراء، ومحاورة الوزراء، وهذه حال تحتاج فيها إلى عادة غير عادتك، وإلى مران سوى مرانك، ولبسة لا تشبه لبستك، وقلّ من قرّب من وزير خدم فأجاد، وتكلّم فأفاد، وبسط فزاد، إلّا سكر، وقلّ من سكر إلا عثر وقلّ من عثر فانتعش، وما زهد في هذه الحال كثير من الحكماء الأولين والعبّاد الربّانيّين، إلا لغلظها وصعوبتها، ومكروه عاقبتها، وشدة الصبر على عوارضها ورواتبها، وتفسّخ «3» المتن «4» بين حوادثها ونوائبها.
والعجب أنك مع هذه الخلّة تظنّ أنها مطويّة عنّي وخافية دوني، وأنك قد بلغت الغاية وادع القلب، وملكت المكانة ثاني العنان، وقد انقطعت حاجتك عني وعمن هو دوني، ووقع الغنى عن جاهي وكلامي ولطفي وتوصيلي، وجهلت أنّ من قدر على وصولك، يقدر على فصولك «1» ، وأن من صعد بك حين أراد، ينزل بك إذا شاء، وأن من يحسن فلا يشكر، يجتهد في الاقتصاد حتى يعذر.
وبعد، فما أطيل، ولعلّ لهب الموجدة يزداد، ولسان الغيظ يغلو، وطباع الإنسان تحتدّ، والندم على ما أسلفت من الجميل يتضاعف، ولست أنت أوّل من برّ فعقّ، ولا أنا أوّل من جفي فنقّ. وهذا فراق بيني وبينك وآخر كلامي معك، وفاتحة يأسي منك، قد غسلت يدي من عهدك بالأشنان البارقيّ، وسلوت عن قربك بقلب معرض وعزم حيّ، إلّا أن تطلعني طلع جميع ما تحاورتما وتجاذبتما هدب الحديث عليه، وتصرفتما في هزله وجدّه، وخيره وشرّه، وطيّبه وخبيثه، وباديه ومكتومه، حتى كأني كنت شاهدا معكما ورقيبا عليكما، أو متوسطا بينكما، ومتى لم تفعل هذا، فانتظر عقبى استيحاشي منك، وتوقّع قلّة غفولي عنك، وكأني بك وقد أصبحت حرّان حيران يا أبا حيّان، تأكل أصبعك أسفا، وتزدرد ريقك لهفا، على ما فاتك من الحوطة لنفسك، والنظر في يومك لغدك، والأخذ بالوثيقة في أمرك، أتظنّن بغرارتك وغمارتك، وذهابك في فسولتك «2» التي اكتسبتها بمخالطة الصوفية والغرباء والمجتدين الأدنياء الأردياء، أنك تقدر على مثل هذه الحال، وأنام منك على حسن الظن بك، والثقة بصدرك ووردك، وأطمئن إلى حكّك وجردك وأتعامى عن حرّك وبردك، هيهات، رقدت فحلمت، فخيرا رأيت وخيرا يكون.
على هذا الحدّ كان مقطع كلامك في موجدتك، وإلى ههنا بلغ فيض عتبك ولائمتك، وفي دون ذلك تنبيه للنائم، وإيقاظ للساهي، وتقويم لمن يقبل التقويم، وقد قال الأوّل:
ألا إنّما يكفي الفتى عند زيغه ... من الأود البادي ثقاف المقوّم
فقلت لك: أنا سامع مطيع، وخادم شكور، لا أشتري سخطك بكلّ صفراء وبيضاء «3» في الدنيا، ولا أنفر من التزام الذنب والاعتراف بالتقصير، ومثلي يهفو ويجمح، ومثلك يعفو ويصفح، وأنت موليّ وأنا عبد، وأنت آمر وأنا مؤتمر، وأنت متمثل وأنا ممتثل، وأنت مصطنع وأنا صنيعة، وأنت منشّئ وأنا منشّأ، وأنت أوّل وأنا آخر، وأنت مأمول وأنا آمل، ومتى لم تغفر لي الذنب البكر، والجناية العذراء، والبادرة النادرة، فقد أعنتني على ما كان منّي، ودللت على ملكك لي، وأنّك كنت مترصّدا لهذه الهفوة ومعتقدا في مقابلتها هذه الجفوة، وكرمك يأبى عليك هذا، ومثولي بين يديك خدمة لك يحظره عليك. هذا وأنا أفعل ما طالبتني به من سرد جميع ذلك، إلّا أنّ الخوض فيه على البديهة في هذه الساعة يشقّ ويصعب بعقب ما جرى من التفاوض، فإن أذنت جمعته كلّه في رسالة تشتمل على الدقيق والجليل، والحلو والمرّ، والطريّ والعاسي، والمحبوب والمكروه.
فكان من جوابك لي: افعل. ونعم ما قلت وهو أحبّ إليّ وأقرب إلى إرادتي، وأحصر لما أريغ «1» منه، وأدخل في الحجّة عليك ولك، وأغسل للوسخ الذي بيني وبينك، وأزهر للسرّاج الذي طفئ عنّي وعنك، وأجذب لعنان الحجّة إن كانت لك، وأنطق عن العذر إن اتّضح بقولك، وإذا عزمت فتوكّل على الله، وليكن الحديث على تباعد أطرافه، واختلاف فنونه مشروحا، والإسناد عاليا متّصلا، والمتن تامّا بيّنا، واللفظ خفيفا لطيفا، والتصريح غالبا متصدّرا، والتعريض قليلا يسيرا وتوخّ الحقّ في تضاعيفه وأثنائه، والصدق في إيضاحه وإثباته، واتّق الحذف المخل بالمعنى، والإلحاق المتّصل بالهذر، واحذر تزيينه بما يشينه، وتكثيره بما يقلّله، وتقليله عمّا لا يستغنى عنه، واعمد إلى الحسن فزد في حسنه، وإلى القبيح فانقص من قبحه، واقصد إمتاعي بجمعة نظمه ونثره، وإفادتي من أوّله إلى آخره، فلعلّ هذه المثاقفة «2» تبقى وتروى، ويكون في ذلك حسن الذكرى، ولا تومئ إلى ما يكون الإفصاح عنه أحلى في السمع، وأعذب في النّفس، وأعلق بالأدب، ولا تفصح عمّا تكون الكناية عنه أستر للعيب، وأنفى للرّيب، فإنّ الكلام صلف تيّاه لا يستجيب لكلّ إنسان، ولا يصحب كلّ لسان، وخطره كثير، ومتعاطيه مغرور، وله أرن «3» كأرن المهر وإباء كإباء الحرون، وزهو كزهو الملك، وخفق كخفق البرق، وهو يتسهّل مرّة ويتعسّر مرارا، ويذلّ طورا ويعزّ أطوارا، ومادّته من العقل والعقل سريع الحؤول خفيّ الخداع، وطريقه على الوهم، والوهم شديد السّيلان ومجراه على اللسان، واللسان كثير الطغيان، وهو مركّب من اللّفظ اللّغويّ والصّوغ الطّباعيّ، والتأليف الصّناعيّ، والاستعمال الاصطلاحيّ، ومستملاه من الحجا، ودريه بالتمييز، ونسجه بالرّقة، والحجا في غاية النشاط وبهذا البون يقع التباين ويتّسع التأويل، ويجول الذّهن، وتتمطّى الدعوى، ويفزع إلى البرهان، ويبرأ من الشبهة، ويعثر بما أشبه الحجّة وليس بحجّة، فاحذر هذا النّعت وروادفه، واتّق هذا الحكم وقوائفه «4» ، ولا تعشق اللّفظ دون المعنى ولا تهو المعنى دون اللفظ، وكن من أصحاب البلاغة والإنشاء في جانب، فإن صناعتهم يفتقر فيها أشياء يؤاخذ بها غيرهم، ولست منهم، فلا تتشبّه بهم، ولا تجر على مثالهم، ولا تنسج على منوالهم، ولا تدخل في غمارهم، ولا تكثّر ببياضك سوادهم، ولا تقابل بفهاهتك براعتهم، ولا تجذب بيدك رشاءهم، ولا تحاول بباعك مطاولتهم، واعرف قدرك تسلم، والزم حدّك تأمن، فليس الكودن «1» من العتيق في شيء، ولا الفقير من الغنيّ على شيء، أما سمعت قول الناس: ليس الشاميّ للعراقيّ بصاحب، ولا الكرديّ من الجنديّ بساخر، فإن طال «2» فلا تبل، وإن تشعّب فلا تكترث، فإن الإشباع في الرواية أشفى للغليل، والشرح للحال أبلغ إلى الغاية، وأظفر بالمراد، وأجرى على العادة.
فكتبت: (بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم) ، أقول أيّها الشيخ- عطف الله قلبك عليّ، وألهمك الإحسان إليّ- في جواب جميع ما قلته واجدا عليّ وعاتبا، وقابضا، وباسطا، ومرشدا، وناصحا، ما يعرف الحقّ فيه، ويستبين الصواب منه، غير خائن لك، ولا جانح إلى مخالفتك، ولا مريغ «3» للباطل معك، ولا جاحد لأياديك القديمة والحديثة، ولا منكر لنعمتك الكافية الشافية، ولا غاط على فواضلك المجتمعة والمتفرقة، ولا تارك لشيء هو عليّ من أجل شيء هو لي، ولا معرض عن شيء هو لي بسبب شيء هو عليّ، بل أجهّز دقّة وجلّه إليك حتى تراه بسدّه وغباره، وأجلوه عليك حتى تلحظه بردائه وإزاره.
كأني لم أسمع قول الأوّل «4» :
والكفر مخبثة لنفس المنعم ... والشكر مبعثة لنفس المفضل
أأنا أدعك واجدا عليّ، وأرقد وأنت ماقت لي، وأجد حسّ نعمة أنت وهبتها إليّ، وألذّ عيشا أنت أذقتني حلاوته. أأنسى أياديك وهي طوق رقبتي، وتجاه عيني، وحشو نفسي، وراحة حلمي، وزاد حياتي، ومادّة روحي؟ هيهات، هذا بعيد من القياس، وغير معهود بين أحرار الناس، الذين لهم اهتمام بصون أعراضهم، وحرص على إكرام أنفسهم، قد عبقوا بفوائح الفتوّة، وعلقوا بحبائل المروءة، وشدوا «5» من الحكمة أشرف الأبواب، واعتزوا من الأدب إلى أعز حرم، وحازوا شرفا بعد شرف، وانحازوا عن نطف بعد نطف «6» ونظروا إلى الدنيا بعين بصيرة، وعزفوا أنفسهم عن زهرتها بتجربة صادقة. فأول ما أبدأك به أنّني ظننت ظنا لا كيقين أنّ شيئا ممّا كنت فيه مع الوزير- أدام الله أيّامه، وقصم أعداءه- ليس مما يهمّك، ولا هو مما يقرع سمعك سماعك له، وحسبت أيضا أنّني إن بدأت بشيء منه رذلتني عليه وتنقّصتني به، وزريت عليّ فيه، وأنّك ربّما قلت: لم بدأت بما لم أسألك عنه ولم أرخّص لك فيه، هلّا كظمت على جرّتك، وطويت ما بين جنبيك وما عليّ ممّا يدور بين الصاحب وخادمه والرؤساء، والناظرين في أمور الدهماء «1» والمتصفحين لأحوال العامّة والخاصّة، ولهم أسرار وغيوب لا يقف عليها أقرب الناس إليهم، وأعزّ الناس عليهم، وأنت أيضا فلم تسألني عنه، فكان في تقديري أنّك قد عرفت وصولي في وقت دون وقت، وأنّك قد حملت أمري على الخدمة التي ليس للعلم بها فائدة، ولا في الإعراض عنها فائتة.
وإذ جرى الأمر على غير ما كان في حسابي وتلبّس بظني، فإنّي أهدي ذلك كلّه بغثاثته وسمانته، وحلاوته ومرارته، ورقّته وخثارته في هذا المكان، ثمّ أنت أبصر بعد ذلك في كتمانه وإفشائه، وحفظه وإضاعته وستره وإشاعته، وو الله ما أرى هذا أمرا صعبا إذا وصل إلى مرادك ولا كلفة شاقّة إذا أكسبني مرضاتك، وإن كان ذلك يمرّ بأشياء كثيرة ومختلفة، متعصّية غريبة، منها ما يشيط به الدم المحقون، وينزع من أجله الرّوح العزيز، ويستصغر معه الصّلب، ولا يقنع فيه بالعذاب الأدنى دون العذاب الأكبر، وإن كان فيها أيضا غير ذلك ممّا يضحك السّنّ، ويفكّه النفس، ويدعو إلى الرشاد، ويدلّ على النّصح، ويؤكّد الحرمة، ويعقد الذّمام، وينشر الحكمة، ويشرّف الهمّة، ويلقح العقل، ويزيد في الفهم والأدب ويفتح باب اليمن والبركة، وينفّق بضاعة أهل العلم في السوق الكاسدة، ويوقظ العيون الناعسة، ويبلّ الشّنّ المتغضّف، ويندّي الطّين المترشّف، ويكون سببا قويا على حسن الحال وطيب العيش، فإن هذه العاجلة محبوبة، والرّفاهية مطلوبة، والمكانة عند الوزراء بكلّ حول وقوّة مخطوبة، والدنيا حلوة خضرة وعذبة نضرة، ومن شفّ «2» أمله شقّ عمله، ومن اشتدّ إلحاحه، توالى غدوّه ورواحه، ومن أسره رجاؤه، طال عناؤه، وعظم بلاؤه، ومن التهب طمعه وحرصه، ظهر عجزه ونقصه.
وفي الجملة:
من لم يكن لله متّهما ... لم يمس محتاجا إلى أحد
ولابدّ من فتى يعين على الدّهر، ويغني عن كرام الناس فضلا عن لئامهم، ويذلّل قعود الصبر، ويجمّ راحلة الأمل، ويحلي مرّ اليأس، والعزلة محمودة إلّا أنّها محتاجة إلى الكفاية، والقناعة مزّة فكهة ولكنّها فقيرة إلى البلغة، وصيانة النفس حسنة إلّا أنّها كلفة محرجة إن لم تكن لها أداة تجدّها وفاشية «1» تمدّها، وترك خدمة السلطان غير الممكن ولا يستطاع إلّا بدين متين، ورغبة في الآخرة شديدة، وفطام عن دار الدنيا صعب، ولسان بالحلو والحامض يلغ.
قال ابن السمّاك: لولا ثلاث لم يقع حيف، ولم يسلّ سيف: لقمة أسوغ من لقمة، ووجه أصبح من وجه، وسلك «أنعم من سلك» ، وليس كلّ أحد له هذه القوّة، ولا فيه هذه المنّة «2» والإنسان بشر، وبنيته متهافتة وطينته منتثرة، وله عادة طالبة، وحاجة هاتكة، ونفس جموح، وعين طموح، وعقل طفيف، ورأي ضعيف، يهفو لأوّل ريح، ويستخيل لأوّل بارق، هذا إذا تخلّص من قرناء السوء، وسلم من سوارق العقل، وكان له سلطان على نفسه، وقهر لشهواته، وقمع لهوائجه وقبول من ناصحه، وتهيّؤ في سعيه، وتبوّء في معان حظّه، وائتمام بسعادته، واستبصار في طلب ما عند ربه، واستنصاف من هواه المضلّ لعقله المرشد، هذا قليل وصعب ولو قلت معدوم أو محال في هذا الزمن العسير والدهر الفاسد، لما خفت عائقا يعوقني، ولا حسودا يردّ قولي.
قال ابن السّمّاك: الله المستعان على ألسن تصف وقلوب تعترف، وأعمال تختلف.
وقال معاوية لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث- ورآه لا يلي له عملا، ولم يقبل منه نائلا-: يا ابن أخي، هي الدنيا، فإمّا أن ترضع معنا، وإمّا أن ترتدع عنّا.
وربّما قال بعض المتكلّفين: قد قال بعض السلف ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة، ولا من ترك الآخرة للدنيا ولكنّ خيركم من أخذ من هذه وهذه. وهذا كلام مقبول الظاهر موقوف الباطن. وربما قال آخر من المتقدمين: (اعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا، واعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدا) . وهذا أيضا كلام منمّق، لا يرجع إلى معنى محقّق، أين هو من قول المسيح- عليه السّلام- حين قال: الدنيا والآخرة كالمشرق والمغرب متى بعد أحدكم من أحدهما قرب من الآخر، ومتى قرب من أحدهما بعد من الآخر. وأين هو من قول الآخر: الدنيا والآخرة ضرّتان، متى أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، ومتى أسخطت إحداهما أرضيت الأخرى.
وهذا لأنّ الإنسان صغير الحجم، ضعيف الحول، لا يستطيع أن يجمع بين شهواته وأخذ حظوظ بدنه وإدراك إرادته، وبين السعي في طلب المنزلة عند ربّه بأداء فرائضه، والقيام بوظائفه، والثبات على حدود أمره ونهيه. فإن صفق وجهه وقال: نعمل تارة لهذه الدار وتارة لتلك الدار، فهذا المذبذب الّذي لا هو من هذه ولا من هذه، ومن تخنّث وتليّث لم يكن رجلا ولا امرأة، ولا يكون أبا ولا أما، وهذا كما نرى.
ونرجع فنقول: ونعوذ بالله من الفقر خاصّة إذا لم يكن لصاحبه عياذ من التقوى، ولا عماد من الصبر، ولا دعامة من الأنفة، ولا اصطبار على المرارة.
وقد بلينا بهذا الدهر الخالي من الربّانيين الذين يصلحون أنفسهم ويصلحون غيرهم بفضل صلاحهم، الخاوي من الكرام الذين كانوا يتّسعون في أحوالهم، ويوسّعون على غيرهم من سعتهم، وكانوا يهتمّون بذخائر الشكر المعجّل في الدنيا، ويحرصون على ودائع الأجر المؤجّل في الأخرى، ويتلذّذون بالثناء، ويهتزّون للدعاء، وتملكهم الأريحيّة عند مسألة المحتاج، وتعتريهم الهزّة معها والابتهاج وذلك لعشقهم الثناء الباقي، والصنيع الواقي، ويرون الغنيمة في الغرامة، والرّبح في البذل، والحظّ في الإيثار، والزيادة في النقص، أعني بالزيادة: الخلف المنتظر من الله، وبالنقص: العطاء، ورأيت الناس يعيبون ابن العميد حين قال: أنا أعجب من جهل الشاعر الذي قال:
أنت للمال إذا أمسكته ... فإذا أنفقته فالمال لك
قال: ولو كان هذا صحيحا كان لا ينبغي أن يكتسب المال، لأنّه ليس في ترك كسبه أكثر من إخراجه بالإنفاق. هذا لقولهم بحكمته وعقله وتحصيله، وصواب الجاهل لا يستحسن كما يستقبح خطأ العاقل.
نعم، وكانوا إذا ولوا عدلوا، وإذا ملكوا أفضلوا، وإذا أعطوا أجزلوا، وإذا سئلوا أجابوا وإذا جادوا أطابوا، وإذا عالوا صبروا، وإذا نالوا شكروا، وإذا أنفقوا واسوا، وإذا امتحنوا تأسّوا، وكانوا يرجعون إلى نقائب ميمونة، وإلى ضرائب «1» مأمونة، وإلى ديانات قويّة، وأمانات ثخينة، وكان لهم مع الله أسرار طاهرة، وعلانية مقبولة، ومع عباد الله معاملة جميلة، ورحمة واسعة ومعدلة فاشية، وكانت تجارتهم في العلم والحكمة، وعادتهم جارية على الضّيافة والتّكرمة، وكانت شيمتهم الصفح والمغفرة وربحهم من هذه الأحوال النجاة والكرامة في الأولى والعاقبة، وكانوا إذا تلاقوا تواصوا بالخير، وتناهوا عن الشرّ، وتنافسوا في اتّخاذ الصنائع، وادّخار البضائع (أعني صنائع الشكر، وبضائع الأجر) .
فذهب هذا كلّه، وتاه أهله، وأصبح الدّين وقد أخلق لبوسه، وأوحش مأنوسه، واقتلع مغروسه، وصار المنكر معروفا، والمعروف منكرا، وعاد كلّ شيء إلى كدره وخاثره، وفاسده وضائره، وحصل الأمر على أن يقال: فلان خفيف الرّوح، وفلان حسن الوجه، وفلان ظريف الجملة، حلو الشّمائل، ظاهر الكيس، قويّ الدّست «1» في الشّطرنج، حسن اللّعب في النّرد، جيّد في الاستخراج، مدبّر للأموال، بذول للجهد، معروف بالاستقصاء لا يغضي عن دانق، ولا يتغافل عن قيراط، إلى غير ذلك مما يأنف العالم من تكثيره، والكاتب من تسطيره.
وهذه كلّها كنايات عن الظلم والتجديف، والخساسة والجهل وقلّة الدّين وحبّ الفساد، وليس فيها شيء ممّا قدّمنا وصفه عن القوم الّذين اجتهدوا أن يكونوا خلفاء الله على عباد الله بالرأفة والرّقّة والرحمة والاصطناع والعدل والمعروف.
وأرجع عن هذه الشّكيّة الطويلة اللّاذعة والبليّة العامّة الشاملة، إلى عين ما رسمت لي ذكره، وكلّفتني إعادته، عائذا بالله في صرف الأذى عنّي وسوق الخير إليّ، ولائذا بكرمك الّذي رشتني به إلى الساعة، وكفيتني به مؤونة الخدمة لغيرك من هذه الجماعة، والأعمال بخواتيمها، والصّدور بأعجازها، وأنت أولى الناس بالصّفح والتجاوز عنّي إذا عرفت براءتي في كلّ ما يتعلّق بي من ذمامك، ويجب عليّ من الحقّ في مودّتك، والاعتصام بحبلك والانتجاع «2» من عشبك، والارتغاء من لبنك.
وجهي عندك، ولا يزلّ قدمي في خدمتك، ولا يزيغني «3» إلى ما يقطع مادّة إحسانك وعائدة رأيك ونافع نيّتك وجميل معتقدك، بمنّه ولطفه. والتفجّع، وضمنت لك تلافي ذلك كلّه بحاقّ «1» الشفقة وخالص الضمير، ووعدتك صلاح الحال عن ثبات النيّة، وصحّة العقيدة، وقلت: أنا أرعى حقك القديم حين التقينا (بأرّجان) ، وأنا على باب (ابن شاهويه) الفقيه، وعهدك الحديث حين اجتمعنا بمدينة السلام سنة ثمان وخمسين، وأوصلك إلى الأستاذ أبي عبد الله العارض- أدام الله تأييده- وأخطب لك قبولا منه، وتخفيف الإذن عليك، وامتلاء الطّرف بك، ونيل الحظوة بخدمتك وملازمتك، وفعلت ذلك كلّه حتى استكتبك (كتاب الحيوان) لأبي عثمان الجاحظ، لعنايتك به، وتوفّرك على تصحيحه، ثم حضنت «2» لك هذه الحال إلى يومنا هذا، وهو الوزير العظيم الذي افتقرت الدولة إلى نظره وأمره ونهيه، وإلى أن يكون هو المبرم والناقض، والرافع والواضع، والكافي والوافي، والمقرّب لخدمها ونصائحها، والمزحزح لحسدتها وأعدائها، والراعي لرعيّتها ودهمائها، والناهض بأثقالها وأعبائها، أعانه الله على ما تولّاه، وكفاه المهمّ في دنياه وأخراه، بمنّه وقدرته.
نعم، ورتّبت ذلك كلّه، ولم أقطع عنك عادتي معك في الاسترسال والانبساط، والبر والمواساة، والمساعدة والمواتاة، والتعصّب والمحاماة.
أفكان من حقّي عليك في هذه الأسباب التي ذكرتها، وفي أخواتها التي تركتها كراهة الإطالة بها، أنّك تخلو بالوزير- أدام الله أيّامه- ليالي متتابعة ومختلفة، فتحدّثه بما تحبّ وتريد، وتلقي إليه ما تشاء وتختار، وتكتب إليه الرّقعة بعد الرّقعة، ولعلّك في عرض ذلك تعدو طورك بالتّشدّق وتجوز حدّك بالاستحقار، وتتطاول إلى ما ليس لك، وتغلط في نفسك، وتنسى زلّة العالم، وسقطة المتحرّي، وخجلة الواثق، هذا وأنت غرّ لا هيئة لك في لقاء الكبراء، ومحاورة الوزراء، وهذه حال تحتاج فيها إلى عادة غير عادتك، وإلى مران سوى مرانك، ولبسة لا تشبه لبستك، وقلّ من قرّب من وزير خدم فأجاد، وتكلّم فأفاد، وبسط فزاد، إلّا سكر، وقلّ من سكر إلا عثر وقلّ من عثر فانتعش، وما زهد في هذه الحال كثير من الحكماء الأولين والعبّاد الربّانيّين، إلا لغلظها وصعوبتها، ومكروه عاقبتها، وشدة الصبر على عوارضها ورواتبها، وتفسّخ «3» المتن «4» بين حوادثها ونوائبها.
والعجب أنك مع هذه الخلّة تظنّ أنها مطويّة عنّي وخافية دوني، وأنك قد بلغت الغاية وادع القلب، وملكت المكانة ثاني العنان، وقد انقطعت حاجتك عني وعمن هو دوني، ووقع الغنى عن جاهي وكلامي ولطفي وتوصيلي، وجهلت أنّ من قدر على وصولك، يقدر على فصولك «1» ، وأن من صعد بك حين أراد، ينزل بك إذا شاء، وأن من يحسن فلا يشكر، يجتهد في الاقتصاد حتى يعذر.
وبعد، فما أطيل، ولعلّ لهب الموجدة يزداد، ولسان الغيظ يغلو، وطباع الإنسان تحتدّ، والندم على ما أسلفت من الجميل يتضاعف، ولست أنت أوّل من برّ فعقّ، ولا أنا أوّل من جفي فنقّ. وهذا فراق بيني وبينك وآخر كلامي معك، وفاتحة يأسي منك، قد غسلت يدي من عهدك بالأشنان البارقيّ، وسلوت عن قربك بقلب معرض وعزم حيّ، إلّا أن تطلعني طلع جميع ما تحاورتما وتجاذبتما هدب الحديث عليه، وتصرفتما في هزله وجدّه، وخيره وشرّه، وطيّبه وخبيثه، وباديه ومكتومه، حتى كأني كنت شاهدا معكما ورقيبا عليكما، أو متوسطا بينكما، ومتى لم تفعل هذا، فانتظر عقبى استيحاشي منك، وتوقّع قلّة غفولي عنك، وكأني بك وقد أصبحت حرّان حيران يا أبا حيّان، تأكل أصبعك أسفا، وتزدرد ريقك لهفا، على ما فاتك من الحوطة لنفسك، والنظر في يومك لغدك، والأخذ بالوثيقة في أمرك، أتظنّن بغرارتك وغمارتك، وذهابك في فسولتك «2» التي اكتسبتها بمخالطة الصوفية والغرباء والمجتدين الأدنياء الأردياء، أنك تقدر على مثل هذه الحال، وأنام منك على حسن الظن بك، والثقة بصدرك ووردك، وأطمئن إلى حكّك وجردك وأتعامى عن حرّك وبردك، هيهات، رقدت فحلمت، فخيرا رأيت وخيرا يكون.
على هذا الحدّ كان مقطع كلامك في موجدتك، وإلى ههنا بلغ فيض عتبك ولائمتك، وفي دون ذلك تنبيه للنائم، وإيقاظ للساهي، وتقويم لمن يقبل التقويم، وقد قال الأوّل:
ألا إنّما يكفي الفتى عند زيغه ... من الأود البادي ثقاف المقوّم
فقلت لك: أنا سامع مطيع، وخادم شكور، لا أشتري سخطك بكلّ صفراء وبيضاء «3» في الدنيا، ولا أنفر من التزام الذنب والاعتراف بالتقصير، ومثلي يهفو ويجمح، ومثلك يعفو ويصفح، وأنت موليّ وأنا عبد، وأنت آمر وأنا مؤتمر، وأنت متمثل وأنا ممتثل، وأنت مصطنع وأنا صنيعة، وأنت منشّئ وأنا منشّأ، وأنت أوّل وأنا آخر، وأنت مأمول وأنا آمل، ومتى لم تغفر لي الذنب البكر، والجناية العذراء، والبادرة النادرة، فقد أعنتني على ما كان منّي، ودللت على ملكك لي، وأنّك كنت مترصّدا لهذه الهفوة ومعتقدا في مقابلتها هذه الجفوة، وكرمك يأبى عليك هذا، ومثولي بين يديك خدمة لك يحظره عليك. هذا وأنا أفعل ما طالبتني به من سرد جميع ذلك، إلّا أنّ الخوض فيه على البديهة في هذه الساعة يشقّ ويصعب بعقب ما جرى من التفاوض، فإن أذنت جمعته كلّه في رسالة تشتمل على الدقيق والجليل، والحلو والمرّ، والطريّ والعاسي، والمحبوب والمكروه.
فكان من جوابك لي: افعل. ونعم ما قلت وهو أحبّ إليّ وأقرب إلى إرادتي، وأحصر لما أريغ «1» منه، وأدخل في الحجّة عليك ولك، وأغسل للوسخ الذي بيني وبينك، وأزهر للسرّاج الذي طفئ عنّي وعنك، وأجذب لعنان الحجّة إن كانت لك، وأنطق عن العذر إن اتّضح بقولك، وإذا عزمت فتوكّل على الله، وليكن الحديث على تباعد أطرافه، واختلاف فنونه مشروحا، والإسناد عاليا متّصلا، والمتن تامّا بيّنا، واللفظ خفيفا لطيفا، والتصريح غالبا متصدّرا، والتعريض قليلا يسيرا وتوخّ الحقّ في تضاعيفه وأثنائه، والصدق في إيضاحه وإثباته، واتّق الحذف المخل بالمعنى، والإلحاق المتّصل بالهذر، واحذر تزيينه بما يشينه، وتكثيره بما يقلّله، وتقليله عمّا لا يستغنى عنه، واعمد إلى الحسن فزد في حسنه، وإلى القبيح فانقص من قبحه، واقصد إمتاعي بجمعة نظمه ونثره، وإفادتي من أوّله إلى آخره، فلعلّ هذه المثاقفة «2» تبقى وتروى، ويكون في ذلك حسن الذكرى، ولا تومئ إلى ما يكون الإفصاح عنه أحلى في السمع، وأعذب في النّفس، وأعلق بالأدب، ولا تفصح عمّا تكون الكناية عنه أستر للعيب، وأنفى للرّيب، فإنّ الكلام صلف تيّاه لا يستجيب لكلّ إنسان، ولا يصحب كلّ لسان، وخطره كثير، ومتعاطيه مغرور، وله أرن «3» كأرن المهر وإباء كإباء الحرون، وزهو كزهو الملك، وخفق كخفق البرق، وهو يتسهّل مرّة ويتعسّر مرارا، ويذلّ طورا ويعزّ أطوارا، ومادّته من العقل والعقل سريع الحؤول خفيّ الخداع، وطريقه على الوهم، والوهم شديد السّيلان ومجراه على اللسان، واللسان كثير الطغيان، وهو مركّب من اللّفظ اللّغويّ والصّوغ الطّباعيّ، والتأليف الصّناعيّ، والاستعمال الاصطلاحيّ، ومستملاه من الحجا، ودريه بالتمييز، ونسجه بالرّقة، والحجا في غاية النشاط وبهذا البون يقع التباين ويتّسع التأويل، ويجول الذّهن، وتتمطّى الدعوى، ويفزع إلى البرهان، ويبرأ من الشبهة، ويعثر بما أشبه الحجّة وليس بحجّة، فاحذر هذا النّعت وروادفه، واتّق هذا الحكم وقوائفه «4» ، ولا تعشق اللّفظ دون المعنى ولا تهو المعنى دون اللفظ، وكن من أصحاب البلاغة والإنشاء في جانب، فإن صناعتهم يفتقر فيها أشياء يؤاخذ بها غيرهم، ولست منهم، فلا تتشبّه بهم، ولا تجر على مثالهم، ولا تنسج على منوالهم، ولا تدخل في غمارهم، ولا تكثّر ببياضك سوادهم، ولا تقابل بفهاهتك براعتهم، ولا تجذب بيدك رشاءهم، ولا تحاول بباعك مطاولتهم، واعرف قدرك تسلم، والزم حدّك تأمن، فليس الكودن «1» من العتيق في شيء، ولا الفقير من الغنيّ على شيء، أما سمعت قول الناس: ليس الشاميّ للعراقيّ بصاحب، ولا الكرديّ من الجنديّ بساخر، فإن طال «2» فلا تبل، وإن تشعّب فلا تكترث، فإن الإشباع في الرواية أشفى للغليل، والشرح للحال أبلغ إلى الغاية، وأظفر بالمراد، وأجرى على العادة.
فكتبت: (بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم) ، أقول أيّها الشيخ- عطف الله قلبك عليّ، وألهمك الإحسان إليّ- في جواب جميع ما قلته واجدا عليّ وعاتبا، وقابضا، وباسطا، ومرشدا، وناصحا، ما يعرف الحقّ فيه، ويستبين الصواب منه، غير خائن لك، ولا جانح إلى مخالفتك، ولا مريغ «3» للباطل معك، ولا جاحد لأياديك القديمة والحديثة، ولا منكر لنعمتك الكافية الشافية، ولا غاط على فواضلك المجتمعة والمتفرقة، ولا تارك لشيء هو عليّ من أجل شيء هو لي، ولا معرض عن شيء هو لي بسبب شيء هو عليّ، بل أجهّز دقّة وجلّه إليك حتى تراه بسدّه وغباره، وأجلوه عليك حتى تلحظه بردائه وإزاره.
كأني لم أسمع قول الأوّل «4» :
والكفر مخبثة لنفس المنعم ... والشكر مبعثة لنفس المفضل
أأنا أدعك واجدا عليّ، وأرقد وأنت ماقت لي، وأجد حسّ نعمة أنت وهبتها إليّ، وألذّ عيشا أنت أذقتني حلاوته. أأنسى أياديك وهي طوق رقبتي، وتجاه عيني، وحشو نفسي، وراحة حلمي، وزاد حياتي، ومادّة روحي؟ هيهات، هذا بعيد من القياس، وغير معهود بين أحرار الناس، الذين لهم اهتمام بصون أعراضهم، وحرص على إكرام أنفسهم، قد عبقوا بفوائح الفتوّة، وعلقوا بحبائل المروءة، وشدوا «5» من الحكمة أشرف الأبواب، واعتزوا من الأدب إلى أعز حرم، وحازوا شرفا بعد شرف، وانحازوا عن نطف بعد نطف «6» ونظروا إلى الدنيا بعين بصيرة، وعزفوا أنفسهم عن زهرتها بتجربة صادقة. فأول ما أبدأك به أنّني ظننت ظنا لا كيقين أنّ شيئا ممّا كنت فيه مع الوزير- أدام الله أيّامه، وقصم أعداءه- ليس مما يهمّك، ولا هو مما يقرع سمعك سماعك له، وحسبت أيضا أنّني إن بدأت بشيء منه رذلتني عليه وتنقّصتني به، وزريت عليّ فيه، وأنّك ربّما قلت: لم بدأت بما لم أسألك عنه ولم أرخّص لك فيه، هلّا كظمت على جرّتك، وطويت ما بين جنبيك وما عليّ ممّا يدور بين الصاحب وخادمه والرؤساء، والناظرين في أمور الدهماء «1» والمتصفحين لأحوال العامّة والخاصّة، ولهم أسرار وغيوب لا يقف عليها أقرب الناس إليهم، وأعزّ الناس عليهم، وأنت أيضا فلم تسألني عنه، فكان في تقديري أنّك قد عرفت وصولي في وقت دون وقت، وأنّك قد حملت أمري على الخدمة التي ليس للعلم بها فائدة، ولا في الإعراض عنها فائتة.
وإذ جرى الأمر على غير ما كان في حسابي وتلبّس بظني، فإنّي أهدي ذلك كلّه بغثاثته وسمانته، وحلاوته ومرارته، ورقّته وخثارته في هذا المكان، ثمّ أنت أبصر بعد ذلك في كتمانه وإفشائه، وحفظه وإضاعته وستره وإشاعته، وو الله ما أرى هذا أمرا صعبا إذا وصل إلى مرادك ولا كلفة شاقّة إذا أكسبني مرضاتك، وإن كان ذلك يمرّ بأشياء كثيرة ومختلفة، متعصّية غريبة، منها ما يشيط به الدم المحقون، وينزع من أجله الرّوح العزيز، ويستصغر معه الصّلب، ولا يقنع فيه بالعذاب الأدنى دون العذاب الأكبر، وإن كان فيها أيضا غير ذلك ممّا يضحك السّنّ، ويفكّه النفس، ويدعو إلى الرشاد، ويدلّ على النّصح، ويؤكّد الحرمة، ويعقد الذّمام، وينشر الحكمة، ويشرّف الهمّة، ويلقح العقل، ويزيد في الفهم والأدب ويفتح باب اليمن والبركة، وينفّق بضاعة أهل العلم في السوق الكاسدة، ويوقظ العيون الناعسة، ويبلّ الشّنّ المتغضّف، ويندّي الطّين المترشّف، ويكون سببا قويا على حسن الحال وطيب العيش، فإن هذه العاجلة محبوبة، والرّفاهية مطلوبة، والمكانة عند الوزراء بكلّ حول وقوّة مخطوبة، والدنيا حلوة خضرة وعذبة نضرة، ومن شفّ «2» أمله شقّ عمله، ومن اشتدّ إلحاحه، توالى غدوّه ورواحه، ومن أسره رجاؤه، طال عناؤه، وعظم بلاؤه، ومن التهب طمعه وحرصه، ظهر عجزه ونقصه.
وفي الجملة:
من لم يكن لله متّهما ... لم يمس محتاجا إلى أحد
ولابدّ من فتى يعين على الدّهر، ويغني عن كرام الناس فضلا عن لئامهم، ويذلّل قعود الصبر، ويجمّ راحلة الأمل، ويحلي مرّ اليأس، والعزلة محمودة إلّا أنّها محتاجة إلى الكفاية، والقناعة مزّة فكهة ولكنّها فقيرة إلى البلغة، وصيانة النفس حسنة إلّا أنّها كلفة محرجة إن لم تكن لها أداة تجدّها وفاشية «1» تمدّها، وترك خدمة السلطان غير الممكن ولا يستطاع إلّا بدين متين، ورغبة في الآخرة شديدة، وفطام عن دار الدنيا صعب، ولسان بالحلو والحامض يلغ.
قال ابن السمّاك: لولا ثلاث لم يقع حيف، ولم يسلّ سيف: لقمة أسوغ من لقمة، ووجه أصبح من وجه، وسلك «أنعم من سلك» ، وليس كلّ أحد له هذه القوّة، ولا فيه هذه المنّة «2» والإنسان بشر، وبنيته متهافتة وطينته منتثرة، وله عادة طالبة، وحاجة هاتكة، ونفس جموح، وعين طموح، وعقل طفيف، ورأي ضعيف، يهفو لأوّل ريح، ويستخيل لأوّل بارق، هذا إذا تخلّص من قرناء السوء، وسلم من سوارق العقل، وكان له سلطان على نفسه، وقهر لشهواته، وقمع لهوائجه وقبول من ناصحه، وتهيّؤ في سعيه، وتبوّء في معان حظّه، وائتمام بسعادته، واستبصار في طلب ما عند ربه، واستنصاف من هواه المضلّ لعقله المرشد، هذا قليل وصعب ولو قلت معدوم أو محال في هذا الزمن العسير والدهر الفاسد، لما خفت عائقا يعوقني، ولا حسودا يردّ قولي.
قال ابن السّمّاك: الله المستعان على ألسن تصف وقلوب تعترف، وأعمال تختلف.
وقال معاوية لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث- ورآه لا يلي له عملا، ولم يقبل منه نائلا-: يا ابن أخي، هي الدنيا، فإمّا أن ترضع معنا، وإمّا أن ترتدع عنّا.
وربّما قال بعض المتكلّفين: قد قال بعض السلف ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة، ولا من ترك الآخرة للدنيا ولكنّ خيركم من أخذ من هذه وهذه. وهذا كلام مقبول الظاهر موقوف الباطن. وربما قال آخر من المتقدمين: (اعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا، واعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدا) . وهذا أيضا كلام منمّق، لا يرجع إلى معنى محقّق، أين هو من قول المسيح- عليه السّلام- حين قال: الدنيا والآخرة كالمشرق والمغرب متى بعد أحدكم من أحدهما قرب من الآخر، ومتى قرب من أحدهما بعد من الآخر. وأين هو من قول الآخر: الدنيا والآخرة ضرّتان، متى أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، ومتى أسخطت إحداهما أرضيت الأخرى.
وهذا لأنّ الإنسان صغير الحجم، ضعيف الحول، لا يستطيع أن يجمع بين شهواته وأخذ حظوظ بدنه وإدراك إرادته، وبين السعي في طلب المنزلة عند ربّه بأداء فرائضه، والقيام بوظائفه، والثبات على حدود أمره ونهيه. فإن صفق وجهه وقال: نعمل تارة لهذه الدار وتارة لتلك الدار، فهذا المذبذب الّذي لا هو من هذه ولا من هذه، ومن تخنّث وتليّث لم يكن رجلا ولا امرأة، ولا يكون أبا ولا أما، وهذا كما نرى.
ونرجع فنقول: ونعوذ بالله من الفقر خاصّة إذا لم يكن لصاحبه عياذ من التقوى، ولا عماد من الصبر، ولا دعامة من الأنفة، ولا اصطبار على المرارة.
وقد بلينا بهذا الدهر الخالي من الربّانيين الذين يصلحون أنفسهم ويصلحون غيرهم بفضل صلاحهم، الخاوي من الكرام الذين كانوا يتّسعون في أحوالهم، ويوسّعون على غيرهم من سعتهم، وكانوا يهتمّون بذخائر الشكر المعجّل في الدنيا، ويحرصون على ودائع الأجر المؤجّل في الأخرى، ويتلذّذون بالثناء، ويهتزّون للدعاء، وتملكهم الأريحيّة عند مسألة المحتاج، وتعتريهم الهزّة معها والابتهاج وذلك لعشقهم الثناء الباقي، والصنيع الواقي، ويرون الغنيمة في الغرامة، والرّبح في البذل، والحظّ في الإيثار، والزيادة في النقص، أعني بالزيادة: الخلف المنتظر من الله، وبالنقص: العطاء، ورأيت الناس يعيبون ابن العميد حين قال: أنا أعجب من جهل الشاعر الذي قال:
أنت للمال إذا أمسكته ... فإذا أنفقته فالمال لك
قال: ولو كان هذا صحيحا كان لا ينبغي أن يكتسب المال، لأنّه ليس في ترك كسبه أكثر من إخراجه بالإنفاق. هذا لقولهم بحكمته وعقله وتحصيله، وصواب الجاهل لا يستحسن كما يستقبح خطأ العاقل.
نعم، وكانوا إذا ولوا عدلوا، وإذا ملكوا أفضلوا، وإذا أعطوا أجزلوا، وإذا سئلوا أجابوا وإذا جادوا أطابوا، وإذا عالوا صبروا، وإذا نالوا شكروا، وإذا أنفقوا واسوا، وإذا امتحنوا تأسّوا، وكانوا يرجعون إلى نقائب ميمونة، وإلى ضرائب «1» مأمونة، وإلى ديانات قويّة، وأمانات ثخينة، وكان لهم مع الله أسرار طاهرة، وعلانية مقبولة، ومع عباد الله معاملة جميلة، ورحمة واسعة ومعدلة فاشية، وكانت تجارتهم في العلم والحكمة، وعادتهم جارية على الضّيافة والتّكرمة، وكانت شيمتهم الصفح والمغفرة وربحهم من هذه الأحوال النجاة والكرامة في الأولى والعاقبة، وكانوا إذا تلاقوا تواصوا بالخير، وتناهوا عن الشرّ، وتنافسوا في اتّخاذ الصنائع، وادّخار البضائع (أعني صنائع الشكر، وبضائع الأجر) .
فذهب هذا كلّه، وتاه أهله، وأصبح الدّين وقد أخلق لبوسه، وأوحش مأنوسه، واقتلع مغروسه، وصار المنكر معروفا، والمعروف منكرا، وعاد كلّ شيء إلى كدره وخاثره، وفاسده وضائره، وحصل الأمر على أن يقال: فلان خفيف الرّوح، وفلان حسن الوجه، وفلان ظريف الجملة، حلو الشّمائل، ظاهر الكيس، قويّ الدّست «1» في الشّطرنج، حسن اللّعب في النّرد، جيّد في الاستخراج، مدبّر للأموال، بذول للجهد، معروف بالاستقصاء لا يغضي عن دانق، ولا يتغافل عن قيراط، إلى غير ذلك مما يأنف العالم من تكثيره، والكاتب من تسطيره.
وهذه كلّها كنايات عن الظلم والتجديف، والخساسة والجهل وقلّة الدّين وحبّ الفساد، وليس فيها شيء ممّا قدّمنا وصفه عن القوم الّذين اجتهدوا أن يكونوا خلفاء الله على عباد الله بالرأفة والرّقّة والرحمة والاصطناع والعدل والمعروف.
وأرجع عن هذه الشّكيّة الطويلة اللّاذعة والبليّة العامّة الشاملة، إلى عين ما رسمت لي ذكره، وكلّفتني إعادته، عائذا بالله في صرف الأذى عنّي وسوق الخير إليّ، ولائذا بكرمك الّذي رشتني به إلى الساعة، وكفيتني به مؤونة الخدمة لغيرك من هذه الجماعة، والأعمال بخواتيمها، والصّدور بأعجازها، وأنت أولى الناس بالصّفح والتجاوز عنّي إذا عرفت براءتي في كلّ ما يتعلّق بي من ذمامك، ويجب عليّ من الحقّ في مودّتك، والاعتصام بحبلك والانتجاع «2» من عشبك، والارتغاء من لبنك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق