الجمعة، 29 يناير 2016

تقشير بصل ( حكاية ماري سوي ميليكان Mary Sue Milliken )




تقشير بصل

لكلّ عين ذكرى مع تقشير البصل، ذكرى دامعة. ولكن نعرف أنّ الدمعة دمعتان: دمعة حزن ودمعة فرح. والعلماء يقولون ان التكوين البيولوجيّ لدمعة الحزن مختلف عن تكوين دمعة الفرح. كما انه من المعروف ايضاً ان البصل مادّة تحمل شيئاً لا يستهان به من إكسير السعادة! وللبصل حضور في أمثالنا العربية كما في أمثال غيرنا من الشعوب، فالعجول يقال إنّ بصلته محروقة. وللبصل دور في نسيان الأمور التعيسة على ما يبدو من خلال ما يقوله مثل كثير الشيوع، وإن في صيغة هزليّة، على أفواه الناس:" كول بصل وانسى اللي حصل"، ومن يتأمّل أمثال البصل يجد أنّها تتصّل بشؤون الحياة بوجوهها المختلفة، ولا سيّما خروج الضدّ من الضدّ غلى غرار المثل التالي: "الزهور بتتطلع من البصل" أو تجاور الأضداد كما في  "ما بصل إلا حواليه عسل أو ينطق بعلاقات القرب والبعد " ابعدوا تبقوا عسل وقربوا تبقوا بصل"، ونسبيّة قيمة الأشياء كما في  "بصلة المحب خروف"، أو أن العمر متبدّل المذاقات فـ "يوم عسل ويوم بصل"، كما ينصح بعدم التدخّل في كلّ الأمور فـ " يا داخل بين البصلة وقشرتها لا ينوبك إلا ريحتها" .

هذا المدخل البصليّ للكلام هو بغرض الحديث عن فتاة من شيكاغو، سيرتها تستحقّ أن تروى، وهي ماري سوي ميليكان Mary Sue Milliken، فتاة في العشرين من عمرها حصلت للتوّ على شهادة في فنّ الطبخ، فتاة لا تملك إلاّ شهادتها، ليس لديها خبرة، ولكنها طموحة، وحالمة، وتحمل مخزوناً هائلاً من الشغف، ذات نفَس طويل وتتحمّل برحابة صدر الدموع التي يولّدها تقشير البصل. والحديث عنها لا يتمّ إلاّ بالحديث عن زميلتها في العمل سوزان فنيغر Susan Feniger، شكّلتا معا ثنائياً جميلاً وفريد المذاق في مغامرتهما ذات النكهة المميّزة.
Mary Sue Milliken

ما ان نالت ماري إجازتها  في فنّ الطبخ حتّى قررت أن تعمل في أحد أعرق وأفخم المطاعم في شيكاغو والذي يحمل عنوان " بيروكيه  Perroquet / / البببغاء" . أرسلت ماري رسالة إلى صاحب المطعم، لم تنتظر الردّ بل أرسلت بعد ثلاثة أيّام رسالة ثانية الى صاحب المطعم نفسه، كانت بعد كلّ ثلاثة أو أربعة أيّام ترسل رسالة جديدة طالبة العمل في " بيروكيه".  المثل يقول " لُحَيح غلب مُطَيط"، ويبدو ان ماري كانت على معرفةٍ، على ما يبدو، بمرادِف انكليزيّ لهذا المثل، جاءها الجواب المنتظر بعد عدّة أسابيع من كتابة الرسائل بالموافقة على العمل في " بيروكيه". لم تتفاجأ أو ترفض العرض الذي تقدّم لها وهو " تقشير بصل" لقاء ثلاثة دولارات وربع الدولار في الساعة الواحدة. أيعقل ان يكون طموح انسان هو تقشير بصل في مطعم؟ هل صامت وصامت ثمّ فطرت على بصلة كما يقول المثل؟  العبرة بالنهايات والغايات. في الوقت نفسه تقريباً، كانت فتاة اخرى من مدينة نيويورك قد حصلت على الدبلوم نفسه، وراحت تسعى بحثاً عن فرصة نادرة تبدأ منها رحلتها في هذه الحياة، شاءت الأقدار ان تجد وظيفة في مطعم " بيروكيه"، المطعم الذي وصلته ، أيضا، حديثا ماري. لم تكن  وظيفة " سوزان" أفضل حالا بكثير من حال ماري، إذ كانت مهمتها غسل الخضار، وسلق القنبيط الأخضر (بروكولي). كانتا الفتاتين الوحيدتين في المطعم، وكانتا ، في الوقت نفسه، الأكثر شغفاً. ما مبرّر الشغف في عمل بسيط جدّا؟ كانتا تعرفان ان الشغف كالقناعة كنز لا ينفد، وان كان شغفهما على نقيض القناعة مفتوحاً على رغبات مكنونة بل جامحة. المكتوب في العقد هو ان دوام العمل يبدأ من الساعة الثامنة صباحاً، ولكنهما كانتا تصلان قبل ساعتين ونصف الساعة الى عملهما بشوق ولهفة، وكأنهما على موعد جميل مع العمل الشـاقّ والطويل. بعد عامين من العمل فرقت بينهما السبل، إذ سعت كلّ واحدة منهما على متابعة رحلتها مع النجاح والأحلام، ( إلى جانب العمل في تقشير البصل بنت شبكة علاقات طيّبة مع محيطها) ذهبت سوزان إلى لوس انجلس للعمل في مطعم فتحه حديثاً مهاجر من النمسا. المطعم مجهول، وكانت سوزان تعشق البدايات وعناق المجهول، بينما ماري بقيت في شيكاغو وافتتحت مقهاها الخاصّ، ولكنّ الفشل كان نصيب مقهاها، فقررت الذهاب الى فرنسا لتغذية سيرتها الوظيفيّة بدسم جديد. والفشل، في اي حال، درس في نجاح مستقبليّ. وهنا أشير الى كتاب طريف كتبه " جون سي ماكسويل John C. Maxwell " بعنوان" الفشل البنّاء" حيث سلّط في الكتاب الأضواء على دور الفشل كنواة صلبة في دفع أناس كثيرين إلى نجاحات باهرة. خطرت ببال ماري صديقتها سوزان فأرسلت لها رسالة تعلمها برغبتها في العودة الى اميركا، جواب صديقتها غيّر مجراها وقرارها، كانت سوزان تنوي الحضور إلى فرنسا لتجربة حظّها، فغيّرت ماري رأيها بالعودة وبقيت بانتظار صديقتها حيث بدآ العمل معاً.

ومن خلال علاقات بسيطة مع الزبائن ورحلات متواضعة الى الأقاليم خارج العاصمة، أخذا قراراً ثنائياً بالعمل معاً، ذات يوم، وتأسيس عمل خاصّ بهما، وهذا ما كان. عادا إلى اميركا  وفتحا مقهى خاصّا بهما  في حيّ من الأحياء الشرقية لوس انجلوس، وأسمياه "سيتي كافيه". كانتا تحضّران الأطباق في المطبخ ولديهما موظّف واحد يهتم بخدمة الزبائن. صار الناس، بعد ثلاث سنوات، يقفون في الصفّ بانتظار تناول طبقهم المفضّل. بعد تحسن الأحوال والمردود انتقلا إلى صالة آخرى وسمياه ( Ciudad )  ، وتخصصا في تقديم مآكل أميركا اللاتينيّة، كان افتتاح المطعم ظاهرة ثقافيّة، تناولته صفحات المجلات التي تهتم بالطبخ، وألقت الضوء على هاتين الفتاتين اللتين تفيضان بالحيوية  والشغف في العمل. وبدأت الصحف تهتم بهاتين الفتاتين الطموحتين، نجاح مطعمها في لوس انجلس كان باهراً  ممّا اثار أيضاً اهتمام المحطة التلفزيونية " فوود نتوورك Food Network"  التي تهتم بالمأكل، فعرضت عليهما المحطّة تقديم برنامج باسم  "توهوت تومات Too Hot Tamales"، ونال شهرة مستطيرة، وتدفقت عليهما العروض من دور النشر، لتأليف كتب عن فنّ الطبخ، وصارتا بعد البدايات البسيطة في تقشير البصل وغسل القنبيط أهم مرجعين في المطبخ اميركا اللاتينيّة.

عَزَت ماري سوي ميليكان نجاحهما ( هي وصديقتها) كفريق عمل إلى عدّة عوامل تتكامل، لفتني من هذه العوامل عامل طريف الظاهر، وهو قولها: " سوزان تحبّ الفوضى وضجيج الخدم، والعمل الصاخب بينما أنا كنت أحبّ الدقّة والتخطيط".  تحالفت الفوضى الخلاّقة  مع التخطيط البنّاء فأثمرا نجاحاً طيّب المذاق وشهيّ النكهات مقرونا بشقف لا يزال حارّا كما شغف البدايات.  

بلال عبد الهادي  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق