الثلاثاء، 26 يناير 2016

الاسم الفنّي في الصين من مقالات كتاب لعنة بابل



الاسم، في اللغة العربيّة، ملتبسُ الأصْل، ومن نتائجِ التباسِه انقسامُ النظر إلى اللغة العربية نفسها، وإلى كيفيّة معالجة قضاياها أيضاً، وساهم التباسه في إنتاج مدرستين في النحْو، المدرسة البصرية والمدرسة الكوفية. كان واحداً من أسباب هذا الالتباس هو وجود الهمزة في أوّل الاسم، والهمزة صوت ضعيف صحّته على قدّه.  وبسبب ما يلحق الهمزة من "النقص والتغيير والحذف" أسقطها الخليل بن أحمد الفراهيديّ من حسابه حين ألّف معجم "العين"، كما يذكر في مقدمة معجمه، إذ كان من حقّ الهمزة أنْ تحمل عنوان المعجم انطلاقاً من منطق مخارج الأصوات الذي اعتمده. ولكن الخليل يبرّر عدم أخذها بعين الاعتبار بسبب سقوطها أحياناً في مدارج الكلام. ومن مظاهر مرضها وعجز قدميها حاجتها إلى كرسيّ! ولعلّ معاناة طلاّب اللغة العربية في كتابتها أحياناً وليد تقلبّاتها على أكثر من كرسيّ: كرسيّ الياء وكرسيّ الواو. وبسبب ضعفها ووهنها شعر النحويّ العربيّ أنها تحتاج إلى عناية فائقة فخصّص لها فصلاً حول علاقتها مع الكراسي!

 ولأنّ كلمة "إسم" تبتدىء بهمزة فقد بلبلت أذهان النحويّين واللغويّين فاختلفوا حول جذْرها وشجرة نسبها. فذهب البعض إلى أنّ أصلها من " سَمَوَ "، وقال آخرون بل أصلها من " وَسَمَ". ومن قال بالسموّ اعتبر الاسم بمثابة السماء التي تظلّ المسمّى. ولا مفرّ من السماء كما لا مفرّ من الأسماء. لذا رأى البعض أنّ أثر الأسماء في أصحابها شبيه بأثر السماء في أقدارهم. فالاسم يساهم في تشكيل مصير المسمّى. ومن ذهب إلى الوسْم، فقد رأى أنّ الاسم علامة فارقة و"حارقة". فالوسم، لغويّاً، كيّ بالنار. كتابة بالحديد الحامي على الجلد لحمايته من الألاعيب المحتملة، لأنّها كتابة يصعب محْوها وتزويرُها. ومن يتتبّع علاقة الأسماء بمسمّياتها لدى عدد كبير من الشعوب يلاحظ سلطان الاسم الأسطوريّ، إلى حدّ أنّ إحدى القبائل الإفريقية ترى أنّ الإنسان ليس كائناً مركّباً من ثنائية الروح والجسد فقط، لأنها ثنائية، في نظره، ناقصة بلا قسمات واضحة، وإنما هو مركّب من أقانيم ثلاثة هي الاسم والجسم والروح. وتجريد الإنسان من واحد من هذه الأقانيم يجرده حكماً من الحياة. أناس بلا أسماء ليسوا أكثر من أشباح مخطوفة الملامح هائمة على وجوهها الضالّة.

أمّا هنا فإنّي سأتناول نقطة واحدة، ذات صلة بالأسماء، هي أسماء الكتّاب الصينيين. وطريقتهم في كتابة أسمائهم واختيارها. وهي نقطة لا تخلو، فيما أظنّ، من وجاهة. نحن نعرف في عالمنا العربي أنّ كثيرين يعيشون بأسماء مستعارة أو يعيشون باسْمين، وثمّة من يتخلّى عن اسمه ويعيش في ظلّ اسم آخر، كما فعل الشاعر السوريّ "أدونيس" مثلاً. وهناك فنّانون يعيشون بأسماء لا تتطابق مع المكتوب على هويّاتهم. ولكن وجهة النظر الصينية لم أجدها في مكان آخر. ووجهة نظرهم، في أيّ حال، كانت أمنية تراود ذهن الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو في ميدان التأليف لتحرير القارىء من سلطان الاسم وإغواءاته. فالاسم غشّاش وخدّاع. وكم من شخص كان ضحيّة لاسمه! وكثيرون يستثمرون طاقات الاسم لمآربَ تفوق مآربَ عصا موسى عدّاً. لذا اقترح ميشال فوكو حظر استعمال اسم الكاتب على أكثر من مؤلّف واحد وهي رغبة سوريالية تتعارض مع رغبة الناس في عمل "اسم" لحالهم، وخصوصاً أنّ للأسماء أسعاراً! وهي أمنية تمناها فوكو بسبب أنّ القارىء يخضع لسلطان اسم الكاتب، فإذا ما قرأ كتاباً لمؤلِّف ما ولم يرقْ له فإن القارىء قد يقوم بشطب اسم الكاتب ويصير عنده موقف سلبيّ من كتب أخرى للكاتب نفسه من دون ان يتناولها معتمداً على رأيه الأوّل، وعليه فثمّة احتمال في أن يلحق الظلم بالكتاب الثاني. وقد يكون الأمر بشكْلٍ عكسيّ فقد أقرأ لكاتب وينال إعجابي فيصير اسمه فخّاً يسهل السقوط فيه. ولكن "ما كلّ مرّة تسلم الجرّة" فقد يكون الكتاب الثاني فاشلاً، ولكن سلطان الاسم يجعلني أتعامل مع الكتاب الفاشل على أساس أنّه حسن، وعليه أصير أشكّ في حسّي الأدبيّ أو النقديّ. فما الوسيلة التي تحرّرني من فتنة الأسماء وسلطانها على ما أقرأ؟

يبدو أنّ رغبة فوكو كان معمولاً بها منذ زمن قديم، ولا يزال، في الصين وإنْ لم يكن بشكل مطلق. فكثيرون من الكتّاب الصينيّين يغيّرون أسماءهم على أغلفة مؤلفاتهم. وهكذا حين تقع عينك على الكتاب تقع عليه هو، ولا تقع على إسم الكاتب، لأنّ الكاتب مبهم مجهول مختبئ وراء اسم جديد عليك لا تعرف عنه شيئاً. وحين تقتني كتاباً لقراءته لا تدخل إليه مشحوناً برأيك الإيجابيّ أو السلبيّ السابق بالكاتب، تدخل عارياً إلى النصّ ليكون رأيك هو السلطان الأوحد.

انتشرت في الغرب نظرية نقدية في الأدب بشّرت بموت المؤلّف ( وهي النظريّة البنيويّة) بمعنى تحرير النصّ المقروء من سلطان اسم الكاتب الذي قد يشوّش عليك قراءتك، وتسليم زمام النصّ للقارىء. يبدو أنّ الطريقة المعتمدة لدى بعض الكتّاب الصينيين في تجديد أسمائهم مع جديد مؤلفاتهم ترضي ذائقة البنيويّين وترضي، أيضاً، رغبة الفيلسوف الفرنسيّ الراحل ميشال فوكو.


 بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق