لا أحد يعتقد فيما أتصوّر أنّ قوّة الثعلب العضليّة تفوق
قوّة النمر. ولكنّ ثمة إجماعاً عالميّاً على مكر الثعلب. فما من حكاية خرافيّة يكون
بطلها الثعلب إلاّ ويكون المكر فيها هو الشخصيّة الخفيّة. ومن الحكايات الثعلبيّة التي
لفتت نظري تلك الحكاية الصينيّة الطريفة عن لقاء بين نمر جائع وثعلب مخادع.
كان النمر جائعاً، ولا يجد ما يخرس به زقزقة عصافير بطنه
وفجأة لمح ثعلباً، فانقضّ عليه، وهمّ بافتراسه، ولكنّ الثعلب، ضبط أعصابه، وأظهر أنّ
أنياب النمر لن تجرؤ على الانغراز في لحمه الطريّ، بل نظر من طرف عينيه الخبيثتين
إلى النمر قائلاً: كيف تجرؤ أيّها الأرعن على مسّ فرو جسدي، سوف تحيق بك اللعنة إلى يوم الدين، فلحمي حرام
على فمك، ألا تعرف أنّ لحم الرسل لا يؤكل؟ وأنا موفدٌ من قبل السماء لأكون رئيساً
على كلّ حيوانات الأرض، ولتكون أنت أيضاً تحت إمرتي وسلطاني، أو يجرؤ عبد أن يمدّ
يده على سيّده؟ لن تنجو من لعنة السماء وعقابها الماحق، أيّها النمر الآبق.
ارتبكت أنياب النمر إذ لم يسبق له أن سمع بهذا من قبل،
فمن أين أتاه هذا الصعلوك المتفلسف في آخر الزمان لينغّص عليه لقمته؟ لكنّه عضّ
على جوعه ليعرف مآل الحكاية، فقد يكون كلام الثعلب صحيحاً، والريث خير من العجلة
أحياناً، وفي لحظات صار يتخيّل غضب السماء النازل عليه، ووجد أن إبقاء الجوع أهون
عليه من نقمة السماء. ولكن كيف له أن يصدّق؟ يحتاج لبرهان يتأكّد به من صحّة أقوال
الثعلب.
لم يمهل الثعلب النمر فرصة لأخذ النفس، وراح الكلام يتدفّق
من تحت لسانه مدراراً. قال للنمر: أعرف ما يدور في ذهنك، أنت لا تصدّق ما أقول، وقد
تعتقد أن كلامي مختلق لأنجو من الالتهام. ولكن هيهات! من قال لك إنّي أبالي
بالحياة؟ خوفي عليك أنت أيها المسكين، كلّ أبناء الغابة يعرفون من أنا، وترتعد
فرائصهم من حضوري. لأنّهم يعرفون من أمثّل، إلاّ أنت أيّها الغبيّ الجاهل المشغول
بالبطش عن متابعة نشرات الأخبار، والذي يعتقد أنّ الحياة شرب وافتراس لا غير. تريد
برهاناً، فخاطرك بدأ ينخره الشكّ. أعرف ذلك من عينيك اللتين تبلبلهما الحيرة
والظنّ. لا بأس سترى بأم عينك صدق دعواي، سأمشي أمامك، لا تخف، لن أفرّ كالجبناء ثمّ
أني لن أقدر، ولو حاولت، على النجاة، فقدرتك على الركض تفوق سرعة أقدامي. ولكنْ سأمشي
أمامك، فقط لترى ردّ فعل سكّان الغابة حين أتجلّى لهم.
اتبعني أيّها النمر لتعرف صدق قولي، وتعرف قيمتي وخبري
عند الحيوانات. سار الثعلب من غير أنْ يبدو على خطواته أو ملامح وجهه أي أثر من
ذعر أو مكر. مشى رابط الجأش، واقتفى النمر خطاه، محدّقاً في كلّ حركة من حركات
الثعلب. وكم كانت الدهشة في عيني النمر كبيرة أمام مشهد الحيوانات وهي تفرّ من أمام
الثعلب مذعورة. وهنا التفت الثعلب إلى النمر قائلاً له: ألم ترَ بعينيك أيّها
النمر الغبيّ علوّ مقامي وصدق مقالي؟ افعل ما
تريد، ولكن كن على ثقة أنّ مسّ شعرة من فروة جسمي ستجلب عليك انتقاماً سماويّاً
ينسيك حليب أمك وطعم لحمي، ويجعلك تلعن الساعة التي خطر فيها ببالك المجنون أنّ
لحمي في متناول فكّيك. ووقف الثعلب مظهراً عدم مبالاة بردّ فعل النمر. لم يعد
النمر يعرف كيف يتصرّف، ولكنّه وجد نفسه يتقدّم كالمسحور نحو الثعلب طالباً منه
الصفح والمغفرة وقائلاً له بصوت خفيض: اعذرني يا رسول السماء، إنّ جهلي بمقامك هو
الذي ورّطني بمهاجمتك، والجوع أعمى أيّها الثعلب، ولكنّ ألف جوع ولا مواجهة
السماء. نظر الثعلب إلى النمر قائلاً: لا بأس، لن تصل أصداء ما حدث بيننا إلى مسامع
السماء. إني غفرت لك نزق أنيابك وطيش مخالبك، ولكن إياك أن تقدم مجدّداً على خطوات
تجهل منتهاها.
غادر الثعلب المكان وتوارى عن الأنظار وهو لا يعرف كيف
تخلّص من شبح الموت الزؤام الذي لامس منه اللحم والروح، ولا يعرف كيف أنّ خدعته
انطلت على النمر الساذج الذي لم ينتبه إلى أنّ الحيوانات لم تهرب مذعورة من الثعلب
الذي يتقدّم النمر وإنّما من رؤية النمر الذي كان يسير خلف الثعلب.
بلال عبد الهادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق