الثلاثاء، 30 يونيو 2015

ثقافة القمصان
















في تراثنا العربيّ قميص دخل التاريخ، والمعاجم، والنزاعات الدينية والسياسية، وأنجب تعبيراً لا يزال إلى اليوم حيّاً، طريّاً في الأفواه، رغم انه لم يولد إلاّ بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان. والمناسبات الدامية وغير الدامية على السواء غالباً ما تترك خلفها أثراً لغوياً يبقى دالاّ عليها بعد انقضاء أحداثها. " قميص عثمان" عبارة شهيرة مدمّاة، وأشير أيضا إلى قميص فيه رائحة النبوة هو قميص النبي يوسف الذي كان سبب إعادة النظر إلى عيني أبيه. وثمة قميص آخر، هذه المرّة، من تراثنا السينمائيّ، ولا أظنّ أنّ له سطوة العبارة الأولى، وهو قميص العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ. وقد يتذكّره القارىء أو بعض القرّاء المغرمين بفتى الشاشة العربية الأسمر وصوته الرومانسيّ الشجيّ حين أجيء على سيرته.
ولكن بداية أضع تساؤلا: ما وجه الشبه بين قميص عبد الحليم والثقافة وأشياء كثيرة من ظاهر هذا العالم؟ قد لا يرى البعض في "واو العطف" الجامعة بين قميص العندليب الأسمر والثقافة مبرر وجود، ومع هذا أجد ان العلاقة قائمة، بشكل من الأشكال، بين عنصري السؤال. ولعلّ مأساة الثقافة العربية وتهلهلها الراهن هو في وجود قميص عبد الحليم حافظ على أجساد بعض المثقفين. وأقصد القميص المجازية المتغلغلة في الأرواح والأذهان والأفكار.
لا بدّ، لتوضيح المسألة، من تفصيل سيرة قميص العندليب الأسمر خيطاً خيطاً. وهو قميص من مشهد سينمائيّ، قميص أبيضُ خدّاعٌ، كاللون الأبيض تماماً، الحامل للأضداد. فهو لون الحياة والكفن، لون النقاء والخبث، لون الطهارة والدعارة. وقراءة اجتماعية وسيميائية ولغوية لاستخدامات اللون الأبيض في الحضارات والشعوب تظهر مدى تلونه الذي لا يختلف عن جلد الحرباء. فهو بسبب بياضه يمكن له ان يتخذ كلّ الألوان، لأن طبيعته ذات خصيصة مائيّة، والعاملون في مجال الفنّ والأضواء يستثمرون طبيعته البيضاء المتلونة في أعمالهم، لأنّه يضمّ في حناياه، ضوئياً وعلمياً، كلّ الألوان.
مشهد القميص مأخوذ من فيلم "معبودة الجماهير" أغلب الظنّ، فالذاكرة خؤون ولعوب. يكون عبد الحليم فقيراً مدقعاً، والمأزق الذي يقع فيه هو انه يضطر ذات أمسية إلى لبس ثياب رسمية ولا يملك طقما متكاملا ولا قميصا على قدّ المقام. ما العمل؟ وخصوصا ان شطرا من حياته ومستقبله الفني في الفيلم متوقف، فيما يبدو، على حضور الحفل. ولكننا، في مشهد تال، نراه وقد حلّ إشكال الشكل والهندام، ولا غبار على طقمه المتناسق، المتكامل. يعجب أصدقاؤه من رؤيته في كامل الأناقة والشياكة. ولكن من أين وكيف حصل على القميص الذي لا يملكه؟ يتبين لنا، فيما بعد، ان القميص ليس قميصاً، قميص له، كلونه، ظاهر وباطن. الظاهر متماسك، لا يشكّ أحد فيه فهو بيّن الظهور والنصاعة. ولكن القميص على مستوى الباطن المتواري تحت الجاكيت، يفصح عن جوهر ممزّق، متداعٍ، إذ نرى ان ليس لقميص عبد الحليم، وهو يقوم بخلع الجاكيت في البيت، من هوية القميص إلاّ طرف الكمين الظاهرين من فتحتي كمي الجاكيت، وصدر القميص والقبة اللذان يظهران من فتحة قبة الجاكيت الواسعة، في حين ليس للقميص ظهر يحمي هويته الإسمية ( وبالمناسبة كلمة قميص من الكلمات التي تذكر وتؤنث في العربية أي ليس لها هويّة ثابتة).
في قميص العندليب شيء من النفاق والخداع. ولعلّ في فقر عبد الحليم حافظ ما يبرّر له الاعتماد أو اللجوء إلى الحيلة والإيحاء المزيّف بأنّه في كامل الأناقة. ولكن الإنسان تعترضه في حياته اليوميه وجوه أناس لا يختلفون كثيراً في سلوكهم عن ظاهر قميص الفنان الراحل عبد الحليم حافظ، فهو يحفظون شذرات من هنا وهناك، وقد يسمعهم المرء، لأول مرّة، فيعتقد أنّ لقميص كلامهم ظهراً وأكماماً، ولكن مع الوقت وانقشاع سماء الظروف ينتبه إلى أنّ كلامهم مستعار من ذاكرة غيرهم، وأقاويلهم لَبانٌ معلوكٌ، امتصّت سكّره أفواه سابقة! كما وإنهم يكثرون من استخدام أسماء كبيرة لأعلام في الفلسفة والأدب والفكر في مدارج الكلام، أسماء تتعب عضلات ألسنتهم، علماً ان مجرد ذكر أسماء كبيرة لفلاسفة لا تجعل من الناطق بها فيلسوفاً، فصورة الطعام مهما كانت شهيّة لا تقتل الجوع! والحياة الثقافية ليست جردة أسماء، كما أن الثقافة ليست ذاكرة ممسوحة الهويّة، فهامة الثقافة أكبر من أن تستوعبها كلمات متفرقة أو مربّعات كلمات متقاطعة.
واختم بعبارة لطيفة لحكيم الصين كونفوشيوس في كتابه الشفّاف (لْوِنْ يُوْ) "محاورات" حيث يقول فيها: "المعرفة الحقّة هي أن تعرف ما تعرف، وأن لا تعرف ما لا تعرف"، ومن مأثور العرب عبارة ممتعة على صلة رحم مع الأولى تؤكّد أنّ:"نصف العلم قول: لا أدري". ولمن لم يقتنع بعلاقة اللباس بالفكر أحيله إلى واقعة حدثت مع الإمام أبي حنيفة النعمان كان اللباس فيها من صلب ثقافةٍ رثّةِ الأسمال!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق