السبت، 27 يونيو 2015

أساتذة الصوفيّ



يروي الكاتب باولو كويلو في المقدّمة التي وضعها لنسخة روايته "الخيميائيّ" في ترجمتها العربيّة الصادرة "عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت" حكاية شيخ صوفيّ، اكتفى بأن يسمّيه "حسن"، وهي تسمية لا تخلو من رمزيّة. والحكاية لا تنفصل عن الأجواء التي من وحيها الروحيّ يكتب باولو كويلو أغلب رواياته، وهي أجواء مشرقيّة تدور أحداثها في أماكن جغرافيّة عربيّة كما في روايته " الخيميائيّ" التي نالت شهرة عالميّة مستطيرة. والحكاية عربيّة  الأصل، وردت في غير مصدر عربيّ بطلها يستجيب لرؤية رآها في المنام تطلب منه السفر إلى مصر حيث ينتظره كنز سوف يغيّر مجرى حياته.

كان هذا الصوفيّ على فراش الاحتضار، حين دنا منه أحد تلامذته ليسأله قبل فوات الأوان عن اسم معلّمه الذي تعلّم منه الحكمة المعطاء. نعرف أنّ كتب الأعلام والسير في العربيّة تولي اهتماماً ملحوظاً  للشيوخ الذين نهل منهم العلم هذا العالم أو ذاك، وتهتمّ بذكر تفاصيل كثيرة عن حياتهم واختصاصاتهم. فشجرة نسب العلماء مغايرة نوعاً ما عمّا نعهده في شجرات الأنساب العائليّة. لكن صيغة المفرد في سؤال التلميذ لم تنل استحسان الصوفيّ. الفرد لا يصير فردا فريداً إلاّ بفضل المجموع. وما الإنسان، في الواقع، إلاّ توليفة اقتباسات عديدة، وذاتيّته ليست أكثر من مفعول هذه التوليفة.

 نظر الصوفيّ العجوز صوب تلميذه، وأجاب: المئات من المعلمين، وإن كان لي أن أذكرهم فسوف يستغرق ذلك شهوراً عديدة وربّما سنوات، وسوف ينتهي بي الأمر إلى نسيان بعضهم. والنسيان، في هكذا مقام، عقوق علميّ. في جواب الصوفيّ المفتوح على الشهور والسنوات اعتراف مضمر بأنّه يعجز عن سرد أسماء معلّميه لكثرتهم وهي كثرة، كما سوف نرى، تفوق عدد المعلمين العاديين أو التي توقّعتهم، على الأقلّ، أذنا التلميذ، فليست الحصافة أن تتعلّم فقط ممّن وظيفته الرسميّة التعليم، وإنّما من أن تتعلّم، أيضاً، ممّن لا يخطر لك على بال أن يرقى إلى مقام المعلّمين. لم يُشبع جواب الصوفيّ نهم التلميذ أو يروِ غليله، فأعاد طرح السؤال ولكن بصيغة التفافيّة، قائلاً: لكن ألم يكن لبعضهم تأثير عليك أكبر من تأثير الآخرين؟ استغرق الشيخ حسن في التفكير برهة من الزمن، وكأنّه يمرّر في ذاكرته شريط الأسماء والأحداث لالتقاط اللحظات التي شكّلت منعطفات في نمط حياته أو تفكيره، ثمّ قال: كان هناك ثلاثة، في الواقع، تعلّمت منهم أموراً على جانب كبير من الأهمية، وهؤلاء الثلاثة لم يكونوا شيوخ علم في الحقيقة، وقد لا يخطر ببال السامع وهو يسمع حكايتهم أنّهم قادرون على تبليغ رسالة علمية ما.  

وراح الحكيم يسرد لتلميذه أولئك الذين أثّروا فيه تأثيراً كبيراً، فقال: أوّلهم كان لصّاً! فقد حدث يوماً انني تهت في الصحراء ، ولم أتمكّن من الوصول إلى البيت إلاّ في ساعة متأخّرة جدّا من الليل. وكنت قد أودعت جاري مفتاح البيت. ولم أملك الشجاعة لإيقاظه في تلك الساعة. وفي النهاية صادفت رجلاً طلبت منه المساعدة، ففتح لي الباب في لمح البصر. أثار الأمر إعجابي الشديد، ورجوته أن يعلّمني كيف فعل ذلك. فأخبرني أنه يعتاش من سرقة الناس. لكنني كنت شديد الامتنان له، فدعوته إلى المبيت في منزلي. مكث عندي شهراً واحداً. كان يخرج كلّ ليلة وهو يقول: سأذهب الى العمل. أمّا أنت فداوم على التأمّل، وأكثر من الصلاة. وكنت دائماً اسأله عندما يعود، ما إذا كان قد غنم شيئاً. وكان جوابه يتّخد على الدوام منوالاً واحداً لا يتغيّر. لم أوفّق في اغتنام شيء هذا المساء. لكنني، إن شاء الله، سأعاود المحاولة في الغد. كان رجلاً سعيداً. لم أره يوماً يستسلم لليأس جزاء عودته صفر اليدين. لصّ مفعم بالأمل. من بعدها، وخلال القسم الأكبر من حياتي، عندما كنت استغرق في التأمّل يوماً بعد يوم، من دون أن يحدث أيّ شيء، ومن دون أن أحقّق اتصالي بالله، كنت أستعيد كلمات ذلك اللصّ:" لم أوّفق بشيء هذا المساء لكنني، إن شاء الله، سأعاود المحاولة، في الغد". كانت عبارة اللصّ المليئة بالإصرار والعناد والأمل تمنحني القوّة على المتابعة.

أما المعلّم الثاني فلم يكن من عالم الانسان وإنّما من عالم الحيوان، كان، بكلّ بساطة، كلبا. فقد حدث أن كنت متوجّهاً إلى النهر لأشرب قليلاً من الماء، عندما ظهر هذا الكلب، كان عطشاً أيضاً لكنّه عندما اقترب من حافّة النهر شاهد كلباً آخر فيه. ولم يكن هذا غير انعكاس لصورته في الماء، ولم يسبق للكلب أن واجه هذا الأمر، فيما يبدو، من قبل، والكلب كالإنسان عدوّ ما جهل، فدبّ الفزع في الكلب وارتعدت فرائصه، وتراجع مسرعاً إلى الوراء وراح ينبح، بذل قصارى نباحه ليبعد الكلب الآخر، ولكن شيئاً من هذا لم يحصل بالطبع. فليس من عادات الظلال أن تشعر بالخوف أو تبالي بالنباح. وفي النهاية قرّر الكلب وقد غلبه العطش أن يواجه الوضع، فالعطش يعلّم الشجاعة! فألقى بنفسه في النهر. وكان أن اختفت الصورة هذة المرة.

 توقّف حسن قليلاً ثم تابع قائلاً: أمّا معلمي الثالث فكان ولداً، فقد حدث أن رأيته يسير باتّجاه الجامع حاملاً شمعة بيده فبادرته بالسؤال: هل اضأت هذه الشمعة بنفسك؟ فردّ علي الصبيّ بالإيجاب. ولما كان يقلقني أن يلعب الأولاد بالنار قال الصوفيّ، تابعت بإلحاح: اسمع يا صبيّ، في لحظة من اللحظات كانت هذه الشمعة مطفأة، أتستطيع أن تخبرني من أين اتت النار التي تشعلها؟ ضحك الصبيّ وأطفأ الشمعة. ثمّ ردّ يسألني، وأنت يا سيّدي أتستطيع أن تخبرني إلى أين ذهبت النار التي كانت مشتعلة؟

أنهى الصوفيّ عبارته الأخيرة وأخلد للنوم الكبير، تاركاً تلميذه مع هذه الحكايات الغريبة  التي اعتاد أهل التصوّف على بثّها في تضاعيف تصانيفهم. أليس هذا ما فعله فريد الدين العطّار في منظومته الرمزيّة "منطق الطير"، أو ما صاغه جلال الدين الروميّ في موسوعته الشعريّة البديعة "المثنويّ " المكتظّة بحكايات من هذا القبيل؟


بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق