الاثنين، 29 يونيو 2015

حواس ابن الفارض في رأي علماء الأعصاب





حواسّ سلطان العاشقين
الشعراء يتبعهم العلماء، والخيال العلميّ يسبق الواقع العلميّ، فالإنسان طار في ورق الكُتّاب قبل أن يطير بمساعدة العلماء. ولولا الملكة الخيالية لدى الإنسان لكانت الحياة جحيماً لا يطاق، الخيال متنفّس فردوسيّ. كلّنا يعرف قصص الكاتب الفرنسيّ ذي الخيال كثير الأجنحة جيل فيرن الذي رأى قبل غيره واقعاً افتراضيّاً بعيد المنال بنظر غيره. ومن حسن حظّنا، رغم كلّ ما في بلادنا من أعاصير، أنّنا نعيش في زمن الانترنت، وفي زمن الفتوحات العلميّة الهائلة، وهي فتوحات، على بديع صنعها، لا تزال بمثابة طفل صغير يحبو في ملعب المعرفة وذلك من منطلق مكنون آية قرآنيّة باهرة تقول:" وما أـوتيتم من العلم إلاّ قليلاً" (الاسراء،85)، وعليه فإنّ توصيف ما نرى بالكثرة توصيف تدحضه هذه الآية الكريمة.
ومن جملة الذين استعانوا بخيال الشعراء في تحقيق إنجازات تكنولوجية نعيش في ظلّ بركتها أو لعنتها بحسب وجهة النظر هو المبدع ستيف جوبز الذي كان من جملة مستشاريه، كما قال، شاعر. قد يجد البعض ان وجود شاعر في عالم تكنولوجيّ محض هو من قبيل لزوم ما لا يلزم، ولكن لا أحد يشكّ في مقدرة ستيف جوبز الخارقة على الإبداع التكنولوجيّ المرهف، والخيال الوثّاب. كان الراحل ستيف جوبز مؤسس شركة أبل يقول: لا بدّ من استثمار خيال الشعراء في تطوير منتوجات شركة أبل، وهذه وجهة نظر لا يستسيغها كثيرون من أهل التكنولوجيا.
كنت أقرأ في موضوع علميّ طريف متعلّق بالحواسّ من وجهة نظر دماغيّة وعصبيّة.  وما ان انتهيت من قراءة الموضوع حتّى تذكّرت أبيات شعر لابن الفارض سلطان العاشقين، وتذكرت طريقةً ظنّ كثيرون ان بودلير هو مبتكرها وهي الطريقة المعروفة بـ"تراسل الحواس"، أو ان شئت بقدرة الحواس على تبادل الأدوار فيما بينها. كانت ابيات ابن الفارض بمثابة مجاز لغويّ أو " ذوق صوفيّ" لا غير، ولكن دراسة الحواسّ دراسة عصبية ودماغية تظهر ان مجاز ابن الفارض صار حقيقة علمية تثبتها تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي.
كان كثير من الناس يظنون ان لكلّ حاسة حياتها الشخصية، الاّ ان العلم أظهر ان هناك قنوات اتصال كثيرة بين الحواس، مما يجعل المرء قادرا على أن يرى بأذنيه، ويسمع بعينيه، بل انني كنت قد قرأت عن شخص ضرير يميّز بين الألوان عن طريق لمسها، فيقول لك :" هذا أزرقُ" و"هذا أحمرُ" و"هذا أخضرُ" ...، كثيرون ممّن رويت لهم حكاية الأعمى وعلاقته بالألوان استغربوا هذه المقدرة ذات الصلة بحاسّة لا يملكها الضرير، وظنّوا أنني أقول هزلاً لا يعترف به علم. فاللون على صلة حميمة بالعين، فكيف يرى اللون من فقد نعمة البصر؟ طبعاً، ليس من الممكن أن يرى الأعمى الألوان بفضل بصيرة ثاقبة لديه. والأمر لا علاقة له، هنا، بالمعجزات او القدرات الخارقة، كما لم يكن هذا الرائي بحاسة لمسه المرهفة من أهل الكرامات. طبيعة تركيب اللون وتشكيله تكشف السرّ عن هذه المقدرة الفائقة، فاللون له علاقة بالضوء، والضوء على صلة مباشرة مع حاسّة اللمس، والألوان تتمايز عن بعضها بدرجة حرارتها، فلكل لون حرارة، واستطاع هذا الاعمى عبر تمرين حاسة اللمس الى تحويلها الى ما يشبه العين المائزة بين الالوان عبر معرفته بحرارة كلّ لون. وأخبرتني صديقة لي أنّ عمتها عمياء، وهي التي تختار بنفسها الوان الثياب التي تلبسها دون حاجة الى مساعدة احد وتقوم بتلبيق الالوان بين بعضها البعض عبر حاسة اللمس المرهفة التي لديها. الحواس يتنصت بعضها على بعض بصورة مستمرّة، ولقد أكّدت مسوح الدماغ على انه في حال عصبنا عيني شخص سليم بصرياً لمدة تسعين دقيقة فإن هذا الشخص يصبح حسّاساً للمس عبر قشرته البصرية كما ان مسوح الدماغ قد اكدت ان القشور البصرية عند العميان تعيد بناء نفسها بطريقة تجعلها صالحة للسمع.
وظهرت دراسات كثيرة تناولت علاقتنا مع حواسنا، يظن البعض ان ما سأقوله عنها ينتمي الى عالم الخرافة. ولكن، فيما يبدو، بعض الخرافات حقائق سابقة لوقتها!
 لقد طرح العلماء سؤالا بسيطا: هل يغيّر اللون طعم المذاق؟ اظهرت الدراسات ان حاسة النظر تؤثر على النكهة أي على حاسة الذوق، ومن الامثلة على ذلك ما اثبته العلماء في دراستهم لشراب برتقالي المذاق الاّ ان طعمه يتغير الى طعم الكرز بعد تلوينه باللون الاحمر. ولقد قام الدكتور م. زامبنيني من جامعة تورنتو في ايطاليا، عام 2005، بتجربة علميّة واثبت أنّ إسماع متطوعين يمضغون رقائق من البطاطا " التشيبس" جَرْساً مختلفاً لصوت المضغ يحدد ادراكهم الذوقي لطزاجة وقرمشة ما يمضغون. كما أثبت ان النظر إلى بنيان بصري يتحرك من الأعلى الى الأسفل بصورة متواصلة كالشلاّل، على سبيل المثال، يجعل الناظر الذي يتلمس بيديه بنياناً ما يقتنع بأن هذا البنيان يتحرّك الى الأعلى.
وكثيرة هي الدراسات التي يسعى العلماء من خلالها الى تبيان هذه العلائق أو تحالف الحواسّ، على سبيل المثال، ان سماع صوت شخص نعرفه لا يحرك فقط النقطة الدماغية الخاصة بالأصوات وانما يحرك ايضا الباحة الدماغية المخصّصة وظيفتُها للتعرف على الوجوه.
لقد اكتشف الشعراء قبل العلماء هذه المقدرة التي تستخدم حاسّة اللمس للنظر، أو حاسة الشمّ للتعرّف إلى الألوان ، وكأنّ الأنف هنا امتداد للعين! والادباء منبع لا ينضب  للعلماء. الأدب مادة خام وثرية للعلماء، فلقد لفتت نظري دراسة عن الكاتب الروائي الفرنسيّ الراحل كلود سيمون الحائز على جائزة نوبل عام 1985 مفادها ان علماء الأعصاب يعكفون على رواياته بالاشتراك مع عدد من النقّاد ويعملون على سبر طريقته في التعبير عن ذكرياته وصولا إلى تبيان عمل الدماغ فيما يخصّ وظائف الذاكرة، وهو المشهور باستثمار الذاكرة والذكريات في كتاباته. ومن هذا المنطلق أظنّ أن التعاون بين العلماء والشعراء والكتّاب الذين يستخدمون طرقهم الخاصة والمجازية في علاقتهم مع حواسهم قد تثمر كشوفات علميّة وأدبيّة بديعة.
وأنهي بهذه الأبيات المدهشة لابن الفارض، وهي من تائيته الشهيرة، ذات الصلة العارمة بموضوع المقال، حيت نرى العين تحكي كاللسان، واللسان يرى كالعين، واليد ترهف السمع والإصغاء، والأذن تجتلي المرئيّات كالعين. وما يقوله ابن الفارض عن الحواسّ يطابق ما يقوله علماء أعصاب ودماغ لا يشغلهم الشعر ولا يشغفهم التصوّف.
فعيني ناجت، واللسان مشاهدٌ،
وينطق منّي السمعُ، واليدُ أصغتِ
وسمْعي عينٌ تجتلي كلَّ ما بدا،
 وعيني سمْع، إن شدا القومُ تنصتِ
كذاك يدي عين ترى كلّ ما بدا،
 وعيني يدٌ مبسوطةٌ عند بسْطتي
وسمعي لسانٌ في مخاطبتي، كذا
 لساني، في إصغائه، سَمْعُ مُنْصتِ
بلال عبد الهادي
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق