الأحد، 28 يونيو 2015

العرب والانتحار اللغويّ




عنوان هذا المقال هو عنوان كتاب ألّفه الكاتب التونسيّ عبد السلام المسدّي، يتناول فيه مأزق اللغة العربيّة الراهن من جوانب متعدّدة، وهو يتألّف من أحد عشر فصلاً، وأظنّ أنّ عناوين بعض الفصول تكشف عن أهميّة الطروحات التي يتناولها، ومنها: اللغة والسياسة، اللغة والهوية، محاربة اللغة العربية، التلوّث اللغويّ، تسليع اللغة وحصار الإعلام، اللغة والديمقراطية. وعليه فإنّ اللغة - كما يبدو من هذه العناوين- لا يمكن فصلها عن السياسة، فهل يختلف، مثلاً، واقعنا السياسيّ المأزوم عن واقع اللغة العربيّة المأزوم؟ ثمّ أليس من الواضح للعيان أنّ تمزّق هويّتنا شبيه بما نراه من تمزّق في اللسان؟

كنت أقرأ ذات مرّة في كتاب عن بدايات إحياء اللغة العبرية في العصر الحديث، ومن جملة ما قرأت أنّ قضيّة اللغة كانت في نظر الصهاينة أهمّ من قضيّة الأرض، وممّا قالوه أن لا أمل في إنشاء دولة قبل استرداد العبرية على ألسنة اليهود، فالوطن اللغويّ ضرورة جغرافية. ومن يتابع النشاطات والمدارس اللغوية في العالم يدرك أهمّية ما قدمّه اليهود في الميادين المتصلة بعلوم اللسان، فوعيهم الحادّ بأهميّة اللغة جعلهم روّاداً في وضع مناهج تعليم اللغات المكثّف، وما فاجأني ذات يوم خبر يقول إنّ الصين تستعين بإسرائيل على الصعيد اللغويّ لتزويدها بمناهج لغوية خلاّقة تفيد منها الصين في تقليص الفترة الزمنية التي يحتاجها الشخص لتعلّم اللغة. ومن يتابع نموّ الصين الاقتصاديّ يعرف أنّه يرافقه نموّ مواز للغة الصينية عبر فتح معاهد كونفوشيوس في كلّ المعمورة لتعليم اللغة الصينية وتكسير الصورة النمطية عن صعوبة تعلّمها، بل ولتعليم تحضير المآكل الصينيّة أيضاً كما قرأت مؤخراً. وقد يستغرب المرء، لأوّل وهلة، أن يكون من مهمات معاهد كونفوشيوس الثقافيّة تعليم الطبخ إلى جانب تعليم اللغة، ولكن أليس الطعام كاللغات وسيلة من وسائل نشر الثقافة؟ ألسنا نعيش في ظلّ اللغة الإنكليزية والثقافة الاميركية في نفس الوقت الذي نعيش فيه تحت ظلال البيبسي والكوكا والهمبرغر ونكهات أمريكية اخرى؟

 يحزّ في نفس كلّ عربيّ يتابع علاقات الشعوب مع لغاتها ما يراه من علاقة غير صحّية وغير سويّة للعربيّ مع لغته. ولا يمكن أن يصلح أمر الإنسان العربيّ إلاّ من خلال إصلاح الخلل الجلل القائم بينه وبين لسانه، فعلاقة العربيّ بلغته علاقة غريبة عجيبة، علاقة فيها انقلاب للمعايير وانقلاب للمقاييس الطبيعيّة والفطرية. فالعربيّ يفتخر، من جهة، أنّ العربية لغة القرآن ولغة أهل الجنان ثمّ، من جهة أخرى، تراه في حياته اليومية يتأفف منها، ويبرم وجهه في خلقتهان وكأنّه لا يريد لها أن تكون لغة أهل الدنيا!

 كنت قد سألت ذات مرّة فتاة صغيرة اذا كانت تقرأ العربية، كانت إجابتها صادمة لأذنيّ :"يي، آع، لأ، ما بحبّ اقرا بالعربيّ". الفتاة كانت صادقة، ولم تتكلّم بخبث، ولم تتلفّظ بعبارتها من منطلق ايديولوجيّ. لقد وصل بنا الأمر، للأسف، في العالم العربيّ إلى أن نقرف من استخدام لغتنا بوجهيها: العامّي والفصيح.

أذكر أنّ أحد الأشياء التي اشتغل عليها رجالات النهضة كانت اللغة، لأنّ من شروط نهضة الشعوب الوعي اللغويّ. فأين هو الوعي اللغويّ في حياة العربيّ؟ هناك من يعتبر أنّ العربية عائق حضاريّ، وعقبة في وجه التحضّر والتطوّر وهذا ما اشتغل عليه أعداء العربية لفترات زمنية طويلة، وانفقوا في سبيله ملايين الدولارات، وها نحن نقدّم لهم الهزيمة على طبق من ذهب. في الصراعات اللغوية كما في الصراعات العسكريّة كلّ الاسلحة تقريبا مباحة حتّى المحظور منها دوليا، واللغة العربية تعيش في صراع لغويّ يوميّ، والحروب اللغوية لا تكون حروبا فقط على الجبهات وإنّما أيضاً في عقر الدار. حرب يومية، مستعرة، وقودها ألسنة الناس وعقول الناس. كنت قد قرأت ذات يوم عن ان اندونيسيا لا تعطي إقامة لشخص لا يتقن لغتها، فقلت ماذا يحدث لنا في حال طبّقنا هذا القانون في بلادنا؟ أو ماذا يحدث في حال تطبيقنا سياسة لغوية لا تختلف عن سياسة المانية مع لغتها كما يبدو في هذه الحكاية الالمانية، وهي حكاية قد يراها البعض قاسية او عبثية.

تقول الحكاية إنّ طالبة المانية نجحت في شهادة البكالوريا، الثانوية العامة بتفوق وامتياز في كلّ مواد الامتحان، ولكنّها رسبت ولم تمنح الشهادة والسبب في ذلك انها كانت ضعيفة في اللغة الالمانية، ولم يشفع لها تفوقها في كلّ المواد الاخرى لدى الجهة التعليمية المسؤولة، ورفعت الطالبة أمرها الى محكمة فرانكفورت مطالبة بالغاء قرار رسوبها، وبالحكم لها بالنجاح وبحقّها في الشهادة، مستندة في كلّ ذلك الى تفوقها في كل المواد، ومدعية ان ضعفها في اللغة الالمانية، ليس مسوغا لرسوبها. ولكن المحكمة رفضت طلبها وأيّدت قرار الجهة التعليميّة المختصّة في قرارها بالرسوب، ولم تيأس الطالبة فرفعت أمرها إلى درجات التقاضي الأعلى ولكنّها رفضت دعواها وصادقت على قرار رسوبها، إلى أن وصلت بقضيتها الى المحكمة الفيدرالية الاتحادية التي هي اعلى درجات التقاضي. نظرت المحكمة في دعوى الطالبة، وبعد الدراسة والتداول اقرت الحكم برسوبها، لأنّها رأت ان اللغة الالمانية هي التعبير عن الفكر اأالماني المستقلّ، والمترجم الأمين عن الشخصيّة الألمانية وهويّتها. وهي أهمّ مادّة في الامتحان، والضعف في اللغة لا يغطّيه التفوّق في الموادّ الأخرى.


بلال عبد الهادي










ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق