مكر الإنسان
يسمح له بتحقيق أيّة رغبة حتى ولو كانت ترقيص دببة أو فيلة أو صيصان. شاشات العرض
السينمائيّة أو التلفزيونيّة تسمح لمن لم تسنحْ له الفرصة برؤية عروض حيوانيّة راقصة على الأرض أنْ
يراها عبر وسائل الاتّصال المرئيّ.
ومن طرائف
التجارب ما قام به شخص قرّر أن يعلّم الصيصان فنّ الرقص, ولكن كيف؟ لا بدّ من
امتلاك خيال واسع وشيطانيّ قادر على تلبية رغبته في تشكيل فرقة راقصة من عالم
الصيصان، فاكتشف أنّ النار معلم ماهر يمكن أن يدفع بالصيصان إلى
إتقان الرقص, فعمد إلى جلب عدد من الصيصان ووضعها في قفص أرضيّته من صفيح, ثم وضع
القفص على نار هادئة. وكان من الطبيعي بعد فترة من الوقت أن تسخن أرضيّة القفص,
وان تبدأ النار بلسْع أقدام الصيصان, ممّا يدفعها غريزيّاً إمّا إلى الهروب,
والهروب ممنوع بسبب إقفال القفص وإمّا إلى تحريك أقدامها ورفعها عن الصفيح للتخلّص
من وخز إبر النار ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. وهذا ما كان, أي ظهر للعيان أنّ
الصيصان ترقص وإنْ كان الطير يرقص، على ما يقول المثل، مذبوحاً من الألم فإنّ
الصيصان, هنا, ترقص ملسوعة بسياط النار.
كان الإنسان
القائم بالتجربة يراقب عن كثب مجرى الأحداث وتطورها وحركات الأقدام وحين وجد أنّ
ما يشبه الخطوات الأولى في الرقص قد بدأت بالظهور, أدار آلة التسجيل (التي تنتظر,
بشغف ساديّ, فيما يبدو، أن تقوم بدورها الحارق) على لحن موسيقيّ لفترة من الزمن,
ثم أطفأ النار فبردت أرضيّة القفص وبردت أعصاب الصيصان وأقدامها, وأطفأ في الوقت
نفسه آلة التسجيل. في اليوم التالي كرّر التجريب ( أو التعذيب), وكان يقعد يتفرّج
على هذا الرقص الساخن, وكأنّه نيرون يتأمّل بعينيه المنتشيتين مشهد روما وهي تولد
من اللهب الملوّن ولادة جديدة تشبه ولادة الشمس المضرّجة بدمائها الصباحية.
حين تيّقن
القائم بالتجربة, بعد عمليات تدريب كثيرة ومضنية, أنّ الصيصان تعلّمت فنون الرقص
جيّداً على وقع النار إلى حدّ الاحتراف, أبطل مفعول النار, أو ربّما أجّله لمآرب
أخرى, كتعليم الرقص لجيل جديد من الصيصان.
لأنّ الصوص سوف ينجو بجلده عمّا قريب حين يخرج من زغب الطفولة والعذاب.
في اليوم
التالي, وضع الصيصان في القفص, ثم أضاء الموسيقى. استيقظت، مرعوبةً، ذاكرة الصيصان
الطريّة, هذه الموسيقى ليست لوجه الله, إنّها موسيقى النار ونغمة الألم. التبست
الأمور على أذهان الصيصان البسيطة, لم تدرك أقدامها الفرق بين النار والموسيقى,
ارتبطت الموسيقى في ذهنها الساذج باحتراق الأصابع ارتباط النار بدخانها, فبدأت بالرقص لا حبّاً بالرقص ولكن هروباً من
حمّى الذكرى, ولهب الموسيقى. فالأنغام التي تسمعها ليست مرتبطة إلاّ بلسع الأقدام.
تنتمي تجربة
الصيصان إلى ما يعرف في علم النفس بالمذهب السلوكيّ, وهذا مذهب خلاصته ببساطة انه
من الممكن التحكّم ببواعث السلوك, ومن ثم التحكّم بنتائجه, التحكّم ليس بالسلوك
الحيوانيّ فقط وإنما أيضا بالسلوك البشريّ، بمعنى أن ردّ الفعل الذي يقوم به كائن
ما هو ردّ فعل موجّه, ردّ فعل ملغوم ومرسوم بريشة جهنميّة بارعة, ردّ فعل ليس من
صنع الفاعل حتى وان كان صادراً عنه, حتى ولو اعتقد أن ردّ فعله هو فعلٌ وليد قرار
شخصيّ نابت من قناعاته. وليس هناك أصعب من ترسيم الحدود بين الفعل وردّ الفعل،
وهذه الحدود اللزجة ملعب مفضّل لكثير من الخبثاء!
عرف العالم
اللغويّ الأمريكي ناعوم تْشومسكي ( وهو من ألمع وأبرع لغويّي هذا العصر علماً
وفهماً) مكر هذا المذهب/الثعلب الذي يغتال خيار الإنسان, ويحوّله إلى آلة مطواعة
مدجّنة, لا تملك روحيّة التمرّد على كبسة الزرّ, في زمن تكثر فيه الأزرار, فتمرّد
عليه وحاربه وفنّده بكل أسلحته الفكريّة واللغويّة وقوّض أسسه الماكرة وأعلن أنّه
مذهب غاياته المضمرة حيْونة الإنسان وأسرُه في قفص قضبانُه شفّافة وغير مرئية لكلّ
عين.
للأسف, البعض
يتعامل مع الناس على أنّهم صيصان قابلة للرقص على أنغامٍ مكتومة الأهداف.
والإعلام
(الموجّه) أحياناً, بل أغلب الأحيان, يتعامل مع الناس كما تعامل أستاذ الرقص مع
الموسيقى والنار والصيصان. وعلى المرء أنْ يعرف - حتّى لا يلعب أحد بحواسّه- أنْ
ليس كلّ الكلام الطالع من شفتيه طالعٌ، فعلاً، من شفتيه هو، وإنّما من شفاه أخرى
من دون أن يدري، شفاه تتحكم من بعد بحنجرته وعضلات شفتيه.
قد لا يملك
الصوص المغلوب على أمره قدرة عقليّة على رفض الرقص. ولكنّ للإنسان, حكماً, قدرة
على رفض الرقص على صفيح ساخن, وعلى وقع موسيقى خبيثة النوايا، إذا أراد أنْ لا
ينبع تفكيره من أطراف قدميه أو من نظرات عينيه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق