الثلاثاء، 23 يونيو 2015

ملعقة الفقيه ابن حزم الذهبية


استوقفني خبر صغير ورد في كتاب " نفْح الطِّيْب من غُصْن الأندلس الرَّطِيب" للكاتب أحمد بن محمد المَقََّري التلِمسانيّ عن ابن حزم، الفقيه الظاهري، وهو من أبرز الفقهاء الذين أنجبهم الفردوس الضائع. ويكفي أن يطّلع المرء على كتابه الفقهيّ " الإحكام في أصول الأحكام" ليكتشف مدى قدرته على التحرّر من قيود التقليد التي تكبّل العقل بأصفاد غلاظ. ولعلّ جرأته وخرقه للعادات يتجلّى أيضاً في كتابه " طوق الحمامة " الذي يحكي فيه عن العشق وأهل الهوى وتجربته الذاتية في العشق. فليس سهلاً أن يخرج فقيه معمّم من دائرة الفقه إلى دائرة العشق. ولقد عرف رجال الاستشراق قدر هذا الكتاب فترجموه إلى الفرنسيّة والإنكليزية والألمانية وغيرها من اللغات، وأظنّ أن " طوق الحمامة " يستأهل أنْ يُدرس أيضاً باستخدام أدوات وتقنيات علم السيمياء (Sémiologie) أي دراسة اللغة غير المنطوقة ودلالاتها التي تحكي أحياناً أكثر مما يحكي اللسان بل تكشف ما يريد اللسان إبقاءه طيّ الكتمان.
ولكن غرض المقال شيء آخر، فالخبر الوارد في" الغصن الرطيب " يحكي عن العلم والطريق إليه. درب العلم ليس معبّداً تحت كلّ الأقدام. فالناس طبقات، بعضهم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب، وبعضهم يولد وليس في بيته إلاّ الأكل بالأصابع هذا إن وجد الأكل. ابن حزم كان من عائلة ثرية، أبوه وزير وهو سار على خطى أبيه فصار وزيراً إبان الخلافة الأموية في الأندلس، أي أن طريق العلم كانت معبدة تحت قدميه، يأتيه العلم والعلماء إلى بيته بخلاف كثيرين لا يملكون ثمن قرطاس ولكنهم يكافحون ويضحون لتحقيق غاياتهم العلمية والتحرر من وضع اجتماعي مرّ لا يحسدون عليه. كثيرون من العلماء العرب وغير العرب، كانوا من الطبقات الدنيا كالجاحظ الذي كان بائع سمك في البصرة، ولعلّ بعض العلماء تحولّت مهنهم أو مهن آبائهم إلى ألقاب يعرفون بها كالشاعر أحمد الجزّار الذي كان يعمل في ملحمة أبيه، وكنت قد تناولت، سابقا،ً في "حكي جرايد" بعض أبيات شعره التي يقارن فيها بين قرض الشعر وبيع اللحم.
بقول الخبر في " الغصن الرطيب " أنّ ابن حزم تناظر، ذات يوم، مع أحد الفقهاء وهو أبو الوليد الباجيّ وكان هذا الفقيه من أصول بسيطة لم يتقلّبْ في النعمة ولم ينمْ على الحرير ولم تعرف شفتاه ملاعق الذهب، ولكنه اجتهد في سبيل العلم إلى أنْ صار فقيهاً من كبار فقهاء المذهب المالكيّ. دارت المناظرة بينهما وكان أبو الوليد الباجيّ، كما يبدو من النصّ، هو الذي أثار تلك الجزئية الخاصّة بالعلم.
كان الباجيّ يشعر أنّه أهمّ، علميّاً، من ابن حزم، ليس لأنّه أهمّ منه علميّاً وإنّما لأنّه حصّل ما حصّل من العلوم وهو في وضع رقيق الحال لا يسمح له بالإنفاق على التحصيل العلمي، عبّد الباجيّ  بقدراته الذاتية ومجهوده الشخصيّ الطريق تحت قدميه، لأنّ العلم لم يكن موروثاً أو ميسوراً في عائلته، بخلاف الحال لدى ابن حزم الذي سلك طرقاً ممهدّة وغير وعرة، فقال الباجيّ لابن حزم: " أنا أعظم منك همّة في طلب العلم لأنك طلبته وأنت مُعان عليه، تسهر بمشكاة الذهب، وطلبته وأنا أسهر بقنديلٍ بائتاً بالسوق". فقال ابن حزم: " هذا كلام عليك لا لك، لأنك طلبت العلم وأنت في هذه الحال رجاء تبديلها بمثل حالي، وأنا طلبته في حال ما تعلمه وما ذكرته، فلم أرجُ به إلاّ علوّ القدر العلميّ في الدنيا والآخرة ".
النصّ بسيط وغني بالدلالات، فطالب العلم ليس له شكل واحد. البعض يطلبه لتحسين مستواه الماديّ أو الاجتماعيّ، وبعض يطلبه لغايات لا علاقة لها بالعلم، هذا ما نلحظه اليوم مثلا من بعض أصحاب الشهادات الذين يهملون واجبات شهاداتهم أو يتخذونها مطيّة لمآرب لها علاقة بالمناصب أكثر مما لها علاقة بالعلم، والبعض الآخر يطلبه وهو ليس بحاجة إلى تحسين وضعه المادي أو مستواه الاجتماعيّ لأنّ العلم يعجز عن تحسين مستواه الماديّ أو الاجتماعيّ إنْ كان من عائلة مرموقة وذات ثراء (فاحش)، يُقام لها، كما يقال، ويُقعد.
ابن حزم لم يطلب العلم طمعاً في مركز أو هرباًً من طبقته الاجتماعية. وإنما طلبه لسواد عينَيْ العلم، وهذا طلب نبيل لا يدانيه أيّ طلب آخر. ولا أعرف لماذا تذكّرت هنا قولين مأثورين ومتشابهَيْ الدلالة، القول الأوّل معزوّ إلى الإمام عليّ والقول الآخر منسوبٌ إلى رابعة العدويّة شهيدة الحب الإلهيّ.
يقول الإمام عليّ: " إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجّار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار". أما رابعة العدوية فتقول:" اللهمّ إنّي ما عبدتك حين عبدتك طمعاً في جنّتك ولا خوفاً من نارك، ولكني علمت أنك
ربٌّ تستحقّ العبادة فعبدتك".
علم ابن حزم كان- وتصانيفه الظاهريّة شهود عيان- علم الأحرار لا علم العبيد ولا علم التجّار!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق