الثلاثاء، 16 يونيو 2015

الوطواط الصيني 蝙蝠

الوطواط الصيني

ينتقل المرء من حضارة الى أخرى فتتغير النظرة الى أمور كثيرة.
النظرة ليست واحدة، الغراب نذير الشؤم في بلادنا مثلاً هو طائر كيمام السلام في عاصمة اليابان ، طائر محبوب، ويبعث على الفرح والأمل! في بلاد الشمس المشرقة.
والوطواط هذا الطائر الليلي الذي قرن في الغرب بمصّ الدم وبث الذعر هو حيوان محبوب، ونذير خير في الصين.ترى صورة الوطواط مرسومة على الملابس والحيطان واماكن أخرى. الأشياء من جماد او حيوان او انسان اشياء تتعدد دلالاتها بتعدد اللغات والحضارات.
ما الذي جعل الوطواط حيوانا محبوبا وغنيا بالرموز في الصين؟ اسمه وطبيعيته الثنائية والدامجة للأضداد.يحتضن الآفاق والاعماق، له من الفأرة حياتها الظلامية، فهي تعيش تحت الأرض، ولكن الوطواط يعيش فوق الأرض ويتحرك في الظلام، الظلام يشبه المكان الذي نعيش فيه الفأرة. ظلام نهاريّ لا ليلي، ويستغرق في النوم في ظلمة النهار، نومه غريب، لا ينام ممدّدا، بل ينام منتصب القامة ولكن بالمقلوب!  للوطواط أجنحة ولكنه ليس طيرا، يطير وليس له من خصائص الطير الا الأجنحة، فلا ريش له، وهو طير ولكنه لا يبيض، انه من الثدييات بخلاف الطيور. ليله نهار، ونهاره ليل. يعيش في الليل ولا يستخدم النظر للنظر وانما اصداء الرادار! انه حيوان يجمع عددا من الاضداد، وتتعايش هذه الاضداد بوفاق مذهل في سكنات الوطواط وحركاته.
حيوان تعلم الصيني منه اشياء كثيرة: التناغم بين الأضداد، وهو يمثل بامتياز فكرة اليين يانغ ، أو فكرة التآلف بين السالب والموجب.على الصعيد اللغوي هذا الحيوان المركب اسمه من رمزين ( بيان فو/ biān fú ) يحمل في صوت رمزه الثاني معنى السعادة والازدهار، معنى الوفرة ورغد العيش. والجناس الصوتي غزير جدّا، وهو قدرٌ صوتيّ يهيمن على كلّ الألسنة، والجناس الصوتيّ أنتج بنية ذهنية صينية ذات خصائص فريدة.

كلمات يابانية
تعيش لغتنا العربية حياة بعليّة، على السبحانيّة، كما يقال، إذ ليس هناك همّ لغويّ حقيقيّ لدى الحكومات العربيّة، فالتخطيط اللغويّ ليس من الأمور التي تثير الشهيّة فيما يبدو بخلاف ما هو عليه الحال في كل الدول المتقدّمة في العالم من مغرب الأرض إلى مشرقها.  الاهتمام اللغوي جزء من احترام الشعوب لذاتها. وهنا سأحكي عن نقطة لغويّة من بلاد مشرق الشمس أي اليابان، ومشرق الشمس هو الترجمة الحرفيّة لكلمة يابان.
 لكلّ شعب طريقته في التعامل مع لغته، ولليابان علاقة نموذجيّة مع لغتها ودالّة. في منتهى كل عام تحتفل اليابان بكلمة تكون هي الكلمة الملكة، كلمة تكون بمثابة "adn" العام الراحل، ويقوم الخطّاطون بممارسة مهاراتهم الخطّية في توليد أشكال لها. والمجلات والصحف اليابانيّة تشارك أيضا في هذا الاهتمام اللغويّ الدال، ولكم أتمنى لو تقوم مجلّة عربيّة بما قامت به مجلّة يابانيّة اسمها "شمس".
لقد قامت هذه المجلة بإصدار عدد جميل جدا عن مائة كلمة تشكل معرفتُها مفاتيح لمعرفة الحضارة اليابانية. الكلمات ليست مجرّد كلمات، انها مفاهيم وأفكار وأحلام . عمدت المجلة الى تكليف عشرات الكتاب من كلّ الاختصاصات للبحث عن الكلمات المائة التي تشكّل جوهر الحضارة اليابانيّة، وتضعها بترتيب يدلّ على دور كلّ كلمة في تشكيل الشخصيّة اليابانيّة، ولم تعتمد على الأدباء فقط، فالأدباء مهما كان دورهم  ومكانتهم لا يشكلّون الا شريحة واحدة من شرائح المجتمع، كما ان اللغة ليست ملك الأدباء فقط، فاللغة بنت الناس العاديين أيضاً. بعد الحصول على الكلمات المائة الأهمّ، خصّصت لكلّ كلمة دراسة مكثفة تفكّك دور هذه الكلمة او تلك في حياة الياباني. ما لفت نظري ان الكلمة الأولى كانت كلمة من الصعب أن تخطر ببال، وان كانت تشغل حيّزا كبيرا من وقت الناس، هي كلمة " الأناقة "، بينما كانت الكلمة الأخيرة هي " السومو" اسم لعبة المصارعة اليابانية المشبعة بالرموز والطقوس والدلالات. 

ثلج المتنبي الأسود
زار المتنبي لبنان وقطع جباله وتأمّل ثلجه المتمادي، فقال:
لبس الثلوج بها عليّ مسالكي     فكأنها ببياضها سوداء
الضمير في  " بها " يعود الى جبال لبنان، كما يبدو من البيت السابق. كان المتنبي في غير مكان من شعره يلعب بالالوان والاشياء. هنا لعب لونيّ متبادل. وللمتنبي بعض الأبيات التي يتشكّل جوهرها الشعريّ من ذلك الدمج الفاتن بين الأضداد عبر وجه شبه خفيّ يتطلّب جلاؤه والكشف عنه عينَيْ شاعر خارق!
ان الطقس في لبنان غير الطقس اليوم كما يقول المتنبي، ونحن نعرف ان الشعر ارشيف ايضا جغرافيّ وطوبوغرافيّ.
لم تكن جبال لبنان تعرف الصيف، ولم تكن تعرف جبال لبنان العري على ما يبدو، كانت لا تتخلى عن ردائها الأبيض، يقول المتنبي حين عبر جبال لبنان في فصل صيف:
بيني وبين بي عليّ مثله                شمّ الجبال ومثلهنّ رجاء
وعقاب لبنان، وكيف بقطعها      وهو الشتاء و( صيفهن شتاء (.
الثلج أسود ! والصيف شتاء!
توبة الفرزدق
الفرزدق شاعر هجّاء، مقذع، لسانه مقراض للأعراض. يستعمل كلمات يأتي بها من المواخير، وأفواه ابناء الشوارع. في لحظة من حياته داعبته التوبة وراودته عن نفسها. كيف يتوب ولسانه معتاد على السباب، والكلمات البذيئة حبيبة قلبه؟  كيف يغيّر عادات لسانه؟ وجد حيلة  طريفة لتفريغ مكنون صدره من الكلام البذيء، من دون أي يشعر بأدنى حرج، وذلك بكتابة قصيدة في " سبّ" إبليس ونشر حريم إبليس، غيّر وجهة السبّ. كانت توبته سباباً لإبليس الذي لعب بلسانه وبيانه.
بعض السبّ توبة!

السرد ديوان العرب!
عبارة " الشعر ديوان العرب" كانت حاجزا صفيقا امام الاهتمام بالسرد العربي. والزمن المعاصر يحاول أن يرفع الغبن الذي طال السرد العربي بسبب العبارة القاتلة" الشعر ديوان العرب". كانت عبارة " الشعر ديوان العرب" بنت مرحلة زمنية ظنّها العرب بنت كلّ المراحل.
 المخزون السردي العربي مدهش، ولكن يفتنني كتابان للتنوخيّ من العصر العباسي وهما " نشوار المحاضرة"، والفرج بعد الشدّة" إلى كتب كثيرة سردية رائعة تخييلية او واقعية ومنها " الإمتاع والمؤانسة" للكاتب المذهل ابي حيّان التوحيدي. كما هناك كتب عن الأمثال والحكايات او الاخبار التي انبثقت منها الأمثال كمجمع الامثال للميداني. ذهب التنظير الشعري الى اقصاه في تراثنا العربي على حساب التنظير لأشكال النثر العربي وأجناسه وانواعه. ولم نلتفت الى مفهوم السرد العربي الا حديثا بعد الاطلاع على السرديات الغربية. ولا يزال العمل في بداياته. وحين يقال ان " الرواية ديوان العرب الجديد" أضع يدي على قلبي خوفا من أن تكون هذه العبارة ايضا حاجزا أمام النظر تمنع من رؤية أشكال جديدة من الكتابة.
 الرواية عنصر من عناصر ديوان العرب الجديد وليست كلّ الديوان، يقال ان الرواية هي بنت الجريدة الشرهة، وبنت الطباعة. من يعرف أي " ديوان" جديد سوف تنتجه الثورة الرقمية، قد يأتي زمن رقميّ كامل الأوصاف نقول فيه:" الأدب التفاعليّ ديوان العرب"!


بلال عبد الهادي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق