الاثنين، 15 يونيو 2015

أوقات الإمام ابن الجوزيّ


في تراثنا العلمي المديد شخصيات كثيرة بارزة، رائعة، يألف المرء صحبتها، ويتعلّم منها استثمار الوقت فيما يجدي، تعجب من قدرتها على تطويع الزمان، ونفورها من الفراغ المميت وتضييع الوقت في الضجر او هندسة الأرصفة والشوارع! كنت قد قرأت مرّة عبارة لطيفة للطبيب ابن سينا يقول فيها أنه اختار ان يعيش حياته عرْضاً لا طولاً، لأن الطول غير مكفول، أي ان يعتمد على تكثيف مجهوده العلمي، فيكون اليوم الواحد من حياته بمثابة يومين، على الأقل، من حياة الآخرين. ومن كان على شاكلة الشيخ الرئيس ابن سينا موجود في تاريخنا وفي تاريخ غيرنا من الشعوب. ومن جملة الشخصيات التراثية التي تلفتني غزارة إنتاجها ومعرفتها الموسوعية الغنية الإمام ابن الجوزي، وله تصانيف كثيرة في ميادين مختلفة طريفة ومهمة ونبيلة المقاصد منها على سبيل المثال «تلبيس إبليس» و«صيد الخاطر». وكتابه الأخير مجموعة خواطر قيّدها على تقطّع في الوقت، فيها تعليقات ذاتية لاسعة ونافعة على أمور رآها او عاشها. كما تكلم على التضحيات التي رافقت مساره العملي وصولاً الى ما انتهى اليه من قيمة علمية ودينية وأدبية راسخة لا ينكرها عليه أحد من قرّائه حتى ولو خالفه، أحياناً، في بعض وجهات نظره.
يندّد ابن الجوزي في كثير من مواطن كتابه «صيد الخاطر» بأهل الفراغ ويعتبرهم بلاء على الناس والزمان. وفي لغتنا تعابير كثيرة تظهر ارتكابنا المجازر بحق الوقت، وولعنا الغريب والمريب! في تضييعه وهدره من مثل: «قتل الوقت» او «تقطيع الوقت» او «تمريق الوقت». المهم ان يمر الوقت الثقيل الذي يربكنا ويفضح خواء أيامنا الجوفاء لأننا لا نعرف ماذا نفعل به، فنسفك دمه القاني تخلّصاً منه، ولا يختلف قتل الوقت وسفك دمه، فيما أتصوّر، عن الانتحار او بتر الأطراف، او يا لطيف! تعاطي الكوكايين.
يبدو ان ابن الجوزي كان يعاني من بعض الذين لا يقدّم كلامهم ولا يؤخر، ومع هذا يريدون اقتحام وقته وحياته بأفواه أتقنت علْك كلام الآخرين، فكتب تحت فصل قصير بعنوان «صحبة أهل الفراغ بلاء» طريقته في مواجهة هذا البلاء الوافد من أفواه البطّالين. بدأ نصه بالاستعاذة من صحبتهم فقال: «أعوذ بالله من صحبة البطّالين». ولا ريب في ان إحساس ابن الجوزي بالبطّالين كان كبيراً لأنه يرى ان الزمان أشرف شيء»، ووظيفة البطّال سلْبُ ابن الجوزي هذا الشرف الرفيع وتمريغه في وحل الفراغ، فعاش مهموماً لا يعرف كيف يواجه البطّالين الذين ينتهزون الفرص ويخترعون الأسباب والمناسبات للزيارات، ومناسبات الأفراح والأتراح كثيرة لا حصر لها. لاحظ ابن الجوزي ان انجراره الى تطبيق ما يعرف اليوم بـ«المناسبات الاجتماعية» على كامل أصولها تسلبه أشرف ما عنده وهو الوقت اي المادة الخام التي يحتاجها للعمل والتفكير وممارسة الحياة. فاعتمد استراتيجيات متعددة لحماية نفسه من مضار المناسبات الاجتماعية المكرورة، منها التهرّب من اللقاءات، ولكن لا يمكن دائماً إيجاد أسباب مقنعة ووجيهة للتهرب «فإذا غُلبتُ - كما قال- قصّرت في الكلام، لأتعجّل الفراق». وفي الوقت نفسه كان يحتاط لحماية وقته بتحضير أعمال لا تمنع من المحادثة، للأوقات التي يضطر فيها لملاقاة البطّالين، أي أنه في كل لقاء مع واحد من أهل البلاء - او مع من لا يعرف ماذا يفعل بوقته الفائض عنه، فيوزعه بسخاء، يميناً ويساراً، وكأنه من سلالة حاتم الطائي - كان يقوم بأعمال جانبية لا مفر منها. وهي أشبه ما تكون بأعمال تمهيدية، أي أنه كان يضرب عصفورين بحجر واحد. وضرب عصفورين بحجر واحد يشبه طريقة ابن سينا في العيش بالعرْض، وذلك لئلا يمضي الزمان فارغاً عقيماً. فكيف كان يستعد للقاء من يسفك دم الأوقات؟ يقول ابن الجوزي: «فجعلت من المستعد للقائهم: قطْع الكاغد (الأوراق)، وبري الأقلام، وحزْم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج الى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم لئلا يضيع شيء من وقتي».
إن هذه الأعمال اليدوية الروتينية لا تتطلب تركيزاً او عصر دماغ ولكن لا يمكنه الاستغناء عنها، فلا بد من تهيئة عدّة الكتابة، وهي تحتاج لوقت، كان يعتبر ابن الجوزي ان تكريس وقت خاص لها بمفردها يعدّ نوعاً من تبذير الوقت وتبديده، فوجد ان أفضل طريقة لإنجاز هذه الأعمال هو استثمار زيارات البطّالين حتى لا تأخذ من عمره الوقت الشريف وهو الوقت الذي كان يكرسه للكتابة والتأليف.
ينقل ابن الجوزي في فصل قصير بعنوان «قيمة الوقت» عن عامر بن عبد قيس ان رجلاً قال له: كلّمني، فقال له: أوقف الشمس! (بمعنى أوقف الزمان).
ولكن حرق الأوقات والأيام أسهل فيما يبدو لدى البعض من حرق الأصابع او عضّها!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق